logo
المشاركة الإيرانية في "كانّ" الـ78: غموض ومواجهات

المشاركة الإيرانية في "كانّ" الـ78: غموض ومواجهات

العربي الجديد١٣-٠٥-٢٠٢٥

يُعدّ اختيار "المرأة والطفل" في المسابقة الرئيسية للدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" حدثاً سعيداً لمخرجه الإيراني الشاب سعيد روستائي، و
للسينما الإيرانية
التي، لأول مرة في تاريخ المهرجان الأهمّ، تشارك بفيلمين في المسابقة نفسها، مع "تصادف بسيط" ل
جعفر بناهي
.
نظراً إلى التاريخ المعقّد لبناهي مع سلطات بلده، حبساً ومنعاً من العمل لرفضه الانخراط في الإجراءات الرسمية المفروضة على تصوير الأفلام في إيران، وبعد تصويره خمسة أفلام "سرّاً" في بلده، وإرسالها "سرّاً" إلى مهرجانات دولية، تُعتبر مشاركته في "كانّ" حدثاً غير رسمي في إيران، ولم يعد يُثير جدلاً كما في السابق. لكنّ المفاجئ أنّ مشاركة روستائي، المخرج "النظامي" إذا صحّ التعبير، تُثير جدلاً حتى قبل العرض الأول لفيلمه.
كمعظم المخرجين الإيرانيين، يتّبع روستائي الطريق الرسمية لتحقيق الأفلام. يُقدّم السيناريو إلى الرقابة، ويتقيد به؛ أي إنه لا يُقدّم نصاً يلقى قبول الرقباء، ليُصوّر علناً، ثم يفعل ما يحلو له، كمحمد رسولوف في "بذرة التين المقدس" (2024) مثلاً، المعروض في المهرجان نفسه عام 2024. وهو، بعد انتهاء الفيلم، يتقدّم بطلب إجازة لعرضه في إيران، ولإرساله إلى المهرجانات. فعل هذا في أفلامه الثلاثة السابقة، باستثناء "إخوة ليلى" (2022)، الذاهب به إلى "كانّ" من دون انتظار موافقة السلطات، ما أوقعه في مشاكل، إذْ مُنع الفيلم من العرض، وصدر حكم عليه بالسجن ستة أشهر، ومُنع من إخراج الأفلام. لكنّ الإدانة والحظر رُفعا في النهاية بعد معركة قانونية. هذا لم يَحل اليوم دون أقاويل ضده من خارج إيران، بلغ بعضها حدّ اتهامه بالتعاون مع الحكومة، ووصم فيلمه الجديد بالدعاية لها.
لم تُعلَن مشاركة "المرأة والطفل" في المؤتمر الصحافي ل
تييري فريمو
، المندوب العام للمهرجان (10 إبريل/نيسان الماضي)، الذي أعلن فقط "تصادفاً بسيطاً". وهذا، رغم توقعات سابقة لنقاد وصحف عالمية باشتراك "المرأة والطفل". أثار القبول المتأخر تساؤلات: أهذه ضغوط من الموزّع الفرنسي لاختيار الفيلم للمسابقة، أم لأنّه وصل متأخراً، ولم يُشاهد قبل المؤتمر بسبب العدد الكبير للأفلام؟ هناك في إيران من أكّد أنّ في النسخة النهائية للفيلم (المُرسلة) عيوباً، وأن المنتجين اقترحوا تنقيحها في حال قبولها، وهذا حصل.
بعيداً عن النقاشات الجانبية، أوردت صحف إيرانية أنّه لا ينبغي إغفال أنّ "السينما الإيرانية" دُعيت إلى "كانّ" مُجدّداً، بعد غياب سنوات عدّة، مع إغفالها إدراج مشاركة
"بذرة التين المقدّسة"
في الدورة السابقة، كأنه ليس فيلماً إيرانياً. كذلك استشهدت بتصريحات لسينمائيين إيرانيين، منهم محمد مهدي عسكر بور (رئيس دار السينما)، علّقوا فيها أهمية كبيرة على المشاركة الإيرانية في "كانّ"، وفي غيره من المهرجانات الدولية، بحيث يُسمع اسم إيران دولياً. لكنّهم طرحوا، في الوقت نفسه، ما يجري من جدل بسبب انتقاد فئات في القطاعين، الحكومي وغير الحكومي، نجاحات السينما الإيرانية.
المتداول في إيران انتقادات مسؤولين سياسيين لمخرجين، كبناهي ورسولوف، لمشاركاتهم في مهرجانات دولية، وتقديمهم صورة "سيئة" عن إيران. كذلك يتعرّض سينمائيون عديدون لهجومٍ، لعدم التزامهم الإجراءات الرسمية لصنع الأفلام. لكنْ، أحياناً تهاجم فئات من القطاع غير الحكومي السينما الإيرانية التي تعرض في المهرجانات لأسباب عدة، كما يحصل اليوم مع روستائي. مثلاً، اعتراض "جمعية صانعي الأفلام المستقلين الإيرانيين (ايفما)"، ومقرّها دبي، إذْ صرّح رئيسها المنتج كافه فارنام لـ"فاريتي" (5 مايو/أيار 2025) ظهور ممثلات في "المرأة والطفل"، كممثلة الشخصية الأولى باريناز إيزاديار، وهنّ يرتدين الحجاب الإلزامي الذي تخلّت عنه نساء عديدات في إيران. وترى الجمعية أنّ هذا يمثّل خيانة لحركة "امرأة، حياة، حرية"، وللشابات اللواتي لم يعدن يرتدين الحجاب.
سينما ودراما
التحديثات الحية
أكذوبة مهرجان كانّ في السياسة والحريات
بحسب "فارايتي"، وصف فارنام إظهار مخرج أنّ الناس لا يزالون يطيعون القواعد "الغبية" للحكومة "الغبية" تصويرٌ زائف لـ"مجتمعنا". واتهمت الجمعية روستائي بأنّه باع نفسه للحكومة الإيرانية، وأنّ "كانّ"، باختياره "المرأة والطفل"، متواطئ معها لإبراز ما زعموا أنّه فيلم دعائي أساساً.
لم يردّ المهرجان على ادعاءات الجمعية، التي أثارت تعليقات سينمائيين من داخل إيران وخارجها، رسمياً وفي وسائل تواصل اجتماعي.
روستائي
أصدر بياناً أرسله إلى "فارايتي"، وصف فيه فيلمه بأنّه مستقل: "(إنّه) عن امرأة تقف في وجه جميع الرجال الذين يواجهونها، وفي وجه مجتمع أبوي يحرمها حقوقها، بما فيها حقها في أنْ تكون أمّاً"، مضيفاً: "غريبٌ أنْ يتهمني أشخاص خارج إيران بالتعاون مع الدولة". هذا فقط لأنّه طلب تصريحاً منها، مُجبراً عليه.
عن هذا التفاوت بين آراء الداخل الإيراني ومعارضين في الخارج، والجدل حول المشاركة الإيرانية في "كانّ"، سألت "العربي الجديد" محمد أتاباي (كاتب وصحافي، مؤسّس "إيرانيون مستقلون"، أول شركة إيرانية خاصة للسينما المستقلة في إيران، ومقرها طهران)، فقال إنّ الحكم على هذا الوضع مُعقدٌ للغاية، مُعتبراً أنّ على الجميع أنْ يكونوا سعداء بوجود فيلمين إيرانيين في المسابقة، فهذا لمصلحتهم، وسيكون هناك مزيد من الأفلام الإيرانية في المهرجانات الدولية: "أفلامٌ لصانعي أفلام في إيران، فالعيش والعمل وصناعة الأفلام والفنون هنا ليست جريمة، كما يُلمّح معارضون". كذلك انتقدَ إيرانيين يعيشون في الشتات، ويشعرون أنّهم قادة معارضة، ويعرفون جيداً ما يجب على الإيرانيين فعله، مخاطباً إياهم: "من أنتم لتُملوا علينا كيف نعيش ونعمل؟". أضاف أنّ العيش في الخارج سهلٌ، ثم "يطلبون" من المقيمين في إيران مقاتلة النظام، والتصرّف كما يريدون هم. ووصف أتاباي الناس في إيران بأنّهم متعبون وخائبو الأمل، ولديهم ما يكفي من مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية، ولا يكترثون بما يقوله هؤلاء.
يدافع أتاباي عن السينما الإيرانية، ويتفهّم من يعيش في إيران، ويقول إنّ على شخصيات الأفلام التقيّد ببعض القواعد كالحجاب، وإلا فلن يتمكنوا من كسب عيشهم: "لا شكّ في أنّهم أحرار في اختيار كيفية ظهورهم في الشارع، ففتيات عديدات لم يعدن يغطّين شعرهن. لكنْ، أندين من يلتزم القواعد، ولو جزئياً؟ لا. لا يمكننا".
بردّه على سؤال الإنتاج الخاص، تساءل أتاباي: "إذا قرّر أحد الحصول على تصريح لإنتاج فيلم بأموال خاصة، أهذه خيانة؟ حين ينشر كاتب مؤلّفاته هنا، ويحصل على تصريح من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، أيخون شعبه؟ ما أعرفه أنّ سعيد روستائي حصل على تصريح من الوزارة، وأنتج فيلماً بأموال خاصة، فرنسية. لم أشاهد الفيلم بعد. ربما هناك قضايا أخرى متعلّقة به لاحقاً، لا أعلم بها".
وعن غموض قدوم روستائي إلى "كانّ"، يتردّد أنّ هناك شكوكاً كبيرة تحيط بذلك، بينما يُفهم من صحف إيرانية أنّ بناهي قادمٌ. وقال أتاباي إنّ بناهي موجود في طهران، ولا يعلم إنْ كان سيحضر، أو سيُمنع من السفر. لكنّه أنجز كل أعمال ما بعد الإنتاج في باريس، وسافر مرات عدّة، والسلطات تعلم بفيلمه الجديد.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

جعفر بناهي يعود إلى مهرجان كان وسكارليت جوهانسون تعرض أول أفلامها
جعفر بناهي يعود إلى مهرجان كان وسكارليت جوهانسون تعرض أول أفلامها

العربي الجديد

timeمنذ يوم واحد

  • العربي الجديد

جعفر بناهي يعود إلى مهرجان كان وسكارليت جوهانسون تعرض أول أفلامها

شارك المخرج الإيراني جعفر بناهي شخصياً في مهرجان كان السينمائي لأول مرة منذ 15 عاماً، من أجل تقديم فيلمه الجديد "إت واز جاست آن أكسيدنت" ("مجرد حادث" بالعربية)، المليء بالانتقادات لسلطات بلاده. وكان عرض الفيلم المشارك في المنافسة على جائزة السعفة الذهبية أحد أبرز الأحداث في المهرجان، الثلاثاء، إلى جانب عرض فيلم النجمة الهوليوودية سكارليت جوهانسون في تجربتها الإخراجية الأولى، وعودة الممثلة الأميركية المحبة للغة الفرنسية، جودي فوستر ، في فيلم فرنسي من إخراج ريبيكا زلوتوفسكي. وكان لخطوات جعفر بناهي (64 عاما) وفريقه على السجادة الحمراء رمزية كبيرة، نظراً لكون المخرج أحد ألمع الأسماء في السينما الإيرانية. إذ اعتاد السينمائي المعروف خصوصاً بفيلمي "تاكسي طهران" و"ثلاثة وجوه"، رؤية أعماله تفوز بجوائز في أكبر المهرجانات، لكنه قلّما كان يطلّ أمام الجمهور على السجادة الحمراء. ومنذ إدانته في عام 2010 بتهمة "الدعاية ضد النظام"، لم يتمكن من حضور أي من هذه الأحداث السينمائية الدولية. ولا أحد يعلم المصير الذي تخبئه له السلطات في طهران بعد عرض فيلمه الروائي الـ11، والذي يهاجمها بشكل مباشر وينتقد الإجراءات التعسفية المرتكبة من قوات الأمن. تحدي السلطة الإيرانية في مهرجان كان وقال بناهي في مقابلة مع وكالة فرانس برس: "الأهم هو أن الفيلم قد أُنتج. لم أُفكر في ما قد يحدث بعد ذلك. أشعر بأني حيّ ما دمت أصنع أفلاماً. إن لم أصنع أفلاماً، فلن يُهمني ما يحدث لي بعد الآن". وفي دورة العام الماضي، اختار مخرج إيراني آخر هو محمد رسولوف المنفى، فوصل سراً إلى مهرجان كان السينمائي لتقديم فيلمه "بذرة التين المقدس" الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة، من دون أن يعود مجدداً إلى طهران. وعلى غرار رسولوف، اختار بناهي العمل في الخفاء. وفي تحد للقانون الإيراني، ظهرت ممثلات عديدات في أعماله بشعر مكشوف، كما حدث أخيرا في فيلم "كعكتي المفضلة" للمخرجين مريم مقدم وبهتاش صناعيها اللذين اختير عملهما للمشاركة في مهرجان برلين العام الماضي، ثم حُكم عليهما بالسجن مع وقف التنفيذ في إيران بتهمة "الدعاية ضد النظام والترويج