السعودية وخدمة الحجاج.. عهد وأمان
ومع قيام الدولة السعودية الأولى، بدأ التحول الفعلي في أوضاع الأمن بوسط الجزيرة العربية، حيث بدأت السلطة الناشئة تبسط نفوذها وتفرض النظام في مناطق نفوذها، وهو ما انعكس على استقرار طرق الحجاج جزئيًا، حيث تمكّن الإمام سعود بن عبدالعزيز من ترسيخ الأمن في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمناطق المؤدية إليهما الواقعة تحت سيطرته عبر سلسلة من الإجراءات الحاسمة، حيث أحكم السيطرة على الحجاز، وكان يحرص على المشاركة شخصيًا في موسم الحج كل عام برفقة قوة عسكرية، لضمان الأمن. كما نشر الحاميات السعودية على طول طرق الحجاج، خصوصًا بين مكة والمدينة ، مما ساعد في القضاء على قطاع الطرق، وضمان أمن الحجيج في أثناء أدائهم للمناسك.
ولتعزيز هذه الجهود، أقام الإمام عبدالعزيز علاقات متوازنة مع القبائل التي تقطن على طرق الحج، جمعت بين الشدة والحزم أحيانًا، واللين والاستمالة أحيانًا أخرى، بهدف ردع أي تهديد لقوافل الحجاج، ومنع فرض الضرائب أو المكوس عليهم. كما تم إصلاح القلاع والحصون الواقعة على هذه الطرق، خاصة في جدة ومكة والمدينة ، إلى جانب توفير السلع التجارية وخفض أسعارها، وضمان وصول مياه الشرب لسكان المدينتين المقدستين والحجاج على حد سواء.
وعند عودة الدولة السعودية الثانية، استمرت هذه الجهود في تأمين طرق الحج وخدمة الحجيج. وعلى الرغم مما مرت به من تحديات واضطرابات داخلية، فإنها بقيت امتدادًا لفكرة توحيد البلاد وتحقيق الأمن والاستقرار، وهو ما أسهم في التخفيف من معاناة الحجاج المحليين، ومهّد الطريق لاستمرار هذا النهج في العهود اللاحقة.
إلا أن النقلة الكبرى في خدمة الحج وتحقيق الأمن لضيوف الرحمن لم تبدأ فعليًا إلا مع استعادة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الرياض ، وانطلاقه في توحيد أقاليم البلاد. وعندما دخل مكة المكرمة ، أعاد تنظيم شؤون الحج بشكل شامل، وأولى اهتمامًا كبيرًا بالحرمين الشريفين، وعدّ خدمة الحجاج مسؤولية دينية ووطنية.
وقد عبّر –طيب الله ثراه- عن ذلك بقوله: «راحة الحجاج والزوار والعناية بشؤونهم وتيسير سبل أداء مناسكهم هي من أولى واجباتنا، وسنواصل هذا النهج ما حيينا». وخلال فترة وجيزة، شكّل إدارات متخصصة في تنظيم الحج، وأمر بتوسعة المسجد الحرام وترميمه، ووفّر الخدمات الطبية والمياه والتموين للحجاج. كما أسس المديرية العامة لشؤون الحج في عام 1365 ه كأول جهاز رسمي لتنظيم شؤون الحجيج في العصر الحديث.
وتعاقب أبناؤه الملوك من بعده على النهج نفسه، وكرّس كل منهم جهده لتوسيع خدمات الحج وتطويرها، من إدخال الكهرباء إلى إنشاء الجسور، وتوسعة الحرمين، وابتكار أنظمة ذكية لإدارة الحشود، لتقدم بذلك المملكة العربية السعودية للعالم نموذجًا متقدمًا في تنظيم هذا الحدث السنوي الفريد. واتخذ الملك فهد بن عبدالعزيز –رحمه الله- خطوة رمزية وعملية بتغيير لقبه إلى «خادم الحرمين الشريفين» تأكيدًا لأن خدمة الحجاج شرف، لا منصب.
