
صبحي موسي يبحث دور العقائد وبنية التحالف الرجعي في مازق التنوير العربي
يعشق صبحي موسي البحث بهدوء شديد في واقع الثقافة العربية .ويقدم جهد متميز في هذا المضمار الشائك .فلا يكتفي بالجوانب الابداعية من شعر ورواية . بل يبحر وسط بحر الغام بمهرة فائقة .يظهر ذلك بوضوح في كتابه الاخير " مازق التنوير العربي صراع العقائد وبنية التحالف الرجعي " ومن اهم اجواء الكتاب الصادر عن دار روافد ما تعرض له صبحي عن العلمانية فكتب يقول
العلمانية واحد من المصطلحات المهمة التي أحياها وأعاد انتشارها عصر التنوير الأوربي، خاصة بعد معركة الثلاثين عاماً التي دارت بين أنصار الكنيسة الكاثوليكية وأنصار مارتن لوثر وثورته البروتستانتية، فقد أعلنت الكنيسة تحريم الكتب العلمانية الخاصة التي يكتبها ويتداولها البروتستانت، ومن ثم فالعلمانية ليست نتاج مخاض فكري طويل، ولكنها كمصطلح جاءت كنتيجة عملية لأجواء الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكان مارتن لوثر قد ذهب إلى أنه لابد من تحطيم ثلاثة أسوار كي يصل المجتمع الأوربي إلى الإصلاح الديني، أولها تحكم السلطة الدينية بالسلطة الزمنية، وثانيها هو احتكار السلطة الدينية الحق في تأويل وفهم النص الديني، وثالثها هو عصمة البابا من الخطأ. ومن ثم فالبروتستانتية لم تكن مجرد ثورة دينية ولكنها سياسية أيضا، فقد امتنع أنصارها عن دفع أموالهم إلى الكنيسة، وبدأت بعض الحكومات تقلص من سلطة الكنيسة عليها، استنادا إلى ضعف سلطتها في المجتمع، ومن ثم فقد كانت حرب الثلاثين عاما حاسمة للعلاقة بين الكنيسة والمجتمع، وظهر من خلالها مصطلح العلمانية الذي يعني المدنية، أي أن صاحبه ليس من رجال الإكليروس أو العاملين في المجال الديني بالكنيسة.
لكن بانتقال هذا المصطلح إلى المجتمعات العربية في العصر الحديث حدث لغط كبير، فالبعض ترجمه بفتح العين انطلاقا من أنه يعني "العَالَم"، أو غير المشتغلين بالدين حسب الثقافة المسيحية، والبعض استعمل الكلمة بكسر العين، انطلاقا من أنها تعني "العِلم". وقد رصد الباحث السوري طارق عزيزة في كتابه "العلمانية" جانبا من هذا اللغط بين المفكرين حول نشأة المصطلح ونطقه، موضحا أن نصيف نصار (وهو باحث ومفكر لبناني له عشرات المؤلفات التي حاول من خلالها التنظير لتحقيق الاستقلال الفلسفي للفكر العربي المعاصر بالمعنى القومي، عبر التنظير للعلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا ومفاهيم السلطة والحرية والأمة والحضور التاريخي) ذهب إلى أن العِلمانية (بكسر العين) تتخذ من المعرفة العِلمية الوضعية، كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية، نموذجا لكل أنواع المعرفة. أما الأكاديمي السوري محمد كامل الخطيب فقد استخدم المصطلح بـ(فتح العين)، ذاهبا ً إلى أن أول استخدام له في اللغة العربية كان في منشورات الصراع الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت عام 1824، حيث طالب البطريرك الماروني رعاياه بعدم قراءة الكتب (العَلمانية)، أي الدنيوية، التي يكتبها البروتستانت. ثم تحدد معنى مصطلح العَلمانية فيما بعد بأنه فصل العالم عن الدين والآخرة. أما جورج طرابيشي فإنه يذهب إلى أن هذا المصطلح يعود إلى كتابات القرن العاشر الميلادي، فقد ورد هذا المصطلح في كتاب "مصباح العقل" لساويرس بن المقفع دون وجود شرح له، بما يعني أنه كان معروفا ومتداولا لدى رجال الكنيسة. وقد وردت الكلمة في سياق التمييز بين الطور الدنيوي والطور الكنسي للأسقف، إذ لابد من البتولية (عدم الزواج) في حالة العلمانية، ومن ثم فالعَلمانية بفتح العين، وتعني العالم)
وقد ذهب د. عزيز العظمة إلى أنه ليس معروفا على وجه الدقة كيف دخلت عبارة العلمانية إلى اللغة العربية، ولا كيف انتشرت في الآداب السياسية والاجتماعية والتاريخية العربية المعاصرة، إذ أن الإشارة فيها كانت إلى كلمة "مدني" ، وذلك بالإشارة إلى المؤسسات ذات الأسس اللادينية، كما في كلام فرح أنطون عن فصل السلطتين الدينية والمدنية، أو في وصف الإمام محمد عبده لخليفة المسلمين بأنه حاكم مدني من جميع الوجوه، وهناك إشارات أيضا إلى مدنية القوانين في العشرينات. وذهب العظمة إلى أن كلمة العلمانية دخلت على ما يبدو المجال العام في ذلك الوقت، وبمعناها المتداول اليوم، ثم ثبتت بهذا المعنى في أعمال كتاب مثل ساطع الحصري وغيره فيما بعد(
وفي اعتقادنا أن كلا المصطلحين يتفقان مع الفكرة التي تشير إليها العلمانية، سواء فصل مجتمع الكنيسة ورجاله عن المجتمع المدني وإدارة شئونه، أو الإشارة إلى سيادة العلم وقوانينه على المجتمع. فقد انتقل الصراع من بين البروتستانتية والكاثوليكية، ليدور بين الكنيسة الكاثوليكية وثورة العلم التي توالت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ففي الوقت الذي سعت فيه الكنيسة للالتزام بحرفية النص الديني، وتحريم إعمال العقل في المسائل الدينية، فإن العلم رأى وجوب تأويل النص في ضوء إعمال العقل، خاصة أن العلم أصبح قادرا على تقديم رؤية علمية للكون تتناقض مع الرؤية الدينية التي يقدمها ظاهر النص الديني، ففي عام 1543 أصدر كوبر نيكوس كتابه "في دورات الأفلاك السماوية" الذي يعتبر البعض تاريخ صدوره هو الحد الفاصل بين نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، وقد أوضح فيه كوبر نيكوس أن بقاء أكبر الأجرام ثابتا على حين تتحرك حوله الأجرام الصغرى أفضل من دوران الأجسام جميعا حول الأرض، لأننا إذا افترضنا أن الأرض متحركة، وهي المكان الذي نشاهد منه الحركات السماوية، سنحصل على صورة أبسط من الصورة المبنية على افتراض أن الأجرام السماوية هي المتحركة. وبناء على ما وصل إليه كوبر نيكوس فإن الإنسان لم يعد مركزا للكون. وكان ذلك بمثابة معول هدم كبير في جداران الكنيسة التي أقامت منظومتها اللاهوتية على أن الكون يدور حول الأرض، ومن ثم فإنه يدور حول الإنسان، مما جعل الكنيسة تثور وتعلن كوبر نيكوس مهرطقا. وفي بداية القرن السابع عشر، تحديدا عام 1609 صنع جاليليو التليسكوب، ونشر كتابه "رسول من النجوم"، أعلن فيه صدق نظرية كوبر نيكوس، ليبدأ الصراع من جديد بين الكنيسة والعلم، حتى أن البابا بولس الخامس أصدر أمرا لجاليليو بعدم تعليم نظريات كوبر نيكوس أو الدفاع عنها.
