logo
قصة الحضارة (191): صور الشاعر 'هزيود' حال فقر الفلاحين في أثينة

قصة الحضارة (191): صور الشاعر 'هزيود' حال فقر الفلاحين في أثينة

موقع كتابات١٨-٠٢-٢٠٢٥

خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن أثينة وتصورات الشاعر هزيود عن قصة الخلق، وعن مدينة دلفي. وذلك في الحلقة الواحد والتسعين بعد المائة من قراءة 'قصة الحضارة' الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي 'ويل ديورانت' وزوجته 'أريل ديورانت'، ويتكون من أحد عشر جزء.
هزيود وقصة الخلق..
ويواصل الكتاب الحكي عن الشاعر الأثيني 'هزيود': 'ويقول هزيود إن الجنس البشري عاش على وجه الأرض قبل سقوط الإنسان على هذا النحو مئات من السنين يرسل في حلل السعادة. ذلك بأن الآلهة قد خلقت أولا في أيام كرونس جيلا ذهبيا كانوا كالآلهة يعيشون بلا كدح ولا قلق، تنتج لهم الأرض من نفسها الطعام، وتغذي بكلئها قطعانهم الكثيرة، ويقضون كثيراً من الأيام فرحين مسرورين لا تدركهم الشيخوخة، حتى إذا أقبل عليهم الموت آخر الأمر كان كأنه نوم خال من الآلام والأحلام.
ثم خلق الآلهة في نزوة من نزواتهم القدسية جيلا فضيا أحط منزلة من الجيل الأول، يحتاج أفراده في نموهم إلى مائة عام، فإذا كمل هذا النمو عاشوا معذبين زمنا قليلا يدركهم بعده الموت. ثم خلق زيوس جيلا نحاسيا، رجالا أعضاؤهم وأسلحتهم وبيوتهم من النحاس، شن بعضهم على بعض كثيرا من الحروب حتى 'سلط عليهم الموت الأسود فغادروا ضياء الشمس اللامعة'.
ثم عاود زيوس التجربة وخلق جيل الأبطال الذين حاربوا في طيبة وطروادة؛ ولما مات أولئك الرجال 'سكنوا بأرواحهم الخالية من الهم في جزائر الأبرار'، وجاء من بعدهم شر الناس كلهم، الجبل الحديدي، وهم خلق أدنياء فاسدون فقراء لا يعرفون النظام، يكدحون بالنهار ويقاسون الشدائد والأهوال بالليل؛ لا يوقر أبناؤهم آباءهم، يعصون الآلهة ويبخلون عليهم، كسالى مشاغبون، يحارب بعضهم بعضاً، يرشون ويرتشون، لا يثق بعضهم ببعض، ويفتري بعضهم على بعض، ويطأون بأقدمهم وجوه الفقراء منهم. ويقول هزيود في حسرة: 'ألا ليتني لم أولد في هذا العهد بل ولدت قبله أو بعده!' وهو يتمنى أن يعجل زيوس بدفن هذا الجيل الحديدي في باطن الأرض'.
الشرور..
ويضيف الكتاب عن تصورات هزيود: 'هذا هو اللاهوت التاريخي الذي يفسر بهِ هزيود ما في زمانه من فقر وظلم. وقد كان يرى هذهِ الشرور بعينيهِ ويلمسها بيديه؛ ولكن الشاعر لم يكن يشك في أن الماضي الذي ملأه أبطالاً وآلهة كان أنبل وأجمل من هذا الجيل؛ ولسنا نرتاب في أن الناس لم يكونوا على الدوام فقراء معذبين أذلاء كما كان الزراع الذين عرفهم في بؤوتية.
وهولا يعرف أن أخطاء الطبقة التي ينتمي إليها قد أثرت في نظرتهِ، وأن آراءه في الحياة والعمل والنساء والرجال آراء ضيقة، أرضية، تكاد أن تكون تجارية. وما أبعد هذهِ الصورة من صورة أعمال الناس التي تطالعنا في شعر هومر، وهي صورة إن كان فيها الإجرام والفزع فإن فيها أيضاً العظمة والنبل! لقد كان هومر شاعراً، يعرف أن ومضة من الجمال تمحو آلافاً من الخطايا؛ أما هزيود فكان فلاحاً يصعب عليه ما تتكلفه الزوجة، ويغضب من وقاحة النساء اللائي يجلسن حول المائدة مع أزواجهن. ويكشف لنا هزيود في صراحة فظة عما كان في المجتمع اليوناني القديم من انحطاط قبيح عن الفقر المدقع الذي كان يعانيه رقيق الأرض وصغار الزراع الذين يقوم على سواعدهم مجد الأشراف والملوك وعبث الحروب. وكان هومر يتغنى بالأبطال والأمراء للأشراف من الرجال والنساء.
ثورات الفلاحين..
وعن تمرد الفلاحين يكمل الكتاب: 'أما هزيود فلم يكن يعرف أمراء، بل كان يتغنى في قصائدهِ بالسوقة من الرجال ويوائم بين نغماته وبين موضوعه. فنحن نستمع في شعرهِ إلى قعقعة ثورات الفلاحين التي أنتجت في أتكا من بعد إصلاحات صولون وطغيان بيسستراتس .
لقد كانت الأرض في بؤوتية، كما كانت في البلوبونيز، في حوزة نبلاء غائبين عنها يقيمون في المدن أو بالقرب منها. وقد شُيدت أكثر المدن رخاء وازدهارا نحو بحيرة كبسيس، وهي الآن جافة ولكنها كانت فيما مضى تمد بالماء شبكة معقدة من قنوات الري وأنفاقه. وقد غزت هذا الإقليم المغري الجذاب في أواخر عصر هومر شعوب اشتق اسمهم من جبل بيئون في إبيروس الذي أقاموا بيوتهم بالقرب منه. وقد استولوا على قيرونيا وبقربها قضى فليب على حرية اليونان، وطيبة عاصمتهم في مستقبل الأيام، ثم استولوا أخيرا على أركمنوس العاصمة المينياوية القديمة.
وقد انضوت هذهِ المدن وغيرها في أيام اليونان الأقدمين تحت لواء طيبة في اتحاد بؤوتي يصرف شئونه العامة رجال من أهل هذا الحلف يُختارون في كل عام، ويحتفل أهله مجتمعين في كورونية بعيد الجامعة البؤوتية.
وكان من عادة الأثينيين أن يسخروا من البؤوتيين ويتهموهم بأنهم أغبياء ويعزوا بلادة ذهنهم إلى إفراطهم في الأكل وإلى جو بلادهم الكثير الضباب والأمطار. وقد يكون في هذا الوصف والتعليل بعض الصدق، لأن البؤوتيين يضطلعون في تاريخ اليونان بدور لا ترتاح له النفوس. من ذلك أن طيبة مثلاً قد ساعدت الغزاة الفرس، وظلت شوكة في جانب أثينة مئات السنين. ولكننا نضع في الكفة الأخرى، كفة الحسنات، أبطال بلاتية الشجعان الأوفياء، ونضع هزيود الكادح المثابر، وبندار الذي بلغ السماكين، وأباميننداس الأبي الشريف النفس، وفلوطرخس الحبيب إلى النفوس. ومن واجبنا أن نكون على حذر فلا نرى منافسي أثينة بأعين الأثينيين.'
دلفي..
وينتقل الكتاب إلي الحكي عن مدينة دلفي: 'بعد أن يغادر الإنسان قيرونيا مدينة أفلوطرخس يصعد وهو يعرض حياته للخطر فوق اثني عشر ميلاً يلتقي عند آخرها بفوقيس، ثم يصل عند سفح جبل بارنسس نفسه إلى دلفي مدينة اليونان المقدسة. وعلى بعد ألف قدم من تحتها ينبسط سهل كريسيا الذي تتلألأ فيه بأوراقها الفضية عشرة آلاف شجرة زيتونة؛ وعلى بعد خمسمائة قدم أخرى تحت هذا السهل يمتد في الأرض جون صغير من خليج كورنثة، تمر فيه السفن وهي مقبلة من بعيد، تتهادى في بطء وصمت فوق المياه الساكنة الخداعة.
ومن وراء الجون سلاسل أخرى من الجبال تكسوها عند مغيب الشمس حلة أرجوانية. وعند منعطف في الطريق يلتقي السائح بنبع كستاليا في خانق بين الصخور العمودية. وتروي القصص أن أهل دلفي ألقوا إيسوب من فوق هذهِ الصخور المرتفعة وأضافوا بقولهم هذا خرافة أخرى إلى خرافاتهِ؛ كما يروي التاريخ أن فلوميلوس الفوقي طارد اللكريين المنهزمين من فوق هذهِ الصخور في الحرب المقدسة الثانية. ومن فوقها قمتا برنسس التوأمتان حيث سكنت ربات الشعر بعد أن ملت المقام في جبل هِلِكُن.
ولم يكن اليونان الذين يتسلقون مئات الأميال فوق الصخور الوعرة ليقفوا على قمة الجبل متزنين على لسان بارز من الصخر بين المرتفعات التي يكسوها الضباب من جهة والبحر الذي تسطع عليه الشمس من جهة أخرى، ويحيط بهم من جميع الجهات جمال الطبيعة وأهوالها، لم يكن هؤلاء اليونان يشكّون في أن من تحت هذهِ الصخور إله رهيب. وكثيرا ما زلزلت الأرض في هذا المكان وقذفت الرعب في قلوب الفرس النهابين، ومن بعدهم بمائة عام في قلوب الفوقيين النهابين، وبعد مائة عام أخرى في قلوب الغالبين النهابين.
وعن تصورات اليوناينيين عن الكوارث الطبيعية: 'وكانت الزلازل في اعتقاد اليونان من فعل الإله يحمي بها قراره. وكان العباد المتدينون يؤمون هذا المكان من أقدم الأزمنة التي تتحدث عنها التواريخ اليونانية ليجدوا في الرياح التي تهب بين الأخاديد، أو الغازات التي تنبعث من باطن الأرض، صوت إلههم وإرادته. وكانت الصخرة العظيمة، التي تكاد تسد الفتحة التي تنبعث منها الغازات وسط بلاد اليونان كلها في اعتقاد الأهلين، ومن ثم كانت هي سرة العالم أو أمفالوسه كما كانوا هم يسمونها.
وقد شادوا فوق هذهِ السرة مذابحهم لجي أمهم الأرض في الأيام القديمة، ثم لأبلو مالكها الأزهر فيما بعد. وكانت تحرس الأخدود في الزمن القديم أفعى رهيبة فتصد عنه الرجال؛ حتى قتلها فيبوس بسهم وأصبح هو أبلو البيثيين الذي يعبد في هذا الضريح. ولما أن دمرت النيران في عام 48 هيكلا قديما أعاد بناءه الأشراف الألكميونيون المنفيون من أثينة بأموال اكتتبت بها بلاد اليونان كلها وبأموالهم هم، وجعلوا له واجهة من الرخام.
وأحاطوه برواق دوري الطراز، وأقاموه من الداخل على أعمدة أيونية. وقلما رأت بلاد اليونان ضريحا مثله من قبل. وكان طريق مقدس ملتف حول الجبل يؤدي إلى المزار، ويزدان في كل خطوة بالتماثيل والأروقة والخزانات أي الهياكل الصغيرة التي أقامها عند تخومه المقدسة في أولمبيا، ودلفي، وديلوس المدن اليونانية لتودع فيها أموالها أو لتكون هبات منها إلى الإله.
وقد أقامت كورنثة وسكسيون خزائن من هذا النوع في دلفي وأقامت مثلها فيما بعد أثينة، وطيبة، وسيريني، وأقامت أحسن منها نيدوس وسفنوس وفي وسطها كلها شيد ملهى مواجه لجبل برنسس ليذكر الناس أن التمثيل كان في اليونان أصلا من الأصول الدينية. وكان يعلو فوق هذه كلها ملعب يمارس فيه اليونان أحب الشعائر إليهم وهي عبادة الصحة، والشجاعة، والجمال، والشباب'.
عيد أبلو..
وعن عيد أبلو يحكي الكتاب: 'وفي وسعنا أن نتخيل منظر هذا المكان في عيد أبلو، فنصور لأنفسنا الحجاج المتحمسين يزحمون الطريق الموصل إلى المدينة المقدسة، وتغص بهم وبصخبهم وضجيجهم النزل والخيام التي أقيمت على عجل لتأويهم، وهم يمرون في حذر وارتياب بين الحوانيت التي يعرض فيها التجار الماكرون بضاعتهم، ثم يصعدون في مواكب دينية أو حاجين إلى هيكل أبلو يطلبون إليه الرضوان، ويقربون إليه القرابين أو الضحايا، ويرتلون الأناشيد؛ أو يتلون الأدعية والصلوات، ويجلسون خاشعين في الملهى، ثم يصعدون في خطى ثقيلة متعبة تبلغ الخمسمائة عداً ليشهدوا الألعاب البيثية أو ليتطلعوا في دهشة إلى البحر والجبال. لقد كانت الحياة يوماً من الأيام تسير على هذا النهج المليء بالحمية والحماسة'.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

قصة الحضارة (191): صور الشاعر 'هزيود' حال فقر الفلاحين في أثينة
قصة الحضارة (191): صور الشاعر 'هزيود' حال فقر الفلاحين في أثينة

موقع كتابات

time١٨-٠٢-٢٠٢٥

  • موقع كتابات

قصة الحضارة (191): صور الشاعر 'هزيود' حال فقر الفلاحين في أثينة

خاص: قراءة- سماح عادل حكي الكتاب عن أثينة وتصورات الشاعر هزيود عن قصة الخلق، وعن مدينة دلفي. وذلك في الحلقة الواحد والتسعين بعد المائة من قراءة 'قصة الحضارة' الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي 'ويل ديورانت' وزوجته 'أريل ديورانت'، ويتكون من أحد عشر جزء. هزيود وقصة الخلق.. ويواصل الكتاب الحكي عن الشاعر الأثيني 'هزيود': 'ويقول هزيود إن الجنس البشري عاش على وجه الأرض قبل سقوط الإنسان على هذا النحو مئات من السنين يرسل في حلل السعادة. ذلك بأن الآلهة قد خلقت أولا في أيام كرونس جيلا ذهبيا كانوا كالآلهة يعيشون بلا كدح ولا قلق، تنتج لهم الأرض من نفسها الطعام، وتغذي بكلئها قطعانهم الكثيرة، ويقضون كثيراً من الأيام فرحين مسرورين لا تدركهم الشيخوخة، حتى إذا أقبل عليهم الموت آخر الأمر كان كأنه نوم خال من الآلام والأحلام. ثم خلق الآلهة في نزوة من نزواتهم القدسية جيلا فضيا أحط منزلة من الجيل الأول، يحتاج أفراده في نموهم إلى مائة عام، فإذا كمل هذا النمو عاشوا معذبين زمنا قليلا يدركهم بعده الموت. ثم خلق زيوس جيلا نحاسيا، رجالا أعضاؤهم وأسلحتهم وبيوتهم من النحاس، شن بعضهم على بعض كثيرا من الحروب حتى 'سلط عليهم الموت الأسود فغادروا ضياء الشمس اللامعة'. ثم عاود زيوس التجربة وخلق جيل الأبطال الذين حاربوا في طيبة وطروادة؛ ولما مات أولئك الرجال 'سكنوا بأرواحهم الخالية من الهم في جزائر الأبرار'، وجاء من بعدهم شر الناس كلهم، الجبل الحديدي، وهم خلق أدنياء فاسدون فقراء لا يعرفون النظام، يكدحون بالنهار ويقاسون الشدائد والأهوال بالليل؛ لا يوقر أبناؤهم آباءهم، يعصون الآلهة ويبخلون عليهم، كسالى مشاغبون، يحارب بعضهم بعضاً، يرشون ويرتشون، لا يثق بعضهم ببعض، ويفتري بعضهم على بعض، ويطأون بأقدمهم وجوه الفقراء منهم. ويقول هزيود في حسرة: 'ألا ليتني لم أولد في هذا العهد بل ولدت قبله أو بعده!' وهو يتمنى أن يعجل زيوس بدفن هذا الجيل الحديدي في باطن الأرض'. الشرور.. ويضيف الكتاب عن تصورات هزيود: 'هذا هو اللاهوت التاريخي الذي يفسر بهِ هزيود ما في زمانه من فقر وظلم. وقد كان يرى هذهِ الشرور بعينيهِ ويلمسها بيديه؛ ولكن الشاعر لم يكن يشك في أن الماضي الذي ملأه أبطالاً وآلهة كان أنبل وأجمل من هذا الجيل؛ ولسنا نرتاب في أن الناس لم يكونوا على الدوام فقراء معذبين أذلاء كما كان الزراع الذين عرفهم في بؤوتية. وهولا يعرف أن أخطاء الطبقة التي ينتمي إليها قد أثرت في نظرتهِ، وأن آراءه في الحياة والعمل والنساء والرجال آراء ضيقة، أرضية، تكاد أن تكون تجارية. وما أبعد هذهِ الصورة من صورة أعمال الناس التي تطالعنا في شعر هومر، وهي صورة إن كان فيها الإجرام والفزع فإن فيها أيضاً العظمة والنبل! لقد كان هومر شاعراً، يعرف أن ومضة من الجمال تمحو آلافاً من الخطايا؛ أما هزيود فكان فلاحاً يصعب عليه ما تتكلفه الزوجة، ويغضب من وقاحة النساء اللائي يجلسن حول المائدة مع أزواجهن. ويكشف لنا هزيود في صراحة فظة عما كان في المجتمع اليوناني القديم من انحطاط قبيح عن الفقر المدقع الذي كان يعانيه رقيق الأرض وصغار الزراع الذين يقوم على سواعدهم مجد الأشراف والملوك وعبث الحروب. وكان هومر يتغنى بالأبطال والأمراء للأشراف من الرجال والنساء. ثورات الفلاحين.. وعن تمرد الفلاحين يكمل الكتاب: 'أما هزيود فلم يكن يعرف أمراء، بل كان يتغنى في قصائدهِ بالسوقة من الرجال ويوائم بين نغماته وبين موضوعه. فنحن نستمع في شعرهِ إلى قعقعة ثورات الفلاحين التي أنتجت في أتكا من بعد إصلاحات صولون وطغيان بيسستراتس . لقد كانت الأرض في بؤوتية، كما كانت في البلوبونيز، في حوزة نبلاء غائبين عنها يقيمون في المدن أو بالقرب منها. وقد شُيدت أكثر المدن رخاء وازدهارا نحو بحيرة كبسيس، وهي الآن جافة ولكنها كانت فيما مضى تمد بالماء شبكة معقدة من قنوات الري وأنفاقه. وقد غزت هذا الإقليم المغري الجذاب في أواخر عصر هومر شعوب اشتق اسمهم من جبل بيئون في إبيروس الذي أقاموا بيوتهم بالقرب منه. وقد استولوا على قيرونيا وبقربها قضى فليب على حرية اليونان، وطيبة عاصمتهم في مستقبل الأيام، ثم استولوا أخيرا على أركمنوس العاصمة المينياوية القديمة. وقد انضوت هذهِ المدن وغيرها في أيام اليونان الأقدمين تحت لواء طيبة في اتحاد بؤوتي يصرف شئونه العامة رجال من أهل هذا الحلف يُختارون في كل عام، ويحتفل أهله مجتمعين في كورونية بعيد الجامعة البؤوتية. وكان من عادة الأثينيين أن يسخروا من البؤوتيين ويتهموهم بأنهم أغبياء ويعزوا بلادة ذهنهم إلى إفراطهم في الأكل وإلى جو بلادهم الكثير الضباب والأمطار. وقد يكون في هذا الوصف والتعليل بعض الصدق، لأن البؤوتيين يضطلعون في تاريخ اليونان بدور لا ترتاح له النفوس. من ذلك أن طيبة مثلاً قد ساعدت الغزاة الفرس، وظلت شوكة في جانب أثينة مئات السنين. ولكننا نضع في الكفة الأخرى، كفة الحسنات، أبطال بلاتية الشجعان الأوفياء، ونضع هزيود الكادح المثابر، وبندار الذي بلغ السماكين، وأباميننداس الأبي الشريف النفس، وفلوطرخس الحبيب إلى النفوس. ومن واجبنا أن نكون على حذر فلا نرى منافسي أثينة بأعين الأثينيين.' دلفي.. وينتقل الكتاب إلي الحكي عن مدينة دلفي: 'بعد أن يغادر الإنسان قيرونيا مدينة أفلوطرخس يصعد وهو يعرض حياته للخطر فوق اثني عشر ميلاً يلتقي عند آخرها بفوقيس، ثم يصل عند سفح جبل بارنسس نفسه إلى دلفي مدينة اليونان المقدسة. وعلى بعد ألف قدم من تحتها ينبسط سهل كريسيا الذي تتلألأ فيه بأوراقها الفضية عشرة آلاف شجرة زيتونة؛ وعلى بعد خمسمائة قدم أخرى تحت هذا السهل يمتد في الأرض جون صغير من خليج كورنثة، تمر فيه السفن وهي مقبلة من بعيد، تتهادى في بطء وصمت فوق المياه الساكنة الخداعة. ومن وراء الجون سلاسل أخرى من الجبال تكسوها عند مغيب الشمس حلة أرجوانية. وعند منعطف في الطريق يلتقي السائح بنبع كستاليا في خانق بين الصخور العمودية. وتروي القصص أن أهل دلفي ألقوا إيسوب من فوق هذهِ الصخور المرتفعة وأضافوا بقولهم هذا خرافة أخرى إلى خرافاتهِ؛ كما يروي التاريخ أن فلوميلوس الفوقي طارد اللكريين المنهزمين من فوق هذهِ الصخور في الحرب المقدسة الثانية. ومن فوقها قمتا برنسس التوأمتان حيث سكنت ربات الشعر بعد أن ملت المقام في جبل هِلِكُن. ولم يكن اليونان الذين يتسلقون مئات الأميال فوق الصخور الوعرة ليقفوا على قمة الجبل متزنين على لسان بارز من الصخر بين المرتفعات التي يكسوها الضباب من جهة والبحر الذي تسطع عليه الشمس من جهة أخرى، ويحيط بهم من جميع الجهات جمال الطبيعة وأهوالها، لم يكن هؤلاء اليونان يشكّون في أن من تحت هذهِ الصخور إله رهيب. وكثيرا ما زلزلت الأرض في هذا المكان وقذفت الرعب في قلوب الفرس النهابين، ومن بعدهم بمائة عام في قلوب الفوقيين النهابين، وبعد مائة عام أخرى في قلوب الغالبين النهابين. وعن تصورات اليوناينيين عن الكوارث الطبيعية: 'وكانت الزلازل في اعتقاد اليونان من فعل الإله يحمي بها قراره. وكان العباد المتدينون يؤمون هذا المكان من أقدم الأزمنة التي تتحدث عنها التواريخ اليونانية ليجدوا في الرياح التي تهب بين الأخاديد، أو الغازات التي تنبعث من باطن الأرض، صوت إلههم وإرادته. وكانت الصخرة العظيمة، التي تكاد تسد الفتحة التي تنبعث منها الغازات وسط بلاد اليونان كلها في اعتقاد الأهلين، ومن ثم كانت هي سرة العالم أو أمفالوسه كما كانوا هم يسمونها. وقد شادوا فوق هذهِ السرة مذابحهم لجي أمهم الأرض في الأيام القديمة، ثم لأبلو مالكها الأزهر فيما بعد. وكانت تحرس الأخدود في الزمن القديم أفعى رهيبة فتصد عنه الرجال؛ حتى قتلها فيبوس بسهم وأصبح هو أبلو البيثيين الذي يعبد في هذا الضريح. ولما أن دمرت النيران في عام 48 هيكلا قديما أعاد بناءه الأشراف الألكميونيون المنفيون من أثينة بأموال اكتتبت بها بلاد اليونان كلها وبأموالهم هم، وجعلوا له واجهة من الرخام. وأحاطوه برواق دوري الطراز، وأقاموه من الداخل على أعمدة أيونية. وقلما رأت بلاد اليونان ضريحا مثله من قبل. وكان طريق مقدس ملتف حول الجبل يؤدي إلى المزار، ويزدان في كل خطوة بالتماثيل والأروقة والخزانات أي الهياكل الصغيرة التي أقامها عند تخومه المقدسة في أولمبيا، ودلفي، وديلوس المدن اليونانية لتودع فيها أموالها أو لتكون هبات منها إلى الإله. وقد أقامت كورنثة وسكسيون خزائن من هذا النوع في دلفي وأقامت مثلها فيما بعد أثينة، وطيبة، وسيريني، وأقامت أحسن منها نيدوس وسفنوس وفي وسطها كلها شيد ملهى مواجه لجبل برنسس ليذكر الناس أن التمثيل كان في اليونان أصلا من الأصول الدينية. وكان يعلو فوق هذه كلها ملعب يمارس فيه اليونان أحب الشعائر إليهم وهي عبادة الصحة، والشجاعة، والجمال، والشباب'. عيد أبلو.. وعن عيد أبلو يحكي الكتاب: 'وفي وسعنا أن نتخيل منظر هذا المكان في عيد أبلو، فنصور لأنفسنا الحجاج المتحمسين يزحمون الطريق الموصل إلى المدينة المقدسة، وتغص بهم وبصخبهم وضجيجهم النزل والخيام التي أقيمت على عجل لتأويهم، وهم يمرون في حذر وارتياب بين الحوانيت التي يعرض فيها التجار الماكرون بضاعتهم، ثم يصعدون في مواكب دينية أو حاجين إلى هيكل أبلو يطلبون إليه الرضوان، ويقربون إليه القرابين أو الضحايا، ويرتلون الأناشيد؛ أو يتلون الأدعية والصلوات، ويجلسون خاشعين في الملهى، ثم يصعدون في خطى ثقيلة متعبة تبلغ الخمسمائة عداً ليشهدوا الألعاب البيثية أو ليتطلعوا في دهشة إلى البحر والجبال. لقد كانت الحياة يوماً من الأيام تسير على هذا النهج المليء بالحمية والحماسة'.

قصة الحضارة (181): كانت الأرض مشاع في الحضارة الآخية
قصة الحضارة (181): كانت الأرض مشاع في الحضارة الآخية

موقع كتابات

time٠١-٠١-٢٠٢٥

  • موقع كتابات

قصة الحضارة (181): كانت الأرض مشاع في الحضارة الآخية

خاص: قراءة- سماح عادل حكي الكتاب عن حضارة الآخيين، وعن نمط الحياة اليومية ونظام الملكية، وذلك في الحلقة الواحدة بعد المائة وثمانين من قراءة 'قصة الحضارة' الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي 'ويل ديورانت' وزوجته 'أريل ديورانت'، ويتكون من أحد عشر جزء. الحضارة الهومرية.. استأنف الكتاب الحكي عن الحضارة الهومرية: 'ترى كيف نستطيع أن نعيد تصوير حياة بلاد اليونان الآخية (1300-1100 ق.م) بالاستناد إلى أقاصيصها؟ أن أكثر ما نعتمد عليه من المصادر في رسم هذه الصورة هو أشعار هومر، وهو إنسان قد لا يكون له وجود، وقد قيلت ملاحمه بعد عصر الآخيين بثلاثة قرون على أقل تقدير. نعم إن علم الآثار قد أدهش الأثريين بأن أثبت أن طروادة، وميسيني، وتيرينز، ونوسس وغيرها من المدائن التي وضعتها الإلياذة كلها مدن حقيقية، كما أدهشتهم بالكشف عن حضارة ميسينية تشبه شبها عجيبا تلك الحضارة التي تتشكل من تلقاء نفسها بين أشعار هومر. ومن أجل هذا ينزع العلماء في هذه الأيام إلى أن يعدوا بعض الأشخاص المهمين الذين ورد ذكرهم في هذه القصص الخلابة أشخاصا حقيقيين. لكننا مع هذا لا نستطيع أن نقول إلى أي حد تعكس قصائد هومر حال العصر الذي كان يعيش فيه الشاعر لا العصر الذي يكتب عنه. إذن فكل الذي في وسعنا أن نسأل عنه هو: ما هي الصورة التي كانت تتخيلها الرواية اليونانية كما جمعها هومر في أشعاره عن العصر الهومري؟ ومهما تكن هذه الصورة فإنا سنحصل منها على صورة من بلاد اليونان في طور الانتقال الظريف من الثقافة الإيجية إلى حضارة اليونان في العصور التاريخية'. العمال.. ويضيف الكتاب عن الحضارة الآخية كتمهيد: 'إن الصورة التي تنطبع في أذهاننا عن الآخيين أي عن اليونان في عصر الأبطال هي أنهم كانوا أقل حضارة من الميسينيين الذين سبقوهم، وأرقى حضارة من الدوريين الذين خلفوهم. وأهم ما نلاحظ فيهم أنهم كانوا أحسن أجساما من هؤلاء وأولئك، فرجالهم طوال القامة أقوياء البنية، ونساؤهم ذوات جمال بارع فتان يسلب العقول بكل ما في هذا التعبير من معان. والآخيون ينظرون، كما ينظر الرومان الذين عاشوا من بعدهم بألف عام، إلى الثقافة الأدبية على أنها تدهور وتخنث. وهم لا يستخدمون الكتابة إلا مضطرين، ولا يعرفون من الأدب إلا الأغاني الحربية وأناشيد الشعراء الجوالين غير المكتوبة. وإذا جاز لنا أن نصدق هومر حق علينا أن نقول إن زيوس قد حقق في المجتمع الآخي آمال الشاعر الأمريكي الذي كتب يقول إنه لو كان إلهاً لجعل الرجال كلهم أقوياء، والنساء كلهن حساناً، ثم جعل نفسه بعد ذلك رجلاً. لقد كانت بلاد اليونان الهومرية جنة من الحور العين. وحتى رجالها كانوا على جانب كبير من الجمال، كان لهم شعر مرسل طويل، ولحى كبيرة؛ وكانت أعظم هدية يستطيع الرجل أن يهديها أن يقص شعر رأسه ويقربه قرباناً أمام كومة الحطب التي تحرق عليها جثة صديقه. ولم يكن العري قد أصبح بعد عادة في البلاد، فكان النساء والرجال يغطون أجسامهم برداء مربع يطوونه فوق الكتفين، ويشبكونه بدبوس، ويصل إلى قرب الركبتين، وتضيف النساء إلى هذا نقابا أو حزاما، ويضيف الرجال غطاء للحقوين قدر له أن يتطور على مر الزمن وازدياد الاحتشام والكرامة حتى أصبح هو اللباس ثم السروال البنطلون. وكان الأغنياء يرتدون أثوابا غالية الثمن كالثوب الذي تقدم به بريام في ذلك إلى أكليز ليفتدي به ولده. وكان الرجال حفاة الأقدام والنساء عاريات الأذرع، إلا في خارج الدور فكانوا يحتذون جميعا صنادل. أما في داخلها فكانوا في العادة حفاة. وكانوا رجالاً ونساء يتحلون بالجواهر، وقد أدهنت النساء وأدهن باريس 'بالزيت الذي له رائحة الورد'. نمط الحياة.. وعن نمط الحياة يواصل: 'ترى كيف كان يعيش أولئك الرجال والنساء؟ يصفهم هومر بأنهم كانوا يحرثون الأرض، ويشمون وهم فرحون الأرض السوداء بعد تقليبها، ويتتبعون بأعينهم في فخر وخيلاء الخطوط المستقيمة التي خطتها المحاريث، ويبذرون القمح ويروون الأرض، ويقيمون الجسور ليتقوا بها فيضان الأنهار في الشتاء. ويشعرنا هومر بيأس الفلاح الذي قضى الشهور الطوال في كدح مستمر، ثم يأتي 'التيار الجارف السريع فيهدم الحواجز والجسور، ولا تستطيع سلسلة الأكوام الطويلة أن تكبح جماحه، أو أسوار البساتين المثمرة حين يفاجئها أن تقف في سبيله. وليست أرض البلاد مما يسهل فلحها لأن الكثير منها جبال أو مناقع، أو تلال كثيفة الأشجار؛ وكانت الحيوانات البرية تهاجم القرى، فكان الصيد ضرورة قبل أن يصبح رياضة وهواية. وكان الأغنياء يعنون بتربية قطعان كبيرة من الماشية، والضأن، والخنازير، والمعز، والخيل؛ ويروى أن رجلا منهم يسمى إركثونيوس كان له ثلاثة آلاف فرس ولود مع أمهارها. وكان الفقراء يأكلون لحم السمك، والبقول، والخضر أحياناً، أما المحاربون والأغنياء فكان جل اعتمادهم على اللحم المشوي الكثير، وكان فطورهم اللحم والنبيذ. وقد تغذى أديسيوس مع راعي خنازيره بخنزير صغير مشوي، وتعشيا بثلث خنزير عمره خمس سنوات. وكانوا يستعملون عسل النحل بدل السكر، ودهن الحيوان بدل الزبد، والكعك المصنوع من الحب بدل الخبز، فكانوا يجعلونه رقائق ثم يخبزونه على لوح من الحديد أو على حجر محمي. ولم يكن الآكلون يضطجعون في أثناء تناول الطعام كما كان الأثينيون يفعلون فيما بعد، بل كانوا يجلسون على كراسي ممتدة على طول الجدار لا مصفوفة حول مائدة وسطى. ولم يكونوا يستعملون الأشواك أو الملاعق أو الفوط إلا ما عسى أن يكون مع الضيوف من مدي؛ وكانوا يأكلون بأيديهم وأصابعهم. وكان شرابهم الرئيسي حتى الفقراء والأطفال هو النبيذ المخفف'. نمط الملكية.. وعن نمط الملكية يكمل الكتاب: 'وكانت الأرض ملكا للأسرة أو العشيرة لا للفرد؛ وكان الأب هو الذي يشرف عليها ويصرف شؤونها، ولكنه لم يكن من حقه أن يبيعها، وتقول الإلياذة إن مساحات واسعة كانت من أملاك الملك المشاعة (الدومين)، وكانت في واقع الأمر ملكا للمجتمع يستطيع أي إنسان أن يرعى فيها ماشيته؛ ونرى في الأوديسة أن هذه الأرض المشاعة قد قسمت وبيعت أو أصبحت ملكا للأفراد الأثرياء أو الأقوياء؛ وهكذا اختفت الأرض المشاعة في بلاد اليونان القديمة بنفس الطريقة التي اختفت بها في إنجلترا الحديثة. وكان في مقدور الأرض أن تخرج المعادن كما تخرج الطعام، ولكن الآخيين أهملوا استخراج المعادن واكتفوا باستيراد النحاس، والقصدير، والفضة والذهب، ومادة أخرى جديدة عجيبة من أسباب الترف، وهي الحديد. فنرى كتلة غير مشكلة من الحديد تقدم هدية ثمينة في الألعاب التي أقيمت تكريماً لبتروكلوس ، ويقول عنها أكليز (أخيل) إنه سوف يُصنع منها كثير من الأدوات الزراعية. وهو لا يذكر في هذا المقام شيئا عن الأسلحة، وكانت ما تزال تصنع من البرنز، وتصف الأوديسة سقي الحديد، ولكن هذه الملحمة قد وصلت إلينا في أكبر الظن من عصر متأخر عن عصر الإلياذة. وكان الحداد أمام كوره، والفخراني أمام عجلته، يعملان في حانوتيهما، وكان غيرهم من الصناع الذين ورد ذكرهم في أشعار هومر كصناع السروج، والبنائين، والنجارين، وصناع الأثاث كان هؤلاء يعملون في منازل من يكلفونهم بعمل لهم؛ ولم يكونوا يعملون للأسواق، أو للبيع، أو للكسب؛ وكانوا يداومون العمل ساعات طوالاً، لكنهم كانوا يعملون على مهل وليس وراءهم دافع من المنافسة الظاهرة'.

