
أذرع الموساد في أفريقيا.. اختراق ناعم وولاءات مدفوعة
في عمق القارة الأفريقية، بعيدًا عن أضواء الإعلام وضجيج الدبلوماسية، تنسج إسرائيل شبكة نفوذ خفية تتغلغل في مفاصل الأنظمة الأمنية والسياسية هناك، وعبر وعود التعاون التقني والتدريب العسكري يقود جهاز الموساد حملة اختراق واسعة، تستغل هشاشة بعض الأنظمة والفجوات الأمنية لترسيخ حضور إسرائيلي دائم في القارة.
من أوغندا إلى إثيوبيا، ومن نيجيريا إلى جنوب أفريقيا، تتكشف معلومات عن تجنيد عناصر محلية، واستخدام أدوات مراقبة إلكترونية متقدمة عبر شركات مدنية تبدو في الظاهر تنموية لكنها في جوهرها أذرع استخباراتية تخدم أهدافًا أمنية وسياسية.
هذا التغلغل، الذي تصاعد بشكل ملحوظ بعد عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحاول إسرائيل من خلاله تشكيل رافعة سياسية لها في المحافل الدولية، واستمالة مواقف دول أفريقية لطالما ارتبطت تقليديًا بدعم فلسطين.
في هذا التقرير، نكشف خفايا هذه اللعبة الاستخباراتية، ونرسم خريطة النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا، حيث تختلط المصالح الأمنية بالصفقات السياسية، وتذوب الحدود بين الدبلوماسية والتجسس.
جذور النفوذ
بدأ اهتمام إسرائيل بأفريقيا منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث لم تكن القارة مجرد حديقة خلفية للنفوذ الغربي، بل أصبحت ساحة صراع خفي، وكان جهاز الموساد أحد أبرز اللاعبين في هذا المشهد الصامت.
وضع أول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن غوريون تصورا إستراتيجيا مبكرا للنفاذ إلى أفريقيا عبر "الأطراف" لمواجهة ما سماه "طوق العداء العربي"، واعتبر القارة بوابة للتأثير والضغط السياسي.
وفي ورقة علمية أصدرها مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، أشار الخبير في الدراسات المستقبلية الدكتور وليد عبد الحي إلى دراسة أكاديمية إسرائيلية كانت قد اقترحت أنه "يجب على إسرائيل تدريب المهاجرين الأفارقة وإعادتهم إلى دولهم الأفريقية ليعملوا على تشكيل شبكات تجسس محلية داخل الدول الأفريقية".
ولتفعيل هذه الإستراتيجية على الأرض، لجأت إسرائيل إلى أدوات ناعمة وواجهات مدنية شكلت الغطاء الأمثل لتوسيع نفوذها الأمني والاستخباراتي.
وعبر برامج التعاون الفني والمساعدات الزراعية والدورات الأمنية، أرسلت إسرائيل آلاف الخبراء والمستشارين، ليس فقط لتأهيل كوادر أفريقية، بل لبناء نفوذ استخباراتي طويل الأمد، خاصة في دول مثل إثيوبيا وأوغندا والكونغو وجنوب السودان وجنوب أفريقيا، كما ورد في الورقة البحثية.
ولم يكن هذا الحضور تنمويًا فحسب، بل كان غطاءً متقنًا لعمليات تجنيد وتنسيق مع أجهزة الأمن، وهو ما تؤكده وثائق استخباراتية مسرّبة عُرفت باسم "كابلات التجسس" (Spy Cables)، التي كشفت عن شبكات نشطة للموساد تعمل داخل القارة الأفريقية بتسهيلات دبلوماسية ولوجستية.
الهياكل الموازية.. شبكات غير رسمية
وبموازاة القنوات الرسمية، كانت هناك شبكات موازية غير رسمية تُسخّر لخدمة الأهداف الأمنية الإسرائيلية، أبرزها شبكات المتعاونين المحليين والجاليات اليهودية في أفريقيا.
يُشار إلى ما يُعرف بـ"سايانيم" (Sayanim) -وهم متطوعون من أبناء الجاليات اليهودية في الخارج- كأحد عناصر الدعم اللوجستي غير الرسمي لجهاز الموساد، بحسب ما أورده الضابط السابق في الجهاز فيكتور أوستروفسكي في مذكراته.
ووفقًا لهذه الرواية، يسهم هؤلاء المتعاونون في تسهيل مهام ميدانية مثل توفير أماكن للإقامة أو وسائل تنقل، دون أن يكونوا موظفين رسميين، ويعملون في عدة دول حول العالم لدعم عمليات الموساد بشكل غير مباشر.
كما ظهرت منظمات أمنية محلية مرتبطة بالجاليات اليهودية مثل "منظمة أمن المجتمع" (Community Security Organisation)، التي تشير التقارير الإعلامية إلى قيامها بأنشطة تتعلق برصد تحركات بعض الجهات المناهضة لإسرائيل في أفريقيا مثل حركة المقاطعة " بي دي إس" (BDS).
وعلى الرغم من عدم وجود توثيق رسمي مباشر لارتباط هذه المنظمة بالموساد، فإن مراقبين يؤكدون أن نشاطها قد يتقاطع مع الأهداف الأمنية الإسرائيلية في المنطقة، حيث تلعب دورًا في حماية الجالية اليهودية ومراقبة التهديدات المحتملة.
ووفقا للباحث وليد عبد الحي في ورقته، فإن إسرائيل استعانت بوسائل أكثر احترافية لإحكام حضورها، كان من أبرزها استخدام شركات الطيران والمؤسسات التدريبية كأغطية لتحركاتها الأمنية، فشركة الطيران الإسرائيلية "العال" استُخدمت كغطاء لنقل ضباط وأجهزة حساسة بين تل أبيب والعواصم الأفريقية ضمن تعاون وثيق مع بعض الحكومات.
في المقابل، تستمر المعاهد التدريبية الإسرائيلية، وعلى رأسها "معهد الجليل للإدارة الدولية"، في استقطاب مئات القادة والطلاب من الدول الأفريقية ضمن برامج تتعدى الإدارة إلى التدريب العسكري وبناء شبكات دفاع محلية، ويُقال إن معظم الحكومات الأفريقية تحوي في بنيتها مسؤولًا واحدا على الأقل تخرّج من هذا المعهد.
وقد عزّزت زيارات رسمية مثل زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأفريقيا عام 2016 هذا التغلغل، حيث التقى بعدد من القادة الذين تلقوا تدريبًا في إسرائيل.
بل إن رئيس الموساد الحالي ديفيد برنيع زار تشاد عام 2021 لمناقشة إقامة قاعدة أمنية متقدمة تتيح لإسرائيل مراقبة الأوضاع في ليبيا والجزائر، وتقديم الدعم لحلفائها، وخصوصًا المغرب.
إعلان
وفي الوقت الذي ظل فيه النشاط الأمني الإسرائيلي يتخذ طابع السرية، حرصت تل أبيب على بناء غطاء تنموي علني، شكل بوابة بديلة للتأثير الطويل الأمد تحت مسمى "التعاون الفني والتقني".
ويُعزى هذا التوجه -بحسب مدير المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات محمد صالح- إلى ضعف القبول الشعبي لإسرائيل في الأوساط الأفريقية، مما دفعها إلى توظيف هشاشة بعض الأنظمة وضعف بنيتها الأمنية لاختراقها عبر واجهات مدنية أو شركات تنموية تُستخدم كستار لعمليات تجنيد وتغلغل أمني. وغالبًا ما تأتي اتفاقيات التعاون الأمني في إطار تفاهمات سياسية أوسع.
ووفقًا لما أورده مركز الأبحاث الفلسطيني، فإن التراجع في أعداد اليهود المتبقين في أفريقيا -ومعظمهم يتركزون اليوم في جنوب أفريقيا- انعكس في تقليص دور الأجهزة الأمنية في تأمين هجرتهم إلى إسرائيل، وتحول الدور إلى مهام مراقبة وتحشيد ناعم لخدمة السياسات الإسرائيلية.
وذكر تقرير لتايمز أوف إسرائيل أن القوات الخاصة الإسرائيلية تدرب قوات محلية في أكثر من 12 دولة أفريقية، كجزء من إستراتيجية واسعة النطاق من جانب إسرائيل لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية في القارة.
في السنوات الأخيرة، برزت الشركات الإسرائيلية المتخصصة في الأمن السيبراني والتجسس التقني كجهات فاعلة رئيسية في الساحة الأفريقية، حيث ساهمت في تشكيل سياسات المراقبة وتوجيهها لخدمة أجندات أمنية تتجاوز الحدود الوطنية.
من أبرز هذه الشركات مجموعة "إن إس أو" (NSO) المطورة لبرنامج التجسس الشهير " بيغاسوس"، الذي استُخدم في عدة دول أفريقية لاستهداف معارضين سياسيين وصحفيين ونشطاء حقوقيين.
ووفقًا لتقرير صادر عن معهد بروكينغز، فإن هذه الأدوات لم تُستخدم فقط في مكافحة الإرهاب والجريمة، بل امتد استخدامها لتعزيز القمع السياسي الداخلي وترسيخ أنظمة الحكم السلطوي.
إعلان
وكشفت تحقيقات دولية أجرتها منصات مثل فوربيدن ستوريز ومنظمة العفو الدولية أن دولًا مثل رواندا وتوغو وجنوب أفريقيا وأوغندا، كانت إما من مستخدمي هذه الأدوات وإما من أهدافها، مما يعكس المشهد المعقد لحرب التجسس الرقمي في القارة.
واللافت أن كثيرًا من العاملين في شركات مثل "إن إس أو" و"فيرنت" (Verint) هم خريجو وحدة 8200 التابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وهي وحدة متخصصة في التنصت والاختراقات الإلكترونية، مما يعزز الروابط العضوية بين هذه الشركات والدولة الإسرائيلية.
ونقلت الدراسة عن زويلفيليل مانديلا، أحد أحفاد الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا ، حديثه عن طرق التغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية؛ وذلك من خلال تزويد الأنظمة الدكتاتورية في أفريقيا بأدوات التجسس، وتزويد حركات التمرد الانفصالية بالأسلحة تحت غطاء الأدوات الزراعية، ومن خلال تغذية الحروب الأهلية بهدف اختراق المجتمعات الأفريقية.
ويرى خبراء في الأمن الرقمي والعلاقات الدولية أن إسرائيل لا تقتصر على استخدام هذه الشركات لأغراض أمنية أو اقتصادية فقط، بل توظفها كجزء من إستراتيجية دبلوماسية تهدف لاختراق أنظمة سياسية لا تربطها بها علاقات رسمية.
وفي هذا السياق، يشير مدير المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات محمد صالح إلى أن بيع أدوات مثل "بيغاسوس" يشكل "بوابة خلفية للتطبيع"، حيث يُستخدم التعاون الأمني لبناء جسور مع أنظمة حذرة من إعلان علاقات رسمية مع إسرائيل.
يضيف صالح، في تصريحاته للجزيرة نت، أن هذا النوع من التعاون يمنح إسرائيل أوراق ضغط إستراتيجية، خصوصًا في ظل تصاعد التنافس الدولي في أفريقيا. فبمجرد تورط الأنظمة في استخدام هذه الأدوات، التي غالبًا ما تأتي مصحوبة بدعم فني وتدريب مباشر من خبراء إسرائيليين، تصبح هذه الدول أكثر قابلية للانخراط في ترتيبات أمنية وسياسية تضمن لإسرائيل دعمًا في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية.
ويحذر من أن إسرائيل قد تحتفظ بمعلومات حساسة جمعتها عبر هذه الأدوات، مما يجعلها قادرة على التأثير في القرار السياسي داخل تلك الدول. كما أن امتلاك أدوات تجسس متقدمة، في ظل غياب آليات شفافية ومساءلة، قد يُضعف سيادة الدولة المتلقية ويحولها إلى طرف تابع في العلاقة الأمنية.
ولا يقتصر النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا على بيع أدوات اختراق الهواتف، بل يمتد ليشمل بنية أمنية متكاملة تُدار عبر شركات ذات طابع مدني، لكنها ترتبط جوهريًا بالأجندة الأمنية الإسرائيلية.
من بين هذه الشركات "ماغال سكيوريتي سيستمز" (Magal Security Systems)، التي تعلن على موقعها الرسمي أنها متخصصة في أنظمة الحماية والمراقبة، وتنتشر في عدد من الدول الأفريقية.
إلى جانبها، تشير تقارير دولية إلى أن شركات مثل شركة " إلبيت سيستمز" (Elbit Systems) و"بلاك كيوب" (Black Cube)، تلعب دورًا مهما في تعزيز النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا من خلال تقديم خدمات أمنية وتقنية متقدمة للدول الأفريقية التي تعاني من ضعف البنى الأمنية.
فشركة إلبيت المتخصصة في تكنولوجيا الدفاع والمراقبة، تزود بعض الدول الأفريقية بأنظمة مراقبة إلكترونية وحلول أمنية متطورة تساعد في حماية الحدود وتأمين المنشآت الحيوية.
