منذ يوم واحد
الترويكا الأوروبيّة قلقة من خطوة طهران التالية!سعيد محمد
الترويكا الأوروبيّة قلقة من خطوة طهران التالية!
سعيد محمد*
في لحظة دقيقة وحاسمة من تاريخ الشرق الأوسط، يجد العالم نفسه مجدداً أمام معضلة نووية تشبه – إلى حدّ بعيد تلك التي عاشها في صيف عام 1967. عندما قررت الدولة العبريّة، الدولة القلقة أبداً من محيط معادٍ – أقله حينها -، أن تعبر بوابة إنتاج القنبلة النووية. واليوم، وبعد نحو ستة عقود، تقف إيران أمام خيار مشابه – وربما أكثر تعقيداً – إثر انهيار نظام الرقابة الأممي بحكم العدوان الإسرائيلي والأميركي، وانحياز الأوروبيين السافر إلى إسرائيل، والاتهامات المتبادلة بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذريّة حول نوايا الطرفين.
وكانت إيران قد أعلنت، مؤخراً، عن إزالة كاميرات الرقابة التابعة للوكالة من منشآتها النووية، متهمة إسرائيل بالحصول على بيانات حساسة منها، ما دفعها أيضاً إلى منع مديرها المتصهين، رافائيل غروسي، من دخول البلاد. وبرغم محاولات التهدئة الأوروبية، السرية منها والعلنية، فقد أعرب وزراء خارجية كل من فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، في بيان مشترك لهم، عن 'القلق البالغ' من هذا القرار، داعين إيران إلى استئناف التعاون الكامل مع الوكالة، وضمان سلامة مفتشيها.
لكن المخاوف الأوروبية لا تتوقف عند حدود وقف التعاون التقني. فطهران لوّحت علناً بتغيير عقيدتها النووية، وتابعت لندن وباريس وبرلين بتوجس تصريح كمال خرازي، مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، بأن إيران 'لا تسعى لإنتاج أسلحة نووية'، لكنها ستضطر لتغيير هذا الموقف إذا واجهت تحدياً وجودياً. ومع تهديدات إسرائيل بتصعيد ضرباتها لخنق القدرات النووية الإيرانية، واستمرار إدارة ترامب في دعمها سعياً إلى حرمان الجمهوريّة من تكنولوجيا الطاقة النووية، يرى عدد متزايد من المحللين الغربيون أن المسافة بين طهران والقنبلة النووية قد أصبحت بالفعل أقصر من أي وقت مضى.
وكأنه مكر التاريخ يعيد نفسه. ففي عام 1967، ومع تصاعد التوترات عشيّة حرب الأيام الستة، سارعت إسرائيل إلى تجميع أول سلاح نووي بدائي، جاهز للتفجير إذا شعرت الدولة بأنها على وشك الفناء لكن لم يتم استخدامه بعدما انتصرت إسرائيل في الحرب، لتغدو منذ ذلك الحين قوة نووية غير معلنة، بحماية ضمنية من الولايات المتحدة والغرب، وتفاهم غير مكتوب يُعرف بـ'عقيدة بيغن'، ينص على تدمير أي برنامج نووي عدو لإسرائيل قبل أن يتحول إلى خطر فعلي، الأمر الذي اتبعته إسرائيل والولايات المتحدة بشكل متتابع لتفكيك مشاريع مصر وسوريا والعراق وليبيا بوسائل متنوعة.
واليوم، يرى مراقبون كثر أن إيران تحاكي في سلوكها النووي مراحل إسرائيل الأولى: برنامج مفتوح جزئياً، وسري جزئياً، وقدرات تكنولوجية متقدمة، بانتظار إرادة سياسية حاسمة. إلا أن الفرق الأساسي يكمن في البيئة الدولية المعادية بشدة لإيران، مقارنة بتواطؤ الغرب الكليّ مع برنامج إسرائيل.
الترويكا الأوروبيّة التي سمسرت الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 مع الولايات المتحدة – في عهد إدارة باراك أوباما – حاولت مراراً إنقاذ الاتفاق بعد انسحاب واشنطن منه عام 2018 – في ولاية دونالد ترامب الأولى -، غير أن الضربات الأخيرة التي استهدفت منشآت نطنز وفوردو وأصفهان، ونفذتها واشنطن بنفسها جاءت على خلفية إدانة غير مسبوقة لسلوك طهران من قبل الوكالة الدولية هندستها الترويكا ذاتها التي شاركت تالياً الولايات المتحدة في مسرحية استئناف الحوار النووي في جنيف كتغطية على التحضيرات الأمريكية لقصف المواقع النووية الرئيسة في إيران، ناهيك عن التصريحات الرسمية السافرة في انحيازها لإسرائيل تأييداً للعدوان، ما أحرق كل جسور الثقة بين الأوروبيين وطهران، ووجه ضربة قاضية للمسار الدبلوماسي الذي اعتمد طوال العقد الأخير.