وفي العهد الحالي، عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- دخلت خدمات الحج عصرًا جديدًا من التحديث الشامل، حيث أطلق في شهر رمضان من عام 2019 برنامجًا وطنيًا شاملًا بعنوان «خدمة ضيوف الرحمن». ويهدف هذا البرنامج إلى إحداث نقلة نوعية في تجربة الحج والعمرة، تبدأ من لحظة تفكير المسلم في أداء المناسك، وتمتد حتى عودته إلى وطنه وهو يحمل ذكرى روحية وإنسانية لا تُنسى. وقد اعتمد البرنامج على تحليل شامل لمسار الحاج والمعتمر، وتعاونت في تنفيذه جهات حكومية وخاصة وغير ربحية، لتوفير تجربة ثرية ومتكاملة.
وركز البرنامج على التيسير في كل المراحل، بدءًا من تسهيل إجراءات التأشيرة خلال فترة وجيزة، ثم توفير خدمات رقمية متقدمة من خلال منصة «نسك»، التي تتيح حجز الخدمات وتنظيم الرحلة إلكترونيًا. كما أطلق البرنامج سلسلة من المبادرات النوعية، مثل «طريق مكة» لتسريع إجراءات الدخول، و«حج بلا حقيبة» من أجل تسهيل حركة الحجاج، بالإضافة إلى مشاريع النقل الذكي مثل حافلات مكة ، والنقل الترددي في المدينة المنورة ، والتأمين الصحي، وغيرها من الخدمات التي ترفع جودة التجربة الحجاجية إلى مستويات غير مسبوقة.
كما لم يغفل البرنامج الجانب الثقافي، حيث تم تطوير العديد من المواقع التاريخية والأثرية، ليحظى ضيف الرحمن بتجربة إيمانية متكاملة تمتد من أداء المناسك إلى التعرف على الإرث الحضاري والثقافي للمملكة، مما يجعل الرحلة لا تقتصر على البُعد الديني فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى التفاعل مع التاريخ الإسلامي والهوية الحضارية للمنطقة.
ويُعد هذا البرنامج أحد الأدوات المحورية التي تُسهم في تحقيق أهداف رؤية السعودية 2030 من خلال تمكين أعداد متزايدة من المسلمين من أداء مناسك الحج والعمرة، وذلك عبر التوسّع المستمر في الطاقة الاستيعابية، وتطوير البنية التحتية، وتأهيل الكوادر البشرية المتخصصة.
وفي موسم حج عام 2025، تُواصل المملكة دورها لخدمة ضيوف الرحمن ضمن منظومة متكاملة من الخدمات الذكية والتنظيم المتقدّم، ما يعزز مكانتها بوصفها الوجهة الإسلامية الأولى، ومركزًا عالميًا في إدارة شعيرة الحج بتميّز في الضيافة وجودة الخدمة وابتكار الحلول.
مسيرة السعودية في خدمة الحجاج، من أوضاع مضطربة إلى نموذج عالمي، تعكس بوضوح وفاءها بعهدها التاريخي الذي قطعه الملك عبدالعزيز، وسار عليه أبناؤه، وبلغ ذروته في عهد الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان.
لقد أصبح الحج في المملكة نموذجًا للتكامل بين الأمن والتنظيم، بين الروحانية والتقنية، وبين العبادة والرعاية. إنه عهد وأمان يتجدد كل عام، وتؤكده كل خطوة على طريق ضيوف الرحمن.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


غرب الإخبارية
منذ ساعة واحدة
- غرب الإخبارية
السديس يشيد بجهود رجال الأمن في العناية بأمن وسلامة وحماية ضيوف الرحمن
المصدر - حساب رئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي بمنصة أكس أشاد معالي رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، الشيخ الأستاذ الدكتور #عبدالرحمن_السديس، بالجهود الكبيرة التي يبذلها رجال الأمن في العناية بأمن وسلامة وحماية ضيوف الرحمن، بما يتيح لهم أداء عباداتهم ومناسكهم بكل يسر وسهولة. كما نوه معالي الرئيس بإسهامهم المتميز في تطوير منظومة الخدمات الأمنية في المسجد الحرام والمسجد النبوي، تحقيقًا لتطلعات القيادة الرشيدة - أيدها الله وثمّن معالي رئيس الشؤون الدينية حرص واهتمام صاحب السمو الملكي الأمير #عبدالعزيز_بن_سعود_بن_نايف_بن_عبدالعزيز ، وزير الداخلية، باستقباله يوم أمس في مكة أصحاب الفضيلة أئمة وخطباء المسجد الحرام، في خطوة تعكس تقدير سموه لمكانتهم، ودعمه لدورهم الريادي في إيصال رسالة الحرمين الشريفين والمملكة العربية السعودية الوسطية والإنسانية إلى العالم.