تكبيل الوعي العربي
ويختم صبحي موسي كتابه المهم قائلا رأينا على مدار رحلتنا في البحث عن ملامح مأزق التنوير العربي العديد من المشكلات التي جعلت منه شكلا بلا موضوع، فضلا عن وقوفه عند حدود المرحلة الأولى من التنوير الأوربي، وهي مرحلة الثورة البروتستانتية، تلك التي لم تستطع النخب العربية بعد أن تتخطاها وتنتقل منها إلى المراحل الأهم في بناء العقل العربي، وتحرره من سطوة الماضي وترسباته، تلك التي كبلت الوعي العام للجماعة العربية تحت وطأة الإيهام بالحفاظ على الأصول والهوية، دون عناية بانتصار الإنسان لذاته وقدرته على الفعل وتحمل مسئولياته، وهو الأمر الذي كانت الحضارة الإسلامية ذاتها قد قطعت به في زمن المأمون، خاصة مع ثورة المعتزلة الفكرية في دفاعها عن حرية الفعل، لكن الجانب السلفي في هذه الحضارة تمكن من السيطرة على الحكام، والانقلاب على ثورة المأمون (الفكرية)، والعودة إلى الفكر الأشعري المتمسك بحرفية النص، وعدم قابلية تأويله إلا في أضيق الحدود، معتمدا على فقهاء عصور الضعف والخوف والرغبة في الدفاع عن الخلفاء الأوائل، بل وتنزيههم عن الخطأ وعصمتهم منه، وهو ما وضع الثقافة العربية والإسلامية طيلة الوقت في مأزق دائم، فدارات الخلافات والنقاشات القديمة بين فرق المتكلمة حولها، لكن المعتزلة استطاعوا أن ينقلوا النقاش من قداسة المسئول أو الخليفة أو الصحابي إلى مسئوليته عن فعله، ومن ثم تحديد موقفه من العقاب والجزاء، ولو كان لهذه الثورة أن تكمل مسيرتها لكانت الحضارة الاسلامية قد قطعت خطوات كبيرة نحو ثورة العقل وإقرار القانون الوضعي المستمد من القوانين الطبيعية، ولتمكن المنجز العلمي في الثقافة العربية من ارتياد أفاق أوسع وأكبر من التي ارتادها، وربما لعرفت البشرية نقل الأعضاء في القرون الوسطى، أو الوصول إلى الكواكب والمجرات الأخرى دون الاكتفاء بأن العالم مكون من سبع سموات وسبع أراضين، وربما لم يتوقف قطار الحضارة لدينا، ولا سقطنا في هوة الظلام والجمود هذه القرون، في حين انطلق قطار الحضارة الحديثة حين انطلق العقل الغربي نفسه من عقال تصوراته ومعتقداته القديمة نحو اكتشاف العالم، مؤمناً بقوانين الطبيعة وتطور الحياة فيها وفقاً لديناميكيات الحركة والثبات، وليس وفقا لقانون الكتاب المقدس، مما جعل سعى العالم العربي كله فيما بعد نوعا من اللهاث نحو اللحاق بقطار الغرب، وحين اقتنع التيار الاصلاحي بضرورة نقل علوم ومخترعات هذا الغرب إلى عالمنا العربي - على نحو ما فعل الطهطاوي – فقد أصر على تجريدها من سياقها الثقافي، ووضعها في سياق تقليدي أصولي معاد في جوهره لوجودها، رغم أنه كان مؤمنا بأنها ستفشل إن آجل أو عاجلا، فقد قال محمد عبده أن المؤسسات الحديثة التي أنشأها محمد على لن يكتب لها النجاح ولا الاستمرار؛ لأنه نقلها من بيئتها وسياقها الذي نشأت فيه إلى بيئة وسياق مغاير.
ويستطرد صبحي قائلا هكذا راهن طيلة الوقت أصحاب التيارات الدينية على فشل الحداثة لأنها لا تتفق مع جوهر إيمانهم الأصولي، وكان من الطبيعي أن يتم تكفير هذه المجتمعات بعلومها وقيمها وأفكارها، لا لشيء سوى أنها جاهلية، وتحتاج إلى أنبياء جدد مثلهم كي يخرجوها من ظلامها إلى النور، محددين طريقهم بأنه يبدأ من هجرة هذه المجتمعات التي يعيشون فيها، كما عاش المسلمون الأوائل بين كفار مكة، إلى مكان وموطن الإعداد والتجهيز، ثم العودة لفتحها كما فتح الرسول مكة، وتطهيرها كما طهر البيت الحرام من الأصنام والأوثان. هكذا ظلت مخيلة الأيام الأولى من الإسلام حاكما رئيسيا لعقل وذهن التيارات الدينية بمختلف تنويعاتها، لكن بعضها كان أقل حدة ووضوحاً، وأكثر موائمة مع السلطات وتكتلات المجتمع.
المشكلة الأكبر كانت في التيارات التنويرية نفسها، فقد نشأ التنوير كما رأينا على يد السلطة، بدءا من سلطة الحملة الفرنسية، وسلطة محمد علي الذي آمن بالتنوير، ونهض آخذا بكل أدوات بناء الدولة الحديثة، لكن نخبة المثقفين الذين ذهبوا وتعلموا في بلاد التنوير الأوربي لم يطالبوه بضرورة تغيير السياق الثقافي للمجتمع، وألا يكتفي بتعليم الحاشية والطبقة الموالية والجهاز الإداري للدولة، إذ لابد أن ينتشر النور في مختلف المدن والقرى، ويصل مداه إلى أعمق أعماق المجتمع، حينها ستكون قاعدة الهرم على أرض متسعة، ولن يتمكن تغيير الباشا ولا مجيء الاحتلال من وقف قطار التحديث الذي انطلق، وربما من الأصل لن تتعرض البلاد للاحتلال ولا الغزو بفضل الوعي الذي تراكم لدى نخبها، وتوافر قنوات توصليه لدى الجماهير، لكن لا محمد على كان مشغلاً بصناعة القنوات المؤهلة لذلك، ولا حتى نخب المثقفين الذي سعدوا وانبهروا بالذهاب إلى أوروبا، ثم العودة للعمل في حظيرة الوالي رب النعم، مستمتعين بعطاياه ومناصبه، مما ساعد على توقف قطار النهضة بتوقف رغبة محمد على فيها، ولم يخرج أحد من بيته رافضا إغلاق المدارس أو تصفية المعامل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ساحة التحرير
٠٣-٠٥-٢٠٢٥
- ساحة التحرير
علاقة المذهب المسيحي البروتستانتي بالصهيونية!الطاهر المعز
علاقة المذهب المسيحي البروتستانتي بالصهيونية! الطاهر المعز كتبتُ تعليقًا بشأن علاقة البروتستانتية بالصهيونية ( من منطلقات دينية في بداياتها) وعلاقة كلتَيْهما باليمين المتطرف والفكر الإستعماري، وعارض بعض الأصدقاء ما كتبتُهُ وفيما يلي بعض التوضيحات المُقتَضَبَة تُشير العقيدة المسيحية إن اليهود اقترفوا إثما فطردهم الله من فلسطين، إلى بابل التي تُمثل منفاهم، ولم توجد إشارات إلى 'عودة اليهود إلى فلسطين' لدى الكنيسة المسيحية قبل ظهور ما سُمِّيَ 'عهد الإصلاح' الذي تزعّمه مارتن لوثر ( 1483 – 1546 ) بألمانيا الحالية، ثم جان كالفين (سويسرا/فرنسا 1509 – 1564 ) كان مارتن لوثر إصلاحيا جريئًا ثار ضدّ تحالف قادة الكنيسة مع الأثرياء، وكان في بداية دعوته ( كتاب 'عيسى وُلِدَ يهوديًّا' سنة 1523 ) يعتبر اليهود 'أبناء الله' وأدان اضطهاد الكنيسة لليهود، لكنه يدعو إلى 'تَمْسِيحِهم'، وكتب ' 'إن الروح القدس شاءت أن تُنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود، وحدهم. إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب، التي تأكل من فتات مائدة أسيادها'… بعد حوالي عشرين سنة، أصبح مناهضًا لليهود، عندما راجت الأنباء القائلة إن اليهود كانوا يجمعون الأنصار لعقيدتهم، من خلال حركة المسيحيّين المتشددين، بدلًا من أن يَرْتَدُّوا للمسيحية، ويظهر ذلك في مؤلفه ' اليهود وأكاذيبهم' سنة 1544، حيث كال لهم الشتائم والتُّهَم التي كانت سائدة آنذاك، وأعلن إن ديانتهم اليهودية أصبحت وَثَنِيّة، ولذا وجب إحراق وتدمير معابدهم ومساكنهم، واعتبرهم ليسوا في بلادهم في أوروبا، وإنما منفيون (في المنفى) ويجب أن نتخلص منهم عبر مُساعدتهم على 'العودة إلى أرضهم في يهوذا ونُيسِّرَ رحيلهم ونزوِّدهم بما يحتاجونه خلال الرحلة… يجب أن نتخلص منهم فهم بَلاء وعبء ثقيل علينا…' أثارت البروتستانتية، منذ مارتن لوثر، مسألة 'العودة اليهودية' إلى فلسطين، جراء التفسير الحرفي للتوراة ( العهد القديم) التي تشير إلى 'أحَقِّيّة عودة اليهود إلى وطنهم' ( أرض فلسطين) وأن يمكثوا بها 'حتى يظهر المسيح ويحكم العالم لألف عام سعيد' حسب التوراة، وبذلك اعتبر البروتستانت فلسطين أرضا تاريخية لليهود، ووجبت مساعدتهم لاسترجاعها، وتمثل هذه الأفكار الأُسُس العقائدية والتّبْريرات الدّينية للمسيحية الصهيونية… كانت أفكار مارتن لوثر بمثابة تمهيد لترويج التّأويل اليهودي للعهد القديم لدى الرّأي العام المسيحي، وارتباط عودة المسيح الثانية ونهاية العالم بعودة اليهود إلى فلسطين… تضمَّنت أفكار مارتن لوثر تناقضات عديدة، تراوحت بين الثورة على الأساطير اللاّهوتية التي أفسدت العقيدة المسيحية، وخيبة أمله من اليهود الذين كان يأمل باعتناقهم الدين المسيحي، ثم عبَّرَ عن قناعته بأن ذلك لن يتم سوى بعودتهم لفلسطين التي سوف تُعجّل بعودة المسيح، وعند ذلك يسجدون له ويعلنون مسيحيتهم، وجعل المذهب البروتستانتي، منذ بداياته، من العهد القديم المرجع العقائدي الأول للمسيحية، والإعتقاد بأن عودة اليهود إلى فلسطين تمثل شرطا مسبقا لظهور المسيح… أكّد الباحث جوزيف مسعد ( عربي 21 بتاريخ 11 أيار 2020) إن مبادئ حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر، كانت بمثابة الأساس العقائدي ( الإيديولوجي) للخطط الإستعمارية البريطانية ( منذ بداية القرن التاسع عشر) وخطط المتعصبين الأنغليكانيّين و 'جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود' (تأسست سنة 1809 لتحويل اليهود إلى البروتستانتية وتشجيع هجرتهم إلى فلسطين… صدر سنة 2021 عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية 'مدار'، كتاب 'معنى إسرائيل' لمؤلفه يعقوب م. رابكِنْ، ترجمه عن الإنكليزية الكاتب حسن خضر، ويؤكّد المؤلف وهو مؤرخ وباحث ومُدرّس يهودي بجامعة مونتيريال، 'إن منبت الصهيونية بروتستانتي، وليس يهوديا، لأن اليهـود لم يُعـرَّفوا تاريخيا كعـرق، ولا كشـعب ينتسـب إلى بلد معين، أو إلى نظـام سياسـي، أو كشـعب يتكلّـم اللغـة نفسـها، بـل كجماعات يهوديـة لا يربطها سوى التزامها بالتـوراة، إلى غاية ظهور الصهيونية في أوروبا التي ابتدعت رَفْض اندماج اليهود في أوطانهم وداخل شعوبهم، ولاقت هذه الفكرة معارضة من قِبَل معظم التيارات اليهودية، ودعما من بعض التيارات البروتستانتية الأصولية التي كانت في بدايتها تعتبر تأسيس 'دولة إسرائيل' تجسيدا لنبوءات الكتاب المقدس المُبشِّرة بمجيء المسيح المخلص إلى الأرض، وبالتالي وجب الدفاع عن حق اليهود بوطن قومي، قلبل أن تتحول إلى تيار إيديولوجي وسياسي عُنصري واستعماري يدعم حروب حلف شمال الأطلسي والإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني بشكل مُطلق… 2025-05-03 The post علاقة المذهب المسيحي البروتستانتي بالصهيونية!الطاهر المعز first appeared on ساحة التحرير.


موقع كتابات
٢٢-٠٤-٢٠٢٥
- موقع كتابات
مشكلة الوعي الزائف وشروط امكان الوعي الحقيقي
الترجمة 'إن تاريخ الطبيعة، أو ما نسميه 'العلوم الطبيعية'، لا يهمنا هنا؛ ولكن 'سيتعين علينا أن نتعامل مع تاريخ البشر، لأن الأيديولوجية بأكملها تقريبًا قد تم تقليصها إما إلى مفهوم خاطئ لهذا التاريخ أو إلى تجريد كامل من هذا التاريخ. ' (كارل ماركس: الأعمال الفلسفية، المجلد السادس، ص 153-154). تتعلق مشكلة الوعي الزائف بالتاريخ الألماني الحديث بطريقتين. ومن ناحية أخرى، يعود الفضل في وضع الأسس الفلسفية لهذه المشكلة إلى المنظرين الماركسيين غير التقليديين في ألمانيا في عهد جمهورية فايمار. علاوة على ذلك، فإن العقيدة الاشتراكية الوطنية تمثل بلا شك مثالاً نموذجياً للأيديولوجية بالمعنى الماركسي للمصطلح، أي على وجه التحديد نظام أفكار غريب عن الواقع وحامل لوعي زائف. ومن الواضح أن هذا التفسير للاشتراكية الوطنية باعتبارها وعياً زائفاً له تأثير على مسألة المسؤولية الألمانية التي أثارت الكثير من الجدل، ولكن ليس من شأننا الخوض في تفاصيل هذه المسألة هنا. ومن المؤكد أن النقاد الألمان لكتابنا سوف ينظرون فيه ويناقشونه. إن وضع الماركسية ككل فيما يتصل بمشكلة الوعي الزائف مماثل. إن نظرية الأيديولوجية ونتيجتها، نظرية الوعي الزائف، هي من أصل ماركسي؛ إنها تشكل فصلاً – بالنسبة لنا الفصل الرئيسي – من مجال الاغتراب العظيم. ولكن إذا كانت الماركسية قد قدمت المقدمة لموقف نظري بشأن هذه المسألة، فإنها قدمت أيضاً توضيحها غير الطوعي: فلم يكن اغتراب الروح الإنسانية في أي مكان أكثر عمقاً مما كان عليه في الستالينية، ولم يكن أي شكل من أشكال الوعي السياسي أكثر زيفاً من هذا. لكن النظرية التي أصبحت أيديولوجية سياسية لا تستطيع أن تدين نفسها. وإلى جانب الوعي الزائف، فقد أصبح هذا بمثابة تبلور للطلاق بين الماركسية النظرية والماركسية السياسية؛ نقطة اللاعودة التي قد تتحول عندها الماركسية إلى نظرية مدمرة للذات. إن الماركسية العقائدية كانت متسقة مع نفسها فقط في منع تطور أي نقد أيديولوجي بنيوي بشكل منهجي – وهو نقد لا ينفصل عن صحة مفهوم الوعي الزائف – ليحل محله رفض عالمي وغير متمايز للبنى الفوقية للمعسكر المعارض كما رأينا في روسيا وكما يبدو أنه ينشأ حاليًا في الصين. تنشأ مشكلة أولية لأي نظرية متماسكة للوعي الزائف: كيف نحدد الوعي الأصيل وبالعلاقة معه يمكن تسمية شكل آخر من أشكال الوعي 'زائفًا' وما هي الطبقة الاجتماعية التي تشكل مستودعًا للوعي الأصيل. المشكلة فلسفية واجتماعية. تقترح الماركسية الأرثوذكسية حلاً لهذه المشكلة، وهو الحل الذي لا يمنع من التماسك أكثر من التضحية باستقلالية مشكلة الضمير من أجل إنشاء فرع لعلم اجتماع المعرفة. الضمير الضمير هو مجموعة من «النظريات غير الملائمة» التي لا يعتبرها القصور بمثابة مكافأة للمصلحة الطبقية. الضمير الأصيل – خلية البروليتاريا – هو مجموعة من 'النظريات المناسبة للواقع' التي تم إعدادها من قبل نظريات الأصل التي ليست بروليتارية، فهي بمثابة مصدر للطبقة العاملة الممثلة من قبل الحزب. لينين وكاوتسكي، اللذان كانا يقاتلان معًا، وجدا اتفاقًا لتقدير أن الضمير الطبقي البروليتاري يجب أن يأتي إلى الخارج. إنها تتزامن مع الحد الأقصى من الوقت مع إيديولوجية حزب غير قابل للفشل ومع الانتصارات القيمة في العلوم الاجتماعية. لقد صممنا مصطلح 'المفهوم المعرفي الماني' للضمير السياسي هذا التفسير الذي يميل إلى الظهور اليوم كجزء من مؤسسات النقد الإيديولوجي للماركسية الأرثوذكسية. بدلاً من العمل على إثبات بنية الاتصال بين الضمير والوجود، يتم تحملها للتنصل من خطأ الخصم. هذه النظرية تتوافق بشكل خاص مع الماركسية الأرثوذكسية، وهي لا تتسطح أبدًا مع التوجه العلمي والنزعة المانوية: الحقيقة ضد الخطأ، والروح العلمية ضد اللاعقلانية. ومع ذلك، فإن تبني الماركسية يلتزم باستقلالية مشكلة الضمير: يمكن أن يكون شكل من أشكال جائزة الضمير ثمرة «فورية» للحياة الاجتماعية ؛ يجب أن يتم تطوير نظرية اجتماعية من قبل المتخصصين. إن المفهوم الذي حاولنا الدفاع عنه في سياق العمل الحالي هو 'فكر ضد' هذا التفسير. نحن ننتقد مفهوم 'الآلة المعرفية' لقيامه بعقلنة مشكلة الوعي السياسي، متجاهلاً العامل غير العقلاني، الذي يظل دوره واضحاً رغم ذلك. ويمكننا أيضًا أن ننتقدها بسبب السذاجة التي تتعامل بها مع فكرة 'عدم الكفاية' (الخطأ) باعتبارها حقيقة لا تقبل الجدل وقادرة على أن تكون نقطة انطلاق، في حين أنها تفترض تحقيقًا منطقيًا ومعرفيًا صعبًا بالكامل. هل يمكن أن نعتبر الستالينية، التي قادت روسيا إلى النصر في أعظم الحروب، خطأً سياسياً حقيقياً؟ لا، بالتأكيد لا. فهل نحن ملزمون إذن بالموافقة على استيعابه للتروتسكية والنازية، وهوسه البارانويدي بالمؤامرة خارج الزمن، ورفضه المزمن للتاريخ، باعتبارها حقيقة علمية؟ هل كان الانتصار العسكري الذي حققته ألمانيا النازية، والذي لم يكن مستحيلاً على الإطلاق، من شأنه أن يحول بأثر رجعي أخطاء العنصرية إلى حقيقة علمية؟ ومن ثم يمكننا أن نرى مدى خطورة ادعاء تبرير مشكلة الوعي الزائف من خلال إقامة مفهوم 'الكفاية' كفئة مركزية. إن التعريف التقليدي للحقيقة: ملاءمة الشيء مع الفهم هو إطار فارغ يطالب بمحتوى: يمكن أن يأتي هذا المحتوى إما من أبحاث معرفية صعبة من النوع الذي قام به فيكتور بروشارد في الماضي، أو بسهولة أكبر من سلطة خارجية. إن المفهوم العقلاني للوعي السياسي يؤدي بعد ذلك إلى أيديولوجية استبدادية. كنا نعتقد أننا نستطيع الهروب من هذه التناقضات من خلال تأسيس أبحاثنا الخاصة ليس على معيار الكفاية ولكن على المعيار الجدلي، الخالي من رهن أي حكم قيمي معرفي. وعلى النقيض من أنصار الماركسية العقائدية، فإننا لا نعتبر مصطلح 'الديالكتيكي' مرادفًا لـ 'الحقيقة العلمية'. النهج العلمي هو توليفة من المناهج الديالكتيكية وغير الديالكتيكية. لا شك أن الوعي الديالكتيكي الكامل غير ممكن ولا حتى مرغوب فيه. لم تعد مشكلة الوعي الزائف تقع بين مصطلحات معضلة 'الحقيقة والخطأ'، حيث تميل إلى أن تصبح غير شخصية، ولكن بين مصطلحات 'التفكير الديالكتيكي' و'التفكير غير الديالكتيكي': فئتها المركزية ليست عدم الكفاية للواقع – لا يمكن تعريف مفهوم 'الكفاية للواقع' إلا بطريقة استبدادية – ولكن درجة الوظيفة التاريخية والشمولية (الديالكتيكية) للبيانات السياسية. ومن ثم فإن التصور السياسي المعادي للجدلية وغير التاريخي والمتجسد بشكل عنيد من شأنه أن يشكل الفئة الأساسية للوعي الزائف. نقطة البداية