قصة الحضارة (170): عرفت حضارة كريت مصارعة الثيران كلعبة
قصة الحضارة (170): عرفت حضارة كريت مصارعة الثيران كلعبة

موقع كتابات

time٠٧-١١-٢٠٢٤

  • موقع كتابات

قصة الحضارة (170): عرفت حضارة كريت مصارعة الثيران كلعبة

خاص: قراءة- سماح عادل حكي الكتاب عن حضارة كريت، وكيف اتصفت بحضارة مدينة، وكيف كانت ألعابهم وحشية وعنيفة مثل مضارعة الثيران. وذلك في الحلقة السبعين بعد المائة من قراءة 'قصة الحضارة' الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي 'ويل ديورانت' وزوجته 'أريل ديورانت'، ويتكون من أحد عشر جزء. سلطة الملك.. يستأنف الكتاب الحكي عن حضارة كريت: 'ويستند سلطان الملك، كما يستدل من الآثار، على القوة والبطش، وعلى الدين والقانون. وهو يغوي الآلهة ويستخدمها لمعونته ليجعل طاعة الناس إياه أيسر عليهم وأقل كلفة، ويلقن كهنته الناس أنه من نسل فلكانوس، وأنه تلقى من هذا الإله القوانين التي يصدرها، وإذا ما كان الملك قديرا أو سخيا فإن هؤلاء الكهنة يخلعون عليه من جديد السلطة الإلهية، ويتخذ الملك البلطة المزدوجة وزهرة الزنبق رمزاً لسلطانه كما فعلت روما وفرنسا فيما بعد. وهو يستخدم في تصريف شؤون الدولة، كما تشير بذلك أكداس الألواح، طائفة من الوزراء وموظفي الدواوين والكتبة. وهو يجبي الضرائب عيناً، ويختزن في جرار ضخمة موارده من حب وزيت وخمر، ومن هذه الموارد يؤدي رواتب رجاله عيناً. وهو يقضي وهو جالس على عرشه في القصر أو من مجلسه في بيته الملكي الصغير فيما يرفع إليه من القضايا التي مرت بمحاكمه. وقد بلغ من شهرته في أحكامه أنه يصبح في الدار الآخرة بعد موته قاضي الموتى الذين لا مفر من عرض قضاياهم عليه، كما يؤكد لنا هومر. ونحن نسميه في كتابنا مينوس ولكننا لا نعرف حقيقة اسمه. ولعل هذا لقب لا اسم شبيه بلفظ قيصر يطلق على عدد كبير من الملوك. ' حضارة المدن.. وعن تصنيفه لتلك الحضارة يكمل الكتاب: 'تدل هذه الحضارة في ذروة مجدها على أنها حضارة مدن لا حضارة ريف. وتحدثنا الإلياذة عن 'مدائن' كريت 'التسعين'، ويعجب اليونان الذين يقتحمونها من كثرة سكانها. بل إن الدارس ليقف اليوم مرتاعاً أمام شوارعها المحطمة المرصوفة ذات المجاري، وأمام أزقتها المتقاطعة، وحوانيتها التي يخطئها الحصر؛ وميادينها المتجمعة حول مركز من مراكز التجارة أو الحكم، حيث نرى الرجال محتشدين يتحدثون وهم ساكتون وادعون. وليست كنوسس وحدها هي المدينة العظيمة ذات القصور الواسعة التي تغري الخيال على أن يبالغ في عظمة المدينة التي كانت بلا ريب أكبر مصدر لثروة هذه القصور وأول ما يستفيد من ثروتها. ويقابل كنوسس على شاطئ الجزيرة الجنوبي مدينة فستوس، ومن مينائها 'تحمل قوة الريح والأمواج إلى أرض مصر السفن ذات المقدمات القاتمة، كما يقول هومر'. وفي هذه المدينة تتجمع تجارة كريت المينوية الذاهبة إلى الجنوب، مضافاً إليها السلع التي يأتي بها تجار الشمال الذين ينقلون بضائعهم إليها بطريق البر ليتجنبوا أخطار الطريق البحري الطويل. وتصبح فستوس بعدئذ لكريت كما كانت بيريوس لليونان، تحب التجارة أكثر من حبها الفن؛ ومع هذا فإن قصر أميرها صرح فخم، يرقي إليه بطائفة من الدرج يبلغ اتساعها خمساً وأربعين قدماً، ولا تقل أبهاؤه وأفنيته عن مثيلاتها في كنوسس؛ ففناؤه الأوسط مربع مرصوف يبلغ اتساعه عشرة آلاف قدم مربعة، وحجرة الاستقبال فيه تبلغ مساحتها ثلاثة آلاف، أي أكبر من الردهة العظيمة، ردهة البلطة المزدوجة، في العاصمة الشمالية. وعلى بعد ميلين من فستوس في اتجاه الشمال الغربي منها تقع حاجيا تريادا؛ وإلى بيتها الملكي الصغيركما يسميه علماء الآثار يلجأ أمير فستوس ليتقي حر الصيف. وكان طرف الجزيرة الشرقي في الأيام المينوية غنياً بالبلدان الصغيرة: سواء أكانت ثغوراً مثل زكرو ومكلوس، أو قرى مثل بريسوس، وبسيرا، أو أحياء لسكنى العظماء مثل بليكسترو، أو مراكز صناعية مثل جورنيا. والشارع الرئيسي في بليكسترو حسن الرصف كثير المجاري، تقوم على جانبيه بيوت رحبة؛ منها بيت يحتوي على ثلاث وعشرين حجرة في الطابق الذي بقي منه