logo
#

أحدث الأخبار مع #يونغ،

الدراسات البينيَّة وتكاثر المعنى
الدراسات البينيَّة وتكاثر المعنى

شبكة النبأ

time١٩-٠٤-٢٠٢٥

  • علوم
  • شبكة النبأ

الدراسات البينيَّة وتكاثر المعنى

لم تعد الحدود الصارمة بين التخصصات كافية لفهم تعقيد الظواهر الإنسانية، في عالمٍ تتكاثر فيه الأسئلة أكثر مما تتكاثر الإجابات. ومن هنا تبرز الدراسات البينية بوصفها استجابة معرفية لهذا التعقيد؛ إذ تجمع بين حقول مختلفة كالأدب والفلسفة، أو علم النفس والأنثروبولوجيا، أو من خلال الجمع بين مناهج متعددة داخل الحقل الواحد... لم تعد الحدود الصارمة بين التخصصات كافية لفهم تعقيد الظواهر الإنسانية، في عالمٍ تتكاثر فيه الأسئلة أكثر مما تتكاثر الإجابات. ومن هنا تبرز الدراسات البينية بوصفها استجابة معرفية لهذا التعقيد؛ إذ تجمع بين حقول مختلفة كالأدب والفلسفة، أو علم النفس والأنثروبولوجيا، أو من خلال الجمع بين مناهج متعددة داخل الحقل الواحد، لتفتح أمامنا أفقًا قرائيًا يتجاوز المألوف، ويمنح النص حياةً متجددة في كل قراءة. وليست الدراسات البينية مجرد تنقّل بين تخصصين أو منهجين أو أكثر، بل هي تقاطعٌ يُنتج توتّرًا خلاقًا، يفتح المعنى على احتمالات متعددة، ويمنح النص بعدًا حيويًا قابلاً للانفتاح على فضاءات متنوعة وقراءات مختلفة الزوايا، واحتمالات للمعنى لا تقف عند حدّ معين، بل تبقى تتوالد بتعدد القراءات والرؤى. فعندما نقرأ قصيدة بعدسة التحليل النفسي، أو نتأمل سردًا روائيًا بمنهج أنثروبولوجي، فإننا لا نُقحم هذه المناهج عليه قسرًا، بل نمنحه قدرة على التفلّت من أسر القراءة الواحدة، حيث المعنى لا يُضاف، بل يتكاثر. وهذا ليس لعبًا لغويًا، بل توصيف لطبيعة النصوص في ضوء التداخل المعرفي؛ فكل حقل معرفي، وكل منهج قرائي، يحمل في داخله أدوات للتأويل، وآليات للتحليل، لا تتراكم عند تداخلها، بل تتشابك لتنسج دلالات أكثر حيوية وثراء، وأكثر خصوبة، وربما أكثر غموضًا ولا بأس بذلك، لكنه لا يقل دلالة. ومثل هذا التكاثر لا يعني الفوضى، بل العكس من ذلك: إنه شكل من الثراء المنهجي، حيث تنشأ الدقة من تعدد زوايا الرؤية، لا من ضيق الأفق وأحاديته. ومع أهمية ذلك وضرورته، يبقى هذا المسار مُلغّمًا بالتحديات؛ إذ قد يقود الإفراط في التداخل إلى تمييع المعنى، أو الانزلاق نحو تعسف تأويلي. لذا، فإن الشرط الأهم في هذه المقاربة هو الوعي بحدود المنهج، دون الوقوف عندها، بل محاولة تطويع تلك الحدود ومنحها قابلية للمرونة والتحرر، وقابلية للإفادة من وجهات النظر المتنوعة تسهم في إنتاج صورة بانورامية للمعطيات الدلالية للنص. فلو أخذنا تجربة بدر شاكر السياب – وليكن مثالنا قصيدته "أنشودة المطر" – لوجدنا أن رمزية المطر، والموت، والخصب، والغربة، والحنين إلى الطفولة، كلها قابلة للربط بجوانب من علم النفس التحليلي وفقًا لمنظور يونغ، كفكرة اللاوعي الجمعي، والأنماط البدائية مثل "الأم" و"الأرض". وقد يُنظر إلى المطر بوصفه كثافة شعورية أكثر من كونه ظاهرة طبيعية، بما ينطوي عليه من ثنائية تحمل الأمل واليأس معًا، وهو ما يعكس ازدواجية الحالة النفسية في مرحلة عاشها الشاعر إبان ثورة تموز. ومن زاوية القراءة الاجتماعية، يمكن اعتبار هذه القصيدة وثيقة شعرية تعكس قلق مرحلة ما بعد الاستعمار، وأثر الاحتلال البريطاني والانقلابات السياسية في الخمسينيات، بكل ما رافقها من إحساس بالخذلان السياسي واللا جدوى من التغيير. أما من خلال التداخل بين الأدب والأنثروبولوجيا، فيمكن تحليل رموز القصيدة الأسطورية ودلالاتها، مثل: تموز، وعشتار، والمطر، والموت، والبعث، والتي تشكّل بنية رمزية عميقة في سياق الوعي الجمعي. كما تتيح المقاربة من زاوية الاقتصاد السياسي قراءة مشاهد الفقر بوصفها تعبيرًا عن بنية اقتصادية مختلّة، وفق مفاهيم الماركسية الأدبية، مثل جدلية المركز والهامش، أو الخطاب الطبقي " ما مر عام والعراق ليس فيه جوع". ومن خلال التداخل بين الأدب والفيزياء الاحتمالية، يمكن أن تُقرأ "أنشودة المطر" ضمن منطق "الاحتمال الشعري" – حيث لا يتشكل معنى القصيدة من مسار واحد، بل من تراكب تأويلي يُشبه تراكب الحالات في ميكانيكا الكم. فالصورة الشعرية لا تتحدد بحدود نهائية، بل تتردد بين دلالات متعددة: المطر/ الدموع، الحياة/ الموت، الأرض/ السماء. ولنأخذ المشهد الذي يقول فيه السياب: "كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام/ بأنّ أمّه – التي أفاق منذ عام/ فلم يجدها، ثم حين لجّ في السؤال/ قالوا له: "بعد غدٍ تعود" –/ لابدّ أن تعود،/ وإن تهامس الرفاق أنها هناك/ في جانب التل تنام نومة اللحودْ" في هذا المشهد وفي ضوء ما أسميناه (نظرية الاحتمال)، التي نوهنا عنها في مقال سابق نشر في ثقافية الصباح، ومن خلال تقاطع الأدبي بميكانيكا الكم، سنقدم عدة قراءات محتملة منها: إن "الأم" هنا هي الوطن، أو الحياة، أو الأم الفعلية، أو حتى الزمن المفقود. بينما تكون "نومة اللحود" رمزاً للموت، أو الغياب أو التغييب: حيث تترنح الدلالة بين غياب موقت وموت أبدي. ويأتي الصوت الداخلي "لا بدّ أن تعود": ليس تأكيدًا حتميًا، بل أملًا أو وهمًا أو شوقًا. إنها حالة كمومية بين الإيمان والإنكار. وما ينتج لنا من هذه الاحتمالات: أن المعنى هنا لا يُرصد بدقة، بل يحتمل عدة قراءات، وكل قراءة تنتج انهيار المعنى مثلما تنهار دالة الموجة في فيزياء الكم عند رصد الجسيم. " في العالم الكمومي، الجسيم (كالإلكترون) لا يكون في حالة محددة، بل يكون في جميع الحالات الممكنة في وقت واحد، وهذا يُمثّل عبر "دالة موجية" (Wavefunction) تحوي كل تلك الاحتمالات، لكن عند الرصد ستنهار هذه الدالة إلى حالة واحدة فقط، وتختفي بقية الاحتمالات." وتأسيسا على ذلك يتبين لنا أن هذه القصيدة ليست مغلقة، بل هي نظام مفتوح من الاحتمالات. كل صورة فيها تشبه جسيمًا كموميًا: لا تتخذ دلالة واحدة إلا عندما "نرصدها" أي نؤولها. وهذا سيخلق لنا تعددية خصبة في التفسير، ويفتح القصيدة على زمن لا نهائي من القراءات، كأنها (قصيدة في حالة كمومية) لا نهائية المعنى. وتقريرا لما تقدم يتضح لنا أن الدراسات البينية تمثل دعوة إلى الإصغاء لصوت النص بأكثر من أذن. وفي هذا الإصغاء، يتكاثر المعنى، لا لأنه ينفلت، بل لأنه يعيش، فالمعنى الذي لا يحتمل التأويل، لا يحتمل الحياة.

قوة العزلة في زمنٍ تصبح ضرورة وجودية
قوة العزلة في زمنٍ تصبح ضرورة وجودية

عمون

time٠٤-٠٤-٢٠٢٥

  • منوعات
  • عمون

قوة العزلة في زمنٍ تصبح ضرورة وجودية

في عالم تتسارع فيه الخطى وتتزاحم فيه الأصوات، لم يعد الإنسان يملك ترف الصمت أو حقه في لحظة هدوء. أصبح كل شيء من حوله يفرض عليه البقاء في حالة تأهب دائم، والانخراط المستمر في موجات متلاحقة من الإشعارات والمكالمات والمواعيد. لم تترك الحياة مساحة للتأمل أو حتى للتنفس بعمق. في هذا الضجيج المتواصل، لم تعد العزلة حالة استثنائية أو مرضية أو عقوبة اجتماعية كما يُروَّج لها، بل أضحت ضرورة نفسية عاجلة، وملاذًا إنسانيًا يعيد للروح توازنها وللذات صلتها بجوهرها العميق. نعيش اليوم داخل منظومة تختزل الإنسان في إنجازاته المادية، وتقيس قيمته بعدد مهامه وساعات انشغاله. في عصر متسارع، كل بطء مرفوض، وكل فراغ يجب ملؤه، وكل عزلة تُتهم بالخلل أو يُساء فهمها. لكن خلف هذه الأحكام، تظل العزلة المساحة الوحيدة التي نخلع فيها الأقنعة، ونخرج من دوامة التمثيل الاجتماعي والمادي. هناك فقط، نصغي إلى أنفسنا كما لم نفعل من قبل... بصمت وصدق وعمق. العزلة من منظور علم النفس و فقًا لنظرية "التفرّد" التي قدّمها عالم النفس التحليلي كارل غوستاف يونغ، تمثل العزلة محطة مفصلية في رحلة الإنسان نحو ذاته الأصيلة. فهي ليست فراغًا سلبيًا كما يُتصوَّر، بل لحظة وعي عميق، يتأمل فيها الإنسان رغباته، يواجه مخاوفه، ويُصغي لصدى مشاعر وأفكار طُمست طويلًا تحت ضجيج الحياة وضغط الانشغال. العزلة، في منظور يونغ، ليست انقطاعًا عن العالم، بل انغماسٌ صادق في الداخل، وفرصة نادرة للعودة إلى الذات بلا مؤثرات خارجية. إنها لحظة صدق مع النفس، يعيد فيها الإنسان اكتشاف ما غاب عنه وسط زحمة الأيام. في زمن يفيض بالضجيج والتمثيل، تظل العزلة أصدق ما نملك. إنها المرآة التي لا تجامل، ولا تكذب، حين نجرؤ على النظر فيها كما نحن، دون أقنعة... ودون أحكام. وفي هذا السياق، لا بد من التوقف عند حقيقة جوهرية: حين تُحتضن العزلة بإرادة واعية، تصبح منبعًا للإبداع لا مهربًا من الواقع. من تأملات نيكولا تسلا اليومية التي انبثقت منها أعظم اختراعاته، إلى عزلة كارل غوستاف يونغ الاختيارية على ضفاف بحيرة زيورخ، تمنحنا سِيَر العظماء نماذج حيّة على أن الصمت ليس هروبًا او فراغًا عابرًا، بل بيئة خصبة لانبثاق الأفكار والابداعات التي نهضت بالمجتمعات في مختلف المجالات. فكثير من الرؤى العميقة لم تولد في صخب الاجتماعات، بل في هدوء اللحظات التي انسحب فيها أصحابها من الضوضاء ليصغوا لصوت الداخل. وهنا يأتي التساؤل "هل نحن بعيدون عن أنفسنا؟" رغم كل ما توفره التكنولوجيا من وسائل اتصال، إلا أن الإنسان المعاصر يعيش قطيعة متزايدة مع ذاته. الانشغال الدائم لا يُعالج جراح النفس، بل يُخفيها مؤقتًا تحت وهم الإنجاز. والنتيجة، شعور عارم بالاغتراب، رغم كثرة الروابط، إن العزلة، في جوهرها، ليست قطيعة عن العالم، بل إعادة تموضع داخلي، هي لحظة صدق، وتجديد، وتنظيف نفسي من التلوث البصري والسمعي والفكري الذي نتعرض له يوميًا. هي تمرين على الإصغاء، وإعادة صياغة الأسئلة الأولى: من أنا؟ ماذا أريد؟ وهل أنا حقًا ما يُقال عني... أم شيء آخر تمامًا؟ في الختام، دعوة للتأمل... لا للانسحاب في زمن تتراكم فيه المهام وتغيب فيه لحظات التأمل، يصبح من الضروري أن نعيد النظر في علاقتنا بالزمن وبأنفسنا. العزلة لا تعني الانغلاق، بل القدرة على التمهل، لا تعني الضعف، بل الشجاعة لمواجهة الذات كما هي. إن المجتمعات التي لا تمنح أفرادها وقتًا للتوقف والتفكّر، تنتج أفرادًا مرهقين من الخارج، ومتعبين من الداخل. متصلين بكل شيء، لكنهم منقطعون عن أنفسهم. في زمن الامتلاء الزائف، قد تكون العزلة هي الطريق إلى الامتلاء الحقيقي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store