
معـــــــــادن
حروب العالم كثيرة، وعلى رأسها الحرب الظالمة على المدنيين الأبرياء في غزة الباسلة، والحرب المحزنة في السودان الشقيق، والحرب في أوكرانيا، وفي إثيوبيا.. وهناك أيضا الحروب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والعالم، والتي بدأت برفع مقدار التعرفة على سلع مختلفة.. ولكن هناك أيضا حرب المعادن، وهي خفية، ولكن تأثيراتها لا تقل أهمية عن النزاعات والصراعات الأخرى. ولو أخذنا جولة تاريخية سريعة على الموضوع، سنجد أن خلال الحرب العالمية الأولى كانت ألمانيا تتربع على عرش علم الكيمياء، وكانت لديها تقنيات متقدمة للغاية، ومن خلالها اكتشفت تطبيقات أحد المعادن التي لم تكن لها أهمية كبرى آنذاك.. المعدن اسمه «موليبدينوم» على وزن «مو- ليا- وبدى - نوم».. وبسبب خصائصه، وخصوصاً تحمّله لدرجات الحرارة المرتفعة جداً، كانت إحدى تطبيقاته في «تهذيب» الحديد الصلب لتحمل «الجربدة» الحرارية بداخل أكبر المدافع في العالم، وكانت ألمانيا الرائدة في تصنيعها.الشاهد أن تلك الحرب الخفية كانت فيها حركات خداع وتهريب، لأن مصدرها الرئيس كان في أمريكا التي كانت تحارب ضد ألمانيا في تلك الفترة.. يعني استخراج وتصدير المعدن من المناجم الأمريكية إلى ألمانيا كان يتضمن «لغوصة»، وحركات «نصف كُم»، وخداع.. وبعدها بحوالى عشرين سنة كانت هناك حالة تكاد أن تكون طبق الأصل.. كانت هناك حرب خفية في البرتغال التي كانت غنية بمعدن «تنجستن».. وكان يُستخدم في صناعة القذائف الشديدة التي تخترق الدروع الفولاذية بسبب قوته المذهلة.. وهنا دارت معارك بين ألمانيا والحلفاء، وكان أبطالها الدبابيس من الطرفين.. شُغل «جيمس بوند» بمعنى الكلمة، وللعلم فمؤلف قصص «بوند» كان جاسوساً بريطانياً اسمه «إيان فلمينج»، وعمل في تلك الساحة.. وأصبحت أراضي البرتغال الغنية بالمعدن أقرب لعاصمة الجواسيس خلال فترة الحرب بسبب وفرة المعدن، والسياسات حول استخراجه، وتسويقه، وتصديره.. وكانت هناك أيضاً صراعات في الكونغو في قلب إفريقيا للحصول على عنصر «اليورانيوم» لتصنيع القنبلة النووية، فكانت حرباً مصغَّرة بداخل الحرب العالمية الثانية، أبطالها «دبابيس»، وتجار، وشهدت ممارسات للنذالة والخداع.واليوم يستمر وضع توزيع المعادن غير المتساو حول العالم في الوفرة، والتصنيع، والاستخدام. وهناك مجموعة عناصر اسمها «العناصر الأرضية النادرة»، وعددها 17، وهي جديدة نسبياً علينا، واستخداماتها الحديثة أصبحت في غاية الأهمية.. وستجد بعض من أهم تطبيقاتها بتوفيق الله بداخل هاتفك المحمول.. عنصر «الإيتريوم» من أسرار طول عمر بطارية جوالك، وعناصر «الإنديوم» و»الأوربيوم» و»لانثانم» تُوفِّر لك سلاسة شاشة الجوال ودقة عدسة الكاميرا، وعنصر «السيريوم» يضيف لقوة هيكل الهاتف، و»الجادولينيوم» يوفر القوة المغناطيسية في تطبيقات مختلفة، و»رشة» من عنصر «سيريوم» تدعم توصيل الإشارات.. وهناك استعمالات أخرى كثيرة في مجال الحواسيب، والأجهزة الطبية الاستكشافية والعلاجية، والبطاريات، وخلايا الطاقة الشمسية، ومحركات الطائرات، ومكونات الأقمار الصناعية، وغيرها من التطبيقات..جدير بالذكر أن الصين أصبحت هي الدولة المهيمنة عالميا على هذه المعادن الأرضية النادرة.. ومثل مطعم الفول النادر الاحتكاري خلال شهر رمضان الكريم.. فول صيني طبعاً.. إذا لم تتفق معه فستجعل حياتك صعبة.. وهذا يُلخِّص التحدي بين أمريكا والصين اليوم.. وللعلم، كانت الولايات المتحدة قبل ثلث قرن هي الدولة الأولى في توفر العنصر، ولكن لظروف التحولات البيئية أخفقت في الاستثمار، وذهبت الريادة للصين.* أمنيــــــة:خلال مرحلة تصعيد الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، نشهد بعض بوادر حرب معادن بسِماتٍ جديدة قد تشهد ندرة مصطنعة، وارتفاع أسعار، و»كلاكيع» في سلاسل الإمدادات.. وكلها ستصب في ارتفاعات لأسعار السلع والخدمات التي نعتمد عليها، وربما أكثر من ذلك.. أتمنى أن تتعامل الأطراف المعنية بحكمة؛ لتفادي شرور الحروب، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو من وراء القصد.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 6 أيام
- Independent عربية
كيف تسعى روسيا إلى السيطرة على مستقبل أفريقيا النووي؟
تعقد روسيا شراكات في مجال الطاقة النووية مع ما لا يقل عن 20 دولة أفريقية، وفق تحليل حديث أجرته صحيفة "اندبندنت"، وذلك في إطار سعي موسكو إلى ترسيخ موقعها كأبرز الدول الفاعلة في هذا المجال على مستوى القارة. ويجري تنفيذ هذه الاتفاقات من خلال شركة الطاقة النووية الروسية المملوكة للدولة "روساتوم". وأُعلِن عن أحدث هذه الاتفاقات الشهر الماضي وهو عبارة عن مذكرة تفاهم أبرمتها بوركينا فاسو مع "روساتوم" لبناء محطة نووية. وتشمل الاتفاقات الأخرى اتفاقية وُقعت في يونيو (حزيران) 2024 مع غينيا لتطوير محطات طاقة نووية عائمة، وشراكة عُقِدت الشهر التالي مع الكونغو لتطوير الطاقة النووية والطاقة الكهرومائية. ومنذ عام 2014، أبرمت روسيا اتفاقات أيضاً مع الجزائر، وإثيوبيا، وكينيا، وجنوب أفريقيا، وتونس، وعدد من الدول الأخرى. من بين الدول الأفريقية الأخرى التي تسعى إلى عقد شراكات نووية مع روسيا، تأتي النيجر، وهي دولة حليفة لموسكو منذ الانقلاب العسكري الذي وقع عام 2023، والتي أعلنت العام الماضي أنها تسعى بنشاط إلى جذب استثمارات روسية إلى احتياطاتها الواسعة من اليورانيوم. وفي الوقت نفسه، أفادت تقارير صدرت الشهر الماضي بأن ناميبيا أجرت كذلك محادثات مع روسيا في شأن تعاون في قطاع الطاقة الذرية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ومن بين الدول الكبرى التي توفر التكنولوجيا النووية لأفريقيا– ومنها الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية وكندا وفرنسا– برزت روسيا كقوة مهيمنة بوضوح. وتفخر "روساتوم" بسجل من المشاريع المنجزة حول العالم يعجز منافسوها عن مجاراته، كما أنها تقدم عقوداً وشروط تسديد مغرية للغاية. يقول دميتري غورشاكوف، الخبير النووي الذي غادر روسيا للعمل في مؤسسة "بلونا" البيئية غير الحكومية في فيلنيوس بليتوانيا بعد غزو روسيا أوكرانيا عام 2022، إن "هذه الاتفاقيات ذات أهمية جيوسياسية، لأن المشاريع النووية التزام بعيد الأجل وضخم النطاق، من شأنه أن يربط الدولة المعنية بروسيا لعقود. ومن وجهة نظر موسكو، ليست المسألة تجارية فقط– بل هي أيضاً أداة نفوذ سياسي". ويتابع "في سياق المواجهة الروسية مع الغرب، تُعَد القدرة على إثبات وجود شركاء دوليين أمراً سياسياً ذا أهمية قصوى، ولهذا تبدي روسيا استعداداً إلى تقديم وعود سخية إلى الدول الراغبة في التعاون معها". وفيما تسعى روسيا إلى توسيع نطاق نفوذها من خلال البنية التحتية في قطاع الطاقة، يتخذ الغرب مساراً معاكساً، إذ تعمد الولايات المتحدة إلى سحب تمويلاتها لمشاريع الطاقة في أفريقيا تنفيذاً لقرارات دونالد ترمب بخفض المساعدات الدولية. ومن بين البرامج الأميركية الكبرى التي تقَرر وقفها مبادرة "قوة أفريقيا"، التي أطلقها باراك أوباما عام 2013 لدعم النمو الاقتصادي والتنمية من خلال تحسين الوصول إلى طاقة موثوقة وميسورة ومستدامة في أفريقيا. وخلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، أنفقت مبادرة "قوة أفريقيا" نحو 1.2 مليار دولار (900 مليون جنيه استرليني)، ما أسهم في جذب تمويل إضافي بقيمة 29 مليار دولار من مصادر أخرى لتطوير أكثر من 150 مشروعاً للطاقة في 42 دولة أفريقية، وتوفير الكهرباء لأكثر من 200 مليون شخص. كذلك ساندت المبادرة شركات أميركية في إبرام صفقات بقيمة 26.4 مليار دولار، وفق تحليل أجراه "مركز التنمية العالمية". وشملت المشاريع المدعومة مزيجاً من مشاريع الطاقة المتجددة ومشاريع تعمل بالغاز. كذلك انسحبت الولايات المتحدة من "شراكات التحول العادل للطاقة"، وهي مبادرة بمليارات الدولارات أُطلِقت عام 2021 لمساعدة الاقتصادات الناشئة في الابتعاد عن الفحم وغيره من مصادر الطاقة غير المتجددة، ما حرم جنوب أفريقيا من منح موعودة بملايين الدولارات واستثمارات تجارية محتملة بقيمة مليار دولار. وأوضح غورشاكوف قائلاً "من دون برامج كهذه، لن تواجه الولايات المتحدة صعوبة في المنافسة في أفريقيا فحسب، بل كذلك في مجرد إيجاد موطئ قدم لها هناك. ولهذا عليها أن تبذل جهداً كبيراً– من دون برامج دعم ممولة حكومياً، سيكون دخول هذه الأسواق شبه مستحيل". جوهرة التاج تُعَد محطة الضبعة للطاقة النووية في مصر، التي تبلغ تكلفتها 28.75 مليار دولار (21.38 مليار جنيه استرليني)، جوهرة التاج في شراكات روسيا النووية مع أفريقيا. ومن المقرر أن تصبح ثاني محطة نووية عاملة في القارة، بعد نحو 40 سنة على إنشاء محطة كويبرغ للطاقة النووية في جنوب أفريقيا، والتي باتت اليوم متقادمة. بدأت أعمال إنشاء المحطة عام 2020، ومن المنتظر أن تبدأ في إنتاج الكهرباء عام 2026. وتبلغ طاقتها 4.8 غيغاوات، أي ما يكفي لتزويد مدينة أميركية كبرى بالكهرباء، وقد مولت روسيا 85 في المئة من تكلفتها الإجمالية، بشروط تسديد مؤاتية للغاية. ويرى السيد غورشاكوف من مؤسسة "بلونا" أن ثمة أسباباً عدة تجعل فكرة محطة نووية مدعومة من روسيا مغرية جداً للدول الأفريقية. في المقام الأول، تكون هذه الصفقات مدعومة من الدولة الروسية، التي تتحمل جزءاً كبيراً من الأعباء المالية والتشغيلية الأولية، وتمنح جداول تسديد تمتد لعقود من الزمن، ومعدلات فائدة متدنية للغاية. وتساعد هذه التسهيلات في جعل المحطات النووية في متناول الدول الأفريقية، وإن كانت تربطها في المقابل بشدة بسلاسل الإمداد الروسية في مجال الوقود النووي والخدمات، وفق السيد غورشاكوف. أما الشركات النووية الغربية، مثل شركة "إي دي أف" EDF الفرنسية، فتعمل وفق منطق تجاري ولا تستطيع تقديم التمويل المدعوم حكومياً أو تقاسم الأخطار أو الدعم الدبلوماسي على غرار ما تفعله "روساتوم". وتواجه هذه الشركات الغربية أيضاً صعوبات في تنفيذ المشاريع من ضمن الجداول الزمنية والموازنات المحددة. مثلاً، ارتفعت التكلفة المتوقعة لمحطة "هينكلي بوينت" التابعة لشركة "إي دي أف" والقائمة في مقاطعة سومرست البريطانية من 18 مليار جنيه استرليني إلى 35 ملياراً. أما مشروع بناء مفاعلين أميركيين من طراز "أي بي 1000"AP1000 في "محطة سامر النووية" الواقعة في ولاية كارولاينا الجنوبية فقد أُلغِي عام 2017، بعد سنوات من التأخير وتجاوز التكلفة، تحمل خلالها دافعو الضرائب فاتورة بقيمة تسعة مليارات دولار. ويضيف السيد غورشاكوف "كذلك تعرقل القيود السياسية والتنظيمية الصادرات النووية الغربية وتجعلها أبطأ، وأكثر بيروقراطية، وأصعب تنسيقاً". ويتابع "علاوة على ذلك، نادراً ما توفر الشركات الغربية حزمة متكاملة تغطي دورة المشروع بالكامل على غرار ما تقدمه 'روساتوم'– بما في ذلك التكنولوجيا النووية، وتوريد الوقود، والتدريب، وإدارة النفايات، والخدمة البعيدة الأجل– ذلك كله تحت مظلة مؤسسية واحدة". أما الصين، فهي أكثر استعداداً إلى تقديم حزمة دعم متكاملة مع استثماراتها النووية، لكنها، مثل الدول الغربية، لا تمتلك سجلاً كبيراً من المشاريع النووية المكتملة في الخارج، إذ لم تُنجِز حتى الآن سوى محطة واحدة في باكستان. ويقول السيد غورشاكوف "في المقابل، تمتلك 'روساتوم' محفظة نشطة وكبيرة من المشاريع الدولية المكتملة والجارية التنفيذ، ما يسمح لها بأن تعرض نفسها بوصفها شريكاً أكثر موثوقية وخبرة في نظر العديد من العملاء المحتملين". وبالفعل، تشير بيانات صادرة عن مجموعة الضغط المسماة "الرابطة العالمية للطاقة النووية"World Nuclear Association، حللتها صحيفة "اندبندنت"، إلى أن "روساتوم" مسؤولة حالياً عن بناء 26 وحدة رئيسة للطاقة النووية في سبع دول حول العالم: روسيا ومصر وتركيا والهند والصين وبنغلاديش وإيران. يضيف جوناثان كوب من "الرابطة العالمية للطاقة النووية" أن المفاعلات الأربعة الجاري بناؤها في مصر تعتمد كلها على تصاميم "روساتوم" المجربة والموثوقة. ويقول لصحيفة "اندبندنت"، "صحيح أن هناك بعض التحديات المرتبطة ببناء أول محطة في كل دولة، لكن الشركة تستطيع اعتماد نموذج جاهز شبه موحد، مستمد من مشاريع سابقة نفذتها". طاقة استراتيجية بالنسبة إلى الكثير من الدول الأفريقية– في قارة لا يزال 600 مليون شخص فيها يفتقرون إلى إمكانية مأمونة للحصول على الكهرباء– تمثل المحطة النووية الجديدة أملاً في الحصول على كميات كبيرة من الكهرباء المنخفضة الكربون والمستقرة، وهي أمور لا تستطيع مصادر الطاقة المتجددة المتقلبة مثل الشمس والرياح، ولا حتى المحطات الملوثة التي تعمل بالفحم أو الغاز، أن توفرها في شكل مماثل. يعتبر روبرت سوغبادجي، منسق "البرنامج النووي الوطني" في غانا، الطاقة النووية مكملة لخطط بلاده في التوسع في الطاقة المتجددة. ويُؤمَل حالياً أن تكتمل أول محطة نووية كبيرة في البلاد بحلول منتصف العقد المقبل. ويقول السيد سوغبادجي لصحيفة "اندبندنت" "إذا أردنا طاقة أساسية تدعم طموحاتنا في مجال الطاقة المتجددة، فعلينا أن نواصل العمل على برنامجنا النووي بوتيرة هجومية". وقد اختارت غانا الولايات المتحدة لبناء مفاعلات نووية صغيرة معيارية– وهي مفاعلات نووية حديثة وأصغر حجماً يمكن تركيبها في مفاعلات أصغر– لكنها لا تزال بصدد اختيار الجهة التي ستوفر التكنولوجيا لأول محطة كبيرة النطاق، وتشمل الخيارات المطروحة روسيا. وعلى رغم الآمال المعقودة، لا تزال الطاقة النووية مثار جدل بسبب المخاوف المتعلقة بالتخلص من النفايات النووية في الأجل البعيد، ولأن الاعتماد على محطات ضخمة بدلاً من مصادر الطاقة المتجددة الموزعة جغرافياً في البلاد قد يجعل شبكة الكهرباء أكثر عرضة للأخطار، مثل الهجمات السيبرانية أو الظواهر المناخية القاسية. يقول مايك هوغان، من "مشروع المساعدة التنظيمية" Regulatory Assistance Project، وهي مؤسسة بحثية أميركية، لصحيفة "اندبندنت": "من المقلق قليلاً أن نرى هذا العدد من الدول الأفريقية يتجه إلى بناء محطات ضخمة جديدة، في وقت تتجه اقتصاديات صناعة الكهرباء منذ زمن طويل نحو مصادر أقل مركزية، توفر مرونة أكبر للأنظمة الكهربائية". ويضيف "هذه المشاريع الضخمة والرمزية تعطي أصحاب السلطة شعوراً بأنهم يفعلون شيئاً مهماً، لكنها في الواقع حل يعود إلى القرن العشرين لمشكلة تخص القرن الحادي والعشرين". وتسعى روسيا، التي تواجه عقوبات غربية قاسية بسبب ضمها غير القانوني شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، ثم