لهذا المفهوم هي دراسة خصصناها في عام 1949 لعلم نفس الشيوعية والتي تمكنا من إعادة نشرها مؤخرًا بفضل المساعدة المتميزة من دار نشر فيشر والسيد بيترو دوميتريو. إن 'علم نفس الفكر الشيوعي' هذا ينبغي أن يسمى الآن، بكل إنصاف، 'الأسس النفسية والمنطقية للأيديولوجية الستالينية'. في الواقع، لقد نجحت الشيوعية في التخلص من عزلتها إلى حد كبير منذ ذلك الحين؛ ربما تظل استنتاجاتنا التي توصلنا إليها في عام 1949 صالحة فيما يتصل بمشكلة الوعي الزائف؛ إنها لا تنطبق إلا جزئيا على الوعي الشيوعي لعام 1967، على الأقل على وعي المنظمات الخاضعة للنفوذ الروسي. لقد انطلقنا من الملاحظة التي مفادها أن الفكر الشيوعي، على الرغم من ادعائه بأنه جدلي، إلا أنه في مناهجه الفعلية يقع على النقيض تمامًا من المنهج الجدلي. إلى جانب النزعة المدرسية في العصور الوسطى، فإن الستالينية هي بلا شك المجموعة العقائدية الأكثر ثباتاً في معاداة الجدلية في تاريخ الأفكار بأكمله. إنها فكرة أنانية وهندسية، تهيمن عليها 'التعريف الزائف' وتعتمد على الوعي المتجسد. ربما كانت الأيديولوجية الستالينية تمثل الدرجة القصوى التي يمكن أن يصل إليها الوعي الزائف. في ذلك الوقت، عندما كنا نقرأ الصحافة الشيوعية أو نستمع إلى الخطابات الدبلوماسيين السوفييت، كان لدينا انطباع حقيقي بأننا نتعامل مع كائنات ذات دماغ مختلف عن دماغنا. هذا يُلقي نظرةً على هويةٍ بنيويةٍ بين الوعي الزائف والوعي الفصامي. قد يبدو هذا التعريف للوعي الزائف كفكرٍ لا ديالكتيكي تعسفيًا. لنُلاحظ، لمصلحة القراء المُحتملين المُهتمين بالوفاء للنصوص الكلاسيكية، أن التعريف الماركسي للأيديولوجيا مُلهمٌ بشكلٍ وثيقٍ إلى حدٍّ ما، شريطة أن نُعتبر الرؤية التاريخية بُعدًا هامًا في أي جدلية. لكن هذه ليست النقطة الجوهرية في المسألة. جميع العلوم تعمل بمساعدة مُسلَّماتٍ تعسفيةٍ إلى حدٍّ ما، وغالبًا ما تتزامن مع أنظمةٍ بديهيةٍ غير متوافقة. القيمة الأداتيَّه للأنظمة البديهية وحدها هي التي تُتيح لنا قياس قيمتها بأثرٍ رجعي. وسواءً أكان تعريفنا 'الديالكتيكي' للوعي الزائف تعسفيًا أم لا، فقد مكّن من تطوير توليفةٍ واسعةٍ تشمل – ولأول مرةٍ على حدِّ علمنا – قطاعًا من الاغتراب السريري. وبقدر ما يُثبت هذا التوليف تماسكه وفائدته، فإنه يُبرِّر بأثرٍ رجعيٍّ التعريف الذي كان بمثابة نقطة انطلاقه. ليس هناك ما يمنعنا من معارضة المفهوم 'الإيلي' للتعريف 'الجدلي' للوعي الزائف. لقد كشف كتاب آخرون، أكثر تألقاً من كتابنا، عن الصعوبات التي تكتنف نظرية فيلفريدو باريتو حول تداول النخب. ولكن إذا أثبتت هذه النظرية قدرتها على تفسير بعض جوانب الوهم السياسي ـ ونحن نفكر هنا في المكون الطوباوي لبعض البرامج ـ فليس لدينا سبب لرفض هذه المساعدة، حتى ولو كان ذلك يعني الترحيب لاحقاً، دون ندم، بالمفهوم الجدلي لمشاكل مختلفة. الحقيقة لا تتعايش مع الخطأ أبدًا؛ يمكن لنظامين بديهيين مختلفين أن يتعايشا ويتشاركا المهام؛ هناك رياضيات تستخدم هندسة إقليدس وهندسة ريمان بالتناوب. إن المنظورية في العلوم الإنسانية لا تنفصل عن الوضع الديمقراطي للفكر، في حين أن الاستبداد يميل إلى 'إطلاق' منظور الفرد واعتبار الآخرين غير شرعيين. ', ومن بين البنيات المضادة للجدلية التي تترك بصماتها على الوعي الزائف، لا بد من الإشارة بشكل خاص إلى التعريف. وتغطي مشكلة تحديد الهوية وإساءة استخدامها مساحة ضخمة. ويتعلق الأمر بتخصصات متنوعة مثل نظرية المعرفة (راجع أعمال إميل مايرسون)، وعلم نفس الطفل، وعلم الأمراض النفسية، والتحليل النفسي، وعلم اجتماع المعرفة والأيديولوجيا، وحتى، إلى حد ما، فلسفة القانون. إن تجميع هذه الجوانب المختلفة يتطلب كتابًا. في المسائل العلمية، يعتبر التعريف تقنية مشروعة تم تسليط الضوء على أهميتها وتدوين استخدامها في الأعمال الكلاسيكية لإميل مايرسون (الهوية والواقع). إن إساءة استخدامها في الأمور السياسية هي نتيجة حتمية للهيكلة الأنانية للفكر. إن النظام الذي يحتل مكانة متميزة في أذهان أنصاره (أي أنه لا يستطيع بحكم التعريف الدخول في علاقة عكسية) يفرض تصوراً مانوياً يرى التاريخ ببساطة باعتباره صداماً بين معسكرين متجانسين. وتميل الدعاية، من جانبها، إلى تعزيز هذا الاتجاه بهدف الاقتصاد في الفكر. ومن هنا ازدهار هذه المفاهيم الأنانية في الأيديولوجيات الشمولية، والتي تترجم على المستوى المنطقي الفرضية اللاواعية حول الوحدة الأساسية للمعسكر المعارض (البلشفية اليهودية). لقد رأى لابرويير بوضوح هذه العلاقة السببية بين الأنانية وشيوع مبدأ التعريف. في أحد فصول كتاب الشخصيات نجد هذه الفقرة المذهلة: 'الأمراء، دون أي علم أو قاعدة أخرى، لديهم ذوق للمقارنة: إنهم يولدون وينشؤون في وسط أفضل الأشياء، وكأنها في مركزها، والتي يربطون بها ما يقرؤون، وما يرون، وما يسمعون'. إن ريموند آرون، الذي لا يحب كلمة 'جدلية' ولكن تحليلاته تشكل في كثير من الأحيان نماذج للنقد الأيديولوجي الجدلي، قد ندد في كثير من الأحيان في كتاباته بتقنية تحديد السلسلة، والتي يعزو أصلها إلى الموقع المتميز للحزب في الكون الذهني الشيوعي، أي باختصار إلى العامل الأناني. وسوف نظهر في سياق هذا العمل أن هذه الظاهرة هي في الأساس جانب جزئي من الانتشار العام للهياكل اللاديالكتيكية – غلبة المكان على الزمن هي جانب آخر – في عالم الاغتراب. خصص الماركسي المجري بيلا فوجارناسي فصلاً من كتابه 'الماركسية هي المنطق' لمشكلة التعريف الزائف في السياسة؛ وأمثلته مستمدة من ما يسمى بالأيديولوجيات 'اليمينية'؛ لقد أخذنا فكرتها المركزية لاستخدامها في نقد أيديولوجية اليسار المتطرف. وفي نهاية المطاف فإن مجال الاغتراب الفردي ليس غافلاً عن هذه الظاهرة. يمكننا أن نقتصر على ذكر مثال سهل للغاية – ومع ذلك صحيح – للفتيشية الجنسية: إن استبدال شيء ما بمجموع شريك الحب هو تحديد زائف حقيقي تمامًا. من ناحية أخرى، سيكون هناك نقاش مطول لاحقًا حول البحث المثير للاهتمام الذي أجراه سيلفانو أرييتي من نيويورك، والذي أظهر في دراسته لما يسميه 'الاركيولوجيا القديمة' للمصابين بالفصام، أن هؤلاء المرضى النفسيين لديهم أيضًا 'تحديد سهل'. نحن إذن أمام بنية أساسية ـ قاسم مشترك حقيقي ـ لمختلف جوانب الاغتراب، التي يشكل استمرارها على المستوى الفردي والجماعي أحد أسس ما نسميه البنية الانفصامية للوعي الزائف. السؤال الذي يطرح نفسه هو: بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على نهاية الستالينية، هل لا يزال لهذا المفهوم للوعي الزائف أي قيمة تفسيرية في السياسة؟ هذا ليس سؤالا بلاغيا. لقد تم الإشارة إلى نهاية العصر الأيديولوجي مراراً وتكراراً في الآونة الأخيرة؛ بالنسبة للماركسيين، الوعي الزائف لا ينفصل عن الأيديولوجية. علاوة على ذلك، فإن موقف المشكلة نفسه ليس خاليا تماما من الغموض. في الواقع، يشير مصطلح الأيديولوجية إما إلى الجهاز العقائدي بأكمله لحزب ما، أو إلى التعبير الأيديولوجي عن رؤية تاريخية متدهورة. في الحالة الأولى، سيكون تراجع الأيديولوجيات ظاهرة من ظواهر الانحطاط الثقافي؛ أما في الحالة الثانية، فعلى العكس من ذلك، فإنها ستعلن عن قدوم عصر الوضوح. يمكن أن تتعايش هاتان العمليتان، بل وتتداخلان؛ أما الثاني فهو وحده مرادف لتراجع الوعي الزائف. ويحدث أيضًا – ويعرف الأطباء النفسيون هذه الظاهرة جيدًا – أن فقر المظاهر الفكرية يخفي وراءه استمرارًا لقاعدة من الإدراك غير الواقعي. بعض أشكال الوعي الزائف، مثل الستالينية، تحيط نفسها بدرع أيديولوجي سميك. والبعض الآخر، مثل أصحاب التوجه العرقي الأميركي، متمردون على أي أيديولوجية. وبالتالي فإن تراجع نفوذ الأيديولوجيات لا يشكل تقدماً في حد ذاته. ولا يمكن أن نصل إلى معلومات صحيحة بشأن هذه المشكلة إلا من خلال دراسة كل حالة على حدة على مختلف القطاعات المعنية. في مقدمة العمل، يكون هذا الفحص بالضرورة ملخصًا. ومن المؤكد أننا نشهد عملية حقيقية لإزالة الاغتراب في القطاع الروسي من العالم الشيوعي. في عمل حظي بتعليقات واسعة النطاق في فرنسا حوالي عام 1954، يشرح السيد إسحاق دويتشر هذه العملية من خلال التأثيرات المسببة للاغتراب للتقدم التقني الذي أدى، من خلال ضمان سيطرة جديدة للإنسان على الطبيعة، إلى دفع السحر البدائي إلى الوراء، وهو إرث من الستالينية. إن هذا التفسير الذي قدمه دويتشر لا يجذبنا إلا إلى حد ما. إن مثال ألمانيا في عهد هتلر يثبت أن التكنولوجيا الأكثر تقدماً يمكن أن تتعايش مع تراجع عميق في الوعي. لا يمكن اعتبار التقدم التقني في حد ذاته عاملاً من عوامل إزالة الاغتراب. وربما لعبت الآلية التي وصفها السيد دويتشر دوراً ثانوياً؛ إن السبب الاجتماعي الحقيقي وراء هذا الذوبان الأيديولوجي يجب أن نبحث عنه في مكان آخر. ربما يكون هذا السبب هو ظهور الاشتراكية متعددة المراكز التي، من خلال كسر المخطط المانويّ للعالم الخاص بالشيوعية، جعلت في الوقت نفسه الأساس الوجودي للأنانية الجماعية يختفي، والتي تشكل 'معادلاتها' العامل الأساسي لهندسة (انفصام) الوعي. وفي الوقت نفسه، استعادت نظرية الاغتراب، التي حظرها ستالين بشدة، بعض المصداقية في المعسكر الماركسي، كما يتضح من كتابات ج. نادور في المجر، وآدم شاف في بولندا، وأخيراً روجيه جارودي في فرنسا. وفي الوقت الذي تعالج فيه الماركسية الحكومية نفسها جزئياً من حالة عميقة من الاغتراب والوعي الزائف، فإنها تعيد اكتشاف الأهمية النظرية لمشكلة الاغتراب. لقد شهدنا في الولايات المتحدة مؤخراً ظهور مناخ سياسي بدأ يشبه مناخ ألمانيا في عهد جمهورية فايمار، ولكن من دون البؤس. إن صعود المطابقة، وصعود 'التحديد الخارجي' على حساب 'التحديد الداخلي' للسلوك، وإزالة الصفة الشخصية عن الإنسان الأمريكي، سجين 'التنظيم'، المحاصر في مرمى نيران الدعاية والإعلان، كل هذا يؤدي إلى ظهور اتهامات لا تقل انتقاداً لشكل أمريكي محدد من الاغتراب الاجتماعي. هناك بالفعل رصيد دائم من الوعي الزائف في الولايات المتحدة يتكون في المقام الأول من مقاومة التغيير. إن المكارثية، والغولدووترية الأقرب إلينا، هما في الأساس نتيجة للاستياء المؤقت لهذا الصندوق الدائم لصالح الظروف السياسية. لقد حرصنا أعلاه على تحديد الوعي الزائف بوضوح فيما يتعلق بسلوك الفشل في السياسة: تشكل الستالينية في نفس الوقت 'النوع المثالي' التلقائي للوعي الزائف وفي نفس الوقت الحالة النموذجية للأيديولوجية التي، على حد تعبير ماركس، 'تصبح قوة مادية من خلال الاستيلاء على الجماهير'. ولكن ليست كل أشكال الوعي الزائف أدوات للنجاح، ولم تقدم أي حركة فكرية خدمة أكثر عفوية لخصمها من المكارثية وخلفائها. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن المركزية العرقية الجنوبية، وهو وعي زائف نموذجي لإدراكها المتشدد والمُزيل للطابع الشخصي لأعضاء ما يسمى بالأعراق 'الدنيا'، وعدم وعيها بدوافعها الحقيقية، ومانويتها، ورفضها لأي إمكانية للتقدم للمجموعة العرقية 'الدنيا'، وهو رفض متبلور في هويات زائفة حقيقية ['الزنجي يظل زنجيًا دائمًا']. إن المركزية العرقية السوداء تضعنا، حتى قبل مغادرة أمريكا، في وسط أجواء العالم الثالث. لقد كان إنهاء الاستعمار هو الحقيقة العظيمة لإزالة الاغتراب في عصرنا ـ وقد أظهر جاك بيرك ذلك في صفحات مبهرة. لكن كما هو الحال مع كل حركات التحرر في التاريخ، فإنها مهددة بالوعي الزائف، ربما في شكله الطوباوي. إن الفضل الكبير لعمل جان زيجلر: علم اجتماع أفريقيا الجديدة هو أنه طرح هذه المشكلة بوعي شديد. إن زيجلر مطلع على أعمال لوكاش، وهو يدرك أهمية مشكلة الاغتراب. وكان خطأه هو رغبته في تغطية مساحة هائلة في ثلاثمائة وثمانين صفحة، مما اضطره إلى اللجوء إلى أسلوب أخذ العينات التعسفي إلى حد ما. ولا يمكننا أن نفكر هنا في التعامل، ولو بشكل مختصر، مع المشكلة العالمية المتمثلة في الوعي الزائف بالمسيحانية والطوباوية السياسية في العالم الثالث؛ وسنقتصر هنا على الإشارة إلى وجود مشكلة وخطورة هذه المشكلة التي تتطلب المعالجة إما في دراسات أحادية أو في عمل تاريخي عالمي وليس عملاً نظرياً مثل عملنا. إننا سوف نترك جانباً عمداً تحليل بعض الأشكال 'الثانوية' للوعي الزائف، ذات البنية المثيرة للاهتمام، ولكن نطاقها التاريخي محدود، مثل البوجادية الفرنسية، التي شكل حنينها إلى الجمعية العامة مثالاً بارزاً على اللاتاريخية الأيديولوجية، أو حركة جون بيرش في الولايات المتحدة. كما أن استخدام مفهوم الوعي الزائف في البحث التاريخي هامشي أيضًا مقارنة بدراستنا التي ركزت على الأحداث الجارية. ولكن يجب أن نشير إلى بعض المشاكل التي يواجهها الباحثون المتخصصون الذين لا يترددون في استخدام اقتراحات غير المتخصصين في عملهم. وهكذا ــ ولنأخذ مثالاً واحداً فقط ــ فإن الفترة المعروفة باسم 'إعادة الإعمار' في التاريخ الأميركي (التي تلت الحرب الأهلية مباشرة) تميزت من جانب المنتصرين بشكل غريب من الوعي الزائف الذي لا شك أن وجوده هو أحد الأسباب البعيدة للدراما العنصرية الحالية. إن الرغبة في إسناد المسؤوليات الحكومية فورًا إلى أشخاص بالكاد ابتعدوا عن حالة العبودية ــ بغض النظر عن لون بشرتهم ــ هي