عن الفصام بين الكنائس والمجتمع
تبدو الكنائس اليوم في منطقتنا في حال من الفصام عن الواقع، وعمّا يعتمل في المجتمع من ديناميّات وتبدّلات. منذ ستّينات القرن الماضي، من الصعب العثور على حقبة من الزمن شهدت الكنائس إبّانها هذا المقدار من التغرّب عمّا هو "خارجها". تسقط العروش، تتبدّل الأنظمة السياسيّة، تتعرّض شرائح واسعة من البشر لمذبحة تلو أخرى، تنزاح عشرات المفاهيم في العمارات الفكريّة والأنظومات القيميّة وطرائق العيش.. والكنائس تحملق في هذا كلّه كأنّ ما يحدث يحدث في مجرّة أخرى. وإذا تفاعل بعض قادتها على نحو ذي شأن، فإنّ هذا التفاعل غالباً ما يظلّ فرديّاً، لا ينمّ عن أيّ ديناميّة جماعيّة أو أيّ جهد جماعيّ للتفكير من خارج الصندوق.
ربّما يكون التوصيف الأكثر انسحاباً على واقع الكنائس في الراهن أنّها تحوّلت إلى مجتمعات مغلقة وباتت تعي ذاتها على أنّها كذلك. تتّصف هذه المجتمعات بأنّ مَن يقبض على ناصية القيادة فيها كثيراً ما يكون مصاباً بآفة عدم الوعي أو عدم الخبرة. من السهل، مثلاً، أن تجد قادةً كنسيّين يلمّون بالإشكاليّات اللاهوتيّة ومعارج اللغة التي تعبّر عنها. لكن من الصعب جدّاً أن تعثر بينهم على مّن يمتلك معرفةً عميقةً بالعلوم الاجتماعيّة والسياسيّة والعلوم الإنسانيّة على وجه العموم، وهي وحدها قادرة على مدّنا بفهم متوازن وغير تسطيحيّ لأبجديّة الحراك المجتمعيّ وديناميّاته. وإذا توافرت هذه المعرفة لدى بعضهم (وهذا غير حاصل إلّا في أحوال نادرة)، فإنّ هذا يكاد يخلو من أيّ انعكاس على النزعة إلى تفسير تمخّضات المجتمع باللاهوتيّ، عوضاً عن الاستعانة بالكمّ المعرفيّ الهائل الذي تقدّمه العلوم السياسيّة والمجتمعيّة والنفسيّة، ما يفضي في غالبيّة الأحيان إلى محاولات لفهم المعطى المجتمعيّ المعقّد عبر تأويلات مختزلة ذات طابع غيبيّ.
لكنّ الطامة الكبرى تكمن في أنّ الكنائس تفهم ذاتها بوصفها مجتمعات مغلقة. إذ غالباً ما تحسب أنّها دوائر مقفلة قادرة على أن تكون في منأًى عمّا يدور حولها في العالم الخارجيّ. ليس من العسير إلقاء الضوء على الالتباس الذي يعتري هذا الفهم. فالكنائس، في نهاية المطاف، تتألّف من بشر. وهؤلاء جزء لا يتجزّأ من المجتمع. بيد أنّ العقليّة المهيمنة كثيراً ما تتجاهل هذا المعطى زاعمةً أنّ الكنائس مؤسّسات قائمة في ذاتها، وأنّها قادرة على إعادة إنتاج ذاتها، أو استنساخ ذاتها، من دون الحاجة إلى الانخراط الكثيف في ما يصطخب في المجتمع من انزياحات. في العادة، يجري تدعيم هذا الشرخ بنظريّة لاهوتيّة تذهب إلى وجود فوارق كينونيّة، أو شبه كينونيّة، بين الإكليروس والبشر الذين لا ينتمون إلى طغمة الكهنوت. هذا كلّه يرسّخ الشعور بأنّ الكنائس مجتمعات قائمة في ذاتها، وقادرة على أن تستمرّ في الحياة على نحو شبه منفصل عن أيّ شيء آخر. واللافت أنّ هذا الشعور يجعل من الكنائس تربةً خصبةً لظواهر عدم المحاسبة وتكثّف الحالات المرضيّة أو شبه المرضيّة، كالتحرَش الجنسيّ والعنف ضدّ النساء، فضلاً عن الفساد الماليّ والأنا المتورّم والسعي الحثيث إلى احتكار السلطة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

مصرس
منذ 6 أيام
- مصرس
الكنائس الأرثوذكسية الشرقية تجدد التزامها بوحدة الإيمان والسلام في الشرق الأوسط من القاهرة