الحدث
منذ ساعة واحدة
- الحدث
الجعيد إلى المرتبة الثانية عشر بفرع وزارة الموارد البشرية بمنطقة مكة
الطائف- عواض الحارثي حصل مدير العلاقات العامة والإعلام بفرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بمنطقة مكة المكرمة الأستاذ فهد بن منير الجعيد على المرتبة الثانية عشر . ويعد الجعيد من الكفاءات الإدارية المتميزة وتدرج في العديد من المناصب الإدارية حتى تقلد منصب مدير العلاقات العامة والإعلام . صحيفة "الحدث" تبارك للأستاذ فهد الجعيد ترقيته وتسأل الله أن تكون عوناً له لخدمة دينه ثم مليكه ووطنه وعقبال المراتب العليا .


الأمناء
منذ 3 ساعات
- الأمناء
فتح الطرقات مع العدو الـحـوثـي.. فخ قاتل تحت شعار الإنسانية
في خطوة مأساوية وجرس انذار وعبره لمن لم يعتبر من أبناء الجنوب تعيد إلى الأذهان لنا تاريخ أسود لهذه المليشيات الحوثية الرافضية الحافل بالغدر والخيانة ونقض المواثيق، شهدت محافظة الضالع مساء أمس مثالًا صارخًا على عدم جدوى أي محاولات للسلام أو فتح ممرات إنسانية مع جماعة إرهابية لا عهد لها ولا دين ولا ميثاق والذي سبق وحذرنا منه مراراً وتكراراً. فبعد ساعات قليلة فقط من تدشين رسمي لفتح الطريق الدولي الرابط بين العاصمة عدن والعاصمة اليمنية صنعاء، لأسباب إنسانية تهدف للتخفيف من معاناة المواطنين، أقدمت ميليشيا الحوثي الإيرانية على تنفيذ هجوم إرهابي غادر على مواقع القوات المسلحة الجنوبية في قطاع غلق شمالي الضالع. ورغم هذا الهجوم المباغت، تصدت قواتنا المسلحة الجنوبية البطلة ببسالة وشجاعة فائقة، مكبدة العدو خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، إلا أن كلفة هذا الغدر كانت استشهاد ثلاثة من أبطالنا وجرح عدد آخر نسأل الله لهم الشفاء العاجل، ولشهدائنا الرحمة والمغفرة. دروس من الضالع المجد.. لمن لا يزال يراهن على نوايا الحوثي والشماليين بكل أطيافهم ... ما حدث يجب أن يكون درس وجرس إنذار لكل من لا يزال عقله مثقوب من الجنوبيين أو يدعو لفتح الطرقات الحدودية دون ضمانات صارمة تلزم هذه المليشيات الاحتلالية.. أن العدو الحوثي الإرهابي لا يرى في هذه الخطوات فرصة للسلام أو خدمة للناس، بل وسيلة لاختراق الجبهات وتحقيق مكاسب عسكرية وأمنية. وهذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يستغل فيها الحوثي مساعي السلام لتحقيق مآربه العدوانية. في ظل هذه التطورات، أننا نوجه نداءً ورسالة نصيحة وتوعية لمن يستوعب إلى كل من ينادي بفتح طريق عقبة ثره الحدودية بمحافظة أبين. فلتعلموا أن هذا الطريق أخطر بكثير من طريق الضالع، وتفكