#أحدث الأخبار مع #هنريوادزورثلونغفلوالإمارات اليوم١٦-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالإمارات اليوم«السهم والأغنية»إنّ استكشاف بدايات الشعر الأميركي أشبه ما يكون بالولوج إلى برّيّة شاسعة، إنها رحلة ليست بالسهلة، لأن كثيراً من معالمها لايزال مطموراً تحت ظلال كبار الشعراء الذين جاؤوا من بعد، والتيارات الحديثة التي غمرت القديم بجديدها. في جامعاتنا العربية، قليلة هي المساقات التي تُدرِّس الأدب الأميركي المبكر، فنحن، في واقع الحال، لا نكاد نعرف إلا النزر اليسير عن الجذور الشعرية التي صاغت روح الثقافة الأميركية، وعن الشعراء الروّاد الذين برزوا في هذا المشهد التأسيسي، من أمثال الشاعر هنري وادزورث لونغفلو (1807–1882)، الذي مثّلت أعماله جسراً بين البساطة في التعبير وعمق المعنى الفلسفي. من أجمل ما قرأت له هي قصيدته «The Arrow and the Song» (السهم والأغنية)، التي تبدو للوهلة الأولى يسيرة التركيب، ففيها يفتح لونغفلو نافذة تطلّ على قدرة الكلمة والفعل على البقاء والامتداد. من خلال ثلاثة مقاطع شعرية قصيرة، يدعو القارئ إلى التأمّل في كيف يمكن لتعبيرات عابرة - سواء أكانت حادّة وسريعة كالسهم، أم رقيقة وعذبة كالأغنية - أن تمضي أبعد مما نتصوّر، وتترك آثارها الباقية في هذا العالم، وفي قلوب أولئك الذين يصغون. يقول الشاعر إنه أطلق سهماً في الهواء، لكنه لم يعرف أين سقط، لأن سرعته كانت كبيرة لدرجة أن بصره لم يتمكن من تتبّعه، ثم يقول إنه أنشد أغنية في الفضاء، ولم يعرف أين استقرّت أيضاً، إذ لا يوجد من يملك من الحدّة والقوة في الرؤية ما يكفي ليتتبّع رحلة الأغنية في مداها غير المرئي، ويختتم بقوله: وبعد زمنٍ طويل، طويل وجدتُ السهمَ في شجرة بلوط سليماً لم ينكسر ووجدتُ الأغنية، من أولها إلى آخرها في قلبِ صديق. يتّخذ لونغفلو من السهم رمزاً للفعل الطائش أو الكلمة المنطلقة بلا رجعة، ومن الأغنية رمزاً لما هو وجداني، عابر، لكنه نافذ الأثر. وبين هذين الرمزين، يُقدّم لنا قصيدة تتجاوز بساطتها الظاهرة إلى تأمل أخلاقيّ وشعريّ عميق. فالسهم، وإن اختفى عن النظر، يُكتشف بعد حين مغروساً في شجرة بلوط، رمز الثبات والذاكرة، أما الأغنية، فتهبط في قلب صديق، نابضةً بالحياة، كأنّ الأثر، وإن تأخّر، لا يضيع. ورغم أنّ القصيدة كُتبت في سياق أميركي، فإنّ رموزها تتجاوز الجغرافيا، لتخاطبنا في كل مكان ولتقول لنا ببساطة إنّ ما نزرعه في صمت الأيام، يعود إلينا يوماً، على هيئة وفاء، أو ذاكرة، أو قلب لا ينسى لنا قولاً حسناً. * باحث زائر في جامعة هارفارد لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه
الإمارات اليوم١٦-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالإمارات اليوم«السهم والأغنية»إنّ استكشاف بدايات الشعر الأميركي أشبه ما يكون بالولوج إلى برّيّة شاسعة، إنها رحلة ليست بالسهلة، لأن كثيراً من معالمها لايزال مطموراً تحت ظلال كبار الشعراء الذين جاؤوا من بعد، والتيارات الحديثة التي غمرت القديم بجديدها. في جامعاتنا العربية، قليلة هي المساقات التي تُدرِّس الأدب الأميركي المبكر، فنحن، في واقع الحال، لا نكاد نعرف إلا النزر اليسير عن الجذور الشعرية التي صاغت روح الثقافة الأميركية، وعن الشعراء الروّاد الذين برزوا في هذا المشهد التأسيسي، من أمثال الشاعر هنري وادزورث لونغفلو (1807–1882)، الذي مثّلت أعماله جسراً بين البساطة في التعبير وعمق المعنى الفلسفي. من أجمل ما قرأت له هي قصيدته «The Arrow and the Song» (السهم والأغنية)، التي تبدو للوهلة الأولى يسيرة التركيب، ففيها يفتح لونغفلو نافذة تطلّ على قدرة الكلمة والفعل على البقاء والامتداد. من خلال ثلاثة مقاطع شعرية قصيرة، يدعو القارئ إلى التأمّل في كيف يمكن لتعبيرات عابرة - سواء أكانت حادّة وسريعة كالسهم، أم رقيقة وعذبة كالأغنية - أن تمضي أبعد مما نتصوّر، وتترك آثارها الباقية في هذا العالم، وفي قلوب أولئك الذين يصغون. يقول الشاعر إنه أطلق سهماً في الهواء، لكنه لم يعرف أين سقط، لأن سرعته كانت كبيرة لدرجة أن بصره لم يتمكن من تتبّعه، ثم يقول إنه أنشد أغنية في الفضاء، ولم يعرف أين استقرّت أيضاً، إذ لا يوجد من يملك من الحدّة والقوة في الرؤية ما يكفي ليتتبّع رحلة الأغنية في مداها غير المرئي، ويختتم بقوله: وبعد زمنٍ طويل، طويل وجدتُ السهمَ في شجرة بلوط سليماً لم ينكسر ووجدتُ الأغنية، من أولها إلى آخرها في قلبِ صديق. يتّخذ لونغفلو من السهم رمزاً للفعل الطائش أو الكلمة المنطلقة بلا رجعة، ومن الأغنية رمزاً لما هو وجداني، عابر، لكنه نافذ الأثر. وبين هذين الرمزين، يُقدّم لنا قصيدة تتجاوز بساطتها الظاهرة إلى تأمل أخلاقيّ وشعريّ عميق. فالسهم، وإن اختفى عن النظر، يُكتشف بعد حين مغروساً في شجرة بلوط، رمز الثبات والذاكرة، أما الأغنية، فتهبط في قلب صديق، نابضةً بالحياة، كأنّ الأثر، وإن تأخّر، لا يضيع. ورغم أنّ القصيدة كُتبت في سياق أميركي، فإنّ رموزها تتجاوز الجغرافيا، لتخاطبنا في كل مكان ولتقول لنا ببساطة إنّ ما نزرعه في صمت الأيام، يعود إلينا يوماً، على هيئة وفاء، أو ذاكرة، أو قلب لا ينسى لنا قولاً حسناً. * باحث زائر في جامعة هارفارد لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه