logo
احتفاء بحياة صنع الله إبراهيم: الماركسي العنيد في الأدب المصري

احتفاء بحياة صنع الله إبراهيم: الماركسي العنيد في الأدب المصري

موقع كتاباتمنذ يوم واحد
خاص: بقلم- د. مالك خوري:
كان لقائي الأول بأعمال صنع الله إبراهيم في عام 2013، حين وجدت نفسي مأخوذًا بالمسلسل الرمضاني (بنت اسمها ذات)، المقتبَّس عن روايته الشهيرة الصادرة عام 1992؛ (ذات)، وقد أخرجته 'كاملة أبو ذكري' وكتبت له السيناريو 'مريم نعوم'. كانت سنوات إقامتي الطويلة في كندا قد أبعدتني عن نبّض الأدب والفن العربيين، ولم أتمكن من تذوّق جمال عمل متلفز مستّوحى من رواية لكاتب سأدرك قريبًا أنه من أقوى الأصوات المَّعاصرة في الأدب العربي، إلا بعد انتقالي إلى القاهرة.
شدّني المسلسل على كل المستويات: وجدانيًا، وفكريًا، وجماليًا. كنت أنتظر حلقته الجديدة كل ليلة بلهفة تكاد تشبَّه لهفة الأطفال. وعلى امتداد حلقاته الإحدى والثلاثين، تابع العمل حياة 'ذات'، المرأة المصرية من الطبقة الوسطى الدُنيا، منذ ميلادها عام 1952 مرورًا بعقود من التحوّلات، حيث نسّجت رحلتها الشخصية في نسيج التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي لمصر الحديثة.
وحين انتهت الحلقة الأخيرة، شعرت وكأنني تُركت في العراء، لكن سرعان ما تحوّل انتباهي إلى المصدر نفسه. بدأت أضع خطتي لقراءة روايات إبراهيم، واحدة تلو الأخرى، مأخوذًا بصوت روائي يجمع بين الحميمية والسلطة الأدبية. وخلال الأشهر التالية، قرأت مجمل أعماله، غائصًا ليس فقط في نصوصه، بل في التاريخ المعقّد لهذه الشخصية الأدبية والسياسية البارزة. ومن خلال هذه الرحلة، تعرفت على أسلوبه الفريد في رسم تاريخ مصر الحديث، بتركيزٍ دائم على التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، وعلى واقع الطبقات العاملة وأحوالها.
كشفت ليّ هذه الرحلة القرائية أن صنع الله إبراهيم ليس فقط سيدًا لفن السرد، بل واحدًا من أكثر الروائيين الماركسيين في العالم العربي تمسَّكًا بمواقفه، وكاتبًا يترك بصمة عميقة على المشهدين الأدبي والسياسي في مصر ما بعد 1952. فعلى مدى أكثر من نصف قرن، رفض أن يُخفف من حدّة التزامه الإيديولوجي: رافضًا التكريمات الرسمية، ناشرًا أعماله حصرًا عبر دور نشر مستَّقلة ويسارية، ومبدعًا جسدًا أدبيًا يواجه الاستبداد والإمبريالية والظلم الاجتماعي بدقة تكاد تكون وثائقية. وحتى حين تعرّض للاضطهاد بسبب انتماءاته الشيوعية، كان إبراهيم ـ شأنه شأن كثير من الفنانين والمثقفين الماركسيين في جيله ـ قادرًا على إدراك الأثر التحويلي العميق لثورة الضباط الأحرار عام 1952. فقد أقرّ بإصلاحاتها الجذرية المناهضة للإمبريالية والمَّحققة للتحول الاجتماعي والاقتصادي، دون أن يغضّ الطرف عن الكُلفة التي فرضتها آلة القمع. وكما قال لاحقًا: 'كان لدى ناصر جهاز ينفّذ الأمور. سحب البساط من تحت أقدام الشيوعيين' (محنة مثقف عربي). هذا الموقف المركّب ـ الذي يجمع بين الإشادة بطموحات الثورة التَّحررية وإدانة إفراطها السلطوي ـ يتردد في تصريحاته العلنية وفي النسيج الأخلاقي لأعماله الروائية.
