logo
سول عاصمة التناقضات والحداثة المتجذرة في العراقة

سول عاصمة التناقضات والحداثة المتجذرة في العراقة

الجزيرة١٨-٠٢-٢٠٢٥

من موطن شركات التقنية الكبرى كسامسونغ وإل جي وهونداي وكيا وغيرها الكثير، سيظن الزائر للعاصمة الكورية الجنوبية أن المدينة ستكون مزهوة فقط بأبراجها الشاهقة والصرعات التقنية الحديثة، لكن بينما تتألق سول بالأضواء المبهرة لأبراجها وتنشغل بحياتها العصرية وتغوص بزحام شوارعها الكبير نجدها تحتضن القصور والأضرحة القديمة والمنازل التراثية التقليدية العريقة لتخلق لوحة فنية فريدة تأسر قلوب زائريها.
وسنأخذكم في الجزيرة نت في رحلة فريدة مليئة بالصور بين معالم وأحياء هذه المدينة لتعيشوا معنا أجواءها الساحرة التي تمزج بين سحر التاريخ وروح الحداثة.
فسول التي تأسست منذ أكثر من ألفي عام كعاصمة لمملكة "بيكجي"، شهدت صعود وسقوط ممالك وإمبراطوريات تركت بصماتها في كل زاوية من زوايا المدينة التي يقطنها حاليا أكثر من 10 ملايين نسمة، وعاصرت تحولات كبيرة، من حكم سلالة "جوسون" التي استمرت لأكثر من 500 عام، إلى الاحتلال الياباني في أوائل القرن الـ20، ثم التحرير وتقسيم كوريا بعد الحرب العالمية الثانية.
الأضرحة والآثار في كل مكان
على مسير غير كبير من الفندق الذي أقيم فيه في وسط المدينة أطل علينا جناح "بوسينغاك" ويعرف أيضا باسم "جونغاك"، ويضم في طابقه العلوي جرسا ضخما كان يستخدم لضبط الوقت في سول خلال فترة مملكة جوسون (1392-1897).
احترق مبنى بوسينغاك أثناء حرب الكوريتين ثم أعيد بناؤه في عام 1979، ونقل جرسه الأصلي إلى المتحف الوطني الكوري بسبب الشقوق التي جعلته غير صالح للقرع، وتم صنع جرس جديد طبق الأصل عنه في عام 1985.
وعند زيارتنا له وجدنا أنهم يسمحون للسياح بقرعه كل يوم أربعاء بين الساعة 11 و12 ظهرا، لكن مع ذلك يُقرع هذا الجرس 33 مرة في منتصف ليلة 31 ديسمبر/كانون الأول للترحيب بالسنة الجديدة.
وعلى غير بعيد من هذا الجناح الفريد قابلنا نصبا تذكاريا صغيرا بني لتكريم الذكرى الـ40 لتتويج جوجونغ ملكا لسلالة جوسون في 13 ديسمبر/كانون الثاني 1863 وكان عمره حينذاك 11 عاما.
قصر غيونغ بوكغونغ
قررنا بعد ذلك التوجه إلى قصرغيونغ بوكغونغ في قلب سول، والذي يعد أكبر القصور الملكية الخمسة التي بنيت في عهد سلالة جوسون، لكن كان بانتظارنا في مطلع الطريق قائد عسكري كبير هو الأدميرال يي سون سين، بطل الحرب الكوري في القرن الـ16، يقف شامخا على ارتفاع 17 مترا كأنه يرحب بزوار القصر ويحذرهم في الوقت نفسه من ارتكاب أي خطأ وهو يحمل سيفه إلى يمينه بكل ثقة.
بعد تجاوز هذا القائد العسكري الكبير سرنا مسافة أخرى لنلتقي وجها لوجه بالملك سيجونغ العظيم (1397-1450)، ملك سلالة جوسون الرابع والأب الروحي لكوريا الحديثة، والذي يبجله الكوريون بسبب الثورة الحضارية التي قام بها من خلال تطوير حروف الهانغل (الأبجدية الكورية) مما أعطى دفعة علمية كبيرة لعصره.
رحبنا بالملك واطلعنا على الاختراعات المجسمة أمام تمثاله، والتي يروى أن الملك دعم مخترعها جانغ يونغ سيل حتى أصبح جانغ من أبرز المخترعين في التاريخ الكوري، ومنها آلة الكرة السماوية الكورية وساعة لقياس الوقت بظل الشمس وجهاز لقياس كمية هبوط المطر.
