أحدث الأخبار مع #هالةلطفي،


مدى
منذ 3 أيام
- ترفيه
- مدى
«السينما المستقلة».. ليه؟ (2-2)
في قاعة شبه فارغة، في أحد المهرجانات، يُعرض فيلم «مستقل » لمخرج شاب، قضى سنوات يحاول تمويله وإنجازه. يحصد الفيلم جوائز دولية، يُكتب عنه في الصحافة.. ثم يختفي. لا أحد سمع عنه، لم يُعرض في دور السينما التجارية، ولا حتى في المنصات، التي تتطلب بطاقات ائتمان لا يمتلكها أغلب الجمهور. في الجزء الثاني من تحقيقنا عن السينما المستقلة نناقش علاقتها بالجمهور المصري: لماذا لا تصل الأفلام إلى الناس؟ ولماذا لا يصل الناس إلى الأفلام؟ بين شهادات المخرجات والمخرجين، وتحليل واقع التوزيع، والعوائق الاقتصادية، نحاول أن نفهم الصورة كاملة. فهذه ليست قصة فيلم لم ينجح جماهيريًا، بل صناعة تقف في مفترق طرق. في الجزء الأول ناقشنا المسائل الخاصة بالإنتاج وما قبله، كالهوية التأسيسية للسينما المستقلة، وسؤال «الأجندة» والتمويل، وبالطبع الرقابة وتصاريح التصوير. اقرأوه من هنا. نشكر المخرجات والمخرجين الذين تحدثوا معنا بانفتاح وكرم: هالة لطفي، وآيتن أمين، وتامر السعيد، ومروان عمارة، ومراد مصطفى، وأمجد أبو العلا. سؤال التوزيع: لماذا لا تصل الأفلام إلى الناس؟ «كم موزّع يشتغل في توزيع السينما المستقلة، ليس في مصر فقط بل في الوطن العربي؟ على حد علمي هي شركة واحدة تقريبًا، ماد سولوشنز MAD Solutions، وأظن أن فيلم كلينيك Film Clinic تعمل أيضًا في التوزيع بشكلٍ ما، و«زاوية» كانت توزّع بعض الأفلام وتوقّفت. فهي تقريبًا Film Clinic التي على توافق كبير جدًا مع MAD Solutions، حتى يمكن اعتبارهما مؤسسة شبه متّحدة. إذًا، ليس هناك شركات مهتمة أو منافسين في التوزيع» ، يفتتح مروان عمارة كلامه عن التوزيع بهذه الكلمات، يصف من خلالها الحال العام للسوق، ليس في مصر فقط، بل في الوطن العربي بأكمله. يفتقر سوق الأفلام المستقلة للقوّة الشرائية؛ لا يحقّق أرباحًا، إلى جانب أن شركة واحدة تقريبًا تدير و«تُخدّم» على المجال، ما يبرر فقر عملية التوزيع بشكل كبير. فالأفلام المستقلة تُوزّع على نطاق جغرافي ضيق، وفي دور عرض سينمائية أقل بكثير من الأفلام التجارية. وهنا تتبدّى العلاقة الطردية بين الأرباح وقوة التوزيع؛ وإذا كان المنتج السينمائي لا يضمن هامش ربح آمن، فلن تخوض الشركات مغامرة غير محسوبة بتوزيعه على نطاق كبير، في انتظار أموال لا وجود لها منطقيًا إلا بمعجزة جماهيرية. قبل أن نخوض في هذه الإشكالية، علينا أن نُفرّق بين السوق الأمريكي الهائل ذي القوّة الشرائية العالية، والسوق المصري المتواضع، حتى على مستوى الأفلام التجارية. في أمريكا، هناك مهرجانات مثل «صاندانس» (Sundance) يكون لها دور قوي كمنصة تعرض الأفلام لعدد كبير من المُنتجين، يحرصون على التواجد في الفعاليات. إذا أُعجب المنتِج بفيلم، يمكن أن يوزّعه ويُروّج له على نطاق أوسع، ومن المرجّح بعد حملة التوزيع أن يُحقّق الفيلم أرباحًا جيدة جدًا تُغطّي تكاليف توزيعه ويُحقّق هامش ربح جيّد. ولكن لا نستطيع تعميم هذه التجربة لدينا في مصر. الحالة الاقتصادية متآكلة، ما ينعكس بالضرورة على الجمهور الذي يُعتبر النواة المركزية للصناعة. حتى إذا حاولنا القياس على أساس الأفلام التجارية، لن نستطيع، لأنها مقيدة بالمواسم والأعياد. ومحاولة إطلاق فيلم تجاري بنجم صف أول خارج المواسم المعهودة هو مغامرة غير محسوبة. إذًا، فمن سيهتم بتوزيع أفلام تقع خارج نموذج النجم ذي الشعبية الهائلة؟ الأمر نفسه صعب، فمن المُستحيل تقريبًا أن يُراهن المُوزّع على الجمهور المصري، عكس النماذج الأجنبية في فرنسا وإسبانيا مثلًا، التي تُنتج هذه الأفلام وتُوزّعها على نطاق كبير. «في الخارج؛ الموزع نفسه هو مالك دور العرض، فهو مؤهّل للمجازفة بأفلام مختلفة، بينما أنت تواجه مشكلة أن مالكي دور العرض هم المنتجون»، يحاول مراد مصطفى من خلال كلماته وصف الطبيعة السوقية لتوزيع الأفلام، ويرى أننا لا يُمكننا أن نُلقي اللوم على ذائقة الجمهور بشكل كامل ونبرر للمنتجين والموزعين، ولا نستطيع أيضًا أن ننفي نجاح تجربة لم تحدث أصلًا. «لا أستطيع أن ألقي اللوم على الجمهور، يجب أولًا أن أرى فيلمًا مستقلًّا يأخذ دور عرض بحجم «كيرة والجن» حتى أستطيع تكوين وجهة نظر واضحة، ولكن هذا لم يحدث. وعندما حدث على مدى أضيق وكثافة أقل في فيلم «يوم الدين»، حقق أرباحًا تتجاوز الثلاثة أو الأربعة ملايين، وهذا رقم كبير لفيلم مستقل في شباك التذاكر». ولكن هل سنجد في المستقبل تجارب مستقلة توزّع على نطاق يناسب قيمتها؟ في الحقيقة، لا نعرف؛ لأن حيثيات السوق ذاتها لا تشير إلى ذلك. الحالة الاقتصادية متدنية، والشعب المصري يعتبر السينما من الرفاهيات. لذلك لا يلقي الصنّاع اللوم على الجمهور، بل يفهمون متطلبات الحياة، وارتفاع سعر التذكرة، والكثير من الأشياء التي تجعل السينما خارج القائمة الأساسية للمتطلبات. لذا، فمشكلة التوزيع مشكلة شديدة التعقيد، تحتاج الكثير من العمل والشجاعة بالنسبة للموزعين والمنتجين. فهو الآخر يتعامل مع الأفلام ككيانات اقتصادية، ولا يود الخسارة. «لو هناك شخص معه هذه الفلوس، يريد أن يخرج 'يتبسط بيها'، ليس معقولًا أقول له تعالى اتفرج على فيلم فني، أكون حينها غير مدركة للوضع» ، تُشير آيتن أمين من خلال حوارها إلى الحالة الاقتصادية ودورها في تكوين الأولويّات. فلا نستطيع أن نطلب من فرد يحصل على مُرتّب ثلاثة آلاف جنيه شهريًا أن يذهب إلى السينما. لدى المخرج أمجد أبو العلا رؤية خاصة تتعلّق بتصنيف الأفلام السينمائية: «مصر بها مشكلة في تصنيف الأفلام، إنه داء، ليس في مصر فقط، إنما في كل الدول القديمة في الصناعة مثل أمريكا والهند. خارج هذه البلاد، لا يوجد تصنيف يُحدّد ما هو تجاري وما هو مستقل أو فني، كل ما يوجد هو فيلم جيد أو فيلم سيء. إذا كان الفيلم جيدًا سيدخله الناس، وإذا كان سيئًا لن يدخلوه. هذا التصنيف اختراع الدول الصانعة للأفلام التجارية بكثرة مثل مصر وأمريكا والهند». يشير أمجد إلى التصنيف كعلة تظلم توزيع الأفلام داخل مصر، وتربك الموزعين في انتقاء الأفلام. هناك خلل في المسميات التي تفرض انقسام السينما على ذاتها، لتُنتج نموذجًا مختلفًا يؤثر على اختيارات الموزّعين، في نزعة شكية مربكة لمدى تقبّل الجمهور لهذه الأفلام. وكما قُلتُ سابقًا، لا يُراهن الموزع على ذائقة الجمهور، فتُفضي المحاولات إلى نموذج شديد التواضع، يُوزّع على نطاق ضيق داخل مصر، في سينما أو اثنتين، في الأغلب «زاوية» و«الزمالك». ومع تطوّر منصات العرض وسطوتها الهائلة على السوق، أصبح المخرجون يتجهون إلى المنصات الإلكترونية (VOD) كحل فعلي يوفر المُنتج البصري على نطاق واسع وسهل. والحقيقة أن إيجابيات وفوائد المنصات أكثر من مساوئها، ووجودها أصبح واقعًا يجب التعامل معه كتطور ملموس للوسيط. يصف أمجد أبو العلا تجربة التوزيع كتجربة معقدة لها منهجية خاصة وعوامل معينة تدفعها إلى الأمام، ويشير إلى الإنتاج المشترك والمهرجانات كعناصر إيجابية في رحلة توزيع الفيلم خارجيًا: «أنت تصنع فيلمًا لا تأخذ أموال إنتاجه من جهة تستدعي ردها مرة أخرى إليهم. لنكن واضحين، أغلب أموال الفيلم لا تُرَد، ربما بعضها. مثلًا، إذا كانت ميزانيتك 600 ألف؛ ستكون مطالبًا بردّ حوالي 200 ألف منها؛ هي أموال ضمان الحد الأدنى (Minimum Guarantee) التي تدفعها شركات التوزيع نفسها، كبادرة ثقة في قدرتها على توزيع الفيلم، وهذا ما يقارب 100 ألف. ومن الممكن أن يشارك رجل أعمال مستثمر بـ100 ألف أخرى. بقية الـ600 ألف، أنت غير مطالب بردها، هي منح عامة (Public Funds) آتية من نسب المنتجين، والمنتجون أنفسهم لم يضعوا من أموالهم الخاصة، ولكنهم آمنوا بالفيلم، فترجموه للغات بلادهم، وقدموه في منح خاصة بدولهم. وبالتالي، كل واحد من المنتجين الحاصلين على المنح أصبح يملك نسبة من الإنتاج، وكلهم يتمنون أن يحقق الفيلم أرباحًا. لذلك، فالإنتاج المشترك (Co-Production) شيء شديد الأهمية، لأنه يفتح لك الأسواق الخارجية. فمثلًا، إذا أتى لي منتج مصري وحاول إنتاج الفيلم بالكامل، لن أوافق؛ سأطلب منه أن يموّل النصف فقط، لأنه إذا موّل الفيلم بالكامل سيتعجّل بتوزيعه في مناطق معينة ليسترد أمواله. بجانب ذلك، فالمهرجانات مهمة جدًا لتوزيع الفيلم، لأنها تلفت نظر الصحافة العالمية والموزعين. بالإضافة إلى أنك تتعامل مع وكيل (Sales Agent)، وهو الذي يبحث عن موزعين في كل أنحاء العالم. لذلك، فانتقاء وكيل ذي خبرة، وحصول الفيلم على جائزة أو إشادات نقدية جيدة، يدفع الفيلم إلى الأمام». هذا فيما يتعلّق بالتوزيع الخارجي، أمّا التوزيع الداخلي، كما قلنا، فهو أضعف كثيرًا. تقترح آيتن أمين حلًا على هامش الحالة الاقتصادية للمواطن، ربما يُضيف إلى تجربة توزيع فيلم مستقل على نطاق واسع؛ وهي تجربة لم تُختبر بعد. تقترح تخفيض ثمن تذكرة الأفلام المستقلة، بمنطق أنّ الأفلام ذاتها تفتقد إلى جاذبية الفيلم التجاري بالنسبة للفرد العادي، وربما هذا النوع من التنازلات سيمنح الأفلام المستقلة فرصًا أكبر، وسيجعل قرار دخول هذا النوع من الأفلام أسهل وأكثر قدرة على التحقيق. لأن الفرد ذاته، في دوّامة العمل والالتزامات، لا يجد وقتًا للسينما، وحين يُفكّر في دخول السينما في المواسم والأعياد، تُغريه الأفلام التجارية كتجربة تزيح عنه الهموم بشكل وقتي. بجانب ذلك، فإن عدد دور العرض منخفض داخل مصر، فالسينما نفسها غير متوفّرة للفرد العادي في عدة محافظات، وهذه إشكالية أخرى. على الجانب الآخر، لا ترى هالة لطفي التوزيع كجزء من المشكلة: «انجِحْ في صنع أفلامك أولًا، ثم ستجد موزعًا. لأن العرض في السوق المصري أقل بكثير من الطلب، فالسوق المصري يتحمّل عددًا أكبر من الأفلام المصنوعة. كموزعة، خصوصًا مع حضور المنصات بشكل كبير في الآونة الأخيرة؛ كقوة شرائية تشتري الأفلام حتى مع عدم عرضها تجاريًّا. عندما عُرض فيلمي تجاريًّا لم ينجح، ولكن عندما اشترته «نتفليكس»، كان من أكثر خمسة أفلام مشاهدة على المنصة. قال لي أحد الموزعين الكبار تاريخيًّا، أنه بعد 2011 أُغلقت أسواق كاملة في أمريكا الشمالية في وجههم، لأنهم كانوا يبيعون بما يسمى الـ Line Up؛ أي مجموعة من الأفلام دفعة واحدة. وفي ذلك الوقت لم يكونوا يملكون عددًا من الأفلام لبيعها. وفي آخر سنتين (الكورونا) كانت السينما مغلقة، والآن الظرف الاقتصادي يمنع عددًا من الجماهير من الدخول بنفس العدد. والحقيقة أن أزمة السينما ليست مصرية فقط بل عالمية؛ حتى أفلام الأبطال الخارقين والـ Blockbusters لم تعد تُدرُّ نفس الأموال. الجميع الآن يتجه إلى الـ Mini Series لأنه شكل أكثر أمانًا ومضمونًا». سؤال الجمهور: لماذا لا يصل الناس إلى الأفلام؟ يشكل جمهور السينما قوام الصناعة، كركيزة أساسية توفر مجالًا لوجود المنظومة السينمائية على نطاق واسع وآلية اقتصادية. يبرر الجمهور وجود الصناعة بشكلها الحالي، ويمنحها أسبابًا جوهرية للتطور. وهذا لا ينفي أن صناعة السينما منفصلة عن الفن، فكلاهما مهم للآخر، حتى إذا اختلفت المسميات إذا كانت استهلاكية أو ترويجية. ولكن في النهاية، الاثنان متلازمان، بغض النظر عن استغلال واحدة للأخرى. فالأفلام كيانات اقتصادية، تتعاطى مع المجتمع فنيًا وسلعيًا، ومن خلال الجمهور يتحقق كلاهما: الطموح الفني والاقتصادي. ولكن الأمر مختلف بالنسبة للأفلام المستقلة، فظروفها مختلفة، وصيغتها الاقتصادية تتمتع بخصوصية تفرض تفكيرًا مغايرًا في الأفلام وخط سيرها. موقف الجمهور بالنسبة للأفلام المستقلة موقف مربك، لأن الظهير الجماهيري لهذا النوع من السينما ــأتحدث عن مصرــ لم يوجد في الأساس. منذ بداية الألفية ومخرجو السينما المستقلة يحاولون إيجاد الآلية الأمثل لتنفيذ مشروعاتهم على أكمل وجه. ولكن، ماذا إذا لم تتطلب هذه الآلية الاشتباك مع الجماهير؟ لا أقصد فنيًا، ولكن ماديًا واقتصاديًا، فالمنظومة نفسها تؤسس على المنح وصناديق الدعم التي تعطي المال دون انتظار مردود مادي. لا أخفي عليكم أن جميع الفنانين الذين قابلتهم كانوا يحرصون بشدة على الوصول والاحتكاك مع الجمهور، حتى لو كان الواقع عكس ذلك. جميعهم يودون صنع أفلام قابلة للمشاهدة، تشتبك مع هموم الفرد العادي، مصنوعة من أجله في الأساس. بيد أنهم يواجهون بعض المشكلات؛ فبعض من أفلامهم مصنوعة بحيث تخاطب جمهورًا معينًا ليفهمها، في الأغلب جمهور النخبة الذي يقبع في المهرجانات. اللغة البصرية ذاتها لا تتناسب مع الفرد العادي في الشارع، حتى لو كانت الاهتمامات واحدة. وهذا طبيعي، لأن السينما المستقلة توفّر مساحة للتجريب. وحتى الأفلام الأخرى التي يمكن أن تتناسب مع ذائقة الجمهور العادي، لا تُوزَّع بشكل جيّد بحيث تكون متاحة لرجل الشارع. تشير الحيثيات، عندما نتحدث عن السينما المستقلة، إلى تراجع حاد لقيمة الفرد/المتفرج في المنظومة، بحيث أصبح المخرج محاصرًا داخل دائرة مغلقة، تهمش الجمهور بشكل واضح في آلية سير الفيلم. عكس التسعينيات والثمانينيات، جيل الواقعية الجديدة في مصر، حين كان الفرد أو المتفرج هو العصب والركيزة الأساسية داخل المنظومة السينمائية. في ذلك الوقت، كان المنتج البصري يربط بشكل مباشر بين المخرج والمتلقي. قدرة السينما على التعاطي مع الجمهور وجمع الإيرادات، مع الحفاظ على الحضور البصري واستدعاء الأفكار الثقيلة متعددة الطبقات، كانت مذهلة. راهن الكثير من المخرجين على الجمهور، رغم أن السينما في ذلك الوقت كانت تدار بأموال المنتجين، ولم يمنع ذلك خروج مشاريع ممتازة فنيًا وبصريًا. ولكننا بأي حال لا نستطيع المقارنة بين الجيلين، فالظروف والخواص مختلفة بينهما، وسنظلم الجيل الحالي، لأن الوسيط نفسه تغيّر، والمنهجيّة ذاتها تطوّرت. نحن أمام إشكالية الفنان المُحاصر بآليّة عمل لا تُقصي الجمهور بقدر ما تُهمّشه، آليّة تكتسب قيمتها من الأمن الاقتصادي والمادي، فالمِنَح الماليّة لا تُرَد. بالطبع يُريد المُخرج تحقيق الأرباح في شبّاك التذاكر؛ ولكن لا توجد مشكلة إذا لم يُحقّق شيئًا. دائرة الأمن الإنتاجي أو الاقتصادي، رغم صعوبة تحقيقها في المطلق، تمنح المخرج ضمانات تتعلق بتحقيق المُنتَج الفني. فنحن نتحدث عن الأفلام ككيانات اقتصاديّة أولًا، لها هيكلة ماديّة خاصة لا يُمكن البناء من دونها. لذا، فهناك دورة معينة لحياة الفيلم المستقل، تبدأ مع كتابة المخرج للسيناريو وتقديمه للمهرجانات والمنح وصناديق الدعم. وفور حصوله على سيولة مادية تغطي تكاليف الفيلم، يبدأ بتحقيق المنتج البصري كما يتخيله، ثم يرسله إلى المهرجانات الدولية المرموقة، على أمل أن يقبل داخل المسابقة الرسمية أو المسابقات الفرعية. إذا حدث ذلك، فهو إنجاز فني عظيم بالنسبة لفيلم عربي، ولكنه للأسف يغلق الدائرة على توزيع الأفلام في نطاقات معينة ضيقة داخل الوطن العربي. وفي الكثير من الأحيان، توزّع الأفلام في أوروبا أفضل بكثير من مصر والوطن العربي. وعندما ندقق في دورة حياة الفيلم المستقل ـأقصد الفيلم الروائي الطويل وليس القصير- سنجد أن مساحة المتفرج، بعيدًا عن جمهور النخبة داخل المهرجانات، غير موجودة تقريبًا. المعادلة نفسها تكتمل دون تدخل الجمهور بشكله الكلاسيكي، سواء عبر قدرته المادية أو ردود فعله الانطباعية. وهذه هي المعضلة؛ فهؤلاء المخرجون يصنعون أفلامًا مهمة، تخص الشارع وتعبر عنه، يعبرون عن خيبات الأمل والاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية، ولكنهم على النقيض لا يُعرضون للفئة التي يتناولونها بالحكي داخل أفلامهم. حينما نتحدث عن الجمهور علينا أن نذكر عدة خصائص تحكم العلاقة بين الفيلم المستقل والمتفرج، فتوصيف العلاقة ذاتها غير مستقر ويحمل أوجه ودلالات عديدة، ولكن من خلال رصد التعقيدات ستبدأ ملامح العلاقة بالتشكل لدى ذهن القارئ. ولا يمكننا استهلال إشكالية الجمهور دون البدء عند الوضع الاقتصادي المزري للطبقة الوسطى، الذي ينعكس بشكل واضح على تكوين الاهتمامات والأولويات. تنجُم عادات الطبقة الاجتماعية من موقفها المادي، وربما كان الجمهور أكثر نشاطًا في التسعينات والثمانينيات، وبعد ذلك طورت الجماهير عادة مشاهدة التلفاز كعادة بديلة للسينما، ولكنها لم تحل محلها بالطبع. في الفترة الأخيرة حدثت طفرة هائلة في المستوى التقني والبصري لدى الدراما التلفزيونية، طفرة جعلت من الصعب على المشاهد العادي التفريق بين ما هو سينمائي وما هو درامي. وفي ظل الانهيار الاقتصادي خلال السنوات العشر الأخيرة، أخذت العادة بالتطور والتبلور أكثر لتحل محل السينما بالنسبة للمواطن المصري. وحتى مع القفزة التكنولوجية التي خلّفت وراءها التلفزيون كوسيط وأداة انتهت صلاحيتها، يظل التلفزيون أداة فاعلة في المجتمع المصري، إلى جانب الوسيط الإلكتروني المجاني. تحولت الشاشات الصغيرة بأنواعها إلى سينما «الغلابة»: التلفزيون، والهاتف، والأجهزة اللوحية، واللاب توب. أصبحت أفلام السينما تُعرض على هذه الشاشات ليتكوّن طقس جديد للفرجة، يخص الطبقة الوسطى والدنيا أكثر من مجتمع الأثرياء قاطني المجمعات السكنية «الكمبوندات». وهذا لعدة أسباب؛ أولها ارتفاع سعر تذكرة السينما بشكل مبالغ فيه فيما يُسمى «سينما المولات» التي تحولت إلى ظاهرة يجب دراستها. فالسينما، مع التصاقها بمبنى المول، تتحول إلى سلعة استهلاكية، والدليل على ذلك ارتفاع سعر تذكرة المولات بمؤشرات هائلة لتصل إلى أكثر من مئة جنيه. يرى مراد مصطفى «أنت لا تستطيع فصل السينما عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد، أنت تمر بأزمات اجتماعية واقتصادية كبيرة، والسينما ستتأثر بها، والمواطن نفسه ليس من أولوياته أن يدخل فيلمًا إلا في العيد مثلاً، وهذا جمهور مختلف، لذا فهو يفضل الفرجة على القنوات التلفزيونية العادية أو الدخول على المنصات إذا أمكن، بدلًا من أن يذهب للسينما ويدفع المال في ظل الأزمات التي يمر بها.. فكرة غلاء أسعار التذكرة، إلى جانب تواجد عدد غزير من المسلسلات في التلفزيون، إلى جانب المواقع الإلكترونية التي تقرصن المحتوى، يؤثر على قرار المتفرج». يزيح البعض إشكالية الجمهور إلى مساحة الذائقة، ويلقي اللوم على ثقافة الجمهور وذائقته، بيد أن هؤلاء المخرجين لا يرون المشكلة في الجمهور، ولا يحاولون إزاحة المشكلة بمنطق تدني الثقافة وانحدار الجو العام، فمشكلة الجمهور أكثر اتساعًا وتشعبًا بحيث تحتاج إلى أعوام لرصدها بشكل منهجي وأكاديمي؛ كما فعلت الناقدة والباحثة نور الصافوري في مشروع ضخم تحت مسمى «رصد جماهير السينما». حاولت من خلاله تشريح علاقة الجمهور بالسينما ومؤسساتها عن طريق إجراء بحوث ميدانية ومقابلات ورسوم بيانية مكثفة ومفصلة، وثيقة ضرورية لكل شخص مهتم بالسينما والظروف المحيطة بها، لأنه مكتظ بمؤشرات وشواهد تفسر العديد من ظواهر السينما داخل إطار المنظومة السينمائية. أنجز المشروع بمنحة من قبل مؤسسة آفاق الثقافية والمورد الثقافي. «لا أقدر على القول إن ذائقة الجمهور متدنية، لا أستطيع الحديث عن الجمهور بهذه الطريقة، لأن السينما فيها إحساس، والاشتباك مع الجمهور يُبنى على الإحساس، فإذا لم يحس الجمهور، فنحن لم نستطع الوصول له». تحاول آيتن توصيف العلاقة بين المتلقي والمنتج البصري في حالة تم اختبار فيلم مستقل بتوزيعه على نطاقات واسعة وإتاحته لأكبر قدر من الجمهور، فهي كمخرجة ذات تجربة مبتورة، فيلمها «سعاد» لم يُوزّع داخل مصر بسبب مشاكل مع المنتج، وحتى الآن لم يُصدر داخل مصر، وفي هذه الحالة لم يُتاح المنتج أصلاً داخل السوق بأي وسيلة، لهذا فالكلام نفسه لا يأخذ شكلًا عمليًا. يتشارك مروان عمارة نفس وجهة النظر تقريبًا: «أنا لا أستطيع القول إن ذائقة الجمهور تنحدر أو تترقى، ونحن كعدد شعب نزيد بشكل ملحوظ، فالجمهور نفسه يزداد. أعتقد أن هناك حكمًا مسبقًا بأن ذائقة الجمهور متدنية مقارنة بالماضي، أنا لا أرى ذلك، أرى أن ذائقة الجمهور تشعبت وتنوعت. كلمة ذائقة ذاتها ملتبسة، فكرة الذوق العام لم تعد موجودة، في الماضي كانت قناة واحدة، فيلم واحد، لذا فهناك ذوق عام. أما الآن فقد تحطم الذوق العام ، وأصبح هناك تساؤل: هل هو مهم أصلاً؟ فإذا اعتبرنا محمد هنيدي ذوقًا عامًّا؛ فإلى أي مدى يهتم الجمهور بهنيدي الآن كما اهتم به من عشرين عامًا؟ الذوق العام نفسه اختلف كمصطلح ». لقد تغيّر شكل الجمهور، تنوّعت ذائقته على نطاق واسع بسبب مساحة الاختيار المتشعبة وتوفير منصات الـ «VOD» كوسيلة للاطلاع على مكتبات سينمائية متنوعة. لقد أصبح الجمهور في كل دول العالم يتردد للذهاب إلى السينما، ففيلمه المفضل سيُعرض على المنصات بعد أيام أو شهور قليلة من إطلاق الفيلم في السينمات. لذا فمشكلة الجمهور مشكلة عالمية، ولكن في مصر الحالة أسوأ، لأن السوق السينمائي المصري سوق موسمي. تقترح المخرجة آيتن أمين أن تمنح وزارة الثقافة فرصًا أكثر للأفلام المستقلة، وتفكر في إمكانية عرضها في «سينما الشعب» بقصور الثقافة داخل المحافظات، حتى لو ليوم واحد في الأسبوع. فهذا سيوفر المنتج السينمائي في مناطق كثيرة، وسيمنح تنوعًا وثقلًا لجداول العرض، بدلاً من إقصاء هذا النوع من الفن. ربما تمنح سينمات قصور الثقافة فرصة للمشاهد العادي ليتعرف على نوع سينمائي مختلف، بدلاً من أن يجده بالصدفة على مواقع القرصنة. لا تقتصر إشكالية الجمهور على مساحة التعاطي بين الفنان والمتلقي، والحالة الاقتصادية للمتفرج، بل تمتد لتتماس مع عوامل أخرى تؤثر مباشرة على نوع السينما وشكل الجمهور المستهدف، ويشارك في تجسيد نمط سينمائي معين مثل سينما المولات. أحد العوامل هو اختفاء فاعليات السينما تدريجيًا من الحياة الاجتماعية، مثل «السينما الصيفي»، والتذكرة التي تدخلُك فيلمين متتالين: واحد من بلدك والآخر من بلد أخرى، إلى جانب اختفاء برامج ومهرجانات سينما الأطفال. لقد تهاوى الموسم الصيفي في السينما المصرية بعد أن كان فرصة ممتازة للمنتجين لإصدار أفلامهم. يعرض المخرج مروان عمارة تجربة خاصة: «عندما كنت صغيرًا، كنت أذهب مع المدرسة إلى سينما الأطفال، كان هناك برنامج يُسمى سينما الأطفال أو مهرجان سينما الأطفال. كانوا يعرضون الأفلام صباحًا، كنا نذهب من المدرسة إلى سينما جراند مول بالمعادي، وكنا ندخل أفلامًا مصنوعة للأطفال… إذا أردت أن أعوّد الجيل الجديد أن يشاهد الأفلام، أين الأفلام المناسبة لهم أصلًا؟… إذا تحدثنا عن مهرجان برلين مثلاً، هناك مسابقة تُسمى «Generation»، أفلامها موجهة إلى النشأ فقط، تتكون من قسمين: لأقل من 14 سنة، وأكثر من 14 سنة حتى 21 سنة. اختيار أفلام المسابقة يتعلق بالأجيال المستهدفة، هؤلاء هم أبطال أفلامك. تقوم المسابقة بعقد شراكات مع مدارس وجامعات ليحضروا طلبة وأطفالًا كمشاهدين ومحكمين أيضًا لاختيار الأفلام. يحضرون أطفالًا عمرهم 9 سنوات و11 سنة ليختاروا أفضل فيلم في قسمهم». يعرض مروان من خلال هذه التجربة إقصاء فئة معينة من المعادلة السينمائية، جيل النشأة والأطفال لا يملكون أفلامهم الخاصة، لذلك لا يطورون وعيًا عن السينما بأشكالها المختلفة، فهم يكبرون لمشاهدة السينما ذاتها التي يشاهدها الكبار. ربما اختلف الأمر قليلاً الآن بعد توفير المنصات والمواقع الإلكترونية للأفلام من جميع أنحاء العالم، ولكن أنا أقصد الهوية السينمائية، المنظومة نفسها تفتقد لحلقة مهمة تؤثر على تكوين الشخصية السينمائية للمواطن. فإذا تعود الصبي الصغير على تلقي الأفلام منذ الصغر، خصوصًا الأفلام التي تشتبك مع بيئته وعالمه الخاص، سيكبر كمُتلقي وسيكوّن ذائقة خاصة ويخلق وعيًا وانفتاحًا على أنواع مختلفة. يُكمل مروان: «لي صديق؛ هو الآن الذي يدير هذه المسابقة، في الماضي كان واحدًا من محكمي الأطفال، وعندما كبر قليلاً أصبح من محكمي النشأة، والآن يدير المسابقة بعمر الـ35، وقبل ذلك عمل معهم كمبرمج. إنهم يعطون الفرصة لكوادر جديدة لتخرج للنور، إنه الآن من يختار الأفلام للمسابقة؛ نفس الشخص الذي كان من عشرين عامًا يشاهد الأفلام. نحن لا نملك تلك العلاقة بين الجيل الحالي والجيل الصاعد، منصات الـVOD هي من تهتم بهذه الفئة وتستهدفها. إذا كان المتفرج بعمر الـ16 عامًا يشترك في نتفليكس، عندما يكون في الـ30 سيظل يشاهد نتفليكس». فيما تشير هالة لطفي إلى أن سؤال الجمهور هو سؤال خاطئ في الأساس، فالخيارات نفسها محدودة: «هل تتيح دور العرض حتى تسأل عن الجمهور، عندما كنت صغيرة كانت قصور الثقافة تأخذ الأفلام التي تخرج من السينمات، بالإضافة لوجود أربع أو خمس سينمات صيفي، كان خالي يأخذنا ونحن أطفال لنشاهد ثلاثة أفلام بتذكرة واحدة، فيلم مصري وفيلم أمريكي وفيلم هندي، كانت تجربة فرجة جميلة جدًا، الآن لم يعد لديك سينما صيفي، لقد وعيت بوجود معهد سينما من خلال قصور الثقافة… أنت تتحدث عن الجمهور وأنت لا توفر له الحد الأدنى ليشاهد الأفلام ، سؤال الجمهور هو سؤال غير واقعي الآن، أين سينمات الدرجة الثانية؟ مع اختفاء سينمات الدرجة الثانية بالطبع سيختفي جمهورها.. الجمهور والتوزيع والأشياء الأخرى هي مجرد عوارض لقلة الأفلام، ومحدودية التنوع، كيف ستحافظ على الجمهور وأنت لا تمنحه البدائل ولا الخيارات». تضيف لطفي بخصوص معادلة الجمهور والأفلام البديلة: «من حقي كصانعة أفلام؛ أن أصنع فيلمًا غير تجاري، من حقك أن ترفضه كجمهور ومن حقي أن أصنعه كصانعة أفلام، من حقي أن أنظر للسينما كوسيط مثل الفن التشكيلي، أنا من آخذ المخاطرة، لا أحد يستطيع أن يحرمني منها، حتى مع مزايدات بعض النقاد بقولهم أن الأفلام تُصنع للجمهور! نعم تُصنع للجمهور، ومِن هذا الجمهور العريض من يود أن يشاهد فيلمي، حتى إذا كانوا عدد ضئيل جدًا؛ أريد أن أصنع الفيلم من أجلهم، وماذا يعني الجمهور العريض!! تهمة أن الأفلام للجمهور كانت تُوجه للمخرج العظيم تاركوفيسكي، كان يهاجَم من قِبل زملائه والنقاد أنه يصنع سينما نخبوية تشتبك مع فئة قليلة، ولا يريد أن تشتبك مع الجمهور العريض في نضاله اليومي، وكان يرد أنه يضع مجهودًا كبيرًا في أفلامه، لتشتبك مع الجمهور بشكل حقيقي وليس مزيفًا وفيه استخدام للجمهور، الأفلام العظيمة هي من تغيِّر الجمهور، مثل فيلم المومياء لشادي عبد السلام الذي واجه نفس الانتقادات». فيما يرى تامر السعيد أن الحالة العامة للصناعة لا آدمية في الأساس، لذا لا يستطيع أن يلوم الصناع، فرحلة صناعة الفيلم داخل مصر؛ رحلة منهكة ولا آدمية: «أنا لست مع فكرة التعميم، أنا مثلًا اشتغلت على جمع أكبر قدر من المال لأخلق نموذج توزيعي مختلف وضخم، وأوزع الفيلم على نطاق كبير، ولكن في نهاية الأمر الرقابة منعت الفيلم. أنا لا أعرف مخرجًا لا يفكر في الجمهور… في العالم كله، هذا النوع من الأفلام يحظى بنوع من الدعم ليصل للجمهور، أما أنت هنا، حينما تدخل معركة لتصنع فيلمك أصلًا؛ تخرج منها مُنهكًا. أنا ألتمس العذر للصنّاع، لأنهم لكي يصلوا إلى النقطة التي يُعرض فيها فيلمهم؛ يكونون بالفعل قد ركضوا ماراثونًا طويلًا وقاسيًا، وانقطعت أنفاسهم. ولا أعلم مدى عدالة فكرة مطالبة الصُناع بأن يدخلوا ماراثونًا جديدًا أكثر قسوة، مع مؤسسات ضخمة تملك دور العرض والفلوس والمساحة كلها؛ لكي يجدوا مكانًا لأنفسهم. «سأخبرك بشيء حدث لي وأنا أتفاوض على فيلمي قبل منعه، قال لي أحد أصحاب دور العرض أنه يفضل أن يترك الصالة مغلقة على أن يعرض فيلمي. هناك خلل كبير حدَثَ، وهذه مسؤولية الدولة، عندما أصبح المنتج والموزع وصاحب دور العرض شخصًا واحدًا، خُلق احتكار للسوق، فالمنتج هو الموزع وصاحب دور العرض، يأخذ كل المكاسب لنفسه، وبالتالي هو لا يريدني موجود، وهذا ما أقوله عن فكرة احتلال المكان كله، وعدم ترك مساحة، حتى لو ضئيلة، للآخر، لذا أنا لا أستطيع أن ألوم الصنّاع، لأنهم يعملون في ظروف لا آدمية». القرصنة: شرعية الباب الخلفي تُعتبر القرصنة من الظواهر الحداثية التي غيّرت شكل الجمهور ذاته، وغيّبت مفهوم الرقابة والمنع بشكلِهم القديم، الذي يقوم على إطعام المُشاهد في فمه. فالوسيط الإلكتروني فتح مجالًا هائلًا للفرجة والتعلم. الفيلم الذي ستمنعه الدولة أو توقفه عن العرض، سيُرفَع على المنصات والمواقع، وسيتوفر بشكلٍ مجاني للجميع. ولكنها، على الجانب الآخر، تضع صناعة السينما في خطرٍ مادي، لأنها تهدم مفهوم الحقوق المادية والفكرية للمُنتِج والفنان، ما يتعارض مع سياسة الاستهلاك والشراء التي تنتهجها شركات الإنتاج الضخمة. ولكن، على الجانب الآخر، فهي توفّر مساحة أكبر للعرض. فالفيلم المستقل الذي يوزّع على نطاق ضيق، يصبح مشاعًا على المواقع الإلكترونية بشكلٍ غير قانوني، ولكنه على الأقل متاحًا للجمهور. البعض يُصنّف القرصنة كفاحًا ضد الاحتكار والرأسمالية الاستهلاكية، خصوصًا في دول العالم الثالث التي تُعاني من الحالة الاقتصادية السيئة، فبدون هذه المواقع المُقرصنة لن يتمكنوا من مُشاهدة السينما العالمية، وحتى العربية. وأنا أقصد الكلمة حينما أقول لن يشاهدوا، فالجمهور القليل الذي يتابع سينما الـ Art House (السينما الفنية) لم يكن ليعرف بأي من المخرجين العالميين، فالتلفزيون لا يعرض أفلامهم، ولا حتى المنصات العالمية الكُبرى تأخذ حقوق الكلاسيكيات. منصات مثل «كرايتيريون The Criterion Collection» لا توجد في الشرق الأوسط، و«موبي Mubi» ظهر للمواطن العربي قبل بضعة سنوات. حتى الشريحة العريضة من الجمهور، الذين يُتابعون الأفلام التُجارية؛ لا يُمكنهم الذهاب للسينما بشكلٍ دوري، بسبب غلاء التذكرة وقلّة عدد السينمات في المُحافظات. أي أن المُنتج لا يتوفّر، والسينما أيضًا لا تتوفّر. لذا فالقرصنة أضحت ضرورية للمُشاهد المصري ليكوّن ثقافته السينمائية، ولكننا بالطبع لا نستطيع أن ننفي خطرها أيضاً، فالمُنتج الذي يُصدر فيلمًا لا يجلب مصاريفه على الأقل، سيتردد مئة مرة قبل أن يخوض التجربة مرّة أخرى. بيد أننا لا نستطيع لوم الجمهور، فهو لا يملك المال ولا دور السينما. مواطنو المنيا والمنوفية وأسيوط وغيرها من المحافظات؛ بعضها لا يملك سينما أصلًا. «هي مشكلة كبيرة بالنسبة للموزع والمنتِج، ليست بنفس القدر بالنسبة للفنان وطاقم العمل. إنها تصبح مشكلة أكبر إذا كان الموقع يتربح من ذلك. في ألمانيا، إذا حمّلت فيلمًا بشكل غير قانوني، فمن الممكن أن تُسجن، ولكن نحن لسنا كذلك. فإذا كانت لديك القدرة على شراء الفيلم فلتفعل ذلك، أما إذا كنت لا تقدر على الشراء، والأمر بالنسبة لك مهم في تكوين ثقافتك ووعيك ويُساهم في تعليمك أيضًا، فالخطأ هنا أصبح ضرورة. أنت تعرف أنها طريقة خاطئة، ولكنك لا تملك حلولًا أخرى. أنا أرى أن أغلب المصريين لا يملكون بطاقة ائتمان، ليشتركوا على المنصات الإلكترونية. الناس لا تزال تخاف من استخدام بطاقة الائتمان أصلاً في مصر، الموضوع بالنسبة لي يقع في مساحة من الرفاهية، وأرى أن 90% من الشعب المصري لا تتوفر لديه هذه الرفاهية، والـ 10% الآخرين يشتركون بالفعل على المنصات ويشترون الأفلام دون مشكلة وهم راضون عن ذلك. وأنا أتمنى أن تزداد تلك النسبة، ولكن هناك أشياء أخرى أكثر أهمية يجب أن نتناولها، مثل ظاهرة اقتباس ونحت الأفلام من قبل بعض الفنانين وعرضها عيني عينك. هل ترسل شركات الإنتاج للكاتب أو للشركات المالكة لحقوق الأفلام أو النصوص الأصلية؟ لذا، إن أردت الحل، يجب أن تبدأ بالمشاكل الأكثر أهمية. لا تجيء على المواطن الغلبان وتقول له أنت التي تفسد الصناعة». ينتقد مروان المؤسسات ورجال الصناعة قبل الجمهور، يرى أن المشكلة أكبر من كون المنتجات ذاتها تتعرض للقرصنة والتسريب، ويرصد ثقافة القرصنة المتجذّرة ليست في جمهورٍ يعاني من مصاعب اقتصادية فقط، إنما في أصحاب رؤوس الأموال أيضًا. وهنا نقوم بما يُشبه عملية إزاحة للإشكالية من الجمهور إلى الفنّان والممول، فالمأزق الحقيقي يقع في استخفاف الفنان بزميله الفنان، لأن الفنان والمُنتج لا يتعرض للصعوبات الاقتصادية ذاتها التي يتعرّض لها المواطن العادي. على الجانب الآخر، يتناول مراد مصطفى فكرة القرصنة من منظور ثنائية الإتاحة والمحدودية، في محاولة لفهم ثقافة القرصنة. «فكرة أنك لا تملك سينما في محافظتك وأنت في دولة كبيرة سينمائيًا مثل مصر كارثة حقيقية. أنا أرى أن طالما هناك تقصير في توفير المنتجات السينمائية؛ سيكون هناك قرصنة، لأن القرصنة تعوض ذلك. أما إذا وفرت المنتج، فهو لن يلجأ للقرصنة بنسبة كبيرة. ولكن القرصنة كظاهرة مضرة طبعًا للسينما، لأنها تؤذي المنصات، وسيظهر تأثيرها على حركة الشراء مع مرور السنوات. فبدلًا من شراء 5 أفلام، ستشتري واحدًا فقط، لأن أفلامها تتعرض للقرصنة. وإذا حدث ذلك، ستخسر السينما منفذًا مهمًا للأفلام غير التجارية، يمنحها فرصة تحقيق عائد مناسب لاستمراريتها». بالنسبة لأمجد أبو العلاء، كنموذج خارجي يرى الأمور من منظور مختلف يخص الصناعة السينمائية في السودان، البلد المتأزم، يقول: «أنا ضد القرصنة التي من الممكن أن تفسد تجربة شباب مستقلين يودون أن يستعيدوا بعضًا من أموال إنتاج فيلمهم. لماذا تُقرصن فيلمًا سودانيًا صُنع بصعوبة؟ أنا كنت أتمنى ألا يتعرض فيلمي للقرصنة، لأن جزءًا من التجربة أن يُعرض الفيلم في عدد الصالات القليل داخل السودان؛ ونحاول قياس مؤشرات لها علاقة بالجمهور وسعر التذكرة وغيرها من الأشياء المهمة لخلق صناعة سينمائية في السودان. ولكن عندما تسرب الفيلم، والشعب كله شاهده، فقدنا هذه التجربة… للظاهرة نفسها وجهان؛ وجه يمكن أن تُسامح فيه، والآخر لا. فهناك العديد من الأشخاص لا يستطيعون الوصول إلى الأفلام بطرق شرعية في إفريقيا…ولكن، على الجانب الآخر، أنا لا يمكنني الذهاب إلى مستثمر سوداني وأقول له: (لا تخف، فيلمنا اللي فات نجح، أعطِنا فلوسًا للفيلم الجديد)؛ بأي أمارات؟ إذًا، فالقرصنة أضرتني. أنا لا أستطيع أن أجلب أي أموال أخرى من السودان». الحقيقة أن أغلب السينمائيين الشباب أسسوا ثقافتهم ووعيهم السينمائي من خلال القرصنة، لذلك لا يمكنهم التنديد بظاهرة القرصنة دون ذكر محاسنها أيضًا. فبالنسبة للقارة الإفريقية بالذات، الموضوع مختلف تمامًا، فالوسيط الإلكتروني يصبح بمثابة العالم المفتوح سينمائيًا، طالما الدولة لا توفر الفعاليات السينمائية المطلوبة .وحتى لو وفرت، كيف سيطلع طالب في الجامعة على أفلام كوروساوا وتاركوفيسكي وفيلليني وكين لوتش وغيرهم من المخرجين العظماء؟ كيف سيجاري التطور السينمائي وهو يقف مكانه؟ كيف سيخلق وعيًا بأنواع سينمائية مختلفة ستمكنه بعد ذلك من إيجاد صوته الفني؟ نحن بين نارين، ولكن لا، بأي شكل، إلقاء اللوم على الجمهور في ظل الحالة الاقتصادية. «إذا شاهد شاب في إفريقيا أفلامًا مقرصنة، وكون وعيًا بالأنواع السينمائية، وأصبح بعدها مخرجًا كبيرًا يقدم فنًا حقيقيًا؛ في هذا الوقت لن أتضايق أنه شاهد أفلامًا مقرصنة» ؛ هكذا يصف أمجد الجانب الجيد من القرصنة. ليس أمجد وحده، بل مخرجون عظماء مثل بيلا تار، الذي التقط صورة مع رجل يبيع أفلامه مقرصنة في بلدة ليما بدولة بيرو. بيد أننا، على الجانب الآخر، يجب أن ندعم ثقافة الشراء، ونحاول توفير المنتج الإبداعي في أغلب المناطق بسعر معقول. ومن خلال ذلك، ربما يكون المواطن عادة الذهاب إلى السينما مرة أخرى، التي تحتاج إلى الكثير من الشجاعة في وقتنا الحالي. فيما تقول هالة لطفي: «القرصنة لا تؤثر من وجهة نظري المتواضعة على بيع الفيلم. أنا فيلمي موجود على إيجي بيست من 2014، ومع ذلك نتفليكس اشترته العام الماضي. أفلام يوسف شاهين كلها كانت متوفرة على الإنترنت، ومع ذلك بيعت على نتفليكس وكل المنصات.. بالنسبة لنا كعالم ثالث، فهي ظاهرة عادية. لا يجب أن نحرم الناس من شيء معمول أصلًا من أجل الناس. أنا مع ﭐكوبي ليفت Copyleft، ويجب جميعًا أن نكون كذلك». وعلى الجانب الآخر، يرى تامر السعيد في هذه النقطة: «أنا أعرف جيدًا مدى معاناة صناع الأفلام لتحقيق أفلامهم، وليس من العدل أن يعمل الشخص بجهد كل هذه السنوات لكي يخرج فيلمه، وفي النهاية لا يأخذ مقابلًا لعمله. كيف سيعيش؟ لا بد من مردود مالي يحقق التوازن. معظم صناع الأفلام المستقلة الذين أعرفهم يعانون من أجل العيش، لا ينعمون في ظروف اقتصادية مرفهة. بالتالي، أنا لست مع فكرة القرصنة ككل، ولكن هناك ظروف تُغيّر ذلك، مثل أن يكون فيلمي ممنوعًا في الأساس، والناس يودون أن يشاهدوه، فبالتالي إذا قرصنوه لا أستطيع لومهم».


مدى
١٧-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- مدى
«السينما المستقلة».. ليه؟ (1-2)
رغم الاختلاف على تعريفها، وما تعنيه وما تشير إليه، فإن الظروف والسياقات الاجتماعية والسياسية الحاكمة لظهور ونشأة «السينما المستقلة» في مصر، لا تجعلها مجرد خيار فني، بل فعل مقاومة يومي، يصارع صانعوها طيفًا واسعًا من التحديات؛ تبدأ بندرة التمويل، ولا تنتهي عند سطوة الرقابة بأشكالها المختلفة، التي تهدد كل مشروع فني خارج الإطار المألوف. في هذا التحقيق الصحفي، الذي ننشره على جزئين، يحاول الكاتب، تفكيك هذه المنظومة المعقدة، عبر شهادات حية من مخرجات ومخرجين خاضوا المغامرة كاملة، مدفوعين بشغف السينما وقلق الحرية. هذا التحقيق ليس فقط توثيقًا للمعركة، بل هو دعوة للتفكير في معنى «الاستقلالية» في السياق المصري، فالصراع كاشف للحظة الحالية في مصر، في علاقتها بسؤالي الحرية والفن، بالمعنى الأوسع. يعني الجزء الأول بمناقشة المسائل الخاصة بالإنتاج وما قبله، كالهوية التأسيسية للسينما المستقلة، وسؤال «الأجندة» والتمويل، وبالطبع الرقابة وتصاريح التصوير. أما الجزء الثاني فنخصصه لمناقشة ما بعد الإنتاج، وهي أسئلة التوزيع والإتاحة والعلاقة مع الجمهور العام. نشكر المخرجات والمخرجين الذين تحدثوا معنا بانفتاح وكرم: هالة لطفي، وآيتن أمين، وتامر السعيد، ومروان عمارة، ومراد مصطفى، وأمجد أبو العلا. رغم مساحتها التسويقية المتواضعة، وإيراداتها الضئيلة، تشكل السينما المستقلة جزءًا مهمًا من تاريخ السينما العالمية، ترسخ وجودها كدعامة أساسية وخط موازٍ للسينما التجارية -إذا قسّمنا السينما إلى قسمين- خطان لا يتقاطعان، يخدم كل منهما غايات مُعينة ورغبات مختلفة عن الآخر تحدد شكله وتمنحه هوية خاصة. قبل أن نتحدث عن إشكاليات السينما المستقلة، يجب علينا تعريف المصطلح، والحقيقة أن السعي وراء المعنى وتقصّيه تاريخيًّا، حتى لو بشكل أولي، يمنحنا مدخلًا، مع العلم أنه لا يوفر استيعابًا مطلقًا للظاهرة، أو إدراكًا كليًا لتنويعات التجربة داخل السياق، لذا وجب التنويه إلى أن أي فهم للفظة «مستقل» لا يعني بالضرورة أنه التصور الأمثل أو النموذجي. المصطلح نفسه مُمتد، ويستمد قيمته من مئات التجارب المُختلفة، وهذه معضلة أُخرى. لذا بدلًا من الانخراط في تعريف المصطلح، يمكننا حصره في سمات معينة تسهّل علينا رصده. السينما المستقلة ببساطة هي محاولة للتحرُّر، سواء كان هذا التحرر داخليًّا؛ ينزع إلى المستوى الشكلي، أو خارجيًّا يهدف إلى تغيير نمط الصناعة ذاتها، وتحريكها باستراتيجية مختلفة. فمنذ البزوغ الأول لأفلام تحمل خصوصية فنية، بداية من القرن العشرين، نشأ صراع غير متكافئ بين احتكار الاستوديوهات والشركات الفنيّة، وبين فئة أخرى، ربما، في البداية، لم تجد مصلحتها في نمط إنتاجي لا يسمح بفرص خارج دوائره المغلقة. فنموذج الاستوديوهات لم يكن كما هو الآن في مستهل السينما الأمريكية، انطلاقًا من شركة «Motion Picture Patents»؛ التي اؤتمِنت على معظم شركات صناعة وإنتاج الأفلام في الولايات المتحدة منذ عام 1908 حتى 1915، هذه الوصاية الائتمانية جعلت منتِجين حديثي التجربة يفرّون شرقًا لتلافي الضرائب والمصروفات الباهظة التي تفرضها الشركة المحتكرة. بعد فترة قصيرة سيدشن هؤلاء الرجال الطموحين نظام الاستوديوهات، ليبدأ عصر سينمائي جديد تمامًا، كان أساسه الهروب من القيود. ورغم الحرية التي أطلقها نظام الاستوديوهات مقارنة بشركة الاحتكار، بيد أنها فرضت قيودًا جديدة، شكلانية في المقام الأول. فالنظام الأمريكي وأي نظام إنتاجي يضخ الأموال ليحصد ضعفها، هكذا تدار الصناعة، في دائرة مغلقة تتعاطى بشكل أساسي مع قيمة المدفوع والوارد، ما حصر السينما تقنيًا وإبداعيًا داخل مساحة معينة، مساحة آمنة؛ لا تحترم ذكاء المشاهد، ولكنها تضمن للمنتج الربح المادي. ربما لأنها تفرض ذاتها على الجماهير لعدم وجود منافس حقيقي لديه الشجاعة الكافية للتجريب. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ظهرت السينما الأوروبية بوجه جديد، عن طريق خلق منتج إبداعي جديد كليًا، لتخرج لنا الواقعية الإيطالية الجديدة، موجة سينمائية تستلهم أسلوبها الحكائي من الواقع الإيطالي المذري آنذاك، تتحدى النظام الأمريكي بخلق سينمائي فريد، صَورت في مواقع حقيقية، واستخدَمت ممثلين غير محترفين. صنع الإيطاليون أفلامًا تحمل قدرًا هائلًا من الهموم، بلغة سينمائية ثورية ومتفردة؛ كاميرا لا تكذب، وقصص لا تقحم النهايات السعيدة لترضي المنتِج أو المشاهد، وميزانية ضئيلة جدًا مقارنة بالأفلام الأمريكية. لتنبثق بعدها بسنوات الموجة الفرنسية الجديدة، ثائرة ومتوهجة، بنزعة تجريبية أثارت الجو العام النقدي والسينمائي. مجموعة من النقاد الشباب يسبون السينما السائدة ونظام الاستوديوهات الرتيب، ويطلقون أفلامهم بميزانية ضئيلة، ولغة بصرية غير مفهومة وثورية مقارنة بالنمط السائد، ليغيروا العالم بعد ذلك. كل هذه الموجات وموجات أخرى لاحقة؛ وليدة نزعة تحرّرية، تحرير النص والصورة من الركود والجمود الفني هو أساس السينما المستقلة، ومنها تستمد أفلامها الشكل والمضمون، ولكن ماذا عن السينما المستقلة في النطاق العربي؟ بالنظر للنموذج المصري، وهو ما سنتعرض له خلال هذا التحقيق، فقد بدأ مصطلح السينما المستقلة بالتبلور في نهاية القرن المنصرم، تحديدًا مع استخدام المخرج الكبير يسري نصر الله كاميرا الديجيتال في فيلمه «المدينة» عام 1999. نقل نصر الله السينما المصرية إلى حيز مختلف من الناحية الإنتاجية، وفتح مجالًا للاشتباك مع الممارسات السينمائية المختلفة من خلال نقلة نوعية في الأداة. فالتخلي عن كاميرا الخام الثقيلة والمكلفة طوّر انفتاحًا على أشكال جديدة، كان من المستحيل التعاطي معها بكاميرا الخام، لينتج ما يشبه انفراجة سينمائية تمتلك الجسارة الكافية للخوض في مساحات ملتبسة وغامضة آنذاك. عزّزت الميزانية الضئيلة روح المغامرة، لتخرج بعدها مشاريع، منحت شكلًا للسينما المستقلة في مصر، بداية من تجربة «كليفتي» عام 2004 للمخرج الكبير محمد خان، التي صُوّرت باستخدام كاميرا ديجيتال، لتُرسي ــدون نية واضحة إلا التجريب- مبادئ وسمات السينما المستقلة في مصر، ستُطورها فيما بعد أصوات مختلفة، أشهرها فيلم «بصرة» للمخرج أحمد رشوان، وفيلم «عين شمس» للمخرج إبراهيم البطوط، اللذان يحملان السمات الأساسية للفيلم المستقل، من توظيف ممثلين غير محترفين، للتصوير في الشارع، مرورًا بمشاكل الميزانية الضئيلة وسوء التوزيع. ومن هنا نستنبط الإشكاليات التي ستشكل متن تحقيقنا هذا، فنماذج مثل المخرج أحمد عبدالله السيد وتامر السعيد وآيتن أمين وهالة لطفي، مقرونة بجيل أحدث من المخرجين مثل مروان عمارة وسامح علاء ومراد مصطفى وماجد نادر، وحتى النماذج خارج مصر مثل أمجد أبو العلا؛ يخلقون تصورًا عن حال هذا النموذج الذي لا يمكن فصله بشكل كلي عن الفن السينمائي، ويمنحون فهمًا لطبيعة سينما يرفض بعضهم فصلها وعزلها بكلمة «مستقل» عن المنتجات السينمائية الأخرى، بعضهم لا يعترف بالمصطلح أصلًا، لهذا حاولنا من خلال مقابلة ست من المخرجات والمخرجين، لهم رحلتهم الخاصة في مسار السينما المستقلة المصرية، أن نرصد الإشكاليات في محاولة لتقصي العقبات من منظور الصناع أنفسهم، وربما الخروج بنتيجة تساهم فيما بعد في تكوين فهم عن حال السينما المصرية والعربية عمومًا. الحق أن مفهوم السينما المصرية المستقلة مفهوم ملتبس، لا يحده إطار متفق عليه من قبل جماعة أو موجة بعينها، بحيث يمكن التعرض له بطريقة ممنهجة، فمتلازمة اللفظ «مستقل» مقارنة بالمعنى الإجمالي التي تتناوله؛ ينطوي على اختزال مخل، لذا علينا تتبع السياقات المتاحة، التي تأخذ أشكالًا مختلفة؛ في محاولة لتأطير المعنى داخل مجموعة الظروف التي ترافق الحدث الإبداعي. سنجد أن السينما بالنسبة للمخرجين المصريين على الأقل، هي السينما بمفهومها الأعم، لا تستقل عن شيء، ربما نمتلك نظام استوديوهات بقياس معين، بيد أننا لا نملك نظام الاستوديوهات الأمريكي مثلًا، وعلى الرغم من ذلك؛ نعاني من المشكلات نفسها، وعلى أي حال لا يمكننا قياس أنفسنا على النموذج الأمريكي الأكثر ضخامة، لأن السوق نفسه يختلف. ولكن بالفعل كان هناك ما تستقل السينما المصرية عنه، يتبدى ذلك بوضوح في نموذج «جماعة السينما الجديدة» التي تأسست عام 1968 على يد مجموعة من الشباب، منهم محمد راضي وعلي عبد الخالق، والتي لا تُمثّل تكتّلًا سينمائيًا اقتصاديًا مستقلًا فحسب، بل إنها تيار فكري مناهض للزيف، يعي تمامًا موقفه الاجتماعي والسياسي، ما أسفر عن حل الجماعة بعد إنتاج فيلمين منعتهما الرقابة. الحركة السينمائية، في العقد الأخير، هي ما تدفعنا أكثر إلى بلورة هذا المفهوم، الذي يتشكل تراكميًا على جسد السينما، كنموذج بديل، ومتنفس يُتيح للصناع اختيارات إبداعية أكثر انفتاحًا، في سوق خانق وملبد لعدة أسباب سنناقشها. هذه المحاولات التي لا يمكن رصدها في سياق جماعي، هي محاولات لصناعة سينما مختلفة، ولكنها ليست بديلة للتجارية. سينما ذات نمط مختلف، ولكنها لا تلغي التجاري، وتتلامس معه في بعض الأحيان، لدرجة أن بعض الصناع الواعدين، منهم مجد أبو العلا، لا يرون الحد الفاصل بين التجاري والمستقل. لماذا السينما «المستقلة»؟ قبل أن نخوض في الإشكاليات، يجب أن نطرح سؤالًا مهمًا: لماذا السينما «المستقلة»؟ لماذا الاتجاه لهذا النمط بالذات؟ أهي غاية في ذاتها أم وسيلة تؤهل المنخرطين فيها لبلوغ الطريق التُجاري أم كلاهما؟ من خلال الأحاديث مع المخرجين المذكورين سابقًا، يتضح لنا أن صناعة فيلم جيد هي الغرض الأساسي من العملية الإبداعية، سواء كان يقع في حيز المستقل أو الاستهلاكي، لا يهم، جودة المُنتج أولًا ثم التصنيف أو التقسيم إذا جرى الأمر. لذا يمكن أن تكون لفظة «مستقلة» هي غاية أو وسيلة أو كلاهما معًا، حسب رؤية الفرد لذاته ولظروفه ولنظام وشكل الصناعة ولموقعه داخلها. ولكن ما شدّدت عليه الأصوات هو التعبير عن الذات، الخروج عن السائد، وهذا ينقلنا لمنطقة أكثر تعقيدًا؛ فهؤلاء السينمائيون لا يُهمّهم التصنيف، إنما السوق نفسه لا يقبل بهذا النمط من الأفكار، ليس الأفكار فقط، إنما منهجية الصناعة نفسها، كما ذكرت المخرِجة آيتن أمين: «لقد استغرقت بروفات فيلم سعاد حوالي خمسة أشهر، لا أحد داخل السوق سيفهم لماذا أفعل هذا، هذا جُزء من صناعة الفيلم». فالمشكلة في نظام السوق ذاته، سواء في تعاطيه مع الأفلام ككيانات مستقلة، أو طريقة إدارته للأفكار وتحويل الفكرة إلى فيلم، النظام ذاته طارد لنماذج معينة من الأفلام، وهذا طبيعي، ويحدث في كل العالم. وحتى فكرة الاختيار نفسها تتحول إلى موضع شك في تصور بعض الفنانين، فهم يصنعون الأفلام كما يأملون لها أن تكون، وبعد ذلك يتركونها تُصنّف أو تخلق سياقها مع منتجات إبداعية وتصنيفات أخرى، كما يوضح المخرج تامر السعيد: «أنا لا أعرف إذا كنت قد اخترت، ولكن السينما من اختارتني. أنا لا أملك تصورًا مُسبقًا حول نوعية السينما التي أود صناعتها، سواء مستقلة أو تجارية، أنا لست معنيًّا بتلك التصنيفات، أنا معنيّ بصناعة نوع سينما يحقق لي ما أريده من امتهان السينما؛ لماذا أريد أن أكون صانع أفلام؟ لأنها بالنسبة لي طريقة لفهم العالم، طريقة لطرح أسئلة تخصني وتخص علاقتي بالسياق الذي أعيش فيه. لذا ما أنا مهموم به ليس المصطلحات أو المسميات، إنما العملية الإبداعية التي تساعدني على فهم نفسي وفهم العالم أكثر. فالسينما بالنسبة لي طريقة للاكتشاف.. لقد اخترت عملية تناسبني؛ صودف أن يسميها البعض سينما مستقلة، ولكنني لست مهمومًا بذلك». يمكن تناول السينما المستقلة كغاية وكوسيلة، الأكيد أنها متنفس للأجيال من أجل التعبير عن ذواتهم حتى لو بشكل مؤقت. بدأ أغلب السينمائيين بصناعة أفلام قصيرة مستقلة، بإنتاج وجهود ذاتيين، بيد أن ما يحتاج إلى تفكيك؛ هو الشكل ذاته، لماذا هذا النمط المختلف؟ والحقيقة أن الانفتاح الثقافي والوعي بالسينما العالمية والحرص على مشاهدة أفلام من خلفيات مختلفة، هو ما خلق الحاجة لخلق نمط سينمائي مختلف، كما قال المخرج مروان عمارة. تجربة المشاهدات الكثيفة والمختلفة عن السائد، تمنح السينما المستقلة مبررًا للوجود، بالإضافة لحاجة هذه الأجيال لصنع سينماهم الخاصة، التعبير والإفصاح دون رقابة، بميزانية هامشية، كمغامرة غير محسوبة، في محاولة للاندماج مع السياق السينمائي العام. ومن هنا يبدأ الصانع بخلق صوته الخاص يمكّنه من اختيار التجاري أو المستقل. ويمكننا تسليط الضوء على تجربة المخرج مراد مصطفى كمثال. عمل مراد لمدة عشر سنوات كمساعد مخرج، تدرج من كلاكيت إلى مساعد أول، ثم إلى مخرج له أفلامه الخاصة. عمل في تجارب تجارية عديدة، تعلم منها الكثير، خصوصًا على مستوى الإدارة، لكنه ظل يتتبع شغفه فنيًا في خط موازٍ من التعليم الذاتي، طوّر ذاته بالمشاهدة المكثفة، وحضور الورش المختلفة، بجانب الانخراط في المجتمع السينمائي. بيد أنه، من البداية، كان يعرف أن نمط الأفلام التجارية لا يناسبه ولا يعبر عنه، وهذا يظهر في نماذج أفلامه القصيرة. تحمل تجربة أمجد أبو العلا، وأغلب السينمائيين، بعضًا من هذا، فهو يحب نمطًا معينًا من الأفلام، شكّل وعيه بصورة مختلفة عن السائد، ما جعله يقترب أكثر من السينما المستقلة: «في الوقت الذي كان أصدقائي يذهبون لمشاهدة جاكي شان، كنتُ أجلس في البيت لمتابعة نادي السينما الذي يعرض أفلامًا فرنسية وعالمية». الصوت الداخلي الذي شكّل وجدانه هو ما يخلق الشخصية السينمائية، لكنه لا يتعارض بالضرورة مع الأفلام التجارية أبدًا كسينما. في إجابة هذا السؤال: لماذا السينما المستقلة؟ تنطلق المنتجة والمخرجة، هالة لطفي، من فكرة السينما كوسيط يمكن تحويره على حسب رغبة كل شخص، وهمومه، وموقعه، والشكل السينمائي الذي يريحه. وتُنبّه إلى ضرورة معرفة المخرج والمنتج للجمهور الذي يستهدفه ويُخاطبه: «المخرج يختار جمهوره مسبقًا، يعني وأنا أصنع فيلمي (الخروج للنهار) كمخرجة ــ ليس كمنتجة نهائيًّا لأنني أنتجته بدافع الضرورةــ أنا أعرف جمهوري جيدًا، وأعلم أنهم عدد قليل، ولكنني أريدهم، وأريد أن أحتفظ بحقي في صنع فيلم غير جماهيري، هذا حقي، لأنني أرى السينما كوسيط مثل الفن التشكيلي والشِّعر والموسيقى؛ هي فن، وقد علّمونا في المعهد أنها فن وصناعة وتجارة. فبالطبع، عندما يقف معك في اللوكيشن 150 فردًا، يتحوّل الفيلم إلى ذراع تجاري، ولكن خلطتي هي أن أقلل تكلفة الإنتاج قدر الإمكان، ليطغى مُكوّن الفن على مُكوّن التجارة، وبهذا أشعر بمزيد من الحرية الفكرية، وهي في الأول والآخر اختيارات خاصة بالصناع». أين المانيفستو؟ ظهرت الموجات السينمائية كردّة فعل صدامية على أنماط آمنة ومحافظة، استجابة فورية تهتم بطرح الأسئلة، وثورة على بنية النموذج التقليدي؛ لا تتعرّض للشكل والأسلوب فقط، إنما للمضمون أيضًا، ليتحوّل بعضها مع الوقت إلى عامل سياسي يضفي تأثيرًا حقيقيًّا. فمثلًا، الواقعية الإيطالية الجديدة كانت محاولة للإفصاح وتعرية الواقع؛ حين دُمّرت أغلب الأستوديوهات خلال الحرب، وأُصيب أستوديو «تشينتشيتا (Cinecittà)» -أحد أهم الأستوديوهات- بأضرار جسيمة؛ لم يجد الصناع بُدًّا من الخروج واستكشاف الشوارع. لقد أضاف الواقع السياسي في فترة ما بعد الحرب العالمية محفزًا بيئيًّا واجتماعيًّا لتحرير الطاقة الإبداعية، وأنتج ظروفًا أحاطت بالفنان بحيث لا يمكن فصلها إطلاقًا عن الهوية الشكلانية. ربما كانت ظروف الموجة الفرنسية مختلفة، فهي تتعاطى مع المساحة الشكلية والتقنية أكثر من أي شيء آخر، ولكن هذا لا ينفي موقفهم السياسي الواضح. حتى موجة سينما نوفو (Cinema Novo) وُلدت كردّة فعل على السياسي والاجتماعي، مرورًا بالموجة الألمانية الجديدة، والموجة اليابانية، وطبعًا دوجما 95. والشيء المثير للاهتمام حقًّا أن جميع هذه الموجات أصدرت بيانًا أو منشورًا (Manifesto) يتضمّن ملامحها الشكلانية أو الفكرية ودوافع وجودها كتيار فني، ومن خلاله يمكن خلق تكتّلات فنية حقيقية، كمجموعة يربطهم عقد صوري، وتوحّدهم الأفكار والنوايا. وهذا ما نفتقده في السينما المُستقلة العربية. ولا أقول نفتقده بطريقة سلبيّة أو إيجابية، إنما أحاول رصد الواقع. فالمُنتَج السينمائي المستقل في مصر والوطن العربي هو منتَج فردي، لا أقصد فرديًّا على المستوى الإنتاجي فقط، ولكن على المستوى الشكلي والفكري. ترى هالة لطفي أن المشكلة تكمن في قلّة عدد الأفلام، وأن السينما المستقلة/البديلة لم تتجاوز كونها ظاهرة بلا تأثير أو شكل: «المانيفيستو يُكتب بعد صناعة الأفلام، عندما يجلس المخرجون مع بعضهم. خُلقت الدوجما مثلًا بعدما صنع فنتربيرج ولارس فون تراير أفلامًا بالفعل، ووجدوا أن هناك حساسيات مشتركة. لذلك، لم يُنتَج البيان/المانيفيستو الخاص بهم عن تنظير، والمفترض ألا يخرج المانيفيستو من تنظير، إنما من الشُغل.. المشكلة شعوري بأن المقالات الصحفية والنقدية، والمقابلات التليفزيونية، وحتى الحلقات البحثية التي انشغلت بالسينما المستقلة، أكثر بكثير من الأفلام التي صدرت. وهذه مفارقة مُضحكة جدًا بالنسبة لي ؛ الاهتمام بالتنظير لشيء غير موجود، ولحركة لا يأخذها أحد بجدية، حتى العاملين داخلها». ليس غريبًا أن تتبدّى السينما المستقلة في شكل عشوائي؛ ففي ظل الانفتاح الحداثي، أصبح من الصعب الاتفاق على معايير معيّنة، أو الخروج ببيان محدد يمثّل جماعة بعينها. الأسباب تبدأ من اختفاء سينما النوع بشكلها السائد، وانفتاح النوعيات ــ الجنراــ على بعضها البعض بشكل يستدعي وجود أكثر من نوعية في فيلم واحد، مرورًا باختلاف الظرف السياسي الذي كان حاضرًا ومحفزًا لأغلب الموجات (على الرغم من وجود أحداث كان لها تأثير في تكوين الجيل السينمائي أو تغيير بوصلته مثل ثورة 25 يناير)، وصولًا إلى اختلاف المناخ الثقافي والفني ــ خصوصًا في مصرــ وبالتالي اختلاف آلية الإنتاج ذاتها. أضف إلى ذلك غياب نموذج الفنان المُنتِج مثل نور الشريف، إلى جانب اطّلاع المخرجين على ثقافات فنية وسينمائية مختلفة، ما يمنح كل مُخرج الفُرصة لإيجاد شكله الخاص، ويُبرّر وجود محاولات فردية مُبعثرة. لكن، رغم ذلك، هناك ما يُوحِّد هذه المحاولات بعيدًا عن آلية صندوق التمويل والمهرجان؛ كالرغبة في التعبير الحُر عن الذات، وكسر التابوهات، والاتجاه للشارع والتصوير الخارجي، والميزانيات الضئيلة، إلى جانب تخلي معظم هذه الأفلام عن استخدام الممثلين المحترفين ونجوم الصف الأول، واستبدالهم بهواة أو ممثلين غير مشهورين لإضفاء المزيد من الواقعية. كما تستغرق عملية صناعة الفيلم المستقل شهورًا، بل أحيانًا أعوامًا، لتحقيقه بالشكل المطلوب، فضلًا عن النزعة التجريبية التي تظهر مؤخرًا بوضوح في مثالين مهمّين: «سعاد» لآيتن أمين، و«ريش» لعمر الزهيري. كل هذه الملامح تؤثر على الشكل، كما فعلت سابقًا في أغلب موجات السينما العالمية. والتعاطي معها يجعل من مهمة توفيق جبهة إبداعية أو رصد حركة مستقلة أمرًا ممكنًا، رغم استبعاد تكوين تكتّل أو موجة حقيقية أو حتى تطوير طرح جماعي. إنما السمات التي تتحلى بها بعض الأفلام يمكنها خلق سياق ملفت، كما يوضح تامر السعيد: «لا يمكننا القول إن هناك حركة سينمائية موحّدة، والأمثلة التي ذكرتَها مثل الدوجما والموجة الفرنسية، ارتبطت بمجموعة من المخرجين دارت بينهم نقاشات كثيرة حول الشكل الفني والأسلوب وكيفية صناعة الفيلم وغيرها من المسائل. ولكن هذه الحالة ليست موجودة في مصر، أو يمكن القول إنها وُجدت لفترة معينة ولم تكتمل، الفترة بين 2005 و2012، كانت هناك نقاشات أكثر، وأنا كنت جزءًا منها على الأقل. ويمكن أن تكون قد استمرت ولكني لم أعد جزءًا منها. دارت تلك النقاشات حول الشكل الفني والأسلوب وغيرها من الهموم الفنية، ولا أعتقد أننا نجحنا ــبشكل جماعي- في تطوير طرح جماعي لما يمكن أن نطلق عليه حركة سينمائية ، ولكن ما حدث هو تراكم نتيجة محاولات فردية خلقت سياقًا يمكن تحليله، وعلى الناحية الأخرى، أتاح لنا فرصة للتعلُّم». لذلك من الضروري الإشارة أن الأزمات والإشكاليات ــ بطريقةٍ ماــ تقع في منزلة المُرادف والنظير لملامح السينما المستقلة، وتخلق سبيلًا لتوحيدها وتوليفها، ربما أكثر من المُنتجات الإبداعية النهائية والتيارات الفنيّة، بيد أن لكل تجربة خصوصيتها في التعاطي مع المشاكل ومجاوزة العوائق؛ لعدم وجود مؤسسة واحدة ترعى السينما وتحاول حل مشاكلها، ما يضفي صورة عشوائية إذا حاولنا توحيد هذه التجارب في سياق واحد كما نفعل الآن؛ لذا لا يوجد أفضل من التعرّض لإشكاليات السينما كخواص لتحديد الهويّة الشكلانية، لأن امتداد هذه الإشكاليات لا يتوقف عند الجانب النظري، بل يتمادى ليُمارس ــبشكل غير مُباشرــ صنعة الخلق والتشكيل. سؤال «الأجندة»: الميزانية والإنتاج الإشكالية الأولى في كل مشاريع السينما المستقلة هي الحصول على تمويل يغطي تكاليف الإنتاج، ولكن قبل أن نتطرق إلى هذه الإشكالية يجب علينا أن نضع النقاط على الحروف. بالنسبة للسينما المصرية؛ فنماذج مثل نور الشريف، وأحمد زكي، ويحيى الفخراني، وليلى علوي، وفاروق الفيشاوي، وغيرهم؛ نموذج النجم الذي يشارك في إنتاج الأفلام، ومن الممكن أن يُخفّض من أجره أو يتخلّى عنه تمامًا في سبيل تحقيق الفيلم، قد تلاشى تقريبًا، ولا يُمكن التعويل عليه إطلاقًا، اللهم إلا بعض النماذج الاستثنائيّة، وقد ذكر منها المخرِج أمجد أبو العلا بعض النجوم مثل آسر ياسين مثلًا. والحقيقة أن المنهجية نفسها اختلفت باختلاف الزمن، نموذج المخرج محمد خان وبشير الديك وسعيد الشيمي وعاطف الطيب، هؤلاء الفنانون المنخرطون بشكل جدي في صناعة أفلام لبعضهم البعض من دون أجر يذكر إلا الولاء الفني والسينمائي اختفت من على الساحة الفنية. وعليه فجيل الألفية الثالثة، يتجه مباشرة لصناديق الدعم ومنح المهرجانات، لقلّة شركات الإنتاج المصرية التي من الممكن أن تهتم بنمط السينما المستقلة مثل نموذج محمد حفظي وشركة «فيلم كلينك»، أو صفي الدين محمود وشركة «ريد ستار». والإشكالية هنا ليست على مستوى التمويل فقط، ولكن على مستوى التنازلات والقيود التي من الممكن أن تُفرَض على الفنان لأخذ المبلغ المالي، ما يُحيلنا إلى سؤال مهم: السينما المستقلة تسعى للتحرر من القيود، ولكنها ــحسب رؤية البعض- تمرر قيودًا أخرى من الباب الخلفي، قيود إبداعية تندرج تحت ما نُسميه «الأجندة»، مع التحفظ في اللفظ لأن للمخرجين آراء متباينة بشأن هذه اللفظة بالذات. فالمخرجين الأربعة يعترفون بوجود «أجندة» لكل مهرجان، ولكن مخرجَين اثنين، هما مروان عمارة وأمجد أبو العلا، ليس لديهما مشكلة مع فكرة الأجندة ذاتها. يقول مروان: «كل شخص يتحرك من خلال أجندة، أنت لديك أجندة، وأنا لدي أجندة، والمنتجون لديهم أجندة، والمنصات لديها أجندة، والمهرجانات أيضًا لديها أجندة» ، ويُشدد عمارة أن المهرجانات تُدار من خلال الذائقة، أي لجنة المحكمين التي تتغير من سنة إلى أخرى، وهذا يُبرر رفض بعض السيناريوهات من قِبل مهرجان معين في سنة ما، وقبول المهرجان ذاته لنفس السيناريوهات في السنة التي تليها. يتشارك أمجد نفس الفكر تقريبًا: «نحن أحرار، وهناك من يُنكر علينا تلك الحرية، ويقول إننا تخلصنا من سلطة المنتج فوقعنا في سلطة المنح، وهذا فكر مغلوط، لأن سلطة المنح في يدك، أنا أختار من أعمل معه وأغيّره، وبالتالي أنا حر في ما أقول.. أنا أسير بأجندة، وجميعنا نتحرك بأجندات خاصة تمثل فكرنا الشخصي وتصنع تفردنا الفني، خُلقت من تجاربنا الشخصية». يُشدد أمجد على فكرة أن النص والسيناريو الجيد سيجد له مكانًا وتمويلاً، ويؤكد من خلال تجربته الخاصة كمحكّم في مهرجانات، عدم تدخل أي من القائمين على المهرجانات في قرارات المحكمين، ويذكر عدم تدخل الجهات المانحة لتمويل فيلمه كمخرج في صناعة الفيلم: «ولكن بعض المخرجين يستسهلون عندما يُرفَض الفيلم ويتحججون بالأجندة، ولكن ماذا لو كانت أفلامهم ليست جيدة كفاية لتأخذ المنحة، يجب أن نضع في اعتبارنا هذا الافتراض أيضًا». الجدير بالذكر أن أمجد ومروان يعتبران الأجندات سياقات فردية ضرورية لتكوين شخصية المحكم أو الفنان، ومنحه الرؤية التي تؤهله لتشكيل رأي واضح فيما يراه. ويجب توضيح أن الأجندة بالنسبة لهما شيء شخصي، يُمثّل أفكارًا وتصوّرات ومفاهيم ذاتية تناسب حاملها، ليست بالضرورة مناسبة لشخص آخر من قريب أو من بعيد. إنها شيء ذو خصوصية يلتصق بالشخص ويصنع فرادته في اختياراته، وبما أن المخرج هو صانع وخالق المنتج البصري؛ فهو يتحرك بناءً على أفكاره هو، ومفاهيمه هو، وليس مفاهيم الجمهور أو تصوراته، وهذا ما يخلق تفرده. إذًا، فهناك خلط واضح بين مفهوم الفنان للأجندة ومفهوم المؤسسات لها؛ فالجمهور يرى الأجندة كسياق سياسي بحت أو أيديولوجية فكرية عُليا توجه الفنان في سياق مختلف عمّا يريد، للترويج أو الدعاية لأفكار بعينها، وهذا مختلف تمامًا عن رؤية أمجد ومروان للأجندة بشكل عام. فأجندة الفنان هي ذائقته وشخصيته، وهو ما يدفعهما للدفاع عن محكّمي المهرجانات، لأنهم خاضوا تجارب خاصة كوّنوا من خلالها وجهات نظرهم. لذا، علينا الانتباه؛ فهناك فارق بين الأجندة الذاتية الخاصة ــوهذا ما يتحدث عنه المخرجانــ والأجندة العامة التي تحركها النخب السياسية والجماعات والمنظمات الناشطة. على الجانب الآخر، وعلى إثر تجربة خاصة؛ تعتقد آيتن أمين أن الأجندات تخلق عائقًا أمام رحلة سير الفيلم إنتاجيًا: «في رأيي، الأجندات ليست أجندات أفراد أو محكمين فقط، تجربتي مع «سعاد» كانت مريرة، استغرق الفيلم خمس سنوات، هناك مشكلة رئيسية حدثت حينما أصبح هناك الكثير من المنح Funds ومختبرات التطوير development labs، إذا شاهدت أفلام Art house في آخر خمس سنوات، ليس في مصر أو الوطن العربي بل بشكل عام، الأفلام التي تخرج من المختبرات ومنح المهرجانات، أغلبها متنبأ به ومعروف سياقه Predictable، لقد أصبحت تعلم كيف يسير الفيلم، حتى مع اختلاف الشخصيات في كل عمل فني، لقد أصبحت الأفلام المستقلة مثل التجارية، هناك خلطة معروفة». تُكمل آيتن كلامها بالتعليق على المهرجانات: «من الممكن أن يُطلب منك أشياء ستغير من الشكل الفني الذي تحاول تنفيذه، والفكرة ذاتها تقوم على التوقعات، توقع أن السيناريو الفني له شكل معين، وهذا شيء خانق ويحد من الإبداع، التوقع يجعل الأمر أشبه بفيلم تجاري، لأنه يضع نموذجًا مسبقًا وقالبًا جاهزًا للمنتج الإبداعي». وإلى جانب ذلك، تتفق هالة لطفي مع آيتن في ما يتعلق ببرامج التطوير، بيد أن لها رأيًا أكثر صدامية بشأن المنح، فهي تحاول بكل الطرق أن تتجنبها، وتحارب من أجل ذلك، فهي ترى أن المنح اختيار يحمل في داخله سلبيات تؤثر على الصانع ومُنتَجه الإبداعي، فتقول: «أنا لا أتمنّى أبدًا أن ألجأ للمنح، أتمنى يكون هناك بديل، وأنا مهمومة بهذا الأمر منذ أعوام؛ أن أجد بديلًا تمويليًّا غير المنح التي من الممكن أن تُهدِر عمر المخرِج والمنتِج، إنك تَقعُد خمس أو ست سنوات منتظرًا أن تجمع فلوسًا لفيلمك ويمكن ألا تستطيع في النهاية، ويتوقّف فيلمك.. المنح مشكلتها الأساسية بالنسبة لي؛ «الأجندة؟» لا، هذا كلام فارغ.. مشكلة المنح أنها تحرم المخرج من طزاجة التناول، فأنت تشتغل في الملف أكثر مما تشتغل على الفيلم ذاته ، وأغلب صناديق الدعم أصبح جزءٌ منها برامج لتطوير السيناريو، وهذا سيّئ جدًّا؛ أن يأتي خبير/mentor ليخبر المخرِج صاحب الفيلم ما يفعله أو ما هي الطريقة الصحيحة؛ هذا يجعل كلّ الأفلام تشبه بعضها البعض، وهذه ليست آفة مصر فقط إنما كل العالم، الأفلام أصبحت مستنسخة من بعض لأنها نَتَجَت عن نفس برامج التطوير.. أصبحت الأفلام أكثر حذرًا، لأنها مرّت على عشرين فلترًا قبل أن يقف المخرج في اللوكيشن ويبدأ التصوير.. بعد سنين من التجارب في برامج التطوير، وجدتُ أنها تقضي على صوتك الخاص». ما ينقلنا إلى وجهة نظر أخرى للمخرج مراد مصطفى الذي صنع كل أفلامه بجهود ذاتية أو من خلال منتج. خاض مراد تجارب عديدة مع المنح باءت بالفشل، ورغم ذلك لا يرى المهرجانات ككيانات تعمل بأجندات عمومية، إنما من خلال الذائقة الفردية: «أن تقدم مشروعًا لجهات أو صناديق دعم، الفكرة أنهم يجب أن يفهموا الفيلم بشكل جيد، هناك أشياء من الممكن أن تضعها في السيناريو، ليست فكرة تابوهات أو أجندات لتُرضي المانح، لا أقصد ذلك، أنا أتحدث عن منطقة أخرى. من الممكن أن يكون السيناريو Too Much Subtle على الشخص الذي يقرأه -أي الشخص من الممكن ألا يفهم السيناريوــ لا يستطيع تخيله كسكريبت؛ لذا فهناك بعض الأشياء التي تكون مضطرا أن تضعها، هي توضيحية فقط، ليس لها علاقة بما تقدمه من جودة فنية، ولكن ليفهم المكتوب، ممكن بعد ذلك أن تحذفها لأنها لا تناسب الفيلم وقت تحقيقه كمنتج بصري. غير هذا؛ أنا لا أشعر بموضوع الأجندات، لكل جهة ذوق خاص بها». لا تتوقف الإشكالية عند مساحة الأجندة الدولية والقيود الإبداعية التي أرى موقف الفنانين ملتبسًا اتجاهها، بل تصل إلى حد فرض نموذج سلطوي يمس الفنان ذاته، خصوصًا مع تأزم الوضع السياسي في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، ما دفع مهرجانًا مهمًا مثل مهرجان «كان» لمقاطعة الإنتاجات الروسية كردة فعل تندرج تحت مسمى المقاومة والاعتراض الفني، ليذكرنا بالأنظمة الديكتاتورية التي فرضت سياقًا ونموذجًا معينًا للأفلام بما يخدم غاياتها وأغراضها السياسية، إنه موقف مهين، يثبت أن الأجندة لا تخص الأشخاص المحكمين فقط، إنما للأنظمة السياسية والاجتماعية والفنية أجندتها الخاصة أيضًا، تعمل على فرض أفكار بعينها وكبح أخرى، لأنها ببساطة لا تناهض الاحتلال الصهيوني، وتتعامل مع ممارسات القهر وجرائم الحرب الصهيونية بطبيعة اعتيادية. تُعتبر الميزانية الضئيلة سمة من سمات الأفلام المستقلة، ولا يمكن رصدها كعقبة دون محاولة إبراز الجانب الآخر، فعلى المدى البعيد الذي تتطلبه الأفلام التي تجمع ميزانيتها من المنح وصناديق الدعم، يتعرض التصوير للتوقف لمدد زمنية تصل إلى السنة؛ تخلّف الفجوات الزمنية مساحة لإعادة بناء الفيلم، سواء على مستوى السيناريو وترتيبه، أو في غرفة المونتاج حيث يُخلق الفيلم بشكله النهائي، تقول آيتن: «المشاكل المادية التي واجهتنا في «سعاد» أفادتنا، لأنها كانت تجبرنا على التوقف عن التصوير لمرات كثيرة، فأنا عندما كنت أصوّر ثلاثة أيام وأقف شهرين، ثم أصوّر أسبوعًا وأتوقف خمسة شهور، هذا الوقت كان يتيح لي أن أشاهد في المونتاج وأجرب وأعيد كتابة وأعمل بروفات مرة أخرى مع الممثلين وأغير أشياء، لدرجة أني غيرت مشهد النهاية في الفيلم، صورت شيئًا ثم عدت وقمت بشيء آخر». رغم القيود الفنية والتقنية التي تفرضها الميزانيات المحدودة، فعلى النقيض تمامًا؛ كونها محدودة أو ضئيلة تمنح المخرج راحة إنتاجية أكبر في استغلال ميزانيته، أنا لا أقصد رفع القيود، إنما توفّر حرية أكبر في استغلال هذه الميزانية، زمانيًّا ومكانيًّا، ولا تفرض جدولًا صارمًا لتنفيذ الفيلم. فالمخرج غير مطالب بإعادة هذه الأموال مرةً أخرى. لذلك فالموارد الضئيلة، من ناحية معينة، تتحدّى الفنان إبداعيًّا ليخلق نمطه الخاص، ولكن على الجانب الآخر، فهي تحدّه تقنيًّا، خصوصًا إذا كان الفيلم يتطلب مؤثرات بصريّة، وربما تدفع طاقم الفيلم للعمل في ظروف لا آدمية وغير آمنة لتوفير النفقات، إنها معادلة مركّبة لها إيجابيات وسلبيات، وربما هذا ما يجعل منتجين كبارًا يترددون قبل الولوج في عملية إنتاج أفلام من هذا النوع، لأنها مغامرة غير محسوبة، تذهب أموالها بلا رجعة تقريبًا، وهذا ينافي مفردات الصناعة ذاتها. يُضيف تامر السعيد أنّ الأفلام المستقلّة ليست بالضرورة أفلامًا فقيرة، يمكن أن تتمتّع بميزانيّاتٍ ليست ضئيلة، ويُشير إلى أنّ هناك فرقًا بين الـ«guerilla filmmaking» أو الأفلام منخفضة التكلفة، والأفلام المستقلة». الرقابة وتصاريح التصوير تمثّل الرقابة يد الدولة، أصابع تمتد بالقص والحذف لما ينافي الواجهة السياسية والاجتماعية السائدة والمحددة مسبقًا من قِبل الدولة، إنها كُنية عن الوصاية، تتبلور كمصطلح في أكثر من طبقة، وتتطور كأنظمة سلطوية تحجب أفكارًا بعينها من خلال آلية رقابية تعكس الحالة العامة للثقافة، ومدى انفتاح المجتمع على تلقي النقد ومواجهته. يرى بعض الفنانين الرقابة كمؤسسة تعمل على تدجين المجتمع من خلال فرض أفكارها الخاصة كمساحة آمنة؛ فتمنح الفرد ما هو مألوف وتقليدي، وتمنع عنه أفكارًا صدامية ومثيرة، وبدلًا من تعرية المجتمع، تحاول الرقابة تكثيف الطبقات حوله وحجب عيوبه. لا تقع الرقابة كمفهوم داخل الحيز المؤسساتي فقط، إنما تمتد لتفرض ما يُسمى الرقابة الاجتماعية على الفن، وهي شكل ينتج عن تعاطي المواطن العادي مع الفن، فيخلق طبقة رقابية مختلفة ويعيّن ذاته الخاصة في المركز؛ كوصيٍّ على المجتمع والفن، ويحاول، هو الآخر من وجهة نظره، المحافظة على الشكل الاجتماعي والمفردات الإنسانية السائدة، والتي تميل إلى تسطيح الواجهة المثالية للعالم، فيرفض المكاشفة بدافع حماية مجتمع يتآكل من الداخل. والحقيقة أن الرقابة جزء مهم من العملية السينمائية ذاتها، بيد أن تشديدها المبالغ فيه دون سبب واضح يقيّد الفنان، ويخلق أعمالًا سينمائية ودرامية مجوّفة وفارغة، في تمظهرات فنية تبدو في سطحها كمحاولات للتعبير الفني الصادق، ولكنها في الحقيقة تسعى إلى التلقين أو الدعاية الفجّة. ومن خلال لقاءاتنا مع المخرجين، تتبدى إشكالية الرقابة كمُعضلة مهمة ومتناقضة في داخلها، لا يمكن فهمها بشكل واضح أو تجاوزها بمنهجية معيّنة، فالعشوائية هي السمة الأساسية للمؤسسة الرقابية. ولكن، على الجانب الآخر، فأفلام المخرجين المستقلة لا تُعرَض على نطاق كبير، لذا من المفترض تمرير بعضها دون تطبيق المحاذير المعروفة، خصوصًا القصير منها لأنه لا يُعرض بشكل تجاري. يقول مراد مصطفى: «أنا صنعت فيلمًا رُفِض من الرقابة، ولكن تمّت الموافقة عليه في مهرجان، واستطاع المهرجان أن يأخذ تصريحًا لعرض الفيلم لمدة يومين، وأنا لا أرى أزمة في هذه النقطة بالنسبة للأفلام القصيرة، ولكن المشكلة الحقيقية في الأفلام الطويلة، لأنها مُكلفة إنتاجيًّا، فتجد نفسك بدلًا من وضع الميزانية في أشياء فنية تُساعد في تحقيق الفيلم، تضعها في حفنة من الأوراق». فيما توضّح آيتن أمين أن المشكلة تقع في معايير الرقابة ذاتها: «المشكلة الرئيسية بالنسبة لي أن الموضوع Inconsistent، غير مضبوط بمعايير محددة، أنا لا أعرف ما الفيلم الذي سيُقبَل وما الذي سيُرفَض، أنا لا أعرف ما هو مرفوض تمامًا فأحاول التفكير فيه بمفهوم فني، لأضع نفسي في تحدٍّ فني مع الرقابة، وأحاول صُنع نفس الشيء لكن بطريقة مختلفة؛ لكن أنا لا أعرف، يمكن أن ترى فيلمًا فتتعجب كيف مرّ من الرقابة، وترى فيلمًا آخر تم إيقافه فتتعجب لماذا توقّف هذا الفيلم، ولا يوجد به شيء». إذًا فأحد المشاكل التي تُواجه الفنان بشكل مباشر، هو افتقاد المؤسسة الرقابية لمعايير واضحة وصريحة لما يجب مراعاته عند الكتابة، وبدلًا من ذلك تترك الباب مُنفرجًا، وتنوّه بمصطلحات عامة وغير محددة مثل «مراعاة الآداب والأخلاق العامة»، دون إجابة واضحة عمّا هو عام، وما هي الآداب، وإلى أي مرجعية يستندون في تحديد الأخلاق والآداب العامة. فيما يُشير مروان عمارة إلى أن الرقابة أصبحت أكثر نجاحًا في عملها ــمن وجهة نظرها الخاصةــ إذ أضحت أكثر تشددًا وتحكمًا: «إذا كانت الرقابة قد مرّرت بعض أفلام عاطف الطيب وداوود عبد السيد الجريئة في موضوعها، مع حذف بعض المشاهد.. الآن لم تعُد تمرر هذه النوعية». من المُرجّح أن ينفلت الفنان من المؤسسة الرقابية إذا حالفه الحظ، مُراوغًا الرقيب المُتعنّت بحيل فنيّة تنطلي في أغلب الأحيان، ليواجه نوعًا آخر من الرقابة، تندرج تحت المُسمّى الاجتماعي، تتعاطى مع الشارع والرأي العام بشكل مباشر، وتمثل الذراع الأكثر خطورة وتأثيرًا، لأنها من الممكن أن تمنع الفيلم بشكل كامل، حتى إذا تم تمريره رقابيًّا من الرقابة الحكومية. وأكبرُ مثالٍ هو فيلم «ريش» للمُخرِج عمر الزهيري، الذي مُنِع من العرض بسبب بروباجندا فنيّة وصمته اجتماعيًّا دون وجهة نظر حقيقية، مجرد مجموعة من الأقاويل المُبتذلة تناقلتها الصحافة والقنوات التلفزيونية دون تحقيق أو مُشاهدةٍ للعمل. وعليه، فالفيلم لم يُعرَض في السينمات، ولم يأخذ فرصة حقيقية ليتعاطى معه الشارع أو الجمهور غير المتخصّص، فقد حُظِر مباشرة بعد مهرجان الجونة السينمائي. ما يُحيلنا إلى مشكلةٍ أكبر، لن نخوض فيها الآن على الأقل، وهي وعي الفنان. سؤال يتلافاه الجميع دون تدقيق أو مكاشفة: لأي درجة يمكن للفنان ( الأداة الفنيّة التي تُخلق من خلالها الأعمال السينمائية) أن يستوعب التقنية واللغة السينمائية المُغايرة والمُجدّدة؟ ولأيّ مدى يتقبّل النقد؟ خصوصًا أن فيلمًا مثل «ريش» عُرِض في مهرجان خاص بالسينما، لجمهور من المفترض أنه متخصص، أو كما نقول: جمهور النُخبة. والحقيقة لا توجد إجابة على ذلك السؤال، فالمخرجون ذاتهم لا يهتمّون بالرقابة الاجتماعية، ولا يشغلون بالهم بهذه الجزئية، متمسّكين بقيمة العمل والمنتَج الفني، متفهّمين طبيعة العمل الفني ووقْعه على المُتلقي. يصف مراد مصطفى تجربته الخاصة في عرض فيلم «خديجة» في أحد المهرجانات، -ويجب التنويه أن جمهور المهرجانات العام لا يمكن تصنيفه جمهورًا عامًا مقارنة برجل الشارع المصري؛ فجمهور المهرجانات العام هو النخبة، أو الصناع والنُقّاد الشباب، بالإضافة إلى مُحبّي السينما. لذا، من الغريب أن تصدر عنه انفعالات غير مبرّرة تخرج عن السياق الفني والنقدي- يوضح مراد مصطفى: «نحن في أصعب وقت تمرّ به السينما المصرية في علاقتها بالمُتلقي. في أحد عروض فيلم «خديجة»، وكان فيلم افتتاحٍ في أحد مهرجانات الأفلام القصيرة، وأنا خارج من القاعة بعد عرض الفيلم، شعرت أن الناس عايزة تقتلني، من نظراتهم وطريقتهم. هناك حالة احتقان ليست طبيعية لدى الجمهور تجاه رؤية أي شيء لا يُشبههم، والمفروض أن هذا جمهور يأتي لمشاهدة أفلام غير تجارية». بالنسبة للمخرِج أمجد أبو العلا، كنموذج فني سوداني، يحكي تجربته في فيلم «ستموت في العشرين» الذي صُوّر وعُرِض في السودان خلال الثورة السودانية، ويصفها بالسلاسة لعدّة أسباب، أولها أن السودان يفتقر إلى المنظومة السينمائية ذاتها. لا توجد هيئة رقابة من الأساس، نحن أول صُنّاع يُوظَّف من أجلهم هيئة رقابة ليُشرفوا على الأفلام، لكن هناك وزارة ثقافة، وقد أرسلنا لهم النص، ومنحونا التصريح، وبعد الانتهاء، خرجت بعض الشائعات أن الفيلم يحتوي على بعض المشاهد غير المُناسبة، ولكن في ذلك الوقت كانت الثورة قد عيّنت حكومة علمانية، فوافقوا على عرض الفيلم دون قص. ويُكمِل: «عدم وجود صناعة سينمائية في السودان، جعل أحد الأشخاص يدخل ليسألني عن كيفية مشاهدة فيلم مثل هذا مع أمه وأخته، لأضطر للرد عليه وأخبره: لا تراه مع أمك وأختك، فهو ليس «ليالي الحلمية». يُبرّر أمجد هذا النوع من الأفعال ويُرجعه إلى عدم التعوّد والافتقاد للصناعة نفسها، ليُحيلنا إلى منطقة تكوين عادة المُشاهدة في السينما، التي انحدرت بشكل كبير بعد ظهور المنصات. ولكن المنصات ذاتها لا تُمثّل المشكلة، فهناك أسباب أخرى سنرصدها، بيد أن قدرة الفرد على استيعاب عادة المشاهدة، ربما هي الحل في الرقابة الاجتماعية؛ التعود على التفكير النقدي ومحاولة استكشاف آراء ووجهات نظر جديدة، كلّها عادات من الممكن أن يكتسبها المرء إذا توفّرت دور العرض السينمائية بشكل مناسب ودوري. فيما تقسم هالة لطفي مشكلة الرقابة إلى قسمين، أولهما مؤسسي، منوط بوجود مؤسسة الرقابة ذاتها، فتقول: «الرقابة شر، كما قال سمير فريد». بينما يرتهن الجزء الثاني بالفنان ذاته، وكلاهما متصل بالآخر. وتوضح لطفي: «عندما فكّرت في الشيء الجوهري بحركة الأفلام المصرية الجديدة بعد 2006، والذي أسّس له إبراهيم البطوط بالطبع، لأنه صاحب أول مغامرتين كبيرتين «إيثاكي» و«عين شمس»؛ فهو عدم رغبته الكاملة في التعاطي مع الرقابة. الفيلمان أُنجزا بدون تصاريح رقابية، وبدون موافقات نقابية، لم ينتظر إذنًا حتى يصنع الأفلام، وحتى بعد الانتهاء منهما لم يقدمهما للرقابة. وعندما حصل على الجائزة الكبرى في مهرجان تاورمينا بإيطاليا، وطُرح الفيلم في السوق بشكل تجاري، طُلبت منه موافقات رسمية، فرفض، وعندها طُرح الفيلم كأنه فيلم مغربي في السوق المصرية، لأن البوستر الخاص به صُنع في المغرب. إلى جانب ذلك، فقد ضرب البطوط مثلًا شجاعًا فيما يتعلق بمواجهة الفنان للرقابة، حين فاز بمنحة دعم من وزارة الثقافة عن سيناريو فيلمه «عشرين سبتمبر»، وليحصل البطوط على أموال المنحة كان عليه أن يقدّم السيناريو للرقابة، فرفض الجائزة وتخلى عنها. بالنسبة لي، هذه هي المواجهة المفقودة لدى السينمائيين المصريين ؛ المواجهة الضرورية التي من دونها لسنا أحرارًا أو مستقلين، ونحن الخاسرون.. أنت ببساطة تدفع لهم أموالًا حتى يراقبونك، تدفع ثمن لجنة من الرقباء حتى يجلسوا ويقيّموا العمل؛ إنها مفارقة بائسة. الرقابة تتجاوز دورها، وبلغ جبروتها أن توقف عرض فيلم في مهرجان، رغم أن مهمتها من المفترض أن تقتصر على الأفلام المعروضة عرضًا عامًا». وعليه، تحاول لطفي أن تشير، من جهة أخرى، إلى أن للفنان دورًا كبيرًا جدًا في مقاومة الرقابة، وتقول: «نحن نحاول أن نحافظ على الفنانين كقيمة متحفية، نكرّمهم في المهرجانات، ولكنهم ممنوعون من العمل حاليًا… تحمُّل حرية العمل بدون إذن لدى الفنان؛ قيمة جوهرية». وتكمل لطفي حديثها بالتعاطي مع الجانب القانوني للفن: «قانون عمل النقابات سنة 1955، هو قانون ينظم العمل في خمس كيانات/نقابات: «المهن السينمائية»، «الممثلين»، «الموسيقيين»، «اتحاد الفنانين التشكيليين»، «اتحاد الكتّاب». قرر اتحاد الكتّاب والتشكيليين ألا يُلزِما أحدًا بالانضمام حتى يمارس مهنته أو فنه، أما النقابات الثلاث الأخرى فقالت: لا، لن يستطيع أحد العمل إلا عندما يكون عضوًا في إحدى النقابات. وهذا قرار غير دستوري، ويخالف كل الدساتير، نهايةً بدستور 2014؛ الذي يقول في المادة 67: إن حرية التعبير الفني والأدبي مكفولة لكل الناس، بعيدًا عن انتمائهم للنقابة من عدمه. كل الأشياء في النقابات المصرية غير قانونية. لماذا لا ينتفض السينمائيون؟». إذا قُدّر للفنان تجاوز الرقابة، سيسقط في هوة تصاريح التصوير. ثقل عملية التصوير ينعكس على إنجاز الفيلم، بالسلب أو الإيجاب، لكنه عامل يؤثّر على شكل الفيلم في النهاية. بيد أن بيروقراطية الورق تقتل مشاريع في مهدها، وتمحوها من الوجود الفني. يحاول الفنان تلافي هذه المشكلات بحلول وقتية تُناسب الظروف، لأن تصاريح التصوير، بجانب الأموال التي تمتصها، تستغرق وقتًا هائلًا ربما لا يسمح جدول الفيلم بهذه المسافات الزمنية الكبيرة. فيلجأ بعض الصنّاع إلى استخراج تصاريح تصوير برامج تلفزيونية كحلول وقتية يصوّرون بها في الشوارع، حتى لا يتوقف الفيلم لمدد زمنية طويلة. يلجأ الصناع لهذه الحيل لدفع عجلة العمل، حتى تخرج التصاريح الرسمية الخاصة بالفيلم. والحقيقة أن الأمر مثير للريبة؛ أن يلجأ السينمائيون لهذه الحيل من أجل تصوير فيلم، يؤكد أننا دولة مصابة برُهاب الكاميرا، عندما تأتي شركات عالمية من هوليوود مثل «مارفل»، ونُعلّق طلباتهم لتصوير بعض مشاهد أفلامهم في مصر لفترات طويلة بسبب البيروقراطية التي تحكم نظام الأوراق المصري. إذا، فنحن أمام مشكلة؛ لأننا أضعنا أموالًا طائلة وفرصة ترويج سياحي، دون مقابل، سوى منحهم بعض الأيام لتصوير فيلم سينمائي.