بدأ وعي إبراهيم السياسي بالتبلور خلال سنوات دراسته في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في أوائل الخمسينيات. وقد انخرط في العمل السري داخل حركة 'التحرر الوطني الديمقراطية' الماركسية، في وقتٍ كانت فيه اليسارية المصرية منتشّية بسقوط الملكية، لكنها تتوجس من إحكام الضباط الأحرار قبضتهم على السلطة. وبلغ هذا التوتر ذروته في عام 1959، عندما شنّ النظام حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعيين، كان إبراهيم بين ضحاياها، وحكم عليه بالسجن سبع سنوات. قضى منها خمسًا، وأُفرج عنه عام 1964 في توقيتٍ يتزامن ـ ليس من قبيل الصدفة ـ مع زيارة الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف لافتتاح السد العالي بأسوان.
وقد كانت سنوات السجن تلك حاسمة في صياغة حسه الأدبي، إذ رسخت لديه أسلوبًا قائمًا على الملاحظة، والتقطيع، والشكل الوثائقي، وهو ما برُز لأول مرة في عمله الأول 'تلك الرائحة' (1966). وغالبًا ما تُقرأ هذه الرواية القصيرة كسجل سجني، إذ تتخلى عن الحبكة التقليدية لصالح الجو العام، وتمزج بين ملاحظات مهرّبة، ومقتطفات صحافية، وروتين يومي رتيب، لتجسيّد القيود النفسية والجسدية للاعتقال. لقد فاجأ شكلها غير المألوف الوسط الأدبي في القاهرة: فهو من جهة فعلٍ مقاومة سياسي، ومن جهة أخرى بيان جمالي لمبدعٍ ماركسي يبحث عن الحقيقة في خام الواقع المعيّش.
بعد الإفراج عنه، غادر إبراهيم مصر للدراسة والعمل في الخارج، قاضيًا فترات طويلة في برلين الشرقية وموسكو. وهناك، انغمس في الحياة الثقافية والسياسية للكتلة الشرقية، متشرّبًا رؤية اشتراكية تشكلت من تجارب وطنية متعدَّدة، ما عمّق قناعاته الماركسية ووسّعها إلى ما يتجاوز التجربة المصرية. وقد كانت عودته إلى الأدب موسومة برواية 'نجمة أغسطس' (1974)، التي عكست مزيج الإحباط والأمل العنيد لدى المثقفين اليساريين بعد هزيمة 1967. وجعلت من السد العالي، ورمز التعاون 'المصري-السوفييتي'، خلفية لمسَّاءلة التوتر بين مشاريع التحديث الوطني والسلطوية المتجذرة في الدولة ما بعد الاستعمار.
وبحلول الثمانينيات والتسعينيات، اتسعت روايات إبراهيم في النطاق والحدة الساخرة معًا. فجاءت 'اللجنة' (1981) كاستعارة لاذعة عن الامتثال البيروقراطي والإيديولوجي، مستَّعيرة عبثية كافكا لفضح قبضة الدولة على المعرفة والثقافة والجسد. وبعد عقد، صدَّرت 'ذات' (1992)، وهي سجل واسع لحياة امرأة مصرية عبر عقود من التحولات السياسية، مزج فيها بين الشخصي والأرشيفي، وأدرج نصوصًا حقيقية من الصحف المصرية، ليجعل من الإعلام شاهدًا على تدهور المجال العام من تفاؤل عهد عبدالناصر إلى رأسمالية المحاسيّب في عهد السادات وجمود عهد مبارك (إبراهيم، ذات). أما 'شرف' (1997)، فقدمت إدانة شاملة لفكرة السجن التقليدية نفسها، جاعلة منها نموذجًا مصَّغرًا لافتراس الرأسمالية العالمية، ولا سيّما في مجال الصناعة الدوائية الدولية (إبراهيم، شرف). وهنا، لم تُعدّ السجون مجرد رمز للقمع السياسي، بل استعارة للعنف البنيوي للعولمة النيوليبرالية، ما يُعزّز نقد إبراهيم الماركسي لآليات الإمبريالية الاقتصادية.
امتدت جغرافيا السرد لدى إبراهيم أيضًا إلى ما وراء حدود مصر. فقد قدّم في 'بيروت بيروت' (1984)، تصويرًا حادًا للحرب الأهلية اللبنانية، ملتقطًا دمارها الإنساني والسياسي بعين الصحافي وحس الروائي الأخلاقي. وبعد عقدين، عاد في 'وردة' (2000)، إلى الكفاح المسَّلح اليساري في منطقة ظفار بسلطنة عُمان، ناسجًا رواية تضع الحركات الثورية العربية ضمن إطار مشترك عابر للحدود. وفي العملين معًا، أكد تضامنه مع النضالات المناهضة للإمبريالية في العالم العربي، مؤسسًا إبداعه على قناعة بأن الإنتاج الثقافي جزء من المهمة التاريخية للأممية الماركسية.
جاء عقد الألفين بما حمله من إبداع متجدَّد ومواقف علنية تؤكد صلابته الإيديولوجية. ففي عام 2003، رفض إبراهيم جائزة الدولة التقديرية في الآداب، مستغلًا اللحظة ليُلقي خطابًا لاذعًا ضد فساد النظام وتبعيته للمصالح الأميركية (محنة مثقف عربي). أما أعماله الروائية في تلك المرحلة، فواصلت كسر القوالب الفنية وتوسيّع الأفق الموضوعي. فعاد في 'التلصص' (2007)؛ إلى منطقة السيّرة الذاتية، مستَّعيدًا ملامح الطفولة في بيت بالقاهرة خلال أوائل الأربعينيات. وفي 'الجليد' (2011)، التي تدور أحداثها في الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، قدّم شخصية طالب مصري في موسكو، جاء صوته السردي باردًا يعكس اغتراب المنفى. وأخيرًا، جاءت '1970: الأيام الأخيرة' (2020)؛ كتوثيق متعدَّد الطبقات للحظات الأخيرة في حياة جمال عبدالناصر، جامعًا بين التقرير السياسي وجو الحداد الصامت الذي خيَّم على مصر. وفي مقابلة عام 2011، متأملًا في انتفاضات الربيع العربي، فرّق إبراهيم بوضوح بين الاحتجاج العفوي والتحول الثوري: 'الثورة لها برنامج وهدف ـ تغيّير كامل للواقع أو إزاحة طبقة لتحل محلها طبقة أخرى' (الخيال كفعل انتقالي).
وعلى امتداد مسيّرته، حافظ إبراهيم على رؤية ماركسية أصيلة في عدائها للدوغماتية، كما للانتهازية في المواقف. فهو يعترف بإنجازات الحقبة الناصرية في مجالات التصنيع، وتوسيع التعليم، ومناهضة الإمبريالية، لكنه يرفض غض الطرف عن قمع النظام للسياسة اليسارية المستقلة. إن واقعيته الوثائقية، واعتماده على الأرشيف، وسخريته اللاذعة ليست مجرد اختيارات جمالية، بل هي استراتيجيات سياسية، تنبَّع من إيمانه بأن الأدب يجب أن يواجه التناقضات المعيشة في زمنه. وهكذا، تشّكل أعمال صنع الله إبراهيم أرشيفًا لدورات مصر الثورية، وشاهدًا على بقاء الفكر الماركسي في فضاء الثقافة العربية.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

صنع الله إبراهيم: القاهرة 24 شباط/فبراير 1937 – 13 آب/أغسطس 2025!الطاهر المعز
صنع الله إبراهيم: القاهرة 24 شباط/فبراير 1937 – 13 آب/أغسطس 2025!الطاهر المعز

ساحة التحرير

timeمنذ 7 ساعات

  • ساحة التحرير

صنع الله إبراهيم: القاهرة 24 شباط/فبراير 1937 – 13 آب/أغسطس 2025!الطاهر المعز

صنع الله إبراهيم: القاهرة 24 شباط/فبراير 1937 – 13 آب/أغسطس 2025! الطاهر المعز نَشَر 16 رواية كانت بمثابة توْثِيق نَقْدِي للسّلطة وللمجتمع وموقف ينحاز إلى صف الفُقراء والشُّعُوب التي تُناضل من أجل العدالة والحُرّيّة، ودخل السجن بسبب هذه المواقف المُنْحازَة والجريئة التي اشتهر بها، ومن بينها رَفْض جائزة 'ملتقى الرواية العربية' سنة 2003، وهو في السادسة والسّتّين من العمر، وأعلن بالمناسبة، أمام المَلآ، بمكان الإحتفال بمسرح دار الأوبرا بالقاهرة: ' في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرّد الآلاف، وتنفّذ بدقة منهجية واضحة خطة لإبادة الشعب الفلسطيني، ومع ذلك، تستقبل العواصم العربية زعماء إسرائيل بالأحضان، وعلى بُعد خطوات من هنا، يُقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بُعد خطوات أخرى يحتلّ السفير الأميركي حيّاً بأكمله من العاصمة، بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربياً…' وعَلّب رفضه تسلّم الجائزة 'إنها صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد'، وانتقد السياسة الدّاخلية والخارجية للنّظام المصري والخضوع للإملاءات الأمريكية و 'التطبيع مع إسرائيل التي تمارس القتل وتشكل تهديدًا فعليًّا لحدودنا الشرقية'. بعد 25 كانون الثاني/يناير 2011، علّق صنع الله إبراهيم قائلاً: 'إن ما جرى في ميدان التحرير لم يكن ثورة بالتأكيد، فالثورة لها برنامج وهدف: تغيير كامل للواقع أو إزاحة طبقة اجتماعية بأخرى… ما حدث كان انتفاضةً شعبيةً مَطْلَبُها الأساسي هو تغييرُ النظامِ، رغم أن معنى هذا لم يكن واضحاً، باستثناء الإطاحة بأبرز رموز النظام القديم'. يُعد صنع الله إبراهيم من أبرز الروائيين المصريين المعاصرين، وهو من ذوي التّوجُّه الإشتراكي ولم ترْدَعْه سنوات السّجن عن نقد النظام المصري والأنظمة العربية والتّنديد بالتّطبيع وبالخُضُوع للإمبريالية الأمريكية، واعتُقِلَ وسُجِنَ ست سنوات بداية من 1959، خلال الحملة التي شنتها السّلطات النّاصرية على اليسار، بسبب انضمامه إلى 'الحركة الدّيمقراطية للتحرّر الوطني' التي اشتهرت باسم 'حدتو'، وهي منظمة شيوعية سرّيّة، وذلك لما كان طالبا بكلية الحقوق في جامعة القاهرة، ودَوّن تجربة السّجن في 'يوميات الواحات' والواحات هو إسم أحد السجون ( مثل أبو زعبل والقلعة) التي 'أقام ' بها صنع إبراهيم، واعتبر هذه السّجون الجامعة الفِعْلِيّة التي تخرّج منها كأديب لأن 'الكتابة ليست مهنة فحسب، بل شكلاً من أشكال المقاومة' ترجم صنع الله إبراهيم بعض الأعمال الأدبية وأَلّفَ بعض كُتُب الأطفال، وكتب 16 رواية أهَمُّها تلك الرائحة سنة 1966، عقب خروجه من المعتقل، وصادرت السّلطات ( خلال رئاسة جمال عبد النّاصر) الرواية وحُظرت أي تغطية إعلامية ثم صدرت غير كاملة بسبب حذف الرقابة بعض الصفحات والمقاطع، ولم تصدر كاملة إلا سنة 1986 بعد ظهور نسختين منقوصتين، واحدة منهما في القاهرة، والأخرى في بيروت، واعتبرت الرقابة 'إن الرواية خَرَقَت الحدود الأخلاقية للمجتمع ' ووصفها يحي حقِّي ب'البذيئة والفَجّة' فيما دافع عنها يوسف إدريس صدرت 'نجمة أغسطس' سنة 1974، ودَوّنت في شكل روائي استكمال بناء السد العالي، من خلال وقائع الزيارة التي قام بها صحافي لأسوان وموقع السّدّ العالي، بأسلوب توثيقي يمزج اللحظة الرّاهنة بالتاريخ والتجربة الفردية بالتجربة الجَمْعِيّة والحُلْم بالواقع… نُشِرت رواية 'اللجنة' سنة 1981، ويمكن تلخيص وقائعها في انتصاب لجنة حكومية غير واضحة المهام والأهداف، استدعت شخصًا للمثول أمامها واستجوابه دون أن يُدْرِك القارئ ولا 'المُتّهم' طبيعة وسلطة هذه اللجنة، كرَمْز للمؤسسات الرّسمية وجهاز الدّولة الذي يُمارس القمع الظّاهر وكذلك القمع 'النّاعم' بعد نَشْر رواية اللجنة (1981) نُشرت رواية 'بيروت بيروت' سنة 1984، والتي يقول عنها في إحدى المقابلات الصحفية: 'أمضيت في بيروت حوالي شهر، وكنت قد انتهيت لتوّي من كتابة 'اللجنة' و 'تلك الرائحة'، وقلت لنفسي: كفى من هذا… أريد أن أكتب قصّة حب، ولكن ما إن بدأت أكتب، حتى وجدت نفسي غارقاً في الحرب الأهلية اللبنانية، وقلت لنفسي: أليس من المفترض أن أحاول فهم ما يحدث هنا بالضبط؟ فبدأت أُجري أبحاثاً، ووجدت أفلاماً، ووثائق، وما إلى ذلك، وذهبت إلى الأرشيفات'… تتناول الرواية وضعًا 'قوميا' عربيا وليس محلّيا عن اشتداد المعارك إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، وما خلّفته من خراب وانقسام في عاصمة الحرية الثقافية العربية التي احتضنت المقاومة الفلسطينية والمُعارضين واللاّجئين والمقموعين العرب. نُشِرت رواية 'ذات' سنة 1992 واستمرّ صنع الله إبراهيم في استخدام الوثائق لِرَصْد التحولات الاجتماعية والسياسية خلال أكثر من عِقْدَيْن، ( بين خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين) وتحولت إلى مُسلسل تلفزيون من إخراج كاملة أبو ذكرى سنة 2013، ونجحت الرواية بإبْداع في رَصْد فترة من التحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية في مصر، من خلال الحياة اليومية لموظفة ( إسمها 'ذات' ) واستخدام الوثائق ومقتطفات من الصّحف التي تُشير إلى التّحوّلات المفروضة على المواطن الذي يُؤْمَرُ بالتّكَيُّف مع انتشار الإستهلاك وتدهور قطاعات الصحة والتعليم والنّقل والقِيَم… نُشِرت رواية 'شرف' سنة 1997 لتدوين وقائع الحياة اليومية في السجون المصرية كمرآة للمجتمع الذي يتميز بالإنقسام الطّبقي والإستغلال والفساد وانتشار الرّشْوة والقمع والإهانة، وما إلى ذلك من نتائج الخصخصة و'الإنفتاح الإقتصادي' خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، مما يُحوّل السجن إلى مجتمع صغير وإلى فضاء يخضع لموازن القوى، يُنتج ويستغل وإلى سوق استهلاك وإلى فضاء قمع شديد… استلهم صنع الله إبراهيم رواية 'وردة' التي نشرها سنة 2000، من سيرة امرأة عُمانية ثائرة ( ضمن الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي) ضد السلطان سعيد ثم ابنه قابوس الذي نظم انقلابا ضد والده بدعم من دول أوروبية وشاه إيران، وهي رواية قاتمة تُثير تزييف التاريخ الرسمي للوقائع، ترصد الرواية غَدْر الثورة وانكسار الحُلْم الثّوري وخيبة بعض الثائرين الذين اصطدموا بواقع الشعوب وبالتحالفات بين السّلطة والإمبريالية… نشر رواية «أمريكانلي» سنة 2013 وهي نقد للمجتمع الأمريكي من داخله، من خلال أكاديمي مصري يصطدم بزَيْف 'النّموذج الحضاري ' الأمريكي وزَيْف الدّيمقراطية الأمريكية التي تُحول الليبرالية إلى أداة رقابة تنتهك الحريات وحقوق الإنسان، من خلال القمع اليومي وسطحية العلاقات وتزييف وسائل الإعلام للواقع… كما نَشر صنع الله إبراهيم أعمالا أخرى من ضمنها 'برلين 69' و 'التّلَصُّص' و 'العمامة والقُبّعة' ( عن الغزو الفرنسي لمصر بين سنَتَيْ 1778 و 1801 وغيرها من الروايات ومن الترجمات والقصص، وتندرج جميعها في إطار الكَشْف والتّوثيق والنّقد كأشكال من المُقاومة الأدبية والسياسية… ‎2025-‎08-‎15

إضاءة :صنع الله إبراهيم لمناضل اليساري، المثقف المشتبك!محمد العبد الله
إضاءة :صنع الله إبراهيم لمناضل اليساري، المثقف المشتبك!محمد العبد الله

ساحة التحرير

timeمنذ 8 ساعات

  • ساحة التحرير

إضاءة :صنع الله إبراهيم لمناضل اليساري، المثقف المشتبك!محمد العبد الله

إضاءة : صنع الله إبراهيم لمناضل اليساري، المثقف المشتبك! محمد العبد الله لم يكن الروائي، المناضل اليساري، المثقف المشتبك، فقيد الكلمة والموقف الثوريين، الراحل ' صنع الله إبراهيم ' كاتبا روائيا عاديا ، بل ترك إرثا أدبيا، مميزا، من خلال النصوص التي أثرى فيها هذا النوع من الأدب، لأنه أبدع في أسلوب السرد الذي انتقل فيه، مابين الواقع، والخيال القريب من الحياة السياسية والاجتماعية. كانت الكتابة عنده، موقف راديكالي من قضايا الوطن والشعب والأمة، لأنه التقط هموم الغلابة والمهمشين، وعايش التجارب الكفاحية التي كتب عنها، ميدانيا،كما قرأنا في رواية ' وردة ' التي تحدثت عن المرحلة الثورية في ظفار / سلطنة عُمان، و في روايته ' بيروت بيروت ' التي كتب فيها عن مرحلة وجود المقاومة الفلسطينية. ولم يكن قلم كاتبنا الملتزم، يلتقط الإيجابيات فقط، بل، ذهب للنقد الثوري انطلاقا من معرفته، وتأكيده بأن الكتابة هي ' ساحة اشتباك مع الفساد والاستبداد والاستعمار والغزو الخارجي بمختلف أشكاله '. وانطلاقا من موقفه النقدي الملتزم، كان رفضه للجائزة ' لأنها صادرة عن حكومة لاتملك مصداقية منحها '. على الجانب الآخر، استجاب كاتبنا الثوري، لتكريم شعبي بمدينة المحلة الكبرى، وقف خلاله مع أبناء شعبه الذين ناضل معهم من أجل حقوقهم وتطلعاتهم الوطنية. إن الكتابة والكلمة عند ' صنع الله إبراهيم ' كانت سلاحا في معركة ' كي الوعي ' التي تمارسها جبهة الأعداء بمختلف تسمياتها، العالمية والإقليمية والمحلية. رحل الكاتب الملتزم، لكن أثره، باق. _ تسقط الأجساد لا الأفكار. ‎2025-‎08-‎15

عن الإرث الإبداعي للراحل لصنع الله إبراهيم
عن الإرث الإبداعي للراحل لصنع الله إبراهيم