أما "بلاك كيوب"، فهي شركة تجسس خاصة تقدم خدمات جمع المعلومات الاستخباراتية، وتستخدم خبراتها لدعم أهداف إسرائيلية في مناطق إستراتيجية بما في ذلك أفريقيا.
يرى خبراء أن هذه الشركات ليست فقط مزودة لخدمات تجارية، بل هي أدوات إستراتيجية تستخدمها إسرائيل لاختراق وتعزيز نفوذها الأمني والسياسي في أفريقيا عبر تقديم الدعم التقني والتدريبي، مما يفتح لها أبوابًا للتأثير المباشر وغير المباشر على أنظمة الحكم في القارة.
وتكشف مجلة "أفريقا ريبورت" كيف تستعين إسرائيل بشبكة من المستشارين ورجال الأعمال ذوي العلاقات الرفيعة في القارة لفتح الأبواب أمام هذه الشركات.
وعملت بعض هذه الشبكات في دول مثل السودان وغانا، وأسهمت في ترسيخ وجود شركات مثل "إن إس أو" و"فيرنت" كلاعبين مهيمنين في سوق المراقبة بأفريقيا جنوب الصحراء.
البعد الأمني أداة دبلوماسية
في قلب الساحة الدولية، تستخدم إسرائيل نفوذها الأمني والاستخباراتي في أفريقيا أداة ضغط سياسي. فمن خلال التعاون العسكري والتقني تسعى إلى كسب دعم الدول الأفريقية، أو على الأقل تحييد مواقفها في المحافل الدولية، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
يرى أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية الدكتور أيمن البراسنة أن إسرائيل كثّفت خلال السنوات الأخيرة جهودها لبناء نفوذ واسع في القارة الأفريقية، مستغلةً حاجات العديد من الدول الأفريقية للسلاح والتكنولوجيا الأمنية والدعم الاستخباراتي.
ويشير أيمن البراسنة إلى أن إسرائيل تقيم حاليًا علاقات دبلوماسية مع 33 دولة أفريقية من أصل 41.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن التغلغل الأمني يُعد أداة مباشرة لمحاولة تقليص التضامن الأفريقي مع فلسطين، خاصة في الأمم المتحدة والهيئات الدولية مثل اليونسكو ومحكمة العدل الدولية، وذلك من خلال التأثير في طريقة تصويت الدول الأفريقية.
وقد برز أثر هذه السياسات بشكل أوضح خلال حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على قطاع غزة، ورغم أن إسرائيل نجحت في استمالة بعض الأنظمة الأفريقية رسميًا، فإن تأثيرها لا يزال محدودًا أمام قوة الرأي العام الأفريقي، الذي يحتفظ بتقاليد راسخة في التضامن الشعبي مع فلسطين.
وقد تجلى ذلك في موقف جنوب أفريقيا التي لم تكتفِ برفض الضغوط الإسرائيلية، بل رفعت دعوى رسمية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية خلال حرب غزة.
ويرى العديد من الخبراء أن الرهانات الإسرائيلية على تحييد المواقف الأفريقية تصطدم بجدار صلب من الوعي الشعبي والحركات المدنية، التي لا تزال تعتبر إسرائيل "نظام احتلال عنصريا"، وتواصل الضغط على حكوماتها لدعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
ويؤكد البراسنة على ذلك، ويضيف أن الحرب الأخيرة على قطاع غزة شكّلت نقطة تحول في علاقات إسرائيل بالقارة الأفريقية، وأظهرت محدودية النفوذ الإسرائيلي في مواجهة القوى المجتمعية والمدنية.
ويخلص إلى أن الهدف الإسرائيلي الأساسي في أفريقيا ليس فقط توسيع العلاقات الاقتصادية أو الدبلوماسية، بل تحييد المواقف الأفريقية من فلسطين، وتفكيك الدعم التاريخي لها على مستوى النخب وصناع القرار.
بين طيّات النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا، تتشابك المصالح الأمنية والسياسية مع التحولات الجيوستراتيجية، مما يجعل القارة مسرحًا لصراع خفي يتجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية.
