١٥-٠٥-٢٠٢٥
الأطباء المهاجرون.. سفراء مصر بالخارج
في شهر مارس من عام 2022، كتب أحد الأطباء المصريين المقيمين في إنجلترا أن مرتب الاستشاري تقريبًا يصل إلى 120 ألف جنيه إسترليني في السنة.
وبعيدًا عن أنه كان يعقد مقارنة ظالمة وغير منطقية بين راتب الطبيب وراتب اللاعب محمد صلاح الأسبوعي مع ليفربول؛ لأن الأساس أن تكون المقارنة بين طبيب وطبيب وبين لاعب ولاعب وليس طبيبًا ولاعبًا، أو طبيبًا وبوابًا أو فرانًا أو كاتبًا وهكذا.
إلا أن الراتب يبدو أكثر من ممتاز بالنسبة لشاب يبحث عن فرصة في بلاد "الخواجات"، وإذا ما حولناه إلى العملة المحلية فإنه يصل إلى نحو 8 ملايين و27 ألف جنيه (الجنيه الإسترليني = 66 جنيهًا مصريًا).
وللحقيقة، لم يعد الراتب أكثر من ممتاز وفقط، بل هو مبلغ خيالي إذا ما قارناه برواتب الأطباء عندنا في المحروسة.
هذه الفجوة في الرواتب جعلت من إنجلترا الوجهة الأولى للأطباء المصريين. بالطبع؛ لا تعميم، وليسوا كلهم يتقاضون 120 ألف جنيه إسترليني في العام، وهذا الراتب السنوي هو للاستشاري.
لكن تقريرًا بريطانيًا أشار إلى زيادة قدرها 202% في هجرة الأطباء المصريين إلى بريطانيا من 435 إلى 1,312 طبيب بين عامي 2017 و2021. أي أن المهاجرين إلى بريطانيا وحدها يصل عددهم إلى نحو 20% من إجمالي الأطباء المهاجرين سنويًا، والبالغ نحو 7000 طبيب.
أسباب الهجرة معروفة ومفهومة: ضعف المرتبات، ونقص الإمكانات الأساسية، ونقص التدريب في أحيان، مع بعض المشكلات الأخرى مثل طريقة التعامل من قبل بعض المواطنين.. وأحلام الشباب في السفر والترحال.
الأرقام تقول أيضًا إنه يوجد أكثر من 110 آلاف طبيب مصري يعملون بالخارج من إجمالي 260 ألف طبيب مسجل في عام 2020، منهم في القطاع الحكومي، يعمل حوالي 73,400 طبيب (عام 2020)، بانخفاض عن 74,900 في عام 2019، مما يعكس استمرار تراجع الأعداد بسبب الهجرة والاستقالات.
وهذا يقودنا إلى أن معدل الأطباء في مصر هو 8.6 طبيب لكل 10,000 مواطن، وهو أقل بكثير من المعدل العالمي البالغ 23 طبيبًا لكل 10,000 مواطن. أي أن هناك عجزًا يُقدَّر بأكثر من 50,000 طبيب في القطاع الحكومي، حيث تحتاج وزارة الصحة إلى حوالي 110,000 طبيب لتلبية الاحتياجات. في 6 يناير من هذا العام، انتشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لطلبة كلية الطب جامعة الإسماعيلية، وكان يسألهم زميلهم (مصور الفيديو) سؤالًا واحدًا فقط: "هتقعد ولا هتسافر؟".
الإجابة كانت معروفة ومفهومة هي الأخرى، فكل الإجابات كانت "هسافر.. هسافر" تصاحبها ابتسامة خفيفة مع قليل من التهريج وخفة الدم المصري المعروفين.
الموضوع برمته، بهزار الطلبة وأملهم في مستقبل أفضل ورواتب خيالية مع حقائق الأرقام على الأرض، كل ذلك دفع الحكومة، وخاصة رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، إلى التفكير في اتجاهين.
الاتجاه الأول: تحسين وضع الطبيب وزيادة التعيينات في المستشفيات الحكومية: في مايو 2025، أعلنت الهيئة العامة للمستشفيات والمعاهد التعليمية عن تعيين 261 طبيبًا على درجة زميل مساعد في 34 تخصصًا طبيًا، وهي أكبر حركة تعيين من نوعها وفقًا للائحة المعدلة.
وهناك خطة لتعيين 30,000 طبيب آخر، كما أعلن وزير المالية، لدعم المنظومة الصحية، وتحسين الأجور والحوافز، وتطوير التدريب والتعليم الطبي، وتعديل نظام تكليف الأطباء لتسهيل انضمامهم للمنظومة الصحية، وتقليص مدة دراسة الطب إلى 5 سنوات بدلًا من 7، بهدف تخريج دفعات أكبر لتلبية الاحتياجات، رغم الجدل حول تأثير ذلك على جودة التعليم. المحور الثاني من الحكومة هو استغلال هجرة الأطباء كمصدر للعملة الصعبة: محور مهم جدًا وعليه جدال كبير، لكن لو تمهلنا قليلًا وفكرنا كثيرًا وتناقشنا أكثر لربما وجدنا رئيس الوزراء محقًا.. وأتى بتصريح في منتهى الذكاء.. ليضرب عصفورين بحجر واحد.. قطع الطريق على من يطالب بفرض غرامات على الأطباء الراغبين في السفر خاصة أن تعليمهم في مصر.. وفي الوقت نفسه تستفيد مصر منهم ومن تحويلاتهم.
يقول الدكتور مدبولي: "فيها إيه لو 7 أو 8 آلاف طبيب يهاجروا من مصر يشتغلوا بره في سنة واحدة؟ بالعكس، ده جزء من سياسة الدولة، طبيب يخرج يحقق عائدًا ماليًا ويحول إلى هنا ويبقى مصدرًا للعملة!" وأنا متفق مع الدكتور مصطفى أننا نجلد أنفسنا أكثر مما ينبغي، وأننا ننتقد جودة التعليم الطبي أكثر مما هو مطلوب، فلو كانت الجودة قليلة أو سيئة إذن لم تكن كل هذه الأعداد من الأطباء خرجت من مصر.
والدولة ستزيد في أعداد الخريجين السنوية، بدلًا من 9,000 طبيب سنويًا، وأصبح العدد 15,000 حاليًا، وخلال 3 سنوات سيصل العدد السنوي إلى 29,000 طبيب بفضل إنشاء كليات طب جديدة في الجامعات الحكومية والأهلية.
عدد خريجين يسمح بسفر 10,000 طبيب سنويًا من أصل 29,000 خريج متوقع، أي سيبقى لنا سنويًا 19 ألف طبيب، تجربة ربما تجعل مصر الأولى في الاستثمار في الأطباء عالميًا والاستفادة من تحويلاتهم لدعم الاقتصاد، وربما نكرر تجربة الهند التي لديها فائض بشري كبير فصدرت أهم عقول المعاهد التكنولوجية لشركات التكنولوجيا في العالم، فأفادت واستفادت. من يدري؟!
إكس: @ahmedtantawi