للفحشاء". ويروي فيلم التشويق "مجرد حادث" قصة رجل اختطفه سجناء سابقون، لاقتناعهم بأنه كان يعذّبهم في السجن. ويقدّم الفيلم أيضاً فرصة للتأمل في مبدأ العدالة والانتقام في مواجهة التعسف. وبهذا الفيلم، يصبح بناهي الذي سُجن مرتين في بلاده، مرشحاً قوياً لنيل جائزة السعفة الذهبية التي تمنحها لجنة التحكيم برئاسة جولييت بينوش، السبت المقبل. وكانت الممثلة الفرنسية المعروفة بالتزامها من الداعمين الدائمين للمخرج الإيراني. بدوره، يقدم مواطنه سعيد روستايي، الخميس، في "كان" فيلم "المرأة والطفل". علماً أن آخر ظهور له في المهرجان جاء عبر فيلم "ليلى وإخوتها" في عام 2022، والذي أدى للحكم عليه بالسجن ستة أشهر في إيران. سينما ودراما التحديثات الحية الأخوان ناصر يرويان قصة غزة في مهرجان كان السينمائي أول فيلم من إخراج سكارليت جوهانسون بعدما قدمت الممثلة كريستين ستيوارت أول فيلم لها بصفتها مخرجة "ذا كرونولوجي أوف ووتر" في قسم نظرة ما هذا العام، كانت سكارليت جوهانسون ثاني نجمة هوليوودية تعرض أول فيلم من إخراجها في مهرجان كان السينمائي. أمام صالة ممتلئة بالكامل، حضرت جوهانسون عرض فيلمها "إليانور ذا غرايت"، في ما وصفته بأنه "حلم أصبح حقيقة" بحسب مجلة فاراييتي المتخصصة. ويروي فيلم الممثلة البالغة 40 عاماً، والتي عُرفت خصوصا بمشاركتها في "لوست إن ترانسلايشن" و"ماتش بوينت"، قصة إليانور مورغينشتاين (تؤدي دورها جون سكويب) التي تعود في سن 94 عاماً إلى نيويورك من أجل بداية جديدة بعد عقود أمضتها في فلوريدا. وقالت سكارليت جوهانسون: "إنه فيلم عن الصداقة والحزن والتسامح. وأعتقد أن هذه كلها مواضيع نحتاجها خصوصاً (...) إنه فيلم أجده تاريخياً لكنه حديث جداً أيضاً". أما الفيلم الآخر في المسابقة الرسمية، "فوري"، فهو مقتبس عن قصة الكاتبة الإيطالية غولياردا سابينزا التي سُجنت بتهمة السرقة عام 1980. ويسجل هذا الفيلم الروائي من إخراج ماريو مارتونه وبطولة فاليريا غولينو، عودة المخرج الإيطالي البالغ 65 عاماً إلى سباق السعفة الذهبية، بعد فيلمي "نوستالجيا" عام 2022 و"لاموريه موليستو" عام 1995. وخارج المسابقة الرسمية، شاهد رواد المهرجان فيلم الإثارة النفسي الجديد لريبيكا زلوتوفسكي من بطولة جودي فوستر، إلى جانب فيرجيني إيفيرا ودانييل أوتوي. (فرانس برس)

"الرحيل يوماً" يفتتح "كانّ الـ78": تجربة روائية أولى ذات عناصر متوازنة
"الرحيل يوماً" يفتتح "كانّ الـ78": تجربة روائية أولى ذات عناصر متوازنة

العربي الجديد

timeمنذ 6 أيام

  • العربي الجديد

"الرحيل يوماً" يفتتح "كانّ الـ78": تجربة روائية أولى ذات عناصر متوازنة

في أول روائي طويل لها، "الرحيل يوماً" (Partir un jour)، نجحت الفرنسية أميلي بونّان، في جمع الدراما ب الرومانسية الغنائية ، وتقديم نفسها بعمل مقنع، يُعتَبر تجربة مبشرة في سيرتها الفنية، التي بدأت بأفلامٍ قصيرة، ونيل جائزة "سيزار" (2023) عن فيلمها القصير الحامل العنوان نفسه لفيلمها الروائي الطويل هذا. الفيلم، الذي افتتح الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" (خارج المسابقة الرئيسية)، بطولة جماعية من ممثلين وممثلات جدد في السينما الفرنسية، استطاعت بونّان (1985) عبرهم، وبإقناع شديد، تقديم الأحداث. فالاختيار أولاً، ثم مهارتها في إدارتهم، من أبرز اللافت للانتباه في فيلم متوازن وحيوي، يبتعد قليلاً عن السينما الفرنسية التجارية، وعن الحوارات الطويلة المملّة، المعهودة فيها عامة. في "الرحيل يوماً"، ذي القصة الرومانسية العصرية وغير الجديدة كلّياً، باستثناء طريقة التناول ومعالجة المواقف وتطوّر الشخصيات وتقلّبات مشاعرها، تطرح بونّان قضايا مرتبطة بالعلاقات الإنسانية المعقّدة، في إطار العائلة، أو العلاقات الخاصة بين مرتبطين، وصداقات قديمة، وطبيعة الارتباط والانفصال والعودة. كذلك الاختيارات الحياتية وتبعاتها، وذكريات المراهقة ، والحنين إلى الماضي، وتجدّد المشاعر، ودور المصادفة في الحياة، وآليات التعامل مع المستجدات الناجمة عن هذا، وكيف يؤدّي الأمر برمته إلى اكتشاف الذات، واتّخاذ قرارت حاسمة. سيسيل بِغان (جولييت أرماني) طاهية باريسية، تستعدّ لتحقيق حلمها بافتتاح مطعمها الخاص الفاخر. لكنْ، قبل أسبوعين على موعد الافتتاح، تُربك ظروف طارئة حساباتها كلّها، إذْ تعلم بحملها غير المتوقّع، وغير المرغوب فيه. تخفي الأمر عن حبيبها سُفيان غاربي (توفيق جلّاب) تجنّباً لأي صدام. كما يتعرّض والدها جيرار (فرنسوا رولّان) لنوبة قلبية ثالثة، كادت تودي بحياته، فتضطرّ، بضغط وتشجيع من سفيان، إلى العودة سريعاً إلى مسقط رأسها في الريف الفرنسي، لرؤية والديها جيرار وفانفان (دومينيك بلان). موقف التحديثات الحية أخطاء "كانّ" فادحة: لماذا يتغاضى عربٌ عنها؟ ذريعة العودة تُحرّك الأحداث بعيداً عن النطاق المعتاد لرصد الحياة اليومية في المدن الفرنسية. فمعظم أحداث/مشاهد "الرحيل يوماً" تحصل في الريف الفرنسي ، ما أفسح المجال أمام تصوير (ديفيد كاييه) أماكن عدّة في مناطق غير مألوفة كثيراً، وغير مُستهلكة. كما أن ارتباط سيسيل بمهنة الطهي، وهي بارعة ومشهورة، علماً أنّها ابنة عائلة تمتهن الطهي، وتمتلك مطعماً يديره والداها في بلدتها، كان (الارتباط) حجة مناسبة لسرد أحداث ذات خلفية مشوّقة، وغير باعثة على الملل، فالحضور مستمرّ في المطعم ومطبخه، أثناء تحضير الوجبات، والتفنّن في تجهيزها. كما أنّ زيارتها والديها، والبقاء معهما فترة للمساعدة في شؤون المطعم، سببان للقاء أصدقاء المُراهقة والمدرسة، ولإتاحة فرصة لها لنسيان المشكلات والضغوط، وتمضية لحظات صادقة تخلو من الهموم، في صحبتهم. هذا يُقرّب أكثر من شخصيتها، ويُبرز خلفيتها ومشاعرها. أحد أصدقائها يُدعى باستيان (رافائيل تينريرو)، حبيبها القديم، الذي تركها ذات يوم من دون سبب واضح. تدريجياً، يبدأ التقرّب منها. وبدافع الحنين، تجد نفسها تستعيد لحظات ماضية، وتتجدّد المشاعر القديمة. تتقرّب منه هي أيضاً، ويبادلها الشيء نفسه، رغم حبّها وإخلاصها لحبيبها، ورغم التزام باستيان الصادق تجاه زوجته وابنه. علاقة نجحت بونّان، بفضل سيناريو وحوارات مكتوبة باحترافية (بونّان وديمتري لوكاس)، بتجنّب الانزلاق إلى التكرار المعهود، والتوقع المسبق للأحداث في هذا النوع من الأفلام الرومانسية . أحد أوجه التميّز أيضاً، الذي أنقذ "الرحيل يوماً" من التكرار، التوظيف الموفّق للأغاني والموسيقى كلّ مدّته (94 دقيقة)، إذْ كانت الأغاني بخدمة الدراما وسياق الأحداث والمواقف، وليست مُقحمة لذاتها، أو مفروضة بغرض الاستعراض، أو بدافع الرغبة في إنجاز فيلمٍ غنائي موسيقي. يُلاحَظ مثلاً أنّ أغلب الأغنيات لا تتجاوز مدّة كلّ منها دقيقة أو دقيقتان، مع كلمات تتميّز بالبساطة الشديدة، كأنّها جُملٌ حوارية ملحّنة. ورغم أنّ الفقرات الغنائية تضمّنت أحياناً رقصات، كانت بسيطة للغاية، وليست لوحات راقصة واستعراضية. لذا، كان لها طابع خاص ومميز، ابتعد بها عن الممل، ولم تكن زائدة عن الحاجة، أو معهودة. "الرحيل يوماً" ليس تجربة استثنائية أو فريدة، موضوعاً وحبكة ومعالجة وخيوطاً سردية ورسم شخصيات. لكنْ، ما أوجدته أميلي بونّان من توازن بين عناصره، أهمها الجرعة الغنائية والطرح الرومانسي وإبراز المشاعر والعواطف والتحكم فيها، والأداء المتناغم والمقنع، خاصة جولييت أرماني، أنقذه من أفخاخ كثيرة كان يُمكنها إفساد كلّ شيء.