ورغم ما تحققه إسرائيل من مكاسب على المستوى الرسمي، فإن التحدي الأكبر يبقى في مواجهة إرث التضامن الشعبي الأفريقي مع القضية الفلسطينية، الذي يشكل مقاومة حقيقية لأي محاولة لفرض النفوذ أو تغيير مواقف القارة على المدى الطويل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 39 دقائق
- الجزيرة
العفو الدولية: تعليق المساعدات الأميركية يؤثر على حياة الملايين
اعتبرت منظمة العفو الدولية أن تعليق المساعدات الخارجية الأميركية يعرّض حياة ملايين الأشخاص حول العالم للخطر، مؤكدة أن عواقبه كارثية على حقوق الإنسان. واستعرضت المنظمة في مذكرة بحثية بعنوان "أرواح في خطر" عواقب التخفيضات التي أدت إلى وقف برامج حيوية حول العالم. وقالت المديرة الوطنية للعلاقات الحكومية في فرع منظمة العفو الدولية بالولايات المتحدة أماندا كلاسينغ إن القرار المفاجئ والتنفيذ الفوضوي كان لهما أثر "بالغ الضرر". واعتبرت كلاسينغ أن قطع البرامج بشكل مفاجئ ينتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي تلتزم به الولايات المتحدة ، ويقوض عقودا من القيادة الأميركية في الجهود الإنسانية والتنموية العالمية. وأشارت إلى أنه رغم العلاقة المعقدة التي تربط التمويل الأميركي بحقوق الإنسان فإن حجم وسرعة التخفيضات الأخيرة أوجدا "فراغا قاتلا لا تستطيع الحكومات والمنظمات الأخرى سده فورا"، وذكرت أن الإجراءات المتخذة تنتهك حقوق "الحياة والصحة والكرامة لملايين البشر". وأوضحت المنظمة أن الدعم الأميركي كان يوفر الخدمات الأساسية المتمثلة في الرعاية الصحية والأمن الغذائي والمأوى، بالإضافة إلى الخدمات الطبية والدعم الإنساني لأشخاص في أوضاع هشة، من بينهم النساء والفتيات وغيرهم من الفئات المهمشة، إلى جانب اللاجئين وطالبي الحماية. ولفتت في بحثها إلى أن القرار الأميركي بقطع المساعدات الخارجية أثر سلبا على مجموعة من البرامج الصحية في العديد من الأقطار، بل أدى إلى توقفها في دول مثل غواتيمالا و هاييتي وجنوب أفريقيا وسوريا واليمن وجنوب السودان. ودعت منظمة العفو الدولية إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إعادة تمويل المساعدات الخارجية عبر الاستثناءات القانونية أو أي آلية أخرى، ولا سيما للبرامج التي تضررت منها حقوق الإنسان، وأكدت على ضمان أن تدار المساعدات المستقبلية بما يتماشى مع القانون والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. كما طالبت المنظمة الكونغرس بالاستمرار في تمويل المساعدات الخارجية بشكل قوي، ورفض أي محاولة لإضفاء الطابع القانوني على التخفيضات، وحثته على ممارسة الرقابة لضمان عدم تسبب التمويل الأميركي في الإضرار بحقوق الإنسان.


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
كاكوما.. قصة مخيم لاجئين أسسه أطفال
كاكوما ـ قبل 33 عاما، خرج مجموعة من الأطفال لرعاية ماشيتهم من إحدى قرى جنوب السودان إبان الحرب الأهلية في البلاد، وعند عودتهم في المساء وجدوا قريتهم قد حرقت بالكامل، فهرعوا خوفا من المكان بحثا عن ملاذ آمن، وقادتهم أقدامهم بعيدا عن العنف إلى خارج بلدهم. ظل الأطفال يسيرون قرابة اليوم بعد اجتياز حدود بلادهم مع كينيا ليستقروا في إحدى المناطق التابعة لمقاطعة تروكان الكينية شمال غرب البلاد، مؤسسين النواة الأولى لمخيم "كاكوما" أحد أكبر مخيمات اللاجئين في العالم. ومع تصاعد العنف في بلادهم لحقهم المئات ثم الآلاف من النازحين بحثا عن ملاذ آمن من الحرب المستعرة ليتوسع المخيم من