حتى الآن. ولجورنيا أن تفخر بما كان فيها من شوارع واسعة مرصوفة بالجبس وبيوت مشيدة بالحجارة من غير ملاط، وحانوت حداد لا يزال كيره باقياً إلى الآن، وحانوت نجار وجد فيه صندوق يحتوي على عدد، ومصانع تعج بصناع المعادن؛ وصناع الأحذية والمزهريات، وتكرير الزيت، والنسيج، وإن العمال الذين يكشفون عن تلك الآثار في هذه الأيام ويجمعون ما فيها من مناضد ذات ثلاثة قوائم، وجرار، وفخار، وأفران، ومصابيح، ومدى، و'هاونات'، وأدوات للصقل. وخطاطيف، ودبابيس، وخناجر، وسيوف'. مدينة الآلات.. وعن تسميتها بمدينة الآلات يواصل الكتاب: ' نقول إن العمال الذين يكشفون الآن عن تلك الآثار ويجمعونها لتعتريهم الدهشة من كثرة ما كانت تخرجه مصانعها من أدوات مختلفة الأنواع ويطلقون عليها أسم 'مدينة الآلات'. وإذا قيست شوارع المدينة إلى شوارعنا في هذه الأيام بدت لنا ضيقة، فهي لا تزيد على أزقة من طراز أزقة المدن الشرقية الواقعة قرب المدارين، والتي تخشى حر الشمس اللافح، أما بيوتها المستطيلة الشكل المشيدة من الخشب أو الآجر أو الحجر، فلا ترتفع في الغالب إلى أكثر من طابق واحد. غير أن ما وجد في كنوسس من النقوش الباقية من العصر المينوي الأوسط يصور بيوتاً من طابقين أو ثلاثة، بل ومن خمسة أحياناً، في أعلاها حجرة مفردة أو برج صغير في بعض المواضع؛ وفي الأطباق العليا وإلى سطح المنزل حيث ينام الكريتيون في الليالي الشديدة الحرارة. أما إذا قضوا الليل في داخل البيوت فإنهم يضيئون بيوتهم بمصابيح زيتية تصنع من الصلصال أو حجر الصابون، أو الجبس أو الرخام، أو البرنز حسب ثروة أصحابها.' ألعاب الكريتيين.. وعن ألعابهم يضيف الكتاب: 'ولسنا نعلم عن ألعاب الكريتي إلا شيئاً واحداً أو شيئين لا أهمية لهما؛ فإذا كان داخل الدار فإنه يحب لعبة شبيهة بلعبة الشطرنج، فقد خلف لنا في خرائب قصر كنوسس لوحة لعب فخمة ذات إطار من العاج وعليها مربعات من الفضة والذهب، واثنتين وسبعين قطعة من المعادن النفيسة والأحجار الكريمة. فإذا كان الكريتي في الحقول فإنه يعمد إلى الصيد بجرأة وحماسة ومعه قطط نصف برية، وكلاب صيد أصيلة ضامرة. وإذا كان من سكان الحواضر شجع الملاكمين، وتراه يصور على مزهرياته وفي نقوشه البارزة أنواعاً مختلفة من المباريات، يتلاكم فيها ذوو الأوزان الخفيفة بأيديهم العارية وأقدامهم، وذوو الأوزان المتوسطة يتلاكمون بقوة، وعلى رؤوسهم خوذ مزدانة بالريش، وذوو الأوزان الثقيلة يدلِّون بخوذهم وأقنعة خدودهم وقفازاتهم الطويلة المبطنة، ويواصلون الملاكمة حتى يسقط أحدهم على الأرض من فرط الإعياء، ويقف الثاني فوقه يتباهى بما أحرزه من نصر. ولكن أكثر ما يثير حماسة الكريتي أن يشق طريقه بين الجموع التي تملأ المدرج في يوم من أيام الأعياد ليرى الرجال والنساء يواجهون الموت أمام هجمات الثيران الهائجة. وكثيراً ما يصور مراحل هذا الصراع الوحشي الشديد، يصور الصائد الجريء يقتنص الثور بأن يقفز فوق عنقه وينزل ساقيه على جانبيه وهو يشرب الماء من إحدى البرك؛ ويصور المروض المحترف وهو يلوي رأس الثور حتى يتعلم شيئاً من الخضوع لحيل المدرب البغيضة؛ ثم المجتلد الماهر النحيل الجسم الخفيف الحركة وهو يلتقي بالثور في الحلبة، ويمسك بقرنيه، ويقفز في الهواء، ينقلب فوق ظهر الحيوان، ثم ينزل برجليه على الأرض بين ذراعي فتاة تضفي على المنظر من جمالها ورشاقتها. ولقد أصبح هذا الصراع حتى في كريت المينوية من الألعاب القديمة التي طال بها العهد؛ فقد عثر في كيدوشيا على أسطوانة من الصلصال يعزى تاريخها إلى عام 2400 ق. م، وتمثل صراع ثور لا يقل في شدته أو خطورته عما هو مصور في المظلمات السالفة الذكر. وإذا ما قلبنا الفكر في هذه اللعبة الدالة على شجاعة الإنسان وتعطشه لسفك الدماء، والتي ما تزال منتشرة في هذه الأيام، وعرفنا أنها قديمة قدم الحضارة نفسها، وإذا ما فعلنا ذلك أدركت عقولنا المولعة بتبسيط الأمور والاستهانة بها- وإن كان هذا الإدراك لا يدوم إلا لحظات ما في الطبيعة البشرية من تناقض وتعقيد'.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store