
الوضع العربي والتعليم للقرن الواحد والعشرين
منذ تولي ترامب الرئاسة أصدر عددا من الأوامر التنفيذية والقرارات تتعلق بالضرائب الجمركية التي أثرت على المواطن الأمريكي وعلى كثير من دول العالم، وأشعل حربا تجارية أثرت على الاسواق. غير أن الأهم في هذه القرارات المستعجلة ما يتعلق بتخفيض الدعم للأبحاث وانتاج المعرفة الاساسية في الجامعات ومراكز الأبحاث والتضييق على حرية التعبير والنشر وما يلحقه من ضرر على الحرية الفكرية التي كانت اساس التقدم العلمي الغربي، وهيمنة أمريكا على العالم جراء الإنفاق السخي على البحث والتطوير ودعم الجامعات لاستقطاب الكفاءات من حول العالم. استشعر الكثيرون في الغرب وفي أمريكا هذا الخطر، وجعلهم يحذرون من نتائجه وأثره على تخلف أمريكا عن الصدارة العلمية وقدرتها على استقطاب العقول من حول العالم. نشر الدكتور إسماعيل المدني في «أخبار الخليج» (9-5-2025) مقالا يبين أهمية الإنفاق السخي الأمريكي في تقدم أمريكا وتبوئها الريادة المعرفية والتكنولوجية التي مكنتها من الهيمنة على القرار الدولي.
وتعزيزا لهذه الخلاصة نطرح ورقة مهمة صدرت في بداية الألفية الثالثة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ( OECD ). ناقشت الورقة الدور الذي يجب أن يلعبه التعليم في تقدم دول الاتحاد الاوروبي للحاق أو مسايرة التقدم العلمي الأمريكي. تناولت هذه الورقة ما يتعرض له التعليم الأوروبي من تراجع لا يمكنه من مسايرة التقدم الأمريكي. تقول الورقة إن التعليم في أوروبا مصمم ليتناسب مع عصر الثورة الصناعية، وهو بالتالي غير مناسب لإعداد أجيال من المتعلمين متناغمين مع ما يتطلبه القرن الواحد والعشرين والثورة التكنولوجية، وتنادي الورقة بإحداث تغيرات تتناسب مع التقدم التكنولوجي والعولمة والطبيعة المتغيرة لبيئة العمل ونوعية الأعمال، وخصوصا أن الكفاءات والمهارات المطلوبة للنجاح تعرضت لتحولات مهمة ينبغي إعداد الجيل الجديد لها.
فمثلا، المهارات المطلوبة مثل التفكير النقدي، والإبداعي، والتعاون، والتواصل كلها مهارات مهمة وضرورية في انتاج المعرفة وتوظيفها في الإنتاج التكنولوجي والصناعي، وضرورية لازدهار الفرد في هذا العالم المتغير المتشابك. يمثل ذلك تحديا للتربويين لتنمية قدراتهم في تصميم مناهج تعليمية تعزز وتكرس هذه المهارات وتتجاوز التعليم التقليدي المعني بحفظ المحتوى فقط. والآن، إذا كانت الدول الغربية المتقدمة رأت أنها بحاجة الى تغيير في منظومتها التعليمية لكي تلحق بالدول المتقدمة عليها؛ فكيف بنا، في عالمنا العربي وفي ضوء ما يحدث للأمة العربية اليوم، ألسنا بحاجة أكبر إلى إعادة النظر في أنظمتنا التعليمية وما تنتجه من قدرات فكرية إبداعية تستطيع مواكبة التقدم العالمي؟
تواجه الدول العربية تحديات كبيرة في مجال العلوم والتكنولوجيا وإنتاج المعرفة وتسخيرها لخدمة أهدافها كدول وكأمة عربية وتجمعات إقليمية. على الرغم من التقدم الذي أحرزته بعض الدول في هذا المجال، إلا أن هناك حاجة ملحة إلى تعزيز الابتكار والتطوير التكنولوجي في جميع أنحاء المنطقة. إن الاستثمار في التعليم والبحث العلمي هو أول الخطوات لتحقيق هذا الهدف، حيث يمكن أن يؤدي إلى تحسين مخرجات التعليم بما يواكب متطلبات السوق والمجتمع من جودة الحياة وزيادة الفرص الاقتصادية، كما أنه كفيل بتحقيق تقدم علمي وتكنولوجي يضع الامة في صفوف الأمم المتقدمة. في هذا السياق، يجب أن تأخذ الدول العربية بعين الاعتبار، أن التعليم هو الأساس الذي ينبني عليه التقدم العلمي والتكنولوجي. يجب أن تكون هناك برامج تعليمية متقدمة تركز على العلوم والتكنولوجيا، وتوفر للطلاب الأدوات والمعرفة اللازمة للتفوق في هذه المجالات. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون هناك فرص للتدريب والتطوير المهني للمعلمين والأساتذة، حيث يمكنهم تحديث مهاراتهم ومعرفتهم بما يتماشى مع التطورات الحديثة في العلوم والتكنولوجيا. دول الخليج بما تمتلكه من ثروات قد تكون الأكثر استعدادا لهذه القفزة المعرفية وقيادة الأمة العربية نحو مستقبل أفضل.