"سعيد أفندي" في "كلاسيكيات كانّ الـ78": شهادة سينمائية عن قضايا اجتماعية
"سعيد أفندي" في "كلاسيكيات كانّ الـ78": شهادة سينمائية عن قضايا اجتماعية

العربي الجديد

time١٤-٠٥-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

"سعيد أفندي" في "كلاسيكيات كانّ الـ78": شهادة سينمائية عن قضايا اجتماعية

اختارت لجنة الحسن بن الهيثم للذاكرة العراقية المرئية، بدعم من السفارة الفرنسية في العراق ووزارة الخارجية الفرنسية، وتنفيذ Expertise France بمشروع "سينماتك العراق"، الفيلم العراقي "سعيد أفندي" (1956) لكاميران حسني (1 يوليو/تموز 1927)، القادم من الولايات المتحدة الأميركية بعد نيله شهادة ماجستير في الإخراج السينمائي، والذي يُعدّ رائد السينما الواقعية. ميزةٌ له أنّه مُصرّ على المساهمة في صنع سينما عراقية، لها حضور متميز، فأصدر مجلة "السينما" عام 1955، أول مطبوعة سينمائية عراقية. مُدرّس في "معهد الفنون الجميلة"، وباكورة أعماله مخرجاً "سعيد أفندي"، الذي كان له نجاح باهر بمعايير خمسينيات القرن الـ20. عُرض أولاً عام 1957 في "سينما الخيام" بكركوك، ثم في "معهد العالم العربي" بباريس، في تكريم يوسف العاني عام 1998، المتمثّل بعرض أفلامٍ عدّة له. "سعيد أفندي" أول فيلم عراقي يشارك في احتفال دولي، في "مهرجان موسكو"، عام 1958. لم يستطع حسني إكمال مشواره الواعد، إذ أحبطت ظروفٌ طموحاته، فأصابته الخيبة، وانسحب من الفن اٍلى التجارة، مؤسِّساً مطعماً في بغداد. ثم ما لبث أنّ هاجر مجدّداً، ليموت مُغترباً (6 سبتمبر/أيلول 2004). فيلمه هذا رُمِّم بتقنية K4 في "المعهد الوطني للسمعي البصري الفرنسي (INA)"، باستخدام النيغاتيف الأصلي، وحُفظت النسخة المرمّمة لدى لجنة الحسن بن الهيثم نفسها. وللمرة الأولى في تاريخ السينما العراقية، اختير "سعيد أفندي" ليُعرض في "كلاسيكيات كانّ"، في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) ل مهرجان "كانّ" . سينما ودراما التحديثات الحية أكذوبة مهرجان كانّ في السياسة والحريات "سعيد أفندي" مقتبس عن قصة "شِجَار" (1955) للكاتب إدمون صبري (1921 ـ 1975)، ويُعدّ من أبرز الأعمال الكلاسيكية العراقية. تمثّل هذه الخطوة غير المسبوقة إحياءً للتراث العراقي السينمائي، ونقله إلى العالم من أوسع أبوابه. إنّه أحد أبرز الأعمال السينمائية العراقية، ويعكس صورة حيّة للمجتمع البغدادي في خمسينيات القرن الماضي. يتميّز بأسلوب واقعي يبتعد عن الديكورات المصطنعة، إذْ صُوّر في أزقة منطقة "الحيدرخانة"، وبيوتها القديمة، ما أضفى عليه طابعاً أصيلاً يعكس بساطة الحياة اليومية: المعلّم سعيد أفندي (يوسف العاني) يواجه صعوبة في العثور على مسكن مناسب لعائلته، فينتقل إلى حي شعبي، يلتقي فيه جاراً جديداً، الإسكافي عبد الله (جعفر السعدي). تنشأ بين العائلتَين علاقات متوتّرة بسبب مشاجرات الأطفال، ما يؤدّي إلى سلسلة أحداث تكشف عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها الطبقات المتوسّطة في تلك الحقبة. اعتمد حسني أسلوب الواقعية الإيطالية الجديدة، مستخدماً معدات بسيطة في التصوير بمواقع حقيقية، وهذا أضفى طابعاً طبيعياً بعيداً عن التصنع. هذا النهج الفني ساعد في نقل الواقع الاجتماعي للمجتمع العراقي في تلك الفترة، جاعلاً الفيلم وثيقة سينمائية قيّمة لعادات بغداد القديمة وتقاليدها. فسبب اختيار الواقعية، والتصوير في أماكن طبيعية، كامنٌ في عدم توفر استديوهات وآلات حديثة وديكورات وأدوات فنية، لكنّ "سعيد أفندي" تعرّض لمشاكل رقابية قبل عرضه للجمهور للمرّة الأولى في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 1957، في سينما "ميامي" في بغداد. رغم بساطة القصة، نجح الفيلم في تسليط الضوء على قضايا اجتماعية مهمّة، كالطبقات الاجتماعية والتعليم والعلاقات بين الجيران. أثار اهتمام النقاد والجمهور، واعتبره البعض بداية تأسيس سينما عراقية تعكس الواقع الاجتماعي بصدق وواقعية، كما يُعدّ علامة فارقة في تاريخ السينما العراقية ، بجمعه بين الأسلوب الفني الواقعي والموضوعات الاجتماعية المهمة. ورغم مرور أكثر من ستة عقود على إنتاجه، لا يزال يحتفظ بقيمتيه الفنية والتاريخية، ما يجعله مرجعاً مهمّاً لفهم تطوّر السينما العراقية، وتوثيق الحياة اليومية في بغداد الخمسينيات. حين عُرض، اعتُبر "سعيد أفندي"، الذي أبدعت فيه الفنانة زينب حسني، إلى جانب العاني وكاتب السيناريو كاميران حسني نفسه، باكورة ناضجة تبشّر بخير سينمائي كثير، أعقبه حسني بـ"مشروع زواج" (1962)، ثم "غرفة رقم 7" (1966، مُنجز في لبنان)، فيلمه الأخير، قبل عودته إلى أميركا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store