
الصديق حاج أحمد يؤسس مشروعا سرديا للفضاء الصحراوي
برز الروائي الجزائري الصديق حاج أحمد المعروف بالزيواني عام 2013 ككاتب قادم من عمق الجنوب الجزائري، وتحديداً من مدينة أدرار الصحراوية. وقدم نفسه إلى القراء بروايته الأولى "مملكة الزيوان" مستلهماً تفاصيلها من الحياة الصحراوية التي تختلف عن الحياة في الجبال أو الساحل، ففي الجنوب تفرض الظروف المناخية والجغرافية أسلوباً معيشياً خاصاً انعكس في تصويره للبيئة بتفاصيلها، كالواحات والعادات والقصور الطينية وتغيرها مع مرور الزمن.
أما في روايته الثانية "كاماراد"، فتناول الزيواني موضوع الهجرة غير الشرعية والحلم الأفريقي بعبور البحر نحو الضفة الأوروبية، عبر حكاية مامادو الذي التقى مخرجاً فرنسياً على ضفاف نهر النيجر ليقص عليه رحلته الطويلة من النيجر إلى الجزائر قبل أن تنتهي المحاولة بالفشل في المغرب.
وفي روايته الثالثة "منا" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية، عاد حاج أحمد للكتابة عن الوجه القاسي للصحراء ولعنة الجفاف التي عاناها الطوارق في جنوب الجزائر وشمال مالي. أما أحدث أعماله رواية "الطانفا"، فتروي حكاية تاجر طموح ينجح في الاستيراد من النيجر ويتزوج من موريتانية تغير مسار حياته.
وما يلفت القارئ في تجربة الصديق حاج أحمد أن الثيمات والقضايا قد تختلف وتتنوع من رواية إلى أخرى إلا أنها تتقاطع كلها في الفضاء الصحراوي الأفريقي، الذي يمثل المكان الدائم لكل شخصياته الروائية، وهو الكاتب الشغوف بالصحراء، فعلى رغم رحلاته المتعددة بين أوروبا وآسيا فإنه يعود دوماً للانطلاق من أرض أفريقيا مؤسساً لمشاريعه السردية.
يقول الكاتب ابن الجنوب عن رحلته مع القراءة وكيف كان يتلقى أعمالاً أدبية تنتمي إلى بيئة مختلفة عن بيئته الصحراوية، إن "الكاتب يولد على دين بيئته كما يقال، طبعاً الاغتراب القرائي، بدأ معي منذ أن دخلت المدرسة الابتدائية، وأنا في تلك القرية النائية المرمية بين رمال الصحراء، حيث كان يأتينا نص البحر ومشهد الثلج وعلو العمارات وغيرها من الصور المشفوعة بنصوص القراءة، غامضاً وأحياناً مضبباً، ولم تكن تلك الحكايات الواصلة إلينا حول زرقة البحر واتساع امتداده وبياض الثلج تكفي لتشكل صورة ذهنية حقيقية عن هذا العالم أو ذاك، إذ كانت هذه القطيعة الفيزيقية غير المقصودة ماثلة أكثر في تعابيرنا الكتابية المرتبطة أساساً بعالمنا القروي، وعدم اقتناعنا بإدراج الذهاب إلى البحر خلال العطلة الصيفية ضمن درس التعبير الكتابي الخاص بموضوع العودة إلى المدرسة. ولم نكن في البداية مدفوعين لقراءة أعمال تشبهنا بمفهوم الوعي القرائي، إنما كنا نجد أنفسنا واعين ومدركين للأشياء المقروءة أو التي يطلب منا الكتابة حولها".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"مملكة الزيوان" هي الرواية الأولى لحاج أحمد وكانت مدينة أدرار بطلتها، ويقال إن الكاتب غالباً ما يكشف عن نفسه في عمله الأول لأنه يكتبه ببراءة قبل أن يتعلم التحايل والتخييل والكذب الروائي على القراء، حول ذلك يقول "استلهمت من طفولتي وفضاءات القصر الطيني كثيراً، إذ إن النص الأول عادة يتكئ فيه الكاتب على ذاته، ولعل أهم ما في النص الأول أن يبرهن الكاتب على أنه مشروع كاتب، ويستوفي مكونات النص حتى يمكن تجنيسه ضمن جنس الرواية".