موقع كتابات

timeمنذ 16 ساعات

  • موقع كتابات

عن الإرث الإبداعي للراحل لصنع الله إبراهيم

قبل أيام قليلة غادرنا الكاتب المناضل صنع الله إبراهيم عن عمر 88 سنة، والذي كتب العديد من الروايات التي حملت تجربته النضالية والحياتية بأسلوبه مميز، فهو ولد في القاهرة 1937 وتوفي فيها صباح 13 آب/أغسطس 2025. وعندما زار ستوكهولم في بداية التسعينات، قوبل بترحيب من قبل المثقفين العرب وكان أكثرهم العراقيون وقليل من المصريين وجلهم من أعضاء السفارة المصرية، بدا أكثر انسجاماً مع العرب والعراقيين وكنا نستمع اليه بشغف عن تجربته السياسية التي أولاها أهمية واعتقالعه في زمن جمال عبد الناصر وكان منشرح الخاطر وروى أعاجيب من الإرهاب والتعذيب بالشوم الثقيلة (الهراوات).. والتي راح ضحية الضرب بها المناضل الأديب الناقد شهدي عطية الشافعي! وعن التعذيب الرهيب من قبل الضابط سيء السمعة اللواء حمزة البسيوني، وكتابه الأشهر في أدب السجون 'سجن الواحات' الذي ضم ممارسات رهيبة حقاً لما تعرض له خيرة مفكري ومثقفي وكتاب مصر.. ثم استغرق في محاضرته عن حكم السادات واتفاقية كامب ديفد وتبادل الزيارات مع إسرائيل التي اعتبرها صنع الله إبراهيم بداية التراجع العربي ..وحاول بعض أفراد السفارة تبريرها باعتبارها نتيجة التحرير في حرب اكتوبر! وفي الحقيقة بدا صنع الله إبراهيم نحيلاً وصوته لا يكاد يصل الأسماع وبرر ذلك بصحته المتدهورة، ولم أقدّر وقتها أنه سيعيش خمس سنوات على الأكثر، لذا أن يعيش قرابة تسع عقود مفعمة بنشاط كتابي وإبداعي أعتبرها حالة نادرة لولا أن داهمه الالتهاب الرئوي الحاد الذي قضى عليه.. وأذكر حين تطرق عن صحته واسمه قال: أتيت الى الدنيا نحيلا ضعيفاً مفزعاً واحتار أهلي باختيار اسم مناسب؛ ولكونه أتى على تلك الهيئة المريبة سماه والده صنع الله متمنياً له أن يعيش! درس الحقوق لكن اندفاعه للصحافة كان الأهموهو ما يتناسب مع توجهه الشيوعي ضمن 'حدتو'، وكانت بدايته المهنية مع وكالة الأنباء المصرية ثم الألمانية الديمقراطية وعاش تجربة التصوير السينمائي في موسكو ليقفل راجعا عام 1974 وليتفرغ لشؤونه الكتابية الخاصة بعد عام.. وليبرز ضمن أهم كتاب الرواية العرب بل وقسم من أعماله اختيرت ضمن أهم مائة رواية عربية.. رواية شرف 1997 جائت بالتسلسل الثالث ضمن افضل الروايات العربية.. ناهيك عن روايات أخرى سامقة المكانة مثل 'ذات' عام 2013 التي تحولت الى مسلسل بطلته بنت اسمها ذات و 'وردة' و 'بيروت بيروت' و 'العمامة والبقعة' و 'نجمة اغسطس' و 'امريكانلي' و'الجليد وبرلين' و'التلصلص| و'تلك الرائحة' وغيرها.. عالج صنع الله إبراهيم الواقع المصري الذي طغى على جل رواياته ضمن معالجات سردية ثقافية وسياسية وتوثيقية تعكس التطورات في مصر وباسلوب يميل الى السخرية تؤرخ الأحداث وخاصة السياسية منها..كما أن الكثير منها مرتبط بسيرته الذاتية ووتجربته المريرة في السجن أيام الحقبة الناصرية! ورواية 'شرف' التي بطلها الشاب شرف تمثل إنموذجاً عاماً لكتاباته لما تتضمنه من نقد اجتماعي وسياسي وقد أثارت الجدل حولها، حيث تدور أحداثها في سجن مصري، حين قتل شرف أجنبياً حاول الاعتداء عليه، وتكشف عن فساد المنضومة القضائية والأمنية المتواطئة، ضمن سرد روائي متماسك معزز بوثائق ومقتطفات من الصحف الحقيقية!! وهذه الرواية تمثل نظرة صنع الله إبراهيم للأدب الملتزم بقضايا الأنسان التي هي انعكاس لقضايا ومنظومات البلد السياسية والثقافية التي ينخرها الفساد! لذا ليس من الغريب ان تحظى باهمية كبيرة لكونها تسلط الأضواء عن المسكوت عنه في النقد المصري والعربي ولا غرابة في أن تكون وأحدة من أفضل ثلاث روايات على رأس مائة رواية عربية! حاز صنع الله ابراهيم على جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004 جائزة كفافيس للادب عام 2017 رفض جائزة الدولة التكريمية عام 2003

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store