علامة على شكل خطير من أشكال التفكير غير التاريخي، وقد تم الانتقام من هذا الخطأ منذ ذلك الحين بوحشية. وهناك مجال آخر حيث يمكن لمفهوم الوعي الزائف أن يساعد المؤرخ بشكل مفيد على فهم موضوعه وهو أصل الأنظمة الفاشية. من المؤكد أننا لا ننوي ـ كما يود أي ناقد سهل أن نصدق ـ أن نختزل المشكلة الاجتماعية المتمثلة في الفاشية في مسألة الوعي الزائف. الفاشية ظاهرة معقدة تتعلق بالاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة؛ علاوة على ذلك، فهي تحمل دائمًا علامة الخصوصية التاريخية وحتى العرقية لمكان نشأتها. لا يستطيع أحد أن يدعي جدياً أن الفاشية هي وعي زائف، ولكن هذه الفئة تلعب مع ذلك دوراً أساسياً في البنية الأيديولوجية للأجواء ما قبل الفاشية وفي أيديولوجية الفاشية القائمة. يخصص أحد فصول هذا الكتاب لدراسة الاشتراكية الوطنية باعتبارها أيديولوجية متجسدة؛ تقول صيغتنا ضمناً أننا لا نرفض مسبقاً أي تفسير اقتصادي أو سياسي (على مستوى ما يسميه الأنجلوساكسونيون 'صنع القرار') أو تاريخي. لقد امتنعنا أيضًا عن أي فرضية تتعلق بالأصل. وأخيرًا، دعونا نشير، فيما يتعلق بأصول الفاشية الإيطالية، إلى العمل الرائع لروبرت باريس والذي يشكل، على وجه التحديد في الاستخدام التوضيحي لمفهوم الوعي الزائف، نموذجًا لهذا النوع. وعلى الرغم من التراجع الذي لا يمكن إنكاره للأيديولوجيات، فإن مفهوم الوعي الزائف يبدو أنه يحتفظ ببعض القيمة كفئة تفسيرية للأحداث الجارية. ونحن نشهد أيضاً، على الأقل في فرنسا، النشر المتتالي للأعمال السياسية التي غالباً ما تشكل، تحت عناوين مختلفة، تحليلاً للهياكل غير الواقعية، وغير الجدلية في كثير من الأحيان، أو حتى المنفصلة بوضوح عن التجربة السياسية للمجموعات. نحن لا نفكر هنا في أعمال من نوع 'اغتراب…' التي تتكاثر حاليًا والتي غالبًا ما يلعب فيها مفهوم الاغتراب دور الكليشيه، بل نفكر في أعمال جادة من نوع 'الوهم السياسي' لجاك إيلول ، و'الانسان المحير' لـ ر. موري، دون أن ننسى العمل الرائع 'مداخلات في أمور مختلفة' لجان بولهان. ومرة أخرى، يمنعنا الإطار المحدود لـ'المقدمة' من أن نكون شاملين. لذلك سوف نقتصر – كنوع من الاستنتاج – على وضع عمل ذو نطاق دولي وغير معروف نسبيًا في فرنسا فيما يتعلق بمفهوم الوعي الزائف: إنه عمل ك. مانهايم. وقد وُصف مانهايم بأنه 'ماركسي برجوازي'؛ لقد قبل هذا التأهيل إلى حد ما، لكنه لم ينكره أبدًا. أنا أراه بسهولة أكبر باعتباره ماركسيًا ديمقراطيًا لا يكون 'برجوازيًا' إلا بقدر ما تكون البرجوازية هي الحامل التاريخي للفكرة الديمقراطية. إن الماركسي البرجوازي الحقيقي، الذي يرغب في اتباع البرجوازية في جميع تجسيداتها وفي جميع مغامراتها، بما في ذلك المغامرة الشمولية، هو في رأينا فيلفريدو باريتو. إن عمل مانهايم، الذي ولد في ظل أزمة، يستجيب لحاجة واضحة للغاية: وضع إنجازات الماركسية، وفي المقام الأول إنجازات النقد الأيديولوجي وتقنية كشف الماركسية، في خدمة الديمقراطية، وليس البرجوازية أو الرأسمالية. إن مسألة إمكانية وجود ماركسية ليست برجوازية بل 'ليبرالية' تشكل مسألة حيوية بالنسبة للديمقراطية. إن هذا الانشغال يسيطر بشكل قهري على كتاباته بعد عام 1933 (كتابات الهجرة)، ولكنه موجود مسبقًا بشكل كامن في كل أعماله، بما في ذلك تلك التي كتبها منذ البداية. كان مانهايم يرغب ـ ونحن نعيد صياغة هنا صيغة ماركسية معروفة ـ في 'صنع الأسلحة الإيديولوجية للديمقراطية'. عمله غير معروف إلى حد كبير ويتم التقليل من شأنه بشكل عام في فرنسا. نقتبس منه دون أن نقرأه كثيراً ونتفق ضمناً على اعتباره كمية ضئيلة. والسبب في ذلك هو وجود ترجمات رديئة، إن لم تكن مشوهة، فضلاً عن سوء الفهم المستمر الذي يحافظ عليه المعارضون، والأصدقاء، وفي نهاية المطاف مانهايم نفسه. كان يُنظر إلى مانهايم على أنه عالم اجتماع المعرفة قبل كل شيء؛ لكن دراساته المعرفية الاجتماعية الصارمة قليلة العدد وذات أهمية متوسطة. ومن ناحية أخرى، فإن مساهمته المهمة في مشكلة الأيديولوجية ـ وضمناً مشكلة الوعي الزائف ـ قد طغت عليها تماماً الترجمة غير الكافية لكتاب 'الأيديولوجيا واليوتوبيا'. يُعرّف مانهايم الأيديولوجية بأنها نظام من الأفكار يتخلف عن الواقع؛ إنه، باختصار، تبلور رؤية مناهضة للتاريخ. يقدم عصرنا أمثلة أكثر إضاءة من تلك التي استخدمها مانهايم: الوعي الاستعماري الذي يفسر الواقع الحالي من منظور عصر 'سياسة الزوارق الحربية' أو حتى الانعزالية الأمريكية التي تفترض 'عزلة' الأراضي الأمريكية، التي كانت حقيقية في زمن ماكينلي، وغير موجودة اليوم. في كتابه 'الأيديولوجيا واليوتوبيا'، ينتقل مانهايم إلى تقسيم مزدوج لهذا المفهوم. من ناحية أخرى، يعارض المفهوم الخاص للأيديولوجية، وهو بنية جدلية بحتة ('الأيديولوجية هي الفكر السياسي للآخر'!) بمفهومه العام الذي يعترف بأن كل فكر سياسي يحتوي على عنصر أيديولوجي لأن كل سياسة تعكس وجهة نظر معينة. من ناحية أخرى، يميز مانهايم بين المفهوم الخاص للأيديولوجيا، الذي يفترض تضليلًا واضحًا ومهتمًا، ومفهومها الكلي ، الذي يترجم إعادة هيكلة 'مرتبطة بالوجود' للأسس المفاهيمية والإدراكية للفكر السياسي، والفكر الطوباوي، وفي النهاية، يكون القاسم المشترك بينهما هو حقيقة أنهما تبلوران مختلفان للوعي الزائف. يبدو أن طموح مانهايم هو تحرير مفهوم الأيديولوجية من كل عبودية حزبية و'جدلية' من أجل جعله عنصرًا من إطار السياسة العلمية. ومن الواضح أن صحة مفهوم الوعي الزائف لا تنفصل عن نجاح هذه المحاولة. في عام 1933 غادرت مانهايم ألمانيا؛ ومن الآن فصاعدا ستظهر كتاباته باللغة الإنجليزية. تشكل هذه الكتابات فصلاً مثيراً للاهتمام في تاريخ الأفكار. غادر لوكاش إلى الاتحاد السوفييتي؛ سوف يظل شيوعيًا بالتأكيد، ولكن شيوعيًا 'هامشيًا' مرفوضًا جزئيًا من قبل النظام. أما مانهايم فقد اختار ما سيصبح لاحقا العالم الغربي، وعلى وجه الخصوص العالم الأنجلو ساكسوني الذي شعر تجاهه بالإعجاب التقليدي من جانب الدوائر الليبرالية في المجر في الماضي. ولكن هذا لم يمنعه من تشخيص مبكر للضعف الإيديولوجي للعالم الأنجلوسكسوني، وهو ضعف ناجم عن 'مقاومته للتغيير'. التقليدية البريطانية، والتوافقية الأمريكية، والميل نحو 'الضيق الأفق'. في كتاباته باللغة الإنجليزية، يبدو أنه قد تولى مهمة كبرى: وضع إنجازات الماركسية بشكل عام والديالكتيك بشكل خاص في خدمة الديمقراطية المهددة، والقيام بذلك دون إثارة صدمة جمهوره الجديد بشكل كبير من خلال استخدام المصطلحات ذات الأصل الماركسي. وقد وُصِف