غزوها الواسع لأوكرانيا عام 2022، إلى توسيع نفوذها، ولذلك تُعَد الدول الأفريقية غير المنحازة في خصوص النزاع الروسي- الأوكراني، والتي عانت طويلاً من نقص الاستثمارات، هدفاً منطقياً لصناعتها النووية. وتجعل شراكات روسيا في هذا القطاع دولاً كثيرة تلتفت إليها– إذ شاركت 49 دولة أفريقية من أصل 54 في القمة الاقتصادية الروسية- الأفريقية التي عُقِدت في سان بطرسبرغ عام 2023، على رغم الضغوط الأميركية الشديدة بغرض مقاطعتها. لا تزال اتفاقات نووية كثيرة وقعتها دول أفريقية في مراحلها الأولية، وتُعَد مجرد خطوة أولى في مسار طويل ومعقد لتطوير مشاريع نووية. ومع ذلك، تكتسب هذه الاتفاقات أهمية رمزية كبيرة لروسيا في ظل عزلتها الجيوسياسية الحالية، بحسب السيد غورشاكوف من مؤسسة "بلونا". ويُقدر أن صادرات روسيا النووية بلغت نحو 16 مليار دولار عام 2023– وهو رقم لا يُقارن بعوائد صادرات الوقود الأحفوري الروسية التي سجلت قبل الحرب 300 مليار دولار– لكن موسكو تعتبر هذا القطاع "فخراً وطنياً"، وفق السيد غورشاكوف الذي يضيف "بالنسبة إلى موسكو، ليست هذه الاتفاقات مسألة أعمال تجارية فقط: هي أيضاً أداة نفوذ سياسي". هذه المادة جزء من سلسلة تقارير تعدها "اندبندنت" بعنوان "إعادة تفكير في المساعدات العالمية"


Independent عربية
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- Independent عربية
صعود القوميات... أو التاريخ يرجع إلى الخلف
هل تعرض العالم لحركة انتكاسة، وتراجع تيار العولمة الذي ساد خلال العقود الثلاثة الأخيرة بنوع خاص، وخيل للعالم أن الحواجز الجغرافية تعرضت لانزياح غير مسبوق، وأن الكون برمته تحول من حال القرية الكونية التي تحدث عنها عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان، إلى أوان صندوق الدنيا المتمثل في الهاتف النقال الذكي، الذي أضحى عالماً قائماً بذاته يطوي آلاف الكيلومترات؟ إن ما جرى خلال جائحة "كوفيد 19" قبل خمسة أعوام أظهر كيف أن هناك اتجاهاً معاكساً، وبخاصة بعد أن أغلقت كل أمة أبوابها على ذاتها ومواردها طلباً للنجاة، وساعتها بدأ الحديث يدور حول الأسباب التي دفعت لصحوة القوميات، وارتفاع رايات الشعبويات التي تتجلى اليوم في بقاع وأصقاع الأرض كافة، من الولايات المتحدة الأميركية غرباً إذ إدارة ترمب تبدو ضاربة بقوة في طريق "أميركا أولاً" الشعار القومي بامتياز، إلى فوز الأحزاب اليمينية كما الحال داخل عدد من الدول الأوروبية، وآخرها الفوز الكبير لحزب "البديل من أجل ألمانيا" في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. بالتقدم نحو آسيا، نجد الصين وكأنها تعيد سيرتها الأولى وتغلق أبوابها على ذاتها، فيما اليابان تسعى سعياً حثيثاً منذ عهد رئيس وزرائها المغدور شينزو آبي لوضع نهاية لزمن التبعية للولايات المتحدة والعودة إلى بناء قوة مسلحة تليق بتاريخها الإمبراطوري القديم، أما عن روسيا فحدث ولا حرج عن العنقاء الروسية المنبعثة من الرماد. وفي ما وراء كل هذا يبدو اتجاه قومي جديد يتصاعد في الآفاق، يطلق عليه القومية التكنولوجية، تلك التي تتصارع على قيادة عالم مغاير عبر أدوات تكنولوجية وسيبرانية قادرة على تغيير عالمنا المعاصر جذرياً. هل هي بدايات حقبة جديدة تتناحر فيها الأمم وتتصادم خلالها الشعوب، مما يقود في نهاية المطاف إلى حرب عالمية قد لا تبقي ولا تذر؟ القوميات كمفهوم تاريخي في مؤلفه المثير للإعجاب "القومية: تاريخ العالم"، يوضح غريك ستروم أستاذ التاريخ داخل جامعة "ليدن" الهولندية، كيف أن القومية أسهمت على نحو فريد في تشكيل عالمنا الحديث. دفعت القوميات إلى انتشار الدول القومية في مختلف أنحاء العالم، وهو التحول السياسي الأكثر أهمية خلال القرون الأخيرة. ومكنت للديمقراطية، وحطمت التسلسلات الهرمية والتمايزات الاجتماعية، وحولت الرعايا إلى مواطنين. وبالنسبة إلى عدد من الناس خلال الوقت الحاضر تشكل القومية العدسة التي يكتسب الماضي من خلالها معناه، فهي تشكل الثقافة واللغة، ويمكن أن تعمل كمنافس قوي للدين، أو كنوع من العقيدة العلمانية التي تستدعي التضحية وتكرس الموت. وهي تحول المساحات المادية والآثار إلى أرض مقدسة. وقد يفكر الناس أحياناً خارج الدولة القومية، ولكن من الصعب عليهم أن يعيشوا خارجها فهي تنظم وجودهم اليومي. يعن لنا أن نتساءل بداية "هل القوميات تتشابه؟". بحسب ستورم، فإن القوميين المتفائلين يقطعون بأن كل أمة فريدة، من ثم تستحق دولة خاصة بها، فأولئك الذين ناضلوا من أجل الاستقلال لم يطمحوا إلا للأفضل لمواطنيهم، لذلك يجب اعتبارهم أبطالاً وطنيين. وبالتحليل العميق لظهور الدولة القومية الجديدة يظهر أن الخطاب القومي في مختلف أنحاء العالم كان متشابهاً بصورة ملحوظة، وأن الادعاءات القومية غالباً ما كان مبالغاً فيها، وأن معظم الدول المحتملة لم تحصل على دولتها الخاصة، لذا فبدلاً من دراسة القادة القوميين وخطابهم من الأجدى بكثير النظر إلى ما حدث فعلياً على أرض الواقع. والثابت أنه من خلال هذا المنظور يتضح أن معظم الدول القومية الجديدة نشأت نتيجة أزمة جيوسياسية كبرى مثل عصر الثورة أو الحرب العالمية الأولى، في حين أن عدداً قليلاً جداً منها كان متجانساً عرقياً. ويتساءل المراقبون السياسيون حول العالم، تُرى هل كان نعي القوميات الذي تزامن مع اشتداد عود العولمة أمراً متسرعاً، وبدا كأنه لا بد من أحداث بعينها تعيد الجميع إلى دائرة الصراع بين الليبراليات والقوميات؟ القومية أيديولوجية عصرنا يمكن القطع بأن الأزمة المالية العالمية التي جرت بين عامي 2008 و2009 داخل الولايات المتحدة الأميركية جراء إفلاس عدد من بنوك أميركا المهمة، أدت إلى قرع جرس إنذار قومي حول العالم دعا لليقظة من أخطاء الغير وتبعاتها على الأبرياء، لا سيما بعد أن طاولت الأزمة المالية كثراً شرقاً وغرباً. أعقب الأزمة المالية عدد من الصدمات، منها صعود عدد من الأنظمة الفردية المعادية للديمقراطية والتي رآها الغرب استبدادية، ثم جاء انتخاب الرئيس ترمب في الولايات المتحدة عطفاً على المكاسب الهائلة التي حققها اليمين المتطرف في أوروبا، وكل هذا كان بمثابة التذكير بالقوة الراسخة للقومية. وفي أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، كتب رئيس وزراء بريطانيا السابق غوردن براون عبر الـ"غارديان" يقول "إن القومية حلت محل الليبرالية الجديدة كأيديولوجية مهيمنة في هذا العصر، وإذا كان الاقتصاد على مدى الـ30 عاماً الماضية هو الذي قاد عملية صنع القرار السياسي، فإن السياسة الآن هي التي تحدد القرارات الاقتصادية، إذ تقوم دولة تلو الأخرى بتسليح سياساتها التجارية والتكنولوجية والصناعية، والمنافسة". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وفي حاضرات أيامنا تُستبدل منافسات محصلتها صفر "أنا رابح... أنت خاسر" باقتصادات الربح المتبادل للتجارة ذات المنفعة المتبادلة، إذ تهدد حركات مثل "أميركا أولاً"، و"الصين أولاً"، و"الهند أولاً"، و"روسيا أولاً"، وصولاً إلى مفهوم "قبيلتي أولاً"، بالانحدار إلى جيوسياسية "نحن ضدهم"، و"بلدي أولاً وفقط". ومع قيام مؤسسات الأمن القومي الآن بتجميد احتياطات البنوك المركزية للأنظمة المعادية والحد من الوصول إلى أنظمة الدفع العالمية، من المقرر أن تشتد حروب التجارة والتكنولوجيا ورأس المال. ولعل السمة المميزة اليوم للقوميات أن قوتها لم تعد تكمن في جاذبيتها الأيديولوجية فحسب، بل في وجودها داخل كل مكان، فلا يوجد نشاط ثقافي تقريباً لا يُنظم في الأقل إلى حد ما على أسس وطنية. دعونا ننظر إلى الفن والأدب والموسيقى، وحتى المطبخ والملابس وتوحيد اللغات وجميع الآثار وتنظيم المتاحف. بل إنه كثيراً ما تغذي الروايات والأفلام الشعبية تيار القوميات المختلفة. وربما يتعين علينا أن نتذكر المسابقات الرياضية مثل كأس العالم لكرة القدم والألعاب الأولمبية، فضمنها جميعاً تكاد تبدو ملامح القومية جزءاً مبهراً من المشجعين عبر الأعلام والهتافات، وقد يصل الأمر إلى المشاحنات، وكثيراً ما وقع القتلى بالفعل ضحايا للتزاحم والتضاد القومي، مما يجعل من القومية مسألة واقعية أكثر منها تنظيراً سياسياً. هل اكتسبت القومية واقعاً اجتماعياً شاملاً خلال العقود الأخيرة؟ غالب الظن أن هذا حدث بالفعل، مما جعل قوة القوميات الدائمة لا تكمن فقط داخل صورها المؤسسية، بل وأيضاً في جاذبيتها النفسية. فهي تقدم نوعاً من التبرير الإلهي وتفسيراً للشر والبؤس. وكثيراً ما تستنتج المجتمعات أن نضالاتها الجماعية تنشأ من حقيقة مفادها أنها ليست قومية بالقدر الكافي، أو أن بعض الناس في صفوفها خذلوا الأمة. ذات يوم حذر فيلسوف ورئيس الهند في نهاية المطاف سارفيبالي رادها كريشان من أخطار القومية، وقال في محاضرة ألقاها داخل جامعة "أكسفورد" عام 1936 "أصبحت الأمم رموزاً غامضة تلجأ إلى القوميات لحمايتها مثل المتوحشين الذين يعبدون الأوثان". هل يمكن تفكيك هذه الرؤية النظرية الفلسفية عبر وقائع محددة من أميركا غرباً، مروراً بأوروبا في المنتصف ووصولاً إلى آسيا في أقصى الشرق؟ ترمب والعودة الأميركية لتكن البداية من الولايات المتحدة الأميركية، وبخاصة في ظل رفع شعار "أميركا أولاً" الذي رفعه الرئيس ترمب في ولايته الأولى (2017-2021)، وصولاً إلى التجليات الكبرى في ولايته التي بدأت أخيراً. ويعد مايكل كيماج، مدير معهد "كينان" التابع لمركز "ويلسون" ومؤلف كتاب "التخلي عن الغرب... تاريخ فكرة في السياسة الخارجية الأميركية"، أن اللحظة التي انبلجت فيها القومية الأميركية بقوة جرت عام 2016 حين فاز ترمب برئاسته الأولى، ورفع شعارات تجسد روح الشعبوية والقومية المناهضة للعولمة التي كانت تتسرب داخل الغرب وخارجه، حتى مع ترسيخ النظام الدولي الليبرالي بقيادة أميركا ونموه. وفي مقاله المطول المنشور في مجلة "فورين آفيرز" الأميركية ذائعة الصيت، عدد فبراير (شباط) الماضي، يقطع كيماج بأن ترمب لم يكن يركب موجة عالمية فحسب، فلقد استمد رؤيته لدور الولايات المتحدة في العالم من مصادر أميركية على وجه التحديد، وإن كان أقل في توجهاته من حركة "أميركا أولاً" الأصلية التي بلغت ذروتها خلال ثلاثينيات القرن الـ20، وأكثر من معاداة الشيوعية اليمينية في الخمسينيات. لفترة من الوقت، بدا أن خسارة ترمب أمام جو بايدن في السباق الرئاسي عام 2020 تشير إلى استعادة الوضع السابق. وكانت الولايات المتحدة تعيد اكتشاف موقفها بعد الحرب الباردة، وهي على استعداد لدعم النظام الليبرالي ووقف المد الشعبوي. لكن في أعقاب عودة ترمب غير العادية يبدو الآن أن بايدن وليس ترمب، كان يمثل تحويله. الآن يضع ترمب ومنصات العظمة الوطنية المماثلة الأجندة العالمية. إنهم رجال أقوياء من الطراز الأول لا يضعون كثيراً من الثقة في الأنظمة القائمة على القواعد أو التحالفات أو المنتديات المتعددة الجنسيات. إنهم يحتضنون المجد الماضي والمستقبلي للدول التي يحكمونها، ويؤكدون تفويضاً شبه صوفي لحكمهم. وعلى رغم أن برامجهم يمكن أن تنطوي على تغيير جذري، فإن استراتيجياتهم السياسية تعتمد على سلالات من المحافظة، وتجذب النخب الليبرالية والحضرية والعالمية إلى الدوائر الانتخابية التي تحركها الرغبة في التقاليد والرغبة في الانتماء، أي باختصار غير مخل، العودة إلى أحضان القومية الأميركية مرة جديدة. هل ترمب وعصر القومية الجديدة مزيج خطر على أميركا والعالم؟ يبدو أن هذا ما خلص إليه كل من المحاضر الأول في العلاقات الدولية بجامعة "فيكتوريا" في ويلينغتون فان جاكسون، والمدير المشارك في برنامج "برادي جونسون" في الاستراتيجية والمحاضر في التاريخ بجامعة "ييل" مايكل برينس، وهما مؤلفا كتاب "خطر التنافس... كيف يهدد التنافس بين القوى العظمى السلام ويضعف الديمقراطية". يرى جاكسون وبرينس أن عصر القومية هو عصر عقابي بالنسبة إلى الدول ذات الدخل المنخفض، لأنه يحد من الفرص المتاحة للولايات المتحدة لإقامة علاقات حسن النية والولاء مع الدول الأفريقية والآسيوية، وحتى قبل توليه منصبه استهدف ترمب في محاولة لتعزيز تفوق الدولار دول مجموعة "بريكس" (التي تشكل 40 في المئة من سكان العالم) برسوم جمركية على العملات. وتتعهد مثل هذه الإجراءات بقطع الولايات المتحدة عن سلاسل التوريد العالمية مع زيادة كلفة الاستهلاك بالنسبة إلى المستهلك الأميركي. وعوضاً عن مد جذور التحالفات، ها هي واشنطن تقوض كثيراً من تحالفاتها مع المؤسسات الدولية. هل يعني ذلك أن القومية الأميركية هي المكافئ الموضوعي للانعزالية؟ وهل أوروبا منبتة الصلة عن التيارات القومية السياسية؟ القومية الأوروبية وصعود اليمين المؤكد بالمطلق أن مثل تلك التيارات السياسية وُلدت في رحم الحواضن الأوروبية منذ القرون الوسطى، وكانت الأفكار القومية فيها دافعاً لحروب وثورات استمرت مئات الأعوام وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، والتي كان دافعَها الرئيس تيار فكري قومي متطرف تمثل في النازية. ولعل الذين لديهم علم من كتب التاريخ الأوروبي يدركون تمام الإدراك الارتباط العميق بين صعود التيارات الوطنية ذات المسحة القومية وأوقات الأزمات، سواء كانت أزمات اقتصادية أم سياسية، وغالباً عسكرية. واليوم تتكالب جميع هذه العناصر على أوروبا، وعليه يضحى من الطبيعي أن تستيقظ التيارات القومية وبصورة غير مسبوقة في تاريخ أوروبا منذ نهاية الحرب الكونية الثانية. هل من ظاهرة بعينها تعكس مدى قوة تيارات القومية الآتية من قلب أوروبا في مواجهة مؤسساتها وحكوماتها؟ بالقطع تبقى ظاهرة الرفض لفكرة الاتحاد الأوروبي والتحلل من هذا الرباط غير المقدس أخطر إشارة تمثل رغبة كل شعب أوروبي في العودة إلى داخل حدوده، ومن غير وحدة عضوية مع غيره. إن معارضي الاتحاد الأوروبي موجودون في السلطة داخل بودابست وبراتيسلافا وقريباً أيضاً في فيينا، ومن قبل انسحبت بريطانيا مما يؤدي إلى تقسيم أوروبا، الذي من شأنه في نهاية المطاف أن يعود بالنفع على دولة واحدة بعينها يراها الليبراليون الأوروبيون المستفيد الوحيد، أي روسيا. وخلال الأسبوع الأول من يناير (كانون الثاني) الماضي، كلف هربرت كيكل الفائز في الانتخابات النمسوية الخريف الماضي، بشعارات مناهضة للاتحاد الأوروبي، بتشكيل حكومة جديدة، وباءت محاولات منع حزب الحرية النمسوي القومي اليميني المتطرف من تولي السلطة بالفشل، ولم يتمكن الخاسران في الانتخابات، حزب الشعب النمسوي المحافظ والحزب الاشتراكي النمسوي، من الاتفاق على ائتلاف مع حزب ليبرالي. وتالياً سيفوز حزب البديل من أجل ألمانيا بنحو 20 في المئة