الاستثمار في التعليم والبحث العلمي مهم للغاية غير أنه غير كافٍ. من الضروري أن تكون هناك بيئة تشجع على حرية البحث والنشر، وتقبل النتائج والعمل بها. بيئة تتيح للعلماء والباحثين تبادل الأفكار والمعلومات بحرية؛ بيئة تفتح المجال للنقاش والحوار وطرح البدائل والافكار المتباينة وتقبل الاختلافات على أنها إثراء للبيئة وليست خروجا عن الجماعة ومدعاة للإقصاء. بيئة تعتبر حرية التعبير والنشر أساس الابتكار الذي يسمح للأفراد بالتفكير خارج الصندوق وتقديم حلول جديدة للمشكلات القائمة. فمن دون حرية تعبير ونشر، سوف تتعرض الأفكار الجديدة للرقابة المؤسسية والذاتية، مما يعيق التقدم العلمي والتكنولوجي. الوسط الأكاديمي والصحافة في أمريكا والغرب يحذرون من أن تقع أمريكا في سلم التخلف بسبب تكميم الافواه خصوصا فيما يتعلق بحرب غزة وفرض رقابة على الجامعات وطرد الطلبة المؤيدين للقضية الفلسطينية وتقليل ميزانيات البحث العلمي والبعثات، يحذر من ذلك كثير من الكتاب والصحفيين والمفكرين، ويرون أن ذلك سوف يجعل أمريكا تخسر الميزة التنافسية وتفشل في جلب العقول المبتكرة التي جعلت منها قوة عظمى.
تهيئة هذه البيئة في الدول العربية بشكل عام، بحاجة ملحة إلى سياسات وقوانين تدعم حرية التعبير والنشر، وتوفير الحماية للباحثين والصحفيين الذين يعملون على نشر المعرفة، وخصوصا في العلوم الانسانية. يجب أن تكون هناك قوانين تحمي حقوق الأفراد في التعبير عن آرائهم ونشر أعمالهم العلمية والفكرية من دون خوف من الانتقام أو العقوبات. بيئة لا تعتبر الانتقاد تحريضا أو طعنا، سواء في الفكر أو في الأشخاص، وعدم تقديس الماضي لتتاح الفرصة لمراجعة الموروث وتأثيره على العقلية العربية الاسلامية، وكيفية التعافي من تأثيراته السلبية على القدرة الإبداعية وإنتاج المعرفة. كما أنه من الضروري وجود مؤسسات بحثية ممولة بشكل جيد، يتمكن من خلالها الباحثون العمل على مشاريع مبتكرة تسهم في معالجة المشكلات الحالية المعرفية والاجتماعية والفكرية والسياسية وتقديم حلول جديدة تناسب واقعنا المؤلم. كما يتطلب وجود تعاون بين المؤسسات البحثية والقطاع الخاص، يتيح للشركات الاستثمار في البحث والتطوير لتحقيق فوائد اقتصادية واجتماعية وتحولات فكرية تخرج الأمة من واقعها المؤلم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ 19 ساعات
- العربية
خبير للعربية: أساسيات السوق النفطية قوية رغم الضغوط الهبوطية
أكد فيصل الفايق، مدير دراسات الطاقة في أوبك سابقًا، أن التراجع الأخير في أسعار النفط يعكس مشاعر هبوطية أكثر من كونه نتيجة لأساسيات السوق. وقال الفايق في مقابلة مع "العربية Business": "شهدنا هبوطًا حادًا في أسعار خام برنت من 74 إلى 60 دولارًا في أبريل، مدفوعًا بعمليات بيع كبيرة للعقود الآجلة"، مشيرًا إلى أن التوقعات الاقتصادية المتشائمة، خاصة من صندوق النقد الدولي، لعبت دورًا كبيرًا. وأوضح أن "الأساسيات الفعلية للسوق لا تزال قوية"، مشيرًا إلى انخفاض المخزونات النفطية في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "OECD" إلى ما دون دون متوسط خمس سنوات، مما يعكس شحًا في الإمدادات. وأضاف: "الطلب الموسمي على الوقود خلال الصيف وارتفاع تشغيل المصافي يدعمان الأسعار"، معتبرًا أن السوق مستعدة لاستيعاب مزيد من البراميل، وأن تحالف أوبك+ كان محقًا في رفع الإنتاج رغم الضغوط الإعلامية الغربية.


بيروت نيوز
منذ يوم واحد
- بيروت نيوز
بالأرقام.. هذه الدول يمكنك كسب دخل أعلى فيها والعمل أقل
كشفت دراسة حديثة أعدّتها شركة Remitly المتخصصة في تسهيل التحويلات المالية، أن هناك 13 دولة على الأقل يمكن للمواطن البريطاني العادي أن يكسب فيها دخلًا أعلى بالساعة مقارنة بما يحققه داخل المملكة المتحدة. وبحسب التحليل، فإن العامل في هذه الدول يتمكن من بلوغ متوسط الأجر السنوي البريطاني، والبالغ نحو 45,688 جنيهًا إسترلينيًا، بـ15 أسبوعًا أقل مما يتطلبه الأمر في بريطانيا، حيث يعمل البريطانيون في المتوسط 1524 ساعة سنويًا لتحقيق هذا الدخل، بحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). تصدّرت لوكسمبورغ قائمة الدول التي يمكن فيها الوصول إلى الراتب البريطاني بأقل جهد زمني؛ إذ يكفي المواطن اللوكسمبورغي العمل 480 ساعة أقل سنويًا، أي ما يعادل 64 يوم عمل (باحتساب 7.5 ساعات عمل يوميًا). ورغم أن تكلفة المعيشة في لوكسمبورغ أعلى بنسبة 14% مقارنة بالمملكة المتحدة (وفق بيانات موقع Numbeo)، إلا أن العائد مقابل الوقت المبذول يجعلها خيارًا جذابًا للعديد من العاملين. في المرتبة التالية جاءت ألمانيا، حيث يحتاج المواطن الألماني إلى 46 يومًا عمل أقل سنويًا لكسب نفس الراتب البريطاني، مع ميزة إضافية هي أن تكلفة المعيشة أقل بنسبة 1% مقارنة ببريطانيا، مما يعزز القوة الشرائية للدخل. بلدان الشمال الأوروبي: دخل مرتفع مقابل معيشة مكلفة تُظهر الدراسة أن سكان أيسلندا، النرويج، الدنمارك، والسويد يمكنهم جميعًا تحقيق نفس الراتب البريطاني بعدد أيام عمل أقل. على سبيل المثال، يحتاج العامل الأيسلندي إلى 125 يومًا فقط، مقابل 151 يومًا في النرويج، 153 في الدنمارك، و190 في السويد. لكن يُقابل هذه الإنتاجية المرتفعة ارتفاع واضح في تكاليف المعيشة: أيسلندا: +41.5% النرويج: +21% الدنمارك: +13.6% السويد: -2.2% (وهي الدولة الوحيدة في المجموعة التي تُعد أرخص من بريطانيا) أستراليا وكندا: موازنة بين الدخل وتكاليف المعيشة تُعد أستراليا من الدول القليلة التي تُوفّر مزيجًا متوازنًا: يمكن للعامل الأسترالي العمل أقل بـ3 أسابيع من نظيره البريطاني لنيل نفس الأجر، مع تكلفة معيشة أقل بـ0.4% فقط. وتبرز كندا في قائمة الدول التي توفر دخلًا مرتفعًا نسبيًا دون فروقات كبيرة في تكاليف المعيشة مقارنة ببريطانيا. في الجهة المقابلة… العمل أكثر مقابل أقل ليس كل البلدان توفر فرصًا أفضل. ففي المكسيك، مثلًا، يتعيّن على العامل العادي أن يعمل 6211 ساعة سنويًا — أي ما يعادل أكثر من 8.5 شهر من العمل اليومي دون انقطاع — لتحقيق نفس متوسط الراتب البريطاني. ومع أن تكلفة المعيشة في المكسيك أقل بـ41.5% من المملكة المتحدة، فإن الفارق الزمني الشاسع المطلوب لتحقيق دخل مكافئ يُبرز صعوبة تعويض الفارق في الأجور.


أخبار الخليج
منذ يوم واحد
- أخبار الخليج
في هذا العصر.. ليس بالتكنولوجيا وحدها يعيش الإنسان!
الذكاء الاصطناعي من التقنيات المثيرة للجدل في الأوساط العلمية والسياسية والثقافية والتربوية؛ بسبب أن تطبيقاته دخلت في جميع مجالات الحياة. وأصبح واقعا ولا يمكن لأي مجتمع يريد أن يجاري التقدم والتطور في العالم الاستغناء عنه ويغض الطرف عن هذا الاختراع المثير للعجب الذي بات العصر الذي نعيشه اليوم ينعت باسمه. لكن مع إيماننا الراسخ، بقدرات ومميزات هذا الابتكار العجيب، ودوره الفاعل في تسهيل الكثير من أمور حياتنا، وقناعاتنا بأن تقدم الدول وتطورها يمر عبر بوابته، إلا أن ذلك لا يعفينا من النظر إلى الوجه المعتم لهذه التقنية الساحرة، والتنبيه إلى مخاطرها على مجتمعاتنا التي لا تزال تحبو على طريق التكنولوجيا، ولا داعي للتذكير بأن مجتمعاتنا العربية لا تزال تواجه تحديات عدة تعرقل تطور مسيرتها؛ فالتعليم في بلداننا العربية لا يلبي في كثير من الحالات طموحاتنا ويسير ببطء نحو تحقيق أهدافه، كما أن اتساع الفجوة العلمية بين دولنا والدول المتقدمة لا تزال عميقة وتظهر في مجالات عديدة، مثل البحث العلمي والتكنولوجيا والتعليم العالي.. وبناء على هذه الحقائق، فإن ما يقلقنا هو: إن الذكاء الاصطناعي سيعمق تلك المشكلات؛ إذ سيساعد على انخفاض الدافعية نحو التعليم لدى المواطن العربي، ويجعل لسان حاله يقول: لماذا أبذل جهدا في القراءة والتعلم ما دام «الذكاء الاصطناعي» يوفر لي كل ما أريد من معلومات وبيانات ونصوص، ويقدمها لي على طبق من ذهب. لا شك أن أصحاب هذا (التخصص) متحمسون لهذا الاختراع، ونحن لا نعترض على حماسهم، لكن من حقنا أن نذكرهم بأن: ليس بالتكنولوجيا وحدها يعيش الإنسان، كما أن الذكاء الاصطناعي ليس هو البوابة الوحيدة للدخول إلى التنمية والمستقبل. لأننا نعي جيداً أن كل الاختراعات التي صنعها الإنسان تحمل في طياتها الخير والشر، وأن الإنسان هو الذي يوجهها إلى الخير، وهو أيضاً الذي يوظفها في الشر.، ونذكر هنا أن مخترع الديناميت «ألفرد نوبل» انتابه شعور بالذنب بسبب اختراعه المدمر للبشرية، وأراد أن يكفر عن ذنبه بسبب هذا الاختراع؛ فأوصى بإنشاء جائزة نوبل للسلام لتمنح للأشخاص الذين يسهمون في نشر السلام والوئام في العالم. وعليه، فإن هذا الاختراع العظيم «الذكاء الاصطناعي» لن يختلف عن الاختراعات الأخرى فهو ليس كله خيراً، وإنما يحمل في أحشائه مكامن الشر. المشتغلون في هذا القطاع يقولون: إن المسألة تحتاج إلى تنظيم وتشريعات وقوانين تنظم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. ويرى هؤلاء أيضاً أن العالم المتقدم قد قطع شوطاً بعيداً على طريق وضع المعايير الدولية مثل: اللائحة العامة لحماية البيانات ( GDPR )، وقوانين منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ( OECD )، إضافة إلى التشريعات الوطنية مثل قانون حماية البيانات الشخصية ( PDPL ) وقوانين مكافحة الجرائم الإلكترونية. ويزعم هؤلاء أن مثل هذه التشريعات كفيلة بالحد من المخاطر الناتجة عن سوء استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: هل وضع التشريعات والقوانين يكفي للحد من مخاطر الذكاء الاصطناعي؟ الوقائع على الأرض تشير إلى أن تلك القوانين لم تحد من سوء استخدام هذه التقنية بدليل تزايد الجرائم الإلكترونية، كما أن التاريخ يعلمنا أن القوانين الدولية لم توقف الحروب في العالم، وهي أيضاً لم تمنع أمريكا من إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين وتدميرهما. إن ما نحتاج له اليوم، هو إعادة الاعتبار إلى العلوم الإنسانية – كالفلسفة وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والأدب، والفنون وهي مجالات تبحث في طبيعة الإنسان وجوهره: كيف يفكر، ويتفاعل، ويعبر، ويحكم، ويتطور. فهذه العلوم هي التي تسمو بالإنسان وتهيئه لفهم المتغيرات التي تنعكس آثارها على المجتمع خاصة في هذا العصر الذي بدأت فيه التكنولوجيا تتحكم بشدة في مسار حياة الفرد والمجتمع. بناء على ذلك، فإن الاهتمام بالعلوم الإنسانية باتت حاجة مهمة أكثر من أي وقت مضى؛ لأنها هي السلاح الذي ندافع به ضد من تسول له نفسه سوء استخدام تقنيات التكنولوجيا، وهي التي تسعفنا في توجيه تقنية الذكاء الاصطناعي نحو ما يعزز القيم الإنسانية التي تؤكد الاستفادة من الإنجازات العلمية لخير الإنسانية. إن التكنولوجيا وحدها لا تنتج مجتمعات متوازنة، ونتيجة لذلك يصبح علم النفس ضرورياً لفهم المشكلات النفسية للاستخدام المكثف للتكنولوجيا وخصوصاً لدى الأطفال الذين أصبحوا يعانون من ما يسمى «بالإدمان الرقمي». كما أننا في أمس الحاجة إلى إحياء الفلسفة، وبعثها من جديد، لأنها أصبحت ضرورية بحكم دورها في طرح الأسئلة التي تتعلق بالأخلاق والضمير في عصر ما بعد الثورة الصناعية الثالثة. إننا اليوم، أمام ثورة من نوع جديد تختلف عن الثورات الصناعية السابقة؛ تلك التي غيرت من طريقة عملنا وحياتنا. أما «ثورة الذكاء الاصطناعي» فقد غيرت من طريقة تفكيرنا، ومشاعرنا، وقراراتنا. وأصبح هذا الاختراع متغلغلا في كياننا، ولهذا فلن يكفينا إتقان المهارات التكنولوجية التي تعيننا في التعاطي معه كآلة، بل إن ما نحتاج إليه هو «الأخلاقيات» وهي التي تقدمها العلوم الإنسانية. لذا، لن نستطيع التعاطي مع «ثورة الذكاء الاصطناعي» بحكمة ما لم يكن لدينا إلى جانب المشتغلين بهذه التقنية ثلة من المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس والفنانين. فمن دون هؤلاء ربما ننتج نهضة علمية ومجتمعا متقدما لكنه قد تغيب عنه العدالة وتغلب عليه الماديات. إن المجتمعات التي ترنو إلى التقدم، هي تلك التي تسعى إلى تنمية قدرات أبنائها على الفهم والتحليل والربط والتفكير الأخلاقي. والعلوم الإنسانية هي البئية الحاضنة التي تصقل فيها هذه القدرات، وتبنى فيها العقول القادرة على قيادة المستقبل. رب قائل يقول: إن مجتمعاتنا متخمة بالمتخصصين بالعلوم الإنسانية، وهذا القول صحيح، لكن هذا لا يعطينا مبرراً لإلغاء هذه العلوم من جامعاتنا أو مدارسنا أو إهمالها أو عدم الاهتمام بها؛ فالدول المتقدمة في العلوم والتكنولوجيا لم تلغ هذه العلوم، ولم تهملها، فهي لا تزال محتفظة بمكانتها، ولا يزال أساتذتها ومفكروها لديهم حظوة في المجتمع ويحتفى بهم في أرقى الجامعات العريقة على عكس ما يحدث عندنا في أغلب مجتمعاتنا العربية. في تقديري، إن مواجهة سوء استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، لا يتم من خلال تطبيق إجراءات السلامة والمعايير الأخلاقية المعترف بها دوليا، ولا من خلال التشريعات، وتعزيز الرقابة، وتكثيف برامج التوعية والتدريب لسبب بسيط وهو أننا لا نزال نعتمد على حلول ذكاء اصطناعي مطورة خارجيا، وهو الأمر الذي يحد من السيطرة الكاملة على المعايير الأخلاقية لهذه الأنظمة. خلاصة القول، إننا لسنا ضد الولوج في عالم التكنولوجيا وبالأخص في مجال «ثورة الذكاء الاصطناعي» لأن ذلك من المستحيل في عالمنا اليوم، لأن التكنولوجيا متغلغلة في تفاصيل حياتنا، لكن كل ما ندعو إليه هو إيجاد بيئة وحاضنة أخلاقية لهذا المولود الجديد حتى يتحصن من كل الأمراض الاجتماعية التي قد تفضي إلى انحرافه عن مساره الصحيح، فيتحول إلى وحش كاسر، وشيطان يدمر القيم والفضائل بدلا من مساهمته في الارتقاء والسمو بها. ولكي يظل عوناً للإنسان في حل كثير من التحديات والمشكلات التي تواجهه في مجالات الحياة المختلفة.