بعد ذلك سمح لنا الملك بالمضي لزيارة القصر الكبير الذي يعود للقرن الـ14 والذي تم تدميره خلال الاحتلال الياباني قبل أن يعيد الكوريون ترميمه، ويُعد شاهدا على العمارة الكورية التقليدية بأسقفه المنحنية وألوانه الزاهية التي تعكس ذوق الملوك والأباطرة الذين حكموا كوريا في الماضي.
ويحيط بالقصر حدائق خلابة تعكس الروح الهادئة لتلك الحقبة التي بني بها، كما يضم متحفا وطنيا داخل أسواره يعرض آثارا تاريخية نادرة، مما يجعله وجهة مفضلة للسياح والمقيمين على حد سواء. لكن للأسف كان القصر مغلقا أمام الزوار لأسباب لم نعرفها، ومع ذلك لم يفت هذا في عضدنا فزرنا المتحف ثم أكملنا جولتنا في معالم سول العديدة.
بوكتشون هانوك
قررنا المضي في جولتنا لزيارة حي بوكتشون الشهير الذي يتميز ببيوته الكورية التقليدية، لكن هذا لم يمنع أن نصادف في طريقنا العديد من تلك المنازل العريقة والتي بدأت أعداد المتخصصين في بنائها ومعماريتها تتقلص مع تقدم العصر.
كان التوجه إلى حي بوكتشون هانوك عبارة عن رحلة صعود طويلة، حيث يستقر هذا الحي في منطقة مرتفعة ويتميز بانتشار تلك البيوت التقليدية التي يسكنها على الأغلب فئة الأثرياء نظرا لجمالها والتكلفة المرتفعة جدا لشراء منزل فيها.
ويمكن لزائر هذه المنطقة أن يعيش تجربة فريدة في البيوت الكورية التقليدية، التي تتميز بأسقفها المنحنية وجدرانها الطينية. كما يمكن له أن يتذوق الأطباق الكورية التقليدية، ويتجول في الأزقة الضيقة التي تعبق برائحة التاريخ.
جبل نامسان ونهر هان
وعلى الرغم من كونها مدينة ضخمة فإن سول تحرص على الحفاظ على مساحات خضراء واسعة، مثل جبل "نامسان"، الذي يقع في قلب المدينة، ويعد مكانا مثاليا للهروب من صخب الحياة اليومية، حيث يمكن للزائر أن يتجول بين الأشجار ويصل إلى قمة الجبل ليرى منظرا بانوراميا للمدينة.
كما أن هناك نهر "هان"، الذي يمر عبر سول، ويعد أيضا شريان الحياة للمدينة، حيث يمكن للزائر أن يمارس على ضفاف النهر رياضة الجري أو ركوب الدراجات، أو ببساطة الاستمتاع بالهدوء الذي يوفره هذا المكان وسط العاصمة الصاخبة.
طرائف من سول
خلال جولتنا في العاصمة، وفور دخولنا إلى أحد الأحياء السكنية صادفتنا لافتة تحمل جملة معبرة تقول إن "هذه منطقة سكنية، رجاء لا تزعج الجيران في المنطقة"، وفي حي بوكتشون هانوك العريق صادفتنا مرارا لافتات تحذر السياح من زيارة المنطقة في الفترة ما بين الساعة 5 مساء و10 صباحا تحت طائلة الغرامة، وذلك حفاظا على هدوء المنطقة وراحة سكان المنازل، فالهدوء في كوريا قبل أي شيء.
وخلال تجوالنا في شوارع المدينة صادفنا بعض كبار السن وهم في حالة تأمل كأنهم أصنام متحجرة، كما مررنا على طريق وضعت على جدار سور أحد مبانيه عشرات بوكيهات الورد والتي فهمنا أنها عادة كورية متبعة عند وفاة أحد سكان المبنى أو العاملين فيه إن كان مؤسسة حكومية أو شركة خاصة.
ولا يزال في جعبتنا الكثير، لكن نكتفي بما سردناه من جولتنا في سول التي تعتبر بحق مدينة التناقضات، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، والتقاليد بالحداثة، ليخلقوا تجربة فريدة تأخذك في رحلة عبر الزمن، وتجعلك تعيش تجربة لا مثيل لها.
إعلان

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

جون كليز يتحدث ضد إلغاء الثقافة يقول انه يسيء فهم الغرض الرئيسي من الحياة'

أخبار قطر

time٠٥-٠٥-٢٠٢٥

  • أخبار قطر

جون كليز يتحدث ضد إلغاء الثقافة يقول انه يسيء فهم الغرض الرئيسي من الحياة'

closeVideo فوكس نيوز فلاش أعلى عناوين الترفيه عن 23 تموز / فوكس نيوز فلاش أعلى الترفيه والمشاهير العناوين هنا. تحقق من ما هو النقر اليوم في الترفيه. جون كليز يتحدث ضد إلغاء ثقافة ما يعتقد به إلى الكوميديا. و 'مونتي بايثون' نجمة تظهر في كوميدي بث مباشر Q&A من لندن الشهر المقبل في محاولة التجربة مع منصات جديدة الاجتماعي تنأى التوجيهية تبقى في المكان للمساعدة في مكافحة انتشار COVID-19 الوباء. يتحدث الى رويترز الممثل البريطاني يناقش المعرض بعنوان 'لماذا لا يوجد أمل' و تكلم ضد إلغاء الثقافة كما يستعد للترفيه عن أصغر في المنزل الجمهور. كما 'إلغاء ثقافة' النشاط القمم الكبيرة التكنولوجيا و خوارزميات بهدوء الوقود لهيب الممثل وأوضح أن إلغاء ثقافة 'يسيء فهم الأهداف الرئيسية من الحياة, وهو أن يكون متعة.' جون كليز () 'كل شيء من روح الدعابة أمر بالغ الأهمية. إذا كان لديك شخص ما الذي هو تماما نوع وذكية ومرنة الذين دائما يتصرف بشكل مناسب, أنهم ليس مضحكا. Funniness عن الناس الذين لا يفعلون ذلك ، مثل ترامب' قال مخرج. جون كليز ينتقد النقاد عن الصواب السياسي' على التغريدة المثيرة للجدل ويوضح أن الكوميديين يجب أن أتطرق إلى مواضيع حساسة أو آخر بهم الكوميديا نوعا ما بلا أسنان. ويلاحظ أن الكوميديين على وجه التحديد ، 'أن تعيين شريط حسب ما قيل لنا من قبل معظم حساسا أكثر عاطفيا مستقر وهش الأقل المتحمل الناس في البلاد'. منفذ التقارير التي كليس سابقا تحدث ضد بي بي سي ، داعيا المنظمة 'الجبان جبان' على قراره إنزال حلقتين من المسلسل كان على 'فولتي تاورز' الذي يسخر من الألمان في الحرب العالمية الثانية وظهرت حرف باستخدام عنصرى. انقر هنا للحصول على فوكس نيوز التطبيق أما بالنسبة له المقبل المعرض الذي يقام عبر البث المباشر في أغسطس. 2 من لندن كادوجان قاعة يسميه جزء المحاضرة جزء الكوميديا ستاندوب. هو متحمس أكثر حميمية أداء تجربة قائلا انه يعتقد انه سوف يكون اللعب إلى ما يقرب من 50 شخصا في المجموع.

ميت غالا 2025 يحتفي بالأناقة السمراء ورسائل ضد العنصرية بحضور مشاهير
ميت غالا 2025 يحتفي بالأناقة السمراء ورسائل ضد العنصرية بحضور مشاهير

الجزيرة

time٢٩-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

ميت غالا 2025 يحتفي بالأناقة السمراء ورسائل ضد العنصرية بحضور مشاهير

يستعد متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك لاستضافة حفل "ميت غالا 2025" مساء الأحد عند الساعة 5:30 بالتوقيت المحلي، في حدث يُعد الأهم على الإطلاق في روزنامة الموضة العالمية، حيث يلتقي فيه مشاهير الفن والأزياء ونخبة المجتمع الأميركي في احتفالية تمتزج فيها الفخامة بالإبداع. وتسلط دورة هذا العام من الميت غالا الضوء على الثقافة السمراء، عبر تكريم إسهامات أصحاب البشرة السمراء في عالم الموضة، وذلك من خلال معرض بعنوان: "الإتقان الراقي: صياغة الأناقة السوداء" (Superfine: Tailoring Black Style). المعرض مستوحى من كتاب "عبيد الموضة: الداندية السوداء وتصميم هوية الشتات الأسود" للكاتبة مونيكا إل ميلر، الصادر عام 2009، ويضم أعمالا فنية تشمل لوحات وصورا فوتوغرافية لفنانين بارزين مثل تايلر ميتشل وتوركواز دايسون، موزعة ضمن 12 قسما داخل المتحف. أما موضوع السجادة الحمراء فجاء تحت عنوان: "فصل من أجلك" (Tailored for You)، ويدعو الضيوف إلى ارتداء إطلالات رجالية مُستوحاة من التراث الأسود، وسط توقعات بإطلالات بارزة من توقيع دور أزياء عالمية مثل توم براون، لويس فويتون، وغوتشي. وتحت إشراف رئيسة تحرير مجلة "فوغ" الشهيرة آنا وينتور التي تدير الحفل منذ عام 1995، تم اختيار عدد من الشخصيات المؤثرة في الثقافة والموضة السمراء ليكونوا الرؤساء المشاركين لميت غالا 2025، وهم: إعلان كما عُين أسطورة كرة السلة ليبرون جيمس رئيسا فخريا لهذا الحدث البارز. أما اللجنة المضيفة، فستضم شخصيات لامعة من مجالات مختلفة، منهم: قائمة المشاهير.. سرية معتادة وتكهنات وكما جرت العادة، تحيط السرية التامة بقائمة المدعوين، رغم تسريبات إعلامية ترجّح حضور عدد من الأسماء اللامعة مثل شاكيرا، وليزو، وماري جي بليج، وراشيل زيلغر، وآشلي غراهام. وكانت فكرة حفل "ميت غالا" انطلقت عام 1948 على يد الصحفية الراحلة إليانور لامبرت، لدعم معهد الأزياء بمتحف المتروبوليتان، وإنعاش صناعة الموضة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. وشهد الحفل تطورا جذريا في عهد ديانا فريلاند، وتحوّل إلى حدث عالمي برعاية آنا وينتور منذ عام 1995، التي ارتقت به إلى قمة التفاعل الثقافي والاجتماعي، بفضل شبكتها الواسعة من نجوم الفن والسياسة والموضة. ويُنتقى الضيوف بعناية بالغة، وتشمل القائمة عادة نجمات مثل ريهانا، وجينيفر لوبيز، وبيونسيه، وعائلة كارداشيان، وهي أسماء تلتزم دوما بموضوع الحفل من خلال إطلالات مبتكرة. وفي العام 2024، حطم الحدث الرقم القياسي في التبرعات، إذ تجاوزت العائدات 26 مليون دولار أميركي، خُصصت لدعم معهد الأزياء وتطوير برامجه الثقافية. ومن خلال تكريم التراث الأسود، وتكريس رموز سمراء لقيادة الحدث، يتجاوز ميت غالا 2025 كونه عرض أزياء فاخرا، ليصبح منصة ثقافية تستعيد أصواتا طالما أثرت في ملامح الموضة من دون أن تنال اعترافا كافيا.