عشرات النازحين إلى الآلاف ثم إلى مئات الآلاف، وليمتد حاليا على مساحة أكبر من 30 كيلو مترا مربعا. جنسيات مختلفة يضم مخيم "كوكوما" أكثر من 9 جنسيات مختلفة غالبيتهم من جنوب السودان و الصومال وإثيوبيا و الكونغو و رواندا ، ويعاني ظروفا معيشية صعبة مع عدم قدرة كينيا على تقديم الدعم الكافي، فضلا عن قلة وندرة الدعم الدولي الموجه إلى هؤلاء اللاجئين. ومع أن غالبية سكان المخيم من اللاجئين الفارين من الحرب الأهلية في جنوب السودان، لكن مع تعاقب الأزمات، تحول المخيم إلى موطن بديل لأكثر من 340 ألف نازح، يعيشون في مساكن بسيطة من الطين والصفيح، ويعتمدون على مساعدات من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وشركاء دوليين ومحليين. وبعد أكثر من 3 عقود من تأسيسه، توافقت الحكومة الكينية مع الوكالات الإنسانية على خطة تهدف إلى تخفيف الاعتماد على المساعدات، ودفع اللاجئين للاعتماد على أنفسهم اقتصاديا على الرغم من التحديات الهائلة؛ إذ قلة من اللاجئين يملكون الحق القانوني في العمل أو الحصول على الجنسية الكينية، فضلا عن الافتقار للموارد والبنية التحتية اللازمة لبناء اقتصاد محلي حقيقي. يقول "بيتر لوال"، لاجئ من جنوب السودان ويبلغ من العمر 28 عاما: "وصلت إلى كاكوما وأنا طفل بعد أن فقدت والدي في الحرب، اليوم، لدي دكان صغير، وأحاول بناء حياة من جديد، رغم كل شيء". تحديات يومية ورغم أن اللاجئين يحصلون على المأوى والرعاية الصحية الأساسية والتعليم، فإن شح التمويل وتقلص الدعم الدولي يضعان الجميع أمام تحديات يومية، أبرزها انعدام فرص العمل ونقص الغذاء وسوء البنية التحتية. ويُعد التعليم أحد الأعمدة التي يسعى اللاجئون لتثبيتها في بيئة المخيم، إذ تحتضن مدارس كاكوما عشرات الآلاف من الأطفال، رغم ضعف الموارد وكثافة الفصول الدراسية. وتقول "مريم حسن"، وهي لاجئة صومالية وأم لـ4 أطفال "أريد أن يتعلم أطفالي ليكون لهم مستقبل خارج حدود المخيم، التعليم هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن سرقته منا". وأسهمت جهود المنظمات غير الحكومية وبرامج مثل "التعليم في حالات الطوارئ" في دعم تعليم اللاجئين، لكن الحاجة لا تزال تفوق الإمكانيات المتاحة بكثير. وتلعب النساء دورا محوريا في حياة المخيم، وغالبا ما يكنّ المسؤولات عن إعالة الأسر في ظل غياب المعيل أو فقدانه، ويواجهن تحديات مضاعفة، تشمل العنف القائم على النوع الاجتماعي، ومحدودية الفرص الاقتصادية، وصعوبة الوصول إلى الرعاية الصحية. لكن في المقابل، تعمل منظمات محلية ودولية على تمكين النساء عبر مشاريع صغيرة ومبادرات تدريب مهني. وتقول "روز أكيلو"، وهي منسقة برامج نسوية في منظمة مجتمع محلي داخل كاكوما "نحاول أن نعيد تعريف أدوار النساء داخل المجتمع، وأن نتيح لهن بيئة آمنة يعبرن فيها عن قدراتهن". ورغم الأوضاع الصعبة، فقد شهد المخيم في السنوات الأخيرة بروز مبادرات شبابية يقودها لاجئون يسعون لتحسين ظروفهم بأنفسهم. وتنتشر في كاكوما فرق رياضية، وورش تعليم مهارات رقمية، ومبادرات بيئية مثل إعادة تدوير النفايات وتحويلها إلى أدوات مفيدة. تقليص الدعم وتعاني المنظمات الإنسانية العاملة في كاكوما من ضغوط مالية متزايدة، مع تناقص التمويل الدولي المخصص للاجئين، مما أدى إلى تقليص الحصص الغذائية وخدمات الصحة والتعليم. إعلان وعبر هاميسي كاكوزي، اللاجئ من الكونغو، عن القلق من تزايد الفجوة التي قد تحدث بعد نقص الدعم الموجه للاجئين في المخيم قائلا إن "الوضع صعب