مانهايم بأنه 'ماركسي برجوازي' خلال فترة فايمار، وبالتالي أصبح، في أعماله المكتوبة باللغة الإنجليزية، ماركسيًا حقيقيًا جزئيًا. تشكل هذه الأعمال في الواقع درسًا جدليًا حقيقيًا للجمهور الناطق باللغة الإنجليزية، ولكنه درس تظل فيه كلمة 'جدلي' محظورة تمامًا، لتحل محلها مصطلحات غير ضارة: الكمال (= الكلية الجدلية)، والتعليم من أجل التغيير وغيرها من المصطلحات من نفس النوع. تحت عنوان 'الوعي الاجتماعي' غير المؤذي، يقدم لنا مانهايم نظرية جدلية كاملة حول الوعي الزائف، والتي أصبحت مقبولة في المجتمع الراقي من خلال التخلص عمداً من أي مفردات تبدو مشبوهة. ويؤكد مانهايم على هذه النقطة قائلاً: 'الوعي ليس ظاهرة معرفية بحتة'. إنها في الأساس تقنية وظيفية اجتماعية جدلية، أو إذا شئت، نهج شمولي. إن القول بأن 'الزنجي يظل زنجيًا دائمًا' يدل على نقص الوعي لسببين: مقاومة التغيير، وعدم فهم دور المكون الاجتماعي في نشأة الدونية الافتراضية الحالية للعرق الأسود. قد يقول القارئ الألماني إن أيديولوجية الاشتراكية الوطنية كانت، باختصار، افتقارًا إلى 'الوعي' تم دفعه إلى أقصى حد؛ ونحن لا نعتقد أنه ينبغي لنا أن نناقضه في هذه النقطة. يبدو أن الفكرة المركزية لعمل مانهايم الإنجليزي بأكمله هي هذا: تقديم نظرية أولية للاغتراب والجدلية في متناول الجمهور المقاوم للمصطلحات الماركسية، وفكرة التغيير، والتأمل الفلسفي. في هذه الكتابات، يذكرنا مانهايم بطبيب يريد دون قصد فرض علاج مؤلم على مريض عنيد. ولم يتمكن أحد من تحديد دوره بشكل أفضل من المنظر الماركسي في عصر فايمار، ك.-أ. فيتفوجل، الذي صنفه بين 'علماء الاجتماع البرجوازيين الذين ينهبون ترسانة العدو الطبقي '. ومنذ ذلك الحين، فعل فيتفوغل، المؤلف المستقبلي لعمل ضخم عن الاستبداد الشرقي، الشيء نفسه تماماً…' فكيف نتخلص من الوعي الزائف وننظر الى العالم كما هو لكي نتمكن من تغييره نحو الافضل ونحقق عملية الاقلاع المجتمعي والاستقرار السياسي والاسترجاع الحضاري؟


الحركات الإسلامية
٠٤-٠٢-٢٠٢٥
- الحركات الإسلامية
صبحي موسي يبحث دور العقائد وبنية التحالف الرجعي في مازق التنوير العربي
يعشق صبحي موسي البحث بهدوء شديد في واقع الثقافة العربية .ويقدم جهد متميز في هذا المضمار الشائك .فلا يكتفي بالجوانب الابداعية من شعر ورواية . بل يبحر وسط بحر الغام بمهرة فائقة .يظهر ذلك بوضوح في كتابه الاخير " مازق التنوير العربي صراع العقائد وبنية التحالف الرجعي " ومن اهم اجواء الكتاب الصادر عن دار روافد ما تعرض له صبحي عن العلمانية فكتب يقول العلمانية واحد من المصطلحات المهمة التي أحياها وأعاد انتشارها عصر التنوير الأوربي، خاصة بعد معركة الثلاثين عاماً التي دارت بين أنصار الكنيسة الكاثوليكية وأنصار مارتن لوثر وثورته البروتستانتية، فقد أعلنت الكنيسة تحريم الكتب العلمانية الخاصة التي يكتبها ويتداولها البروتستانت، ومن ثم فالعلمانية ليست نتاج مخاض فكري طويل، ولكنها كمصطلح جاءت كنتيجة عملية لأجواء الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكان مارتن لوثر قد ذهب إلى أنه لابد من تحطيم ثلاثة أسوار كي يصل المجتمع الأوربي إلى الإصلاح الديني، أولها تحكم السلطة الدينية بالسلطة الزمنية، وثانيها هو احتكار السلطة الدينية الحق في تأويل وفهم النص الديني، وثالثها هو عصمة البابا من الخطأ. ومن ثم فالبروتستانتية لم تكن مجرد ثورة دينية ولكنها سياسية أيضا، فقد امتنع أنصارها عن دفع أموالهم إلى الكنيسة، وبدأت بعض الحكومات تقلص من سلطة الكنيسة عليها، استنادا إلى ضعف سلطتها في المجتمع، ومن ثم فقد كانت حرب الثلاثين عاما حاسمة للعلاقة بين الكنيسة والمجتمع، وظهر من خلالها مصطلح العلمانية الذي يعني المدنية، أي أن صاحبه ليس من رجال الإكليروس أو العاملين في المجال الديني بالكنيسة. لكن بانتقال هذا المصطلح إلى المجتمعات العربية في العصر الحديث حدث لغط كبير، فالبعض ترجمه بفتح العين انطلاقا من أنه يعني "العَالَم"، أو غير المشتغلين بالدين حسب الثقافة المسيحية، والبعض استعمل الكلمة بكسر العين، انطلاقا من أنها تعني "العِلم". وقد رصد الباحث السوري طارق عزيزة في كتابه "العلمانية" جانبا من هذا اللغط بين المفكرين حول نشأة المصطلح ونطقه، موضحا أن نصيف نصار (وهو باحث ومفكر لبناني له عشرات المؤلفات التي حاول من خلالها التنظير لتحقيق الاستقلال الفلسفي للفكر العربي المعاصر بالمعنى القومي، عبر التنظير للعلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا ومفاهيم السلطة والحرية والأمة والحضور التاريخي) ذهب إلى أن العِلمانية (بكسر العين) تتخذ من المعرفة العِلمية الوضعية، كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية، نموذجا لكل أنواع المعرفة. أما الأكاديمي السوري محمد كامل الخطيب فقد استخدم المصطلح بـ(فتح العين)، ذاهبا ً إلى أن أول استخدام له في اللغة العربية كان في منشورات الصراع الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت عام 1824، حيث طالب البطريرك الماروني رعاياه بعدم قراءة الكتب (العَلمانية)، أي الدنيوية، التي يكتبها البروتستانت. ثم تحدد معنى مصطلح العَلمانية فيما بعد بأنه فصل العالم عن الدين والآخرة. أما جورج طرابيشي فإنه يذهب إلى أن هذا المصطلح يعود إلى كتابات القرن العاشر الميلادي، فقد ورد هذا المصطلح في كتاب "مصباح العقل" لساويرس بن المقفع دون وجود شرح له، بما يعني أنه كان معروفا ومتداولا لدى رجال الكنيسة. وقد وردت الكلمة في سياق التمييز بين الطور الدنيوي والطور الكنسي للأسقف، إذ لابد من البتولية (عدم الزواج) في حالة العلمانية، ومن ثم فالعَلمانية بفتح العين، وتعني العالم) وقد ذهب د. عزيز العظمة إلى أنه ليس معروفا على وجه الدقة كيف دخلت عبارة العلمانية إلى اللغة العربية، ولا كيف انتشرت في الآداب السياسية والاجتماعية والتاريخية العربية المعاصرة، إذ أن الإشارة فيها كانت إلى كلمة "مدني" ، وذلك بالإشارة إلى المؤسسات ذات الأسس اللادينية، كما في كلام فرح أنطون عن فصل السلطتين الدينية والمدنية، أو في وصف الإمام محمد عبده لخليفة المسلمين بأنه حاكم مدني من جميع الوجوه، وهناك إشارات أيضا إلى مدنية القوانين في العشرينات. وذهب العظمة إلى أن كلمة العلمانية دخلت على ما يبدو المجال العام في ذلك الوقت، وبمعناها المتداول اليوم، ثم ثبتت بهذا المعنى في أعمال كتاب مثل ساطع الحصري وغيره فيما بعد( وفي اعتقادنا أن كلا المصطلحين يتفقان مع الفكرة التي تشير إليها العلمانية، سواء فصل مجتمع الكنيسة ورجاله عن المجتمع المدني وإدارة شئونه، أو الإشارة إلى سيادة العلم وقوانينه على المجتمع. فقد انتقل الصراع من بين البروتستانتية والكاثوليكية، ليدور بين الكنيسة الكاثوليكية وثورة العلم التي توالت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ففي الوقت الذي سعت فيه الكنيسة للالتزام بحرفية النص الديني، وتحريم إعمال العقل في المسائل الدينية، فإن العلم رأى وجوب تأويل النص في ضوء إعمال العقل، خاصة أن العلم أصبح قادرا على تقديم رؤية علمية للكون تتناقض مع الرؤية الدينية التي يقدمها ظاهر النص الديني، ففي عام 1543 أصدر كوبر نيكوس كتابه "في دورات الأفلاك السماوية" الذي يعتبر البعض تاريخ صدوره هو الحد الفاصل بين نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، وقد أوضح فيه كوبر نيكوس أن بقاء أكبر الأجرام ثابتا على حين تتحرك حوله الأجرام الصغرى أفضل من دوران الأجسام جميعا حول الأرض، لأننا إذا افترضنا أن الأرض متحركة، وهي المكان الذي نشاهد منه الحركات السماوية، سنحصل على صورة أبسط من الصورة المبنية على افتراض أن الأجرام السماوية هي المتحركة. وبناء على ما وصل إليه كوبر نيكوس فإن الإنسان لم يعد مركزا للكون. وكان ذلك بمثابة معول هدم كبير في جداران الكنيسة التي أقامت منظومتها اللاهوتية على أن الكون يدور حول الأرض، ومن ثم فإنه يدور حول الإنسان، مما جعل الكنيسة تثور وتعلن كوبر نيكوس مهرطقا. وفي بداية القرن السابع عشر، تحديدا عام 1609 صنع جاليليو التليسكوب، ونشر كتابه "رسول من النجوم"، أعلن فيه صدق نظرية كوبر نيكوس، ليبدأ الصراع من جديد بين الكنيسة والعلم، حتى أن البابا بولس الخامس أصدر أمرا لجاليليو بعدم تعليم نظريات كوبر نيكوس أو الدفاع عنها. تكبيل الوعي العربي ويختم صبحي موسي كتابه المهم قائلا رأينا على مدار رحلتنا في البحث عن ملامح مأزق التنوير العربي العديد من المشكلات التي جعلت منه شكلا بلا موضوع، فضلا عن وقوفه عند حدود المرحلة الأولى من التنوير الأوربي، وهي مرحلة الثورة البروتستانتية، تلك التي لم تستطع النخب العربية بعد أن تتخطاها وتنتقل منها إلى المراحل الأهم في بناء العقل العربي، وتحرره من سطوة الماضي وترسباته، تلك التي كبلت الوعي العام للجماعة العربية تحت وطأة الإيهام بالحفاظ على الأصول والهوية، دون عناية بانتصار الإنسان لذاته وقدرته على الفعل وتحمل مسئولياته، وهو الأمر الذي كانت الحضارة الإسلامية ذاتها قد قطعت به في زمن المأمون، خاصة مع ثورة المعتزلة الفكرية في دفاعها عن حرية الفعل، لكن الجانب السلفي في هذه الحضارة تمكن من السيطرة على الحكام، والانقلاب على ثورة المأمون (الفكرية)، والعودة إلى الفكر الأشعري المتمسك بحرفية النص، وعدم قابلية تأويله إلا في أضيق الحدود، معتمدا على فقهاء عصور الضعف والخوف والرغبة في الدفاع عن الخلفاء الأوائل، بل وتنزيههم عن الخطأ وعصمتهم منه، وهو ما وضع الثقافة العربية والإسلامية طيلة الوقت في مأزق دائم، فدارات الخلافات والنقاشات القديمة بين فرق المتكلمة حولها، لكن المعتزلة استطاعوا أن ينقلوا النقاش من قداسة المسئول أو الخليفة أو الصحابي إلى مسئوليته عن فعله، ومن ثم تحديد موقفه من العقاب والجزاء، ولو كان لهذه الثورة أن تكمل مسيرتها لكانت الحضارة الاسلامية قد قطعت خطوات كبيرة نحو ثورة العقل وإقرار القانون الوضعي المستمد من القوانين الطبيعية، ولتمكن المنجز العلمي في الثقافة العربية من ارتياد أفاق أوسع وأكبر من التي ارتادها، وربما لعرفت البشرية نقل الأعضاء في القرون الوسطى، أو الوصول إلى الكواكب والمجرات الأخرى دون الاكتفاء بأن العالم مكون من سبع سموات وسبع أراضين، وربما لم يتوقف قطار الحضارة لدينا، ولا سقطنا في هوة الظلام والجمود هذه القرون، في حين انطلق قطار الحضارة الحديثة حين انطلق العقل الغربي نفسه من عقال تصوراته ومعتقداته القديمة نحو اكتشاف العالم، مؤمناً بقوانين الطبيعة وتطور الحياة فيها وفقاً لديناميكيات الحركة والثبات، وليس وفقا لقانون الكتاب المقدس، مما جعل سعى العالم العربي كله فيما بعد نوعا من اللهاث نحو اللحاق بقطار الغرب، وحين اقتنع التيار الاصلاحي بضرورة نقل علوم ومخترعات هذا الغرب إلى عالمنا العربي - على نحو ما فعل الطهطاوي – فقد أصر على تجريدها من سياقها الثقافي، ووضعها في سياق تقليدي أصولي معاد في جوهره لوجودها، رغم أنه كان مؤمنا بأنها ستفشل إن آجل أو عاجلا، فقد قال محمد عبده أن المؤسسات الحديثة التي أنشأها محمد على لن يكتب لها النجاح ولا الاستمرار؛ لأنه نقلها من بيئتها وسياقها الذي نشأت فيه إلى بيئة وسياق مغاير. ويستطرد صبحي قائلا هكذا راهن طيلة الوقت أصحاب التيارات الدينية على فشل الحداثة لأنها لا تتفق مع جوهر إيمانهم الأصولي، وكان من الطبيعي أن يتم تكفير هذه المجتمعات بعلومها وقيمها وأفكارها، لا لشيء سوى أنها جاهلية، وتحتاج إلى أنبياء جدد مثلهم كي يخرجوها من ظلامها إلى النور، محددين طريقهم بأنه يبدأ من هجرة هذه المجتمعات التي يعيشون فيها، كما عاش المسلمون الأوائل بين كفار مكة، إلى مكان وموطن الإعداد والتجهيز، ثم العودة لفتحها كما فتح الرسول مكة، وتطهيرها كما طهر البيت الحرام من الأصنام والأوثان. هكذا ظلت مخيلة الأيام الأولى من الإسلام حاكما رئيسيا لعقل وذهن التيارات الدينية بمختلف تنويعاتها، لكن بعضها كان أقل حدة ووضوحاً، وأكثر موائمة مع السلطات وتكتلات المجتمع. المشكلة الأكبر كانت في التيارات التنويرية نفسها، فقد نشأ التنوير كما رأينا على يد السلطة، بدءا من سلطة الحملة الفرنسية، وسلطة محمد علي الذي آمن بالتنوير، ونهض آخذا بكل أدوات بناء الدولة الحديثة، لكن نخبة المثقفين الذين ذهبوا وتعلموا في بلاد التنوير الأوربي لم يطالبوه بضرورة تغيير السياق الثقافي للمجتمع، وألا يكتفي بتعليم الحاشية والطبقة الموالية والجهاز الإداري للدولة، إذ لابد أن ينتشر النور في مختلف المدن والقرى، ويصل مداه إلى أعمق أعماق المجتمع، حينها ستكون قاعدة الهرم على أرض متسعة، ولن يتمكن تغيير الباشا ولا مجيء الاحتلال من وقف قطار التحديث الذي انطلق، وربما من الأصل لن تتعرض البلاد للاحتلال ولا الغزو بفضل الوعي الذي تراكم لدى نخبها، وتوافر قنوات توصليه لدى الجماهير، لكن لا محمد على كان مشغلاً بصناعة القنوات المؤهلة لذلك، ولا حتى نخب المثقفين الذي سعدوا وانبهروا بالذهاب إلى أوروبا، ثم العودة للعمل في حظيرة الوالي رب النعم، مستمتعين بعطاياه ومناصبه، مما ساعد على توقف قطار النهضة بتوقف رغبة محمد على فيها، ولم يخرج أحد من بيته رافضا إغلاق المدارس أو تصفية المعامل.