في رواية "كاماراد" الصادرة عن دار فضاءات تناول حاج أحمد موضوع الهجرة غير الشرعية، وسبق كتابتها زيارة قام بها إلى النيجر عام 2014 يذكر الروائي الجزائري أن موضوع الهجرة تولد لديه من خلال مشاهداته اليومية للمهاجرين الأفارقة بولايته أدرار، وتسمرهم عند مفترق الطرقات، بحثاً عن العمل، لأجل التزود بزاد إكمال الطريق نحو الفردوس، إذ كانت ولايته بالنسبة إليهم نقطة عبور واستراحة. ويضيف "طبعاً هذا المشهد اليومي المتكرر، عمَّق هذا الوعي بضرورة الكتابة حول هذا الموضوع الراهن والمثير، فضلاً عن أن مناخات وعوالم أفريقيا جنوب الصحراء وجدتها غائبة في مدونة الرواية الجزائرية والعربية، مما حمسني أكثر لأن أحرث سردياتي في تلك المناطق المجهولة".
وتابع "الزيارة كانت مفيدة جداً، فالروائي يقرأ ويسمع ويشاهد كل ما يتصل بموضوعه، ثم يحاول هدمه وإعادة بنائه وفق متخيله، ثمة نقطة أخرى في غاية الأهمية وهي أن وقوف الكاتب على فضاءات المكان يجعله متحرراً أكثر، فالصورة الملتقطة أو الزاوية المكتوب عنها تبقى وجهة نظر مصورها وكاتبها، بينما وقوف الكاتب بنفسه قد يمنحه زوايا وتفاصيل صغيرة جداً لم يلتفت إليها مصور الصور أو كاتب المقال، وإن كان على أية حال ليس فرضاً زيارة المكان، لكني أشدد على حيوية ذلك".
وأكمل "المواقف التي وقفت عليها وظلت محفورة بذاكرتي عن زيارة النيجر وصحاريه، مشاهد الفقر والبؤس التي يحياها الإنسان النيجيري واقتناعه بقسمته في الحياة، إذ تجد داخل العاصمة نيامي فيللا فارهة وبجوارها أكواخ هشة وهي مفارقة عجيبة في تلك المجتمعات، كما أن بيع المواد الغذائية بالغرام حال لافتة أيضاً داخل الأسواق، وهو مشهد معدوم أو يكاد في شمال أفريقيا".
روايته الثالثة "منا" تناولت أزمة الجفاف القاسية التي شهدها شمال مالي عام 1973، وعن ظروف كتابتها يقول إنه "خلال إعدادي لرسالة الماجستير بجامعة الجزائر قبل عقدين، تناولت شخصية لغوية وأدبية بالأزواد وتطلب مني الأمر زيارة تلك الصحارى، وإن كانت الزيارة بحثية غير أن حديث الشيوخ والعجائز عن أحداث جفاف 1973 كان موجعاً، مما ولد عندي تأملات اختزنتها إلى حين. كما أن الشتات الذي وقع بعد الجفاف، والهجرات نحو ليبيا وما تلاه من أزمة الأزواد الراهنة بسبب ذلك جعلني أستطعم هذه الثيمة وأكتب عنها".
وعن زياراته لمالي والنيجر، يقول حاج أحمد "قصتي مع دول الساحل مردها إلى زيارتي الأولى عام 2004 عندما ذهبت في رحلة علمية لنبش وجمع ما تناثر من أدب وحياة أحد أعلام صحراء مالي، وهو الشيخ محمد بن بادي الكنتي الذي كان محور دراستي في الماجستير بجامعة الجزائر فاكتشفت فضاء جديداً مكتنزاً بالأحداث، لكن ذلك لم يكن في بالي أني سأصبح يوماً روائياً وأوظفه في تأسيس نصوصي، إنما ظل مركوناً في سراديب الذاكرة حتى جاءت الفرصة فاستدعيت ذلك مع زيارتي التي تكررت لتلك الربوع، مما جعلني أكثر وعياً بتلك الفضاءات وما تكتنزه من قضايا وثقافات وحكايا".