صدر مساء أمس الأحد بيان مشترك في ختام الاجتماع الخامس عشر لرؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في الشرق الأوسط، والذي عُقد برئاسة قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وذلك على مدار يومي 17 و18 مايو 2025، في بطريركية الأقباط الأرثوذكس (المقر البابوي – الكاتدرائية المرقسية بالعباسية). وجدد قادة الكنائس التزامهم بوحدة الكنيسة ودورها في تعزيز السلام والعدالة في منطقة الشرق الأوسط، مؤكدين على أهمية الحضور المسيحي الأصيل في هذه المنطقة التاريخية.احتفال بمرور 1700 عام على المجمع المسكوني الأولشهد اللقاء الكنسي التاريخي احتفالات باليوبيل المئوي السابع عشر لانعقاد المجمع المسكوني الأول في نيقية عام 325م، بحضور المطارنة والأساقفة وممثلي المجامع المقدسة للكنائس الثلاث: القبطية، السريانية، والأرمنية الأرثوذكسية.وتضمنت المناسبة ليتورجيا إلهية مشتركة، واحتفالات بالألحان الروحية، حيث أكد المشاركون على التمسك بوحدة الإيمان الأرثوذكسي المستند إلى الكتاب المقدس وتعاليم المجامع المسكونية الأولى وآباء الكنيسة.الشرق الأوسط أولويّة: نرفض الهجرة وندعم السلام الشاملناقش المجتمعون التحديات التي تواجه الحضور المسيحي في الشرق الأوسط، معبرين عن قلقهم من موجات الهجرة المستمرة، ومؤكدين عزمهم على البقاء والرسوخ في أرض الآباء رغم التوترات والصراعات.ووجه البيان إدانة واضحة للاعتداءات في غزة، داعيًا إلى وقف فوري للعدوان وبدء مفاوضات حقيقية لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، معتبرًا أن العدالة هي الطريق الوحيد للسلام.كما ثمّن القادة الاستقرار في مصر، معربين عن أملهم في أن تشهد لبنان وسوريا مرحلة جديدة من السلام والتنمية.الحوار مع الكنائس الأخرى: خطوات نحو الوحدةجاء في البيان إشادة بالتقدم المحرز في الحوار اللاهوتي مع الكنيسة الكاثوليكية والعائلة الأرثوذكسية البيزنطية، ودعم الجهود الرامية إلى استعادة الوحدة الأرثوذكسية.كما أوصى القادة بدعم اللجنة الدولية الأنجليكانية - الأرثوذكسية الشرقية وضرورة إدراج قضايا اجتماعية وأخلاقية راهنة في جدول أعمالها.دور فعّال في المجالس المسكونيةأكدت الكنائس استمرار التزامها بالحركة المسكونية، مشيدة بدور مجلس الكنائس العالمي، الذي يرأسه حاليًا الكاثوليكوس آرام الأول، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي يرأسه الأنبا أنطونيوس ممثلًا للعائلة الأرثوذكسية الشرقية.كما أعلن البيان عن استضافة الكنيسة القبطية لاحتفالية كبرى في أكتوبر 2025 بمناسبة مرور 1700 عام على مجمع نيقية، وذلك في مركز لوجوس البابوي بدير الأنبا بيشوي.دعم للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الهندعبرت الكنيستان القبطية والأرمنية عن دعمهما الكامل للمجمع المقدس العام للكنيسة السريانية الأرثوذكسية ورفضهما المشاركة في أي فعاليات يحضرها ممثلو الفصيل المنشق، مع تأكيد استعدادهما لاستضافة لقاء مصالحة بالقاهرة لإعادة وحدة الكنيسة في الهند. دعوة لتفعيل التعاون المحلي والرعويأوصى القادة بتعزيز التعاون بين أبرشيات الكنائس الأرثوذكسية من خلال لجان مشتركة وبرامج رعوية، وتشجيع تبادل الخبرات بين الإكليروس والعلمانيين، خاصة في مجالي الشباب والمعاهد اللاهوتية. تجديد للعهد ومسؤولية مشتركةفي ختام البيان، دعا رؤساء الكنائس جميع المؤمنين إلى التمسك بتعاليم الإنجيل والعمل معًا لمجابهة التحديات الأخلاقية والاجتماعية، مقدمين الشكر للكنيسة القبطية على استضافة هذا الاجتماع التاريخي في القاهرة.IMG_2877 IMG_2876