ويجد ثلاثي لندن-باريس-برلين نفسه في وضع بالغ الحساسية. فهي كما الولايات المتحدة وإسرائيل لا تريد رؤية إيران تنضم إلى نادي الدول النووية، لكنها في الوقت ذاته عاجزة عن ردع إسرائيل أو إلزام الولايات المتحدة بضبط النفس. وزادت تصريحات غروسي عن 'غموض مصير 400 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%' الطين بلّة. إذ أن ذلك يفترض أن هذا المخزون، الذي يقترب من درجة التخصيب اللازمة للسلاح النووي (90%)، قد اختفى تحت الأنقاض أو تم تهريبه قبل الضربات – وفقًا لتقارير استخباراتية متقاطعة -. ومع وقف التعاون مع الوكالة الدولية فإن التحقق غير ممكن، وحتى لو تم وصل ما انقطع من الجسور مع طهران، فإن البحث عنها بعد دروس التجربة الأخيرة بالنسبة للإيرانيين وفقدان الثقة المتبادل مع الأوربيين، قد لا يصل إلى نتائج حاسمة، ما يذكر بحكاية أسلحة الدمار الشامل التي مهدت للغزو الأميركي للعراق عام 2003.
طهران لا شك تجد نفسها اليوم في مفترق طرق وجودي بين 'عقيدة الصبر الاستراتيجي' و'الخيار الإسرائيلي'. فلعقود، اعتمدت على استخدام برنامجها النووي كورقة تفاوض للحصول على رفع العقوبات والتطبيع الجزئي مع الغرب. لكن العدوان الإسرائيلي/ الأمريكي، وسقوط الخيار الدبلوماسي، غيّرت موازين اللعبة، ومن المؤكد – وفق الخبراء الغربيين على الأقل – أن أوراق الأصوات الداعية إلى حسم الموقف والانطلاق نحو تصنيع القنبلة أصبحت أقوى.
هذا وفي حال أعلنت إيران رسمياً حيازتها لسلاح نووي، فإن أثر ذلك لن يتوقف على تل أبيب أو واشنطن أو أوروبا، بل وقد تُدفع دول أخرى مثل السعودية، وتركيا، وربما مصر، إلى المطالبة بالحق في امتلاك القنبلة لتنهار منظومة عدم الانتشار النووي في المنطقة تماماً.
في ظل هذه التطورات، يبدو أن باريس وبرلين ولندن المفتقدة فعلياً لأدوات التأثير كليهما عسكرياً أو دبلوماسياً ترزح الآن تحت ضغوط من الأمريكيين لإعادة إحياء الخيار الدبلوماسي بأي طريقة تجنباً لما يرونه الأسوأ، فيما تتراكم الإشارات إلى النظام الإيراني قد عبر خطر اهتزاز ممكن بفعل العدوان، واستعاد الثقة بقدرته على إدارة الصراع، ولن يقبل بشرب نقيع الخداع الأوروبي مجدداً.
في هذا المفصل، فإن طهران ليست مضطرة بعد لاتخاذ قرار القنبلة، لكن استمرار القصف، وسقوط دور الوكالة الدولية، وغياب عروض جادة من الغرب، قد يجعل الكفة تميل ولو تدريجياً لصالح التصعيد وهذا سيناريو يؤرق تل أبيب وواشنطن والعواصم العربية الحليفة في الإقليم. ولذا سيجد الأوروبيون أنفسهم – إن هم إن رغبوا في لعب دور الوسيط استجابة للضغوط الأمريكية – مضطرين لإراقة ماء الوجه مع الإيرانيين عبر تقديم عرض حاسم لا يمكن رفضه يعيد إيران إلى طاولة التعاون – مثل إزالة العقوبات بشكل شبه كلي مقابل التخلي عن التكنولوجيا النووية -، فيما كل شيء أقل من ذلك سيرجح كفة (الخيار الإسرائيلي)، ليتحقق مجدداً في الإقليم بعد ستين عاماً من أجواء حرب 1967، غير بعيد عن تل أبيب، لكن هذه المرة في طهران.
– لندن
2025-07-03