وتابع "ثمة أشياء أخرى ذات صلة، فمنطقتنا التاريخية توات أو أدرار كانت محور طرق القوافل التجارية بين شمال أفريقيا وجنوبها، ونعم هناك بلدان أفريقية مثل كينيا وإثيوبيا ومدغشقر أتطلع لزيارتها ومحاولة اكتشافها، وإن كانت الرواية المقبلة تظل تسير في هذا المشروع، وهي رواية تاريخية حول الشيخ المغيلي وعلاقته بأفريقيا، ووضعت إشارات في رواية 'الطانفا' حتى نظهر فضل ثقافتنا الجزائرية على أفريقيا".
يتخيل حاج أحمد نفسه بعد 20 عاماً كما هو الآن "بسيط"، ويتمنى أن "يظل ذلك الدرويش الزيواني يسكنني وأظل في مزرعتي، وأقرأ وأكتب... ربما بعد التقاعد إن طال العمر، سأجعل الربيع والصيف بمدينة بني صاف الساحلية، بمسكني الخاص هناك، وأعود خريفاً وشتاء إلى وكري هنا. ربما أكون نشرت 30 كتاباً، أما الكتابة فستظل إلى اللحظة الأخيرة".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 13 ساعات
- Independent عربية
"ما تبقى" غاليري لتجارب نسائية تملأ فراغات الذاكرة
"ما تبقى"، هو عنوان المعرض الذي يستضيفه غاليري مشربية في القاهرة حتى 19 يونيو (حزيران) لثلاث فنانات يقدمن تجارب فنية تتقاطع مساراتها مع الذاكرة والهوية والتاريخ المفقود أو المعاد تخيله. المعرض لا يقدم سرداً خطياً، بل يتنقل بين طبقات من الزمن والانفعال، ويتوزع على ثلاثة فضاءات رمزية: الثابت، والانتقالي، والمعاد تخيله. تتنوع خلفيات الفنانات المشاركات، فالفنانة فاطمة أبو دوما قاهرية بجذور ضاربة في عمق صعيد مصر، بينما تنصب اهتمامات فرح المعتصم في هذه المساحة التي تتقاطع فيها العمارة بالفن البصري والتعليم، وتجمع ميلاني برطاميان بين أصول مصرية وأرمنية ويونانية، هذا التنوع يمنح المعرض طيفاً غنياً من الرؤى والمقاربات، تتقاطع جميعها حول ثيمة مركزية، تدور حول ما يبقى بعد الفقد، وما يعني أن نعيد سرد الذاكرة من شظاياها. في جانب من المعرض نواجه مفردات مألوفة تشي بالاستقرار والانتماء أو الثبات. هنا، تستخدم الفنانات خامات مثل الأقمشة المطرزة وأغراض منزلية حميمة من صعيد مصر، كوسيلة لاستحضار الشعور بالجذور، والانتماء إلى مكان ما، حتى وإن بدا هذا الانتماء هشاً في زمن التغيرات المستمرة. يظهر تأثير الفن النسوي واضحاً في هذا الجانب من المعرض، عبر استحضار فنون الحرف اليدوية كعنصر فني كامل، وليس مجرد تزيين. يتطرق المعرض أيضاً إلى ما يتم تجاهله في العادة، فهنا صور لنباتات برية صحراوية ومشاهد فوتوغرافية مجهولة المصدر، لا يتمتع معظمها بجودة عالية. عبر هذه الصور تطرح الفنانات أسئلة حول الملكية، والذاكرة الجمعية، والأرشفة. تسير الأعمال في هذا الجزء في خط متواز مع تجارب فنية عالمية تهتم بالمهمش والمنسي، وتسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الصورة والواقع الاجتماعي. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) في جانب آخر تأخذنا الفنانات إلى عالم مصنوع من اللاوجود، فنرى بطاقات بريدية متخيلة، وتاريخ عائلي يعاد بناؤه. هنا، يصبح الخيال وسيلة لاستعادة ما فقد، أو لملء فراغات الذاكرة التي لا يمكن سدها إلا بالرؤية الفنية، هذا التناول يذكرنا بأساليب عديد من الفنانين حول العالم الذين عالجوا فكرة الغياب والهوية المفقودة. بين أبرز هؤلاء مثلاً يأتي الفنان الفرنسي كريستيان بولانسكي، الذي عالج هذه الفكرة عبر صور لأشخاص مجهولين لكنهم يتمتعون بالحضور. تتعدد مسارات الفنانات، لكن يجمعهن هم مشترك حول الذاكرة كفضاء هش ومفتوح للتأويل: فاطمة أبو دوما، درست الفن وشاركت في معارض محلية ودولية. تعالج في أعمالها موضوعات مثل الزمن المعلق، والأرشيف، والذكريات، والمرأة. تستخدم تقنيات مثل الرسم، والطباعة الشمسية، والتصوير، والفيديو، وتعبر عن الفن بوصفه "علاجاً روحياً". أما فرح المعتصم، فهي معمارية وفنانة بصرية ومدرسة. تسعى إلى توثيق الذاكرة الحضرية من خلال الصور، والكولاج، والسرد المكاني. تهتم كثيراً بالصور المهملة وبالأرشيفات المنسية، وتحاول إعادة تقديمها في سياقات بصرية جديدة. أما ميلاني برطاميان، فتحمل مزيجاً من الهويات الثقافية، إذ درست العلوم السياسية ثم النظرية الثقافية والفنية في باريس، وتخصصت في السوريالية المصرية. تركز أعمالها على العلاقة بين الذاكرة والهوية، ولها كتاب بعنوان "العائلة الأرمنية اليونانية المصرية الأخيرة في باهلر"، وهي بصدد نشر كتابها الثاني "افتكرني". "ما تبقى" لا يقدم إجابات، بقدر ما يطرح مزيداً من الأسئلة، مسلطاً الضوء على هشاشة الذاكرة، وعلى تلك الفجوات التي نعيش معها يومياً من دون أن ننتبه لها، لكنه أيضاً دعوة لإعادة التخيل، وللتساؤل حول من يحق له أن يتذكر؟ وكيف نحافظ على ما تبقى من سرديات قد تكون في طريقها للاندثار؟ تعكس هذه المعالجات طبيعة التحولات التي شهدها الفن المعاصر خلال السنوات الأخيرة، فلم يعد الفن مجرد وسيلة للعرض أو التلقين، بل أصبح مجالاً لطرح الأسئلة والتأمل والبحث.


Independent عربية
منذ 2 أيام
- Independent عربية
الصديق حاج أحمد يؤسس مشروعا سرديا للفضاء الصحراوي
برز الروائي الجزائري الصديق حاج أحمد المعروف بالزيواني عام 2013 ككاتب قادم من عمق الجنوب الجزائري، وتحديداً من مدينة أدرار الصحراوية. وقدم نفسه إلى القراء بروايته الأولى "مملكة الزيوان" مستلهماً تفاصيلها من الحياة الصحراوية التي تختلف عن الحياة في الجبال أو الساحل، ففي الجنوب تفرض الظروف المناخية والجغرافية أسلوباً معيشياً خاصاً انعكس في تصويره للبيئة بتفاصيلها، كالواحات والعادات والقصور الطينية وتغيرها مع مرور الزمن. أما في روايته الثانية "كاماراد"، فتناول الزيواني موضوع الهجرة غير الشرعية والحلم الأفريقي بعبور البحر نحو الضفة الأوروبية، عبر حكاية مامادو الذي التقى مخرجاً فرنسياً على ضفاف نهر النيجر ليقص عليه رحلته الطويلة من النيجر إلى الجزائر قبل أن تنتهي المحاولة بالفشل في المغرب. وفي روايته الثالثة "منا" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية، عاد حاج أحمد للكتابة عن الوجه القاسي للصحراء ولعنة الجفاف التي عاناها الطوارق في جنوب الجزائر وشمال مالي. أما أحدث أعماله رواية "الطانفا"، فتروي حكاية تاجر طموح ينجح في الاستيراد من النيجر ويتزوج من موريتانية تغير مسار حياته. وما يلفت القارئ في تجربة الصديق حاج أحمد أن الثيمات والقضايا قد تختلف وتتنوع من رواية إلى أخرى إلا أنها تتقاطع كلها في الفضاء الصحراوي الأفريقي، الذي يمثل المكان الدائم لكل شخصياته الروائية، وهو الكاتب الشغوف بالصحراء، فعلى رغم رحلاته المتعددة بين أوروبا وآسيا فإنه يعود دوماً للانطلاق من أرض أفريقيا مؤسساً لمشاريعه السردية. يقول الكاتب ابن الجنوب عن رحلته مع