جدا، وبدون زيادة الدعم الدولي، سيكون من الصعب الحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات الأساسية في المخيم". ويقول أحد اللاجئين الشباب ممن يعملون في فريق تطوعي داخل المخيم "أحلم أن أكون صحفيا، لأروي قصتنا كما هي، العالم لا يعرف عن كاكوما سوى أنه مخيم، لكننا هنا نبني مستقبلا رغم كل شيء". دور الحكومة في حديث خاص للجزيرة نت، قال مدير دائرة خدمات اللاجئين في مخيم كاكوما أدوين شاباري، إن الحكومة الكينية تبذل جهودا مستمرة في تعزيز الأمن داخل المخيمات، حيث "تم إنشاء عدد من مراكز الشرطة لضمان السلم الأهلي، ويتم ذلك بالتنسيق الدائم مع شركائنا من المنظمات الدولية، وعلى رأسها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ، و برنامج الأغذية العالمي ، بالإضافة إلى أكثر من 53 منظمة أخرى تقدم خدمات متعددة داخل المخيم". وأضاف شاباري أن دور دائرة خدمات اللاجئين يتمثل في "تنسيق عمل هذه المنظمات وضمان جودة الخدمات المقدمة"، مشيرا إلى أن المهام الحكومية تمتد إلى مجالات حيوية تشمل "توفير المياه، وخدمات الصرف الصحي، وتسجيل اللاجئين فور وصولهم، ومنحهم بطاقات هوية وتصاريح تنقل، مما يمكننا من تتبع حركتهم خارج حدود المخيم". وعند سؤاله عن تداعيات خفض ميزانية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس إيد) (USAID) بناء على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، أوضح شاباري أن "التخفيضات تسببت في تراجع حاد في مستوى الخدمات، وارتفاع معدلات الجريمة داخل المخيم، لاسيما جرائم السرقة والعنف القائم على النوع والعنف ضد الأطفال". وأشار إلى أن "هذه التخفيضات أثرت مباشرة على قدرة المنظمات على توظيف الكوادر، حيث اضطرت منظمات مثل المنظمة الدولية للهجرة ولجنة الإنقاذ الدولية إلى تسريح عدد من الموظفين، مما انعكس سلبا على برامج التعليم، وبناء السلام، والمبادرات المجتمعية، التي أُوقف عدد كبير منها"، كما حذر من احتمال حدوث "فراغ أمني وخدمي خلال شهر إن لم تُتخذ تدابير عاجلة". إعلان وفيما يتعلق بالمساعدات الغذائية، أوضح أن "الحصص الغذائية انخفضت من 80% إلى نحو 40% من الاحتياج الفعلي، كما تم تخفيض الدعم النقدي من 520 شلنا للفرد إلى صفر، اعتبارا من يونيو المقبل". وختم حديثه بالقول إن "قضية اللاجئين ليست أزمة وطنية تخص كينيا فقط، بل هي أزمة إنسانية ودولية، ونحن ملتزمون بالقانون الدولي الذي لا يسمح بالإعادة القسرية للاجئين، وعلينا أن نستقبلهم ونتعامل معهم بما يتوافق مع قيمنا الأخلاقية والثقافية".


الجزيرة
منذ 9 ساعات
- الجزيرة
القارة المقزّمة.. حملة أفريقية لتصحيح خريطة العالم
في مبادرة غير مسبوقة يقودها أفارقة من داخل القارة لإعادة التعريف بها، أطلقت الناشطة النيجيرية الشابة أبيمبولا أوجوندايرو (28 عاما) حملة عالمية لإصلاح تمثيل أفريقيا على خريطة العالم، داعية إلى التخلي عما وصفته بـ"أكثر النماذج الخرائطية تضليلا"، في إشارة إلى إسقاط "مركاتور" الذي تُستخدم نسخته بشكل واسع في المدارس والخرائط الرقمية والمراجع الرسمية. وتسعى الحملة، التي تحمل عنوان "صحّحوا خريطة العالم" وتقودها منظمة "أفريكا نو فلتر" (Africa No Filter)، إلى الضغط على المؤسسات الدولية، على غرار الأمم المتحدة والبنك الدولي، فضلا عن الأنظمة التعليمية، لاعتماد خرائط أكثر دقة وإنصافا، تعكس الحجم الحقيقي للقارات والدول، وخاصة أفريقيا التي طالما عانت وفق القائمين على الحملة، من "التقزيم المتعمد" في التصور البصري العالمي. وقالت أوجوندايرو في مقابلة مع شبكة الجزيرة "عندما قلت لعمّي إن الولايات المتحدة والصين والهند يمكن أن تتّسع كلها داخل أفريقيا، شعر بالصدمة والخداع، وهذه ليست مبالغة، بل حقيقة مدعومة بالأرقام، لكنها غائبة عن وعي الناس بسبب خريطة مركاتور". أفريقيا في إسقاط مركاتور وتُظهر خريطة مركاتور، المطوّرة عام 1599 لتسهيل الملاحة البحرية، قارّات الشمال العالمي -مثل أوروبا وأميركا الشمالية- بأحجام مضخّمة، في حين تُقلّل بشكل كبير من حجم أفريقيا وأميركا الجنوبية. فعلى سبيل المثال، تظهر غرينلاند بحجم قريب من مساحة أفريقيا، رغم أن القارة يمكن أن تعادلها أكثر من 14 مرة. ويشير خبراء الجغرافيا إلى أن إسقاط مركاتور يحافظ على الزوايا والأشكال، مما يجعله مناسبا للملاحة، لكنه فاشل تماما من حيث مقياس المساحة. ويقول الدكتور ليندسي فريدريك براون من جامعة أوريغون "مركاتور ليس مؤامرة بحدّ ذاته، لكنه يعكس رؤية متحيزة للعالم ظلّت تخدم القوى الكبرى لقرون"، مضيفا أن سبب انتشاره هو توفره في الخرائط البحرية، وأيضا لأنه يعكس رؤية مريحة للعالم بالنسبة للجهات التي ترى بلدانها أكبر حجما. وفي عام 1973، أعلن الألماني أرنو بيترز أن إسقاطه الجديد المعروف بـ"إسقاط بيترز" هو "الخريطة الدقيقة الوحيدة"، معتبرا أنه بديل عادل لخريطة مركاتور، التي وصفها بأنها "متمركزة أوروبيا". وفي عام 2016، تم اعتماد إسقاط بيترز في مدينة بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية، لأنه يقدم تمثيلا أكثر عدالة للمساحة، في حين انتقده آخرون باعتباره يشوّه الأشكال الهندسية، ويفتقر إلى التوازن البصري. خريطة الأرض المتساوية الجديدة وفي خضمّ الجدل الدائر منذ فترة حول إسقاطات الخرائط لأرضية، أعلن فريق من الباحثين بقيادة عالم الخرائط توم باترسون في 2018 عن إسقاط جديد أطلق عليه "الأرض المتساوية". ويُظهر هذا الإسقاط أفريقيا بحجمها الحقيقي تقريبا، ويُعتبر اليوم أحد أكثر النماذج دقة من حيث المساحة، وهو النموذج الذي تتبناه حملة أوجوندايرو. وتظهر خريطة "الأرض المتساوية" غرينلاند بحجمها الحقيقي بعدما تمّ تضخيمها في إسقاط مركاتور. وقد لقيت الخريطة الجديدة دعما من مؤسّسات مرموقة، إذ تبنّتها وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، واعتمدها البنك الدولي رسميا في 2024. وفي توضيح للجزيرة، قال متحدّث باسم البنك الدولي إن "المجموعة ملتزمة بتمثيل دقيق وعادل لجميع شعوب العالم، في جميع منصاتها". طريق طويل لكن أوجوندايرو تؤكد أن التغيير لن يأتي من الخارج وحده، وتحمّل المسؤولية للأفارقة أنفسهم، قائلة "على مدار قرون، رُسمت خريطة العالم بأقلام غير أفريقية، تعكس مصالح وأجندات خارجية.. لقد آن الأوان أن نمسك نحن بالقلم ونروي للعالم قصّتنا البصرية بأنفسنا، لا أن نستمر في قبول رواية الآخرين". وتضيف أوجوندايرو أن "هذه الخريطة لا تؤثر فقط على الجغرافيا، بل على الاقتصاد، والسياحة، والتعليم، والخيال الجمعي، وما دامت أفريقيا تظهر صغيرة وغير مؤثرة، فستُعامل كذلك سياسيًا واقتصاديا". ورغم الخلاف بين المدارس الخرائطية، تتفق الحملة الأفريقية على نقطة مركزية، وهي "ضرورة الكفّ عن استخدام النماذج الاستعمارية لتشكيل وعي الأجيال القادمة، والانتقال نحو خرائط تعكس واقعا أكثر صدقا". وتعتبر أوجوندايرو أن الخريطة ليست مجرد أداة تعليمية، إنها أداة سلطة، وكلما طال تشويه صورة أفريقيا عليها، طال تشويه صورتها في أذهان العالم".