البوابة
منذ 6 أيام
- البوابة
الكنائس الأرثوذكسية الشرقية تجدد التزامها بوحدة الإيمان والسلام في الشرق الأوسط من القاهرة
صدر مساء أمس الأحد بيان مشترك في ختام الاجتماع الخامس عشر لرؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في الشرق الأوسط، والذي عُقد برئاسة قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وذلك على مدار يومي 17 و18 مايو 2025، في بطريركية الأقباط الأرثوذكس (المقر البابوي – الكاتدرائية المرقسية بالعباسية). وجدد قادة الكنائس التزامهم بوحدة الكنيسة ودورها في تعزيز السلام والعدالة في منطقة الشرق الأوسط، مؤكدين على أهمية الحضور المسيحي الأصيل في هذه المنطقة التاريخية. احتفال بمرور 1700 عام على المجمع المسكوني الأول شهد اللقاء الكنسي التاريخي احتفالات باليوبيل المئوي السابع عشر لانعقاد المجمع المسكوني الأول في نيقية عام 325م، بحضور المطارنة والأساقفة وممثلي المجامع المقدسة للكنائس الثلاث: القبطية، السريانية، والأرمنية الأرثوذكسية. وتضمنت المناسبة ليتورجيا إلهية مشتركة، واحتفالات بالألحان الروحية، حيث أكد المشاركون على التمسك بوحدة الإيمان الأرثوذكسي المستند إلى الكتاب المقدس وتعاليم المجامع المسكونية الأولى وآباء الكنيسة. الشرق الأوسط أولويّة: نرفض الهجرة وندعم السلام الشامل ناقش المجتمعون التحديات التي تواجه الحضور المسيحي في الشرق الأوسط، معبرين عن قلقهم من موجات الهجرة المستمرة، ومؤكدين عزمهم على البقاء والرسوخ في أرض الآباء رغم التوترات والصراعات. ووجه البيان إدانة واضحة للاعتداءات في غزة، داعيًا إلى وقف فوري للعدوان وبدء مفاوضات حقيقية لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، معتبرًا أن العدالة هي الطريق الوحيد للسلام. كما ثمّن القادة الاستقرار في مصر، معربين عن أملهم في أن تشهد لبنان وسوريا مرحلة جديدة من السلام والتنمية. الحوار مع الكنائس الأخرى: خطوات نحو الوحدة جاء في البيان إشادة بالتقدم المحرز في الحوار اللاهوتي مع الكنيسة الكاثوليكية والعائلة الأرثوذكسية البيزنطية، ودعم الجهود الرامية إلى استعادة الوحدة الأرثوذكسية. كما أوصى القادة بدعم اللجنة الدولية الأنجليكانية - الأرثوذكسية الشرقية وضرورة إدراج قضايا اجتماعية وأخلاقية راهنة في جدول أعمالها. دور فعّال في المجالس المسكونية أكدت الكنائس استمرار التزامها بالحركة المسكونية، مشيدة بدور مجلس الكنائس العالمي، الذي يرأسه حاليًا الكاثوليكوس آرام الأول، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي يرأسه الأنبا أنطونيوس ممثلًا للعائلة الأرثوذكسية الشرقية. كما أعلن البيان عن استضافة الكنيسة القبطية لاحتفالية كبرى في أكتوبر 2025 بمناسبة مرور 1700 عام على مجمع نيقية، وذلك في مركز لوجوس البابوي بدير الأنبا بيشوي. دعم للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في الهند عبرت الكنيستان القبطية والأرمنية عن دعمهما الكامل للمجمع المقدس العام للكنيسة السريانية الأرثوذكسية ورفضهما المشاركة في أي فعاليات يحضرها ممثلو الفصيل المنشق، مع تأكيد استعدادهما لاستضافة لقاء مصالحة بالقاهرة لإعادة وحدة الكنيسة في الهند. دعوة لتفعيل التعاون المحلي والرعوي أوصى القادة بتعزيز التعاون بين أبرشيات الكنائس الأرثوذكسية من خلال لجان مشتركة وبرامج رعوية، وتشجيع تبادل الخبرات بين الإكليروس والعلمانيين، خاصة في مجالي الشباب والمعاهد اللاهوتية. تجديد للعهد ومسؤولية مشتركة في ختام البيان، دعا رؤساء الكنائس جميع المؤمنين إلى التمسك بتعاليم الإنجيل والعمل معًا لمجابهة التحديات الأخلاقية والاجتماعية، مقدمين الشكر للكنيسة القبطية على استضافة هذا الاجتماع التاريخي في القاهرة. IMG_2877 IMG_2876

المدن
٠٤-٠٥-٢٠٢٥
- المدن
عن الفصام بين الكنائس والمجتمع
تبدو الكنائس اليوم في منطقتنا في حال من الفصام عن الواقع، وعمّا يعتمل في المجتمع من ديناميّات وتبدّلات. منذ ستّينات القرن الماضي، من الصعب العثور على حقبة من الزمن شهدت الكنائس إبّانها هذا المقدار من التغرّب عمّا هو "خارجها". تسقط العروش، تتبدّل الأنظمة السياسيّة، تتعرّض شرائح واسعة من البشر لمذبحة تلو أخرى، تنزاح عشرات المفاهيم في العمارات الفكريّة والأنظومات القيميّة وطرائق العيش.. والكنائس تحملق في هذا كلّه كأنّ ما يحدث يحدث في مجرّة أخرى. وإذا تفاعل بعض قادتها على نحو ذي شأن، فإنّ هذا التفاعل غالباً ما يظلّ فرديّاً، لا ينمّ عن أيّ ديناميّة جماعيّة أو أيّ جهد جماعيّ للتفكير من خارج الصندوق. ربّما يكون التوصيف الأكثر انسحاباً على واقع الكنائس في الراهن أنّها تحوّلت إلى مجتمعات مغلقة وباتت تعي ذاتها على أنّها كذلك. تتّصف هذه المجتمعات بأنّ مَن يقبض على ناصية القيادة فيها كثيراً ما يكون مصاباً بآفة عدم الوعي أو عدم الخبرة. من السهل، مثلاً، أن تجد قادةً كنسيّين يلمّون بالإشكاليّات اللاهوتيّة ومعارج اللغة التي تعبّر عنها. لكن من الصعب جدّاً أن تعثر بينهم على مّن يمتلك معرفةً عميقةً بالعلوم الاجتماعيّة والسياسيّة والعلوم الإنسانيّة على وجه العموم، وهي وحدها قادرة على مدّنا بفهم متوازن وغير تسطيحيّ لأبجديّة الحراك المجتمعيّ وديناميّاته. وإذا توافرت هذه المعرفة لدى بعضهم (وهذا غير حاصل إلّا في أحوال نادرة)، فإنّ هذا يكاد يخلو من أيّ انعكاس على النزعة إلى تفسير تمخّضات المجتمع باللاهوتيّ، عوضاً عن الاستعانة بالكمّ المعرفيّ الهائل الذي تقدّمه العلوم السياسيّة والمجتمعيّة والنفسيّة، ما يفضي في غالبيّة الأحيان إلى محاولات لفهم المعطى المجتمعيّ المعقّد عبر تأويلات مختزلة ذات طابع غيبيّ. لكنّ الطامة الكبرى تكمن في أنّ الكنائس تفهم ذاتها بوصفها مجتمعات مغلقة. إذ غالباً ما تحسب أنّها دوائر مقفلة قادرة على أن تكون في منأًى عمّا يدور حولها في العالم الخارجيّ. ليس من العسير إلقاء الضوء على الالتباس الذي يعتري هذا الفهم. فالكنائس، في نهاية المطاف، تتألّف من بشر. وهؤلاء جزء لا يتجزّأ من المجتمع. بيد أنّ العقليّة المهيمنة كثيراً ما تتجاهل هذا المعطى زاعمةً أنّ الكنائس مؤسّسات قائمة في ذاتها، وأنّها قادرة على إعادة إنتاج ذاتها، أو استنساخ ذاتها، من دون الحاجة إلى الانخراط الكثيف في ما يصطخب في المجتمع من انزياحات. في العادة، يجري تدعيم هذا الشرخ بنظريّة لاهوتيّة تذهب إلى وجود فوارق كينونيّة، أو شبه كينونيّة، بين الإكليروس والبشر الذين لا ينتمون إلى طغمة الكهنوت. هذا كلّه يرسّخ الشعور بأنّ الكنائس مجتمعات قائمة في ذاتها، وقادرة على أن تستمرّ في الحياة على نحو شبه منفصل عن أيّ شيء آخر. واللافت أنّ هذا الشعور يجعل من الكنائس تربةً خصبةً لظواهر عدم المحاسبة وتكثّف الحالات المرضيّة أو شبه المرضيّة، كالتحرَش الجنسيّ والعنف ضدّ النساء، فضلاً عن الفساد الماليّ والأنا المتورّم والسعي الحثيث إلى احتكار السلطة.