القراءة وكيف كان يتلقى أعمالاً أدبية تنتمي إلى بيئة مختلفة عن بيئته الصحراوية، إن "الكاتب يولد على دين بيئته كما يقال، طبعاً الاغتراب القرائي، بدأ معي منذ أن دخلت المدرسة الابتدائية، وأنا في تلك القرية النائية المرمية بين رمال الصحراء، حيث كان يأتينا نص البحر ومشهد الثلج وعلو العمارات وغيرها من الصور المشفوعة بنصوص القراءة، غامضاً وأحياناً مضبباً، ولم تكن تلك الحكايات الواصلة إلينا حول زرقة البحر واتساع امتداده وبياض الثلج تكفي لتشكل صورة ذهنية حقيقية عن هذا العالم أو ذاك، إذ كانت هذه القطيعة الفيزيقية غير المقصودة ماثلة أكثر في تعابيرنا الكتابية المرتبطة أساساً بعالمنا القروي، وعدم اقتناعنا بإدراج الذهاب إلى البحر خلال العطلة الصيفية ضمن درس التعبير الكتابي الخاص بموضوع العودة إلى المدرسة. ولم نكن في البداية مدفوعين لقراءة أعمال تشبهنا بمفهوم الوعي القرائي، إنما كنا نجد أنفسنا واعين ومدركين للأشياء المقروءة أو التي يطلب منا الكتابة حولها". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) "مملكة الزيوان" هي الرواية الأولى لحاج أحمد وكانت مدينة أدرار بطلتها، ويقال إن الكاتب غالباً ما يكشف عن نفسه في عمله الأول لأنه يكتبه ببراءة قبل أن يتعلم التحايل والتخييل والكذب الروائي على القراء، حول ذلك يقول "استلهمت من طفولتي وفضاءات القصر الطيني كثيراً، إذ إن النص الأول عادة يتكئ فيه الكاتب على ذاته، ولعل أهم ما في النص الأول أن يبرهن الكاتب على أنه مشروع كاتب، ويستوفي مكونات النص حتى يمكن تجنيسه ضمن جنس الرواية". في رواية "كاماراد" الصادرة عن دار فضاءات تناول حاج أحمد موضوع الهجرة غير الشرعية، وسبق كتابتها زيارة قام بها إلى النيجر عام 2014 يذكر الروائي الجزائري أن موضوع الهجرة تولد لديه من خلال مشاهداته اليومية للمهاجرين الأفارقة بولايته أدرار، وتسمرهم عند مفترق الطرقات، بحثاً عن العمل، لأجل التزود بزاد إكمال الطريق نحو الفردوس، إذ كانت ولايته بالنسبة إليهم نقطة عبور واستراحة. ويضيف "طبعاً هذا المشهد اليومي المتكرر، عمَّق هذا الوعي بضرورة الكتابة حول هذا الموضوع الراهن والمثير، فضلاً عن أن مناخات وعوالم أفريقيا جنوب الصحراء وجدتها غائبة في مدونة الرواية الجزائرية والعربية، مما حمسني أكثر لأن أحرث سردياتي في تلك المناطق المجهولة". وتابع "الزيارة كانت مفيدة جداً، فالروائي يقرأ ويسمع ويشاهد كل ما يتصل بموضوعه، ثم يحاول هدمه وإعادة بنائه وفق متخيله، ثمة نقطة أخرى في غاية الأهمية وهي أن وقوف الكاتب على فضاءات المكان يجعله متحرراً أكثر، فالصورة الملتقطة أو الزاوية المكتوب عنها تبقى وجهة نظر مصورها وكاتبها، بينما وقوف الكاتب بنفسه قد يمنحه زوايا وتفاصيل صغيرة جداً لم يلتفت إليها مصور الصور أو كاتب المقال، وإن كان على أية حال ليس فرضاً زيارة المكان، لكني أشدد على حيوية ذلك". وأكمل "المواقف التي وقفت عليها وظلت محفورة بذاكرتي عن زيارة النيجر وصحاريه، مشاهد الفقر والبؤس التي يحياها الإنسان النيجيري واقتناعه بقسمته في الحياة، إذ تجد داخل العاصمة نيامي فيللا فارهة وبجوارها أكواخ هشة وهي مفارقة عجيبة في تلك المجتمعات، كما أن بيع المواد الغذائية بالغرام حال لافتة أيضاً داخل الأسواق، وهو مشهد معدوم أو يكاد في شمال أفريقيا". روايته الثالثة "منا" تناولت أزمة الجفاف القاسية التي شهدها شمال مالي عام 1973، وعن ظروف كتابتها يقول إنه "خلال إعدادي لرسالة الماجستير بجامعة الجزائر قبل عقدين، تناولت شخصية لغوية وأدبية بالأزواد وتطلب مني الأمر زيارة تلك الصحارى، وإن كانت الزيارة بحثية غير أن حديث الشيوخ والعجائز عن أحداث جفاف 1973 كان موجعاً، مما ولد عندي تأملات اختزنتها إلى حين. كما أن الشتات الذي وقع بعد الجفاف، والهجرات نحو ليبيا وما تلاه من أزمة الأزواد الراهنة بسبب ذلك جعلني أستطعم هذه الثيمة وأكتب عنها". وعن زياراته لمالي والنيجر، يقول حاج أحمد "قصتي مع دول الساحل مردها إلى زيارتي الأولى عام 2004 عندما ذهبت في رحلة علمية لنبش وجمع ما تناثر من أدب وحياة أحد أعلام صحراء مالي، وهو الشيخ محمد بن بادي الكنتي الذي كان محور دراستي في الماجستير بجامعة الجزائر فاكتشفت فضاء جديداً مكتنزاً بالأحداث، لكن ذلك لم يكن في بالي أني سأصبح يوماً روائياً وأوظفه في تأسيس نصوصي، إنما ظل مركوناً في سراديب الذاكرة حتى جاءت الفرصة فاستدعيت ذلك مع زيارتي التي تكررت لتلك الربوع، مما جعلني أكثر وعياً بتلك الفضاءات وما تكتنزه من قضايا وثقافات وحكايا". وتابع "ثمة أشياء أخرى ذات صلة، فمنطقتنا التاريخية توات أو أدرار كانت محور طرق القوافل التجارية بين شمال أفريقيا وجنوبها، ونعم هناك بلدان أفريقية مثل كينيا وإثيوبيا ومدغشقر أتطلع لزيارتها ومحاولة اكتشافها، وإن كانت الرواية المقبلة تظل تسير في هذا المشروع، وهي رواية تاريخية حول الشيخ المغيلي وعلاقته بأفريقيا، ووضعت إشارات في رواية 'الطانفا' حتى نظهر فضل ثقافتنا الجزائرية على أفريقيا". يتخيل حاج أحمد نفسه بعد 20 عاماً كما هو الآن "بسيط"، ويتمنى أن "يظل ذلك الدرويش الزيواني يسكنني وأظل في مزرعتي، وأقرأ وأكتب... ربما بعد التقاعد إن طال العمر، سأجعل الربيع والصيف بمدينة بني صاف الساحلية، بمسكني الخاص هناك، وأعود خريفاً وشتاء إلى وكري هنا. ربما أكون نشرت 30 كتاباً، أما الكتابة فستظل إلى اللحظة الأخيرة".


Independent عربية
منذ 3 أيام
- Independent عربية
ميكولاس تشورليونيس... فنان ليتوانيا الأعظم الذي رسم الكون قبل اكتشافه
داخل قاعة دافئة، تتوسطها مجموعة من الكراسي الدوارة، يجلس الحضور وهم يرتدون نظارات الواقع الافتراضي. بعد لحظات قليلة سيسبرون عالماً خيالياً جميلاً تملؤه كائنات غريبة ويعيش فيه المشاركون مشاهدات خيالية، لكنها واقعية جداً تواكبها موسيقى مستوحاة من الأجواء السوريالية هذه. لم تكن جلسة الواقع الافتراضي هذه سوى تجربة فنية مبتكرة، مستوحاة بالكامل من أعمال ميكولاس تشورليونيس الفنية والموسيقية، ذلك الفنان النابغة الذي تحتفل ليتوانيا طوال العام الحالي بمرور 150 سنة على ميلاده، والذي جمع بين الألوان والأصوات، بين الفن والموسيقى، فابتكر عوالم كاملة من الخيال. ليس من المبالغة القول إن قلة من الأمم تفتخر بأحد أبنائها العباقرة كما تفخر ليتوانيا بـتشورليونيس – رمز نهضتها الثقافية الحديثة، وأحد أبرز فناني أوروبا في مطلع القرن الـ20. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ولد تشورليونيس عام 1875 في فارينا، التي تقع اليوم في جنوب شرقي ليتوانيا، في زمن كانت فيه البلاد ترزح تحت الحكم القيصري الروسي. وعلى رغم أن لغته الأم كانت البولندية، كما كان الحال لدى معظم سكان المدن في المقاطعات الليتوانية – البولندية، إلا أن أعماله، التي نهلت من روح الطبيعة الليتوانية، شكلت دليلاً واضحاً على هويته وانحيازه الفني والثقافي لوطنه. النهضة الليتوانية اعتبر تشورليونيس نفسه ليتوانياً بلا مواربة، فجسدت أعماله الموسيقية والتشكيلية ملامح الطبيعة المحلية، وتغنت بتفاصيلها. كما كان له دور بارز في النهضة الثقافية مطلع القرن الـ20، إذ تبنى الأغاني الشعبية الليتوانية، وأعاد تقديمها في قوالب موسيقية حديثة، ما جعل من فنه صوتاً وطنياً بامتياز. وعلى رغم عدم إلمامه باللغة الليتوانية في شبابه، فإنه حرص على تعلمها لاحقاً بمساعدة زوجته صوفيا. فتجربة تشورليونيس في التماهي ثقافياً مع البولنديين، إلى جانب ما تعرض له من تمييز كليتواني في كل من وارسو ولايبزيغ، أدتا إلى تنمية حس بالعدالة الاجتماعية لديه فيما يخص حقوق الليتوانيين. فأسس جوقة لـ"جمعية وارسو الليتوانية للمنفعة المتبادلة"، كما أصبح نائب رئيس "جمعية الفن الليتوانية" عام 1907. لعب تشورليونيس دوراً فاعلاً في تأسيس مجموعات تعنى بتعزيز الثقافة والمصالح الوطنية الليتوانية، وكان من أبرز من أسهموا في دفع الحركة الثقافية الوطنية قدماً رغم أنه لم يعش ليرى استقلال بلاده عام 1918. تمازج الموسيقى والرسومات من أبرز ما يميز تجربة تشورليونيس الفنية ظاهرة نادرة تعرف بـ"التزامن الحسي" Synaesthesia وهي ظاهرة إدراكية يؤدي فيها تحفيز مسلك حسي أو إدراكي واحد إلى تجارب لا إرادية في مسلك حسي أو إدراكي ثانٍ. بكلام آخر كان يسمع الألوان ويرى الأصوات، ما ساعده على ابتكار أعمال فنية متعددة الحواس وغنية بالطبقات وتعبر في آنٍ واحدٍ عن الموسيقى والرسم وتنبض بالحياة من كل الجهات. ويقول الباحث في مجال الفنون ديلان مكنيل في هذا الصدد، "كان واضحاً أن القصد من أعماله الفنية والموسيقية أن تعرض بصورة متزامنة للجمهور من خلال 'الحس المتزامن'". ففي عام 1909 في سانت بطرسبورغ قدم تشورليونيس مؤلفته السيمفونية "البحر" مصحوبة بعرض مجموعة من لوحاته الفنية بعنوان "سوناتا البحر". ويضيف مكنيل "يعد هذا العرض من أبرز تعبيرات 'الحس المتزامن'، حيث يدمج الفن في مجال الموسيقى والموسيقى في الفن". إنتاج غزير في وقت قصير استكشفت مؤلفات تشورليونيس الأساطير، والطبيعة، والعالم الروحاني، والكون. وتضم أعماله التشكيلية مجموعات متنوعة، من أبرزها "سوناتا"، و"الأبراج الفلكية"، و"خلق الكون" وهي واحدة من أكثر مجموعاته إدهاشاً، إذ تتألف من 13 لوحة تصور رؤيته لقصة الخلق، وتدمج عناصر أسطورية وتفسيرات صوفية خاصة به، وتحوي تشكيلات تشبه سدماً دوامة ونجوماً متوهجة تماثل بصورة غريبة صوراً من أطراف الكون التقطت بعد قرن من الزمن. كتب تشورليونيس في إحدى رسائله عن هذه المجموعة من اللوحات "أعتزم مواصلة رسمها حتى آخر أيامي... هذه صورة إبداعية لعالم مختلف عن عالمنا، وليس وفقاً للكتاب المقدس. عالم آخر - عالم خيالي". كما أبدع تشورليونيس سبع مجموعات "سوناتا" وهي رسومات فنية استوحت كل منها من حركة أو شعور محدد، تحمل عناوين مثل "سوناتا الشمس"، و"سوناتا الربيع"، و"سوناتا البحر". تظهر هذه المجموعات قدرته الفريدة على ترجمة المبادئ الموسيقية إلى أشكال بصرية. 