من مقاعد الـ"بوندستاغ"، وربما في أقرب انتخابات برلمانية سيحصد الأكثرية، مما يعني أن قيادة ألمانيا الدولة ذات الوزن الاستراتيجي ستؤول إليه. وبالنظر إلى دولة مثل المجر ورئيس وزرائها فيكتور أوروبان الصديق الأقرب والحليف الأكبر للولايات المتحدة وللرئيس ترمب شخصياً، يمكن القطع بأن عالماً آخر موازياً للقومية الأميركية الترمبية يولد وبجدارة في الداخل الأوروبي اليوم. ولعل من المثير أن القومية الأوروبية تجد اليوم دعماً ظاهراً من تيار الأوليغارشية التقنية الأميركي بقيادة الفتى المعجز إيلون ماسك، وبدعم سياسي واضح وربما فاضح من نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، الذي دعم بلقائه على هامش مؤتمر "ميونيخ" الأخير زعيم حزب البديل من أجل ألمانيا، مما وجد رفضاً مؤكداً من المستشار الألماني وقتئذ أولاف شولتز. هل ستؤدي القوميات إلى تآكل أوروبا؟ قد يتشكل تكتل من الدول التي ترغب في الدفاع عن سيادتها بنشاط في شمال شرقي أوروبا. ستقود هذا التحالف بولندا، وربما المملكة المتحدة، مع انضمام دول البلطيق والدول الاسكندنافية أيضاً، وفي الوقت نفسه قد تطرح علاقات ألمانيا بالغرب للنقاش خلال الأعوام المقبلة، مما يعني أن القوميات قد تكون بالفعل "كعب أخيل" داخل الاتحاد الأوروبي. إمبراطورية الهان والقومية الصينية بعد نحو خمسة عقود من محاولات جديدة وجريئة من جانب الصين للانفتاح على العالم، ها هي المخاوف تتزايد من انغلاق الصين على نفسها وسط حملات القمع والنزعة القومية المتزايدة، من القوانين الجديدة المتعلقة بالتجسس والأمن العام، إلى انخفاض عدد الأفلام الأجنبية والنقاشات حول الملابس، فهل بدأت الصين رحلة الابتعاد ومن ثمَّ الانفصال عن العالم؟ الجواب يستدعي قراءة مفصلة كبرى بحجم الصين وتاريخها، لكن لا بأس من نظرة معمقة في سطور معدودات. هنا يبدو جلياً وفي ظل المشهد الاجتماعي والسياسي المعقد داخل الصين، نمو وتزايد حضور فصيل "هان الإمبراطوري" بنهضته الملحوظة. وهذه المشاعر القومية العرقية المتطرفة لدى الهان التي كانت خلال السابق هامشية تؤثر الآن في اعتبارات السياسة الداخلية والخارجية. من هم شعب الهان؟ إنهم أكبر جماعة عرقية في الصين، ويمثلون أكثر من 90 في المئة من سكان البلاد. وينبع شعور الهان الإمبراطوري من وعي تاريخي سادت فيه عرقية الهان، ويرمز إلى الدور المحوري للسلالات ذات الغالبية (الهان) مثل تانغ ومينغ في توسيع وتشكيل الحضارة الصينية، إلا أن السلالات غير الهان وبخاصة يوان بقيادة المغول وتشينغ بقيادة الماتشو، تعقد الهوية العرقية الوطنية للصين. ويعد عصر تشينغ (1644-1911) الذي غالباً ما يعده قوميو الهان حكماً استعمارياً مثيراً للجدل، خصوصاً داخل فصيل الهان الإمبراطوري الذي يرفض إسهاماته في إرثه. ومع بزوغ شمس القرن الـ21 بدأت عملية إحياء لقومية الهان، مدفوعة بصعود الصين العالمي. ويستمد هذا التجدد الحديث من عظمة الصين التاريخية، جامعاً بين فخرها الحديث ومجدها العريق. وبعد عام 2008 ومع ترسيخ الصين مكانتها كقوة عالمية اكتسب فصيل الهان الإمبراطوري زخماً، ساعياً إلى إعادة تفسير الإنجازات الحديثة في سياقها التاريخي. لقد أعادت حقبة النمو الاقتصادي والنفوذ العالمي الحالية في الصين إحياء الاهتمام بماضيها العريق، وفي طليعتها سلالة الهان الإمبراطورية. وهذه الحركة تتجاوز مجرد الحنين إلى الماضي بل تمثل مزيجاً معقداً من الفخر والهوية والطموح إلى الاعتراف العالمي، وهكذا ترمز سلالة الهان الإمبراطورية إلى رغبة غالب الصينيين الهان في استعادة أهميتهم التاريخية والمعاصرة. واليوم تؤثر هذه الحركة بصورة كبيرة على خطاب بكين وسياساتها. هل تذكرنا هذه الحقائق بالتحذيرات التي صدرت قبل عقود من عالم الصينيات والمؤرخ البريطاني الكبير جوزيف نيدهام، عن خطورة تصاعد القومية الصينية ونظرتها لبقية العالم؟ تبدو قراءة الصراع القومي الصيني في الداخل عاملاً دافعاً في طريق الحكم على رؤى الصينيين بالنسبة إلى الخارج حال اعتلاء بكين للقطبية العالمية، وهل سيستدعي ذلك صراعات وجودية بالفعل؟ قد يكون هذا ما يدركه القوميون الأميركيون الذين يضعون الصين على قمة الدول التي تمثل أخطاراً وجودية على الحضور الأميركي العالمي، كما جاء في التقرير الاستخباري الأخير. على أنه وإن كان على الأميركيين أن يقلقوا من تصاعد القومية الصينية، على رغم البعد الجغرافي من أميركا، فكيف تكون الحال بالنسبة إلى الدول الآسيوية القريبة من الصين، لا سيما اليابان التي لها جذور خلافات عقدية وأيديولوجية ممتدة لعقود وربما لقرون طويلة مع الصين؟ الأمر نفسه ينسحب على روسيا التي تبدو اليوم في تحالف ظاهري مع الصين، لكن القاصي والداني وكل من له علاقة بالسياسة الدولية يدرك تمام الإدراك أن الطبقات الحضارية للبلدين لا تمتزج أبداً. قومية في زمن شينزو آبي يبدو التاريخ الياباني الضارب بجذوره في التاريخ مثله مثل التاريخ الصيني مليئاً بالمحطات القومية، وطالما عُرف إمبراطور اليابان بكونه إلهاً بأكثر من كونه إنساناً وابناً للشمس وليس نسلاً آدمياً فحسب. بلغت اليابان شأناً عالياً في زمن الحرب العالمية الثانية، وربما لو لم تكن الترسانة العسكرية الأميركية عرفت طريقها إلى القنبلة النووية لما كانت اليابان استسلمت في نهاية الحرب. كرست اليابان هزيمتها العسكرية لتحولها إلى نصر اقتصادي مبين، مما جعل منها بالفعل الضلع الثالث من أضلاع الرأسمالية العالمية. غير أن الهواجس القومية لم تغادر العقلية اليابانية، ومع اعتلاء إمبراطور جديد العرش داخل البلاد عمل رئيس الوزراء الياباني العنيد شينزو آبي، قبل أن يلقى مصرعه، جاهداً من أجل تكريس مشروعه القومي المتشدد إلى حد التطرف، والعهدة على الدوائر الآسيوية القريبة جغرافياً، ذلك المعروف باسم "اليابان الجميلة". حين استسلمت اليابان للولايات المتحدة بعد هزيمة دول المحور، تخلت عن مساحة شاسعة من البلاد للجيش الأميركي، وكان أكبر استسلام في محافظة أوكيناوا، حيث تغطي اليوم القواعد العسكرية الأميركية أكثر من 15 في المئة من مساحة الجزيرة الرئيسة. واليوم تعلو الأصوات بضرورة انسحاب القوات الأميركية، وقاوم السكان المحليون الوجود الأجنبي بشدة، سواء عبر صناديق الاقتراع أو خلال التظاهرات الحاشدة. تبدو المسيرة القومية اليابانية طويلة وممتدة، لا سيما أن هناك في أنحاء اليابان نحو 24 قاعدة عسكرية أميركية ونحو 50 ألف جندي أميركي، إلى جانب الأسطول السابع للبحرية الأميركية وهو الأكبر لها في الخارج. وتتحمل اليابان أيضاً كلفة هذا، إذ تدفع ثلاثة أرباع كلفة توسيع الولايات المتحدة لوجودها العسكري في عمق آسيا. عمل شينزو آبي طويلاً على تعديل المادة التاسعة من الدستور الياباني، تلك التي رسخها الأميركيون وتقضي بعدم تشكيل جيش ياباني كأمر محظور على البلاد بعد هزيمتها. وعلى رغم أن "قوات الدفاع الذاتي" اليابانية تشكل ثامن أكبر جيش في العالم، فإن الفارق بين الجيش بحكم الواقع والجيش بحكم القانون يثير قلق مستعمرات اليابان السابقة، لا سيما في الصين وكوريا. وفي المقابل يؤيد الأميركيون التغيير تأييداً كاملاً، لا سيما أنهم عملوا لأعوام لضمان "توافق" القوات اليابانية مع نظيراتها الأميركية، وبالنسبة إلى واشنطن تعد اليابان المسلحة جيداً أقل كلفة وأكثر ملاءمة، لا سيما مع توسع بكين في المحيط الهادئ. هل أحلام وطموحات اليابان القومية تتوقف عند حدود العسكرة التقليدية فحسب؟ المعروف بداية أن المصانع المدنية اليابانية، يمكن وخلال أقل من ستة أشهر أن تتحول إلى مصانع عسكرية، وهو الأمر عينه الذي ينسحب على ألمانيا. غير أنه وفي حال اليابان، هناك اليوم إرهاصات تدور حول نشر أسلحة نووية على الأراضي اليابانية، والسؤال المثير هو هل ستكون أسلحة نووية أميركية كما هي الحال في عدد من الدول الأوروبية؟ أم أن اليابانيين تعلموا الدرس، وفي سعيهم إلى الاستقلال التام والقومية الكاملة سيجتهدون في تعظيم جهودهم لحيازة سلاح نووي ياباني، يكون المكافئ الموضوعي الذي يردع طموحات الصين وروسيا في مزيد من الأراضي أو الجزر اليابانية؟ تبدو الأعوام الأربع المقبلة مثيرة على صعيد ترسيخ الفكر القومي، وقد تقود حروب إقليمية أو أممية إلى مزيد من الردة عن العولمة والليبرالية... فانتبه، عجلة التاريخ ترجع إلى الخلف.


الأمناء
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- الأمناء
صور أقمار صناعية تكشف عن منشأة سرية لأسلحة نووية في إيران
كشفت صور التقطتها الأقمار الصناعية، وجود منشأة نووية سرية بمساحة 2500 فدان في إيران، وفق ما أفادت شبكة "فوكس نيوز" الأميركية. ويقع الموقع المكتشف حديثا في محافظة سمنان الإيرانية، بعيدا عن المنشآت النووية المعروفة في البلاد. ووفقا للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، تشير المعلومات الاستخباراتية المجمعة من مصادر داخل البلاد إلى وجود مجمع شاسع يمتد على مساحة تقارب 2500 فدان. كما أن الغرض الرئيسي من الموقع هو استخراج التريتيوم، وهو نظير مشع يُستخدم لزيادة القوة التدميرية للأسلحة النووية. وعلى عكس اليورانيوم الذي يمكن استخدامه في الأغراض المدنية، فإن التريتيوم يكاد يكون معدوم الاستخدامات السلمية أو التجارية. والموقع الذي تعرفه السلطات الإيرانية باسم "رينبو" (أي قوس قزح)، يعمل تحت غطاء شركة الكيماويات "ديبا إينرجي سيبا"، ويعمل منذ أكثر من عقد من الزمان. وبحسب القناة الأميركية فإن اكتشاف هذا الموقع قد يزيد من تعقيد الدبلوماسية الحساسة المحيطة بالقدرات النووية الإيرانية، وإمكانية إحياء اتفاق جديد، وذلك مع إعلان المسؤولين في طهران وواشنطن عن نيتهمم عقد جولة رابعة من المحادثات.