العبث واللامعقول في حرب السودان.. المسرح يمرض لكنه لا يموت
العبث واللامعقول في حرب السودان.. المسرح يمرض لكنه لا يموت

الجزيرة

time٢٩-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

العبث واللامعقول في حرب السودان.. المسرح يمرض لكنه لا يموت

خيبة الأمل التي اجتاحت العالم الأوروبي بعد الحرب الثانية وأهوالها، تمخض عنها تيار في الأدب والمسرح في فرنسا وألمانيا يسمى مسرح اللامعقول أو العبث، والذي نشأ على خلفية أحداث سياسية وعالمية كبرى قادت الفلاسفة المحدثين إلى إعادة التفكير في عديد من المفاهيم، وهو تيار يجسد داخل نصوصه حالة فقدان الشغف والهدف لدى الإنسان الأوروبي في عالم ما بعد الحرب لأن الحياة بالمجمل غير ذات جدوى أو هدف أو غاية، لذلك أتت شخوص هذا التيار على خشبة المسرح شخوصا عبثية بخيال ورؤى فلسفية عدمية عن جدوى الوجود والحياة. يقول يوجين يونسكو (1909-1994) أحد أهم كُتاب مسرح العبث في مسرحيته "الرجل ذو الحقائب.. رحلة إلى عالم الموتى"، إن "السببين الأساسيين فقط لبقائنا صغارا هذه الأيام هما القتل والانتحار". صمويل بيكيت (1906-1989) رائد مسرح اللامعقول يقول في تأمل لإذاعة بي بي سي "من عملٍ مهجور" بث في عام 1957 "لا، لا أندم على شيء، كل ما أندم عليه هو ولادتي، لأني دائما أجد الموت عملا طويلاً ومملا". إحباط قبيلة المسرحيين المتأمل في مشهد حرب السودان الحالية وحال المشتغلين بـ"فنون التمثيل" سيجد تماثل واقع الفنان في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مع واقع الممثل السوداني اليوم. حالة الإحباط وانسداد الأفق أمام قبيلة المسرحيين السودانيين دفعتهم مثلهم مثل كل أهل السودان للنزوح إلى الولايات الآمنة أو لخارج البلاد بعد أن هدمت المسارح وبيوت الفنون ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. خارطة توزيع النزوح في إحصائيات اتحاد الممثلين تقول إن النسبة الكبرى من المشتغلين بفنون التمثيل نزحوا في البداية من الخرطوم إلى بورتسودان، ونسب أخرى متفاوتة نزحوا إلى بقية مدن السودان، وخارجيا حصلت القاهرة على النسبة الكبرى من النزوح تليها كمبالا. يقول نقيب الدراميين السودانيين الرشيد أحمد عيسى، في كلمته ليوم المسرح العالمي في 27 مارس/آذار الماضي، "لم يشهد العالم في تاريخه القريب والبعيد مثل ما جرى في حرب السودان من انتهاكات كالقتل والتمثيل بالجثث والاغتصابات المريعة، انتهاكات دمرت حياة الكثير من القاصرات وطالت حتى النساء المسنات في وطني". وأضاف "المسرح كان حاضرا منذ انطلاقة الحرب، مقاوما منذ الطلقة الأولى، يمتص الصدمات، يعيد تأهيل الأطفال ويزرع الأمل في تلك الأرواح التي تشظت في فوضى وعتمة ضاقت بها الأماكن كأنما الحرب تحفر قبورها حتى للأحياء. سيظل المسرح حصنا منيعا يحقق للإنسان وجوده وأحلامه بمقاومته لكل أشكال القبح من قتل واغتصاب وانتهاكات، ويسعى أن يكون فن الجميع وللجميع باعتبار المسرح المكان الوحيد الذي يحقق فيه الفرد ذاته ويجابهها". وتتشابه وضعية مسرح العبث والحرب في السودان وحال الإنسان السوداني مع الدمار الكامل في البنية التحتية للدولة والنفسية للإنسان الأوروبي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد عَبّر مسرح اللامعقول عن الإنسان بعد الحرب وحالة اللاجدوى والعبثية مستخدما لغة محورها الهواجس والكوابيس وحالة التيه والانعزال وتباعد الشخصيات وانحباس الإنسان داخل جلده وتباعد المسافات بين الذات والآخر، وهذا ما يحدث في السودان الآن. الناقد السوداني المعروف السر السيد تحدث للجزيرة نت عن هذا المشهد القاتم قائلا "منذ بدايات الحرب وسيطرة قوات الدعم السريع على مدينة أم درمان، حيث الإذاعة والتلفزيون والمسرح، توقفت الحياة تماما، أثّر ذلك على قطاع "فنون التمثيل" خاصة الذي لا يشمل الممثلين والمخرجين فقط، وإنما يشمل الكتاب والفنيين والشركات المشتغلة بالفنون". يستطر السر "أوقفت الحرب أذرع الفنون الحيوية المتمثلة في الدراما الإذاعية والتلفزيونية والمسرحية، بالإضافة إلى أنشطة منظمات العمل المدني، والتي كانت تستعين بالتمثيل والممثل لتنفيذ برامجها التوعوية والإرشادية، وعطفا على ذلك فقد كثير من الممثلين مصدر رزقهم المباشر". المسرح القومي بأم درمان عن حال المسرح القومي السوداني، يقول الكاتب المسرحي والممثل القدير مصطفى أحمد الخليفة "رغم الدمار الحالي البادئ للعيان، سيبقى هذا المبنى شاهدا على حضارية ووطنية ورقي السودان بتاريخه العريق، فالمسرح يمرض لكنه لا يموت". يقول الخليفة إن "المسرح القومي تأسس في 1959 وشهد أول موسم مسرحي في 1967. قبل الحرب كان المسرح شبه مدمر، وأتت الحرب وقضت على ما تبقى منه. المسرح القومي يعتبر من أول المسارح في المنطقة العربية والأفريقية، لم يكن مجرد مبنى تاريخي شهدت خشبته حركة فنية عظيمة ومهرجانات وعي وتنوير في مواسم مسرحية فقط، بل كان حالة فنية وثقافية لها ارتباط وجداني عميق عند السودانيين، اعتلى خشبته العديد من المبدعين من غير الفنانين السودانيين مثل مريم ماكيبا المغنية الجنوب أفريقية، وكوكب الشرق أم كلثوم، وهاري بيلافونت مغني الجاز الأميركي الشهير. أيضا عُرضت به مسرحية مدرسة المشاغبين". يقول المخرج والممثل الدكتور أبو بكر الشيخ أيضا عن الحرب على المسارح "مرّ المسرح السوداني بظروف قاهرة منذ أكثر من خمسة أعوام، وجاءت الحرب وبالا إضافيا عليه، حيث توقفت العروض المسرحية والمهرجانات التي كان يضج بها المسرح القومي وبقية المسارح، فقد دمرت مليشيا الدعم السريع المسرح القومي تماما ومسرح قاعة الصداقة وبقية المسارح، في استهداف ممنهج للبنية التحتية ودور العرض والتنوير، بالإضافة إلى تدميرهم مسارح مراكز الشباب، مما اضطر عددا كبيرا من المبدعين للانشغال بالعمل في مجالات أخرى غير إبداعية لتوفير لقمة العيش لأسرهم". يسترسل أبو بكر الشيخ متحدثا للجزيرة نت عن إنجازاته الشخصية "قدمت في العام الأول من الحرب تجربة درامية بعنوان "جنقو كايرو" وهي عدد من الحلقات الدرامية التي تتناول حال النازحين في زمن الحرب والظروف التي تعرضوا لها. وقدمت هذا العام مسلسلا من 20 حلقة بعنوان "أقنعة الموت.. سمفونية الحريق والنزوح" صُوِّر بين القاهرة وأم درمان، وهذه التجربة وجدت صدى واسعا جدا لجرأة التناول والطرح لموضوعاتها التي تلخصت في انتهاكات المليشيا المتمردة للإنسان السوداني من تعذيب وتهجير واغتصاب وقتل. وفي نهايتها قدم المسلسل دعوة إلى العودة للسودان وإعمار ما دمرته الحرب وإعادة التفكير في سودان ما بعد الحرب على نحو إيجابي". إنجازات رغم الحرب حول إنجازات الممثلين في مناطق نزوحهم، يقول الناقد السوداني السر السيد "حالة التشتت في ظل الحرب الحالية وعجز الجهات الرسمية عن فتح المسارح أو إنتاج دراما جعلت الممثل يمتهن مهنا أخرى، أما المحظوظون الذين وجدوا فرصا مع منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال المرأة والبيئة وحقوق الإنسان والإغاثة، فاستطاعوا في مارس/آذرا الماضي أن ينظموا مهرجان "برؤوت للمسرحيات القصيرة" في مدينة بورتسودان الذي استمر لأربعة أيام". أيضا في كمبالا، والحديث لا يزال للسر السيد، "ورغم أننا مجموعة صغيرة لا تتجاوز 15 ممثلا، استطعنا أن نحتفل ولعامين على التوالي بيوم المسرح العالمي، وقدمنا مسرحيات أشهرها مسرحية ثورة 24 للكاتب الكبير عبد الله بشير وإخراج معمر القذافي". مجموعة الممثل فضيل قبل نزوحهم من السودان أيضا قدموا عددا من المسرحيات وكذلك مجموعات أخرى في عطبرة وشندي وكسلا وبورتسودان. وبشكل عام، قدم الممثلون المشتغلون بالمهنة في أقاليم السودان عروضا في مناطق نزوحهم، رغم صعوبة الأجواء. في مصر نجحوا في تكوين اتحاد ممثلين وموسيقيين، وقدموا عددا من العروض المسرحية، على سبيل المثال مسرحية "دار آمنة ذاكرة الفجيعة" من إخراج ماجدة نصر الدين. أيضا شارك بعض الممثلين في لجان تحكيم وندوات مثل البروفسير سعد يوسف. وقد كان وضع نازحي القاهرة وكمبالا أفضل حالا من وضع الممثلين في بقية المنافي ومناطق اللجوء. قالت الممثلة تهاني الباشا للجزيرة نت "بعد أن خفت صوت الحرب بدحر الدعم السريع وتحرير منطقة الإذاعة السودانية والتلفزيون والمسرح القومي بأم درمان، قام نفر كريم من الزملاء الممثلين بمبادرة لإعادة تأهيل المسرح القومي وإعادة الاعتبار لشيخ المسارح السودانية. المبادرة تمت بعفوية وتنادى لها الممثلون من مناطق النزوح، فحضر للمشاركة في هذه المبادرة الرمزية من بورتسودان الزملاء عبد السلام جلود والطيب صديق وإبراهيم خضر. كما أعلنت وزارة الثقافة والإعلام عن دعمها الكامل لهذه المبادرة. الذين ظلوا داخل الخرطوم حتى الآن تجاوز عددهم 30 فنانا وفنانة، نذكر منهم نجوم كبار مثل الأستاذة القديرة فايزة عمسيب التي لم تغادر الخرطوم رغم معاناتها مع المرض، والرائد المسرحي المعروف محمد خلف الله الكاتب، والممثل محمد رضا دهبي والنجم الطيب شعراوي، وعبد الرافع حسن بخيت، والنجم حسين يوسف سيد جرسة، والمخرج الإذاعي المعروف الدكتور طارق البحر وغيرهم ما زالوا صامدين ولم يخرجوا من العاصمة. مشهد عبثي قاتم وحزين يسود الوسط المسرحي السوداني منذ اندلاع الحرب الحالية. يكفي شاهدا على ذلك أن الممثلة القديرة فائزة عمسيب التي كرمتها الهيئة العربية للمسرح في الشارقة عام 2013 وملأت صفحات الصحف المحلية والعربية شائعات وفاتها مرات عديدة، لكنها إلى الآن لم تستطع مغادرة الخرطوم بسبب المرض وأصوات المدافع تدوي في سماء الخرطوم وشهدت بعينها كل مآسي الحرب منذ انطلاق أول رصاصة وحتى الآن.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store