7 أعمال ميكولاس تشورليونيس الفنية أعمال ميكولاس تشورليونيس الفنية 1/7 سوناتا رقم 6 (سوناتا النجوم). أليغرو (1908) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) سوناتا رقم 6 (سوناتا النجوم). أليغرو (1908) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) 2/7 مقبرة البلدة (1909) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) مقبرة البلدة (1909) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) 3/7 سوناتا رقم 7 (سوناتا الأهرام). أليغرو (1908) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) سوناتا رقم 7 (سوناتا الأهرام). أليغرو (1908) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) 4/7 الشمس تعبر برج القوس من سلسلة الأبراج الفلكية (1906-1907) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) الشمس تعبر برج القوس من سلسلة الأبراج الفلكية (1906-1907) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) 5/7 الصداقة (1906-1907) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) الصداقة (1906-1907) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) 6/7 الجنة (1909) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) الجنة (1909) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) 7/7 حكاية خرافية عن الملوك (1909) (الموقع الإلكتروني لمتحف تشورليونيس) وتعدان السوناتا الخامسة والسادسة (البحر والنجوم على التوالي) أسمى إنجازات تشورليونيس في سعيه لتجسيد البنية الموسيقية للفوغا والسوناتا. فهذه السلسلة، التي تصور أمواج بحر البلطيق والكثبان الرملية التي تنمو عليها أشجار الصنوبر، تمنح المشاهد انطباعاً فورياً، إذ إن الأيام السعيدة التي قضاها مع خطيبته المحبوبة على شاطئ البحر قد أضفت على السوناتا ألواناً مبهجة وإيقاعات باعثة على الانتشاء. وإضافة إلى ما أنجز من تحديث للفلكلور الليتواني، ضم الإنتاج الموسيقي لـتشورليونيس أكثر من 200 مؤلفة للبيانو ومقطوعاًت للأوركسترا أهمها، "في الغابة"، و"البحر". النهاية المبكرة كان تشورليونيس، بوصفه شخصية استثنائية، ذا تأثير قوي من حوله. تكتب شقيقته يدفيغا في مذكراتها أن صديقه المقرب فلودزيميج مورافسكي، شقيق الملحن البولندي أوغينيوش مورافسكي - دومبروفا كان يقول عنه "كنا نشعر جميعنا أن بيننا شخص غير عادي، يتميز ليس فقط بذكاء حاد، بل بقوة أخلاقية هائلة". وجاء أيضاً في مذكراتها أن أكثر ما كان يزعجه هو أن يطلب منه "شرح" محتوى إحدى لوحاته. كان يستاء ويقول: "لماذا لا يتمعنون بالنظر؟ لماذا لا يجهدون أنفسهم؟ فكل شخص يرى الأعمال الفنية ويفسرها بصورة مختلفة". منذ عام 1909، وخلال إقامته في سانت بطرسبورغ، أنهك تشورليونيس نفسه بالعمل في محاولة للخروج من وضعه المالي الصعب هو وزوجته. لكن صحته تدهورت بشدة، فغادر المدينة وانتقل إلى منتجع صحي في بولندا. لكنه، ككثير من العباقرة، لم يعمر طويلاً. ففي أبريل (نيسان) 1911، وأثناء فترة تعافيه، أصيب بالتهاب رئوي خلال إحدى نزهاته، وتوفي قبل أن يبلغ الـ36 من عمره. رغم قصر حياته، ترك تشورليونيس إرثاً غنياً من نحو 300 لوحة فنية ونحو 400 مؤلف موسيقي، وقدم مساهمة مهمة في تيارات "الرمزية" وفن "آرت نوفو"، وكان من ممثلي الحقبة المعروفة بـ"نهاية القرن" fin de siècle. ويعد من بين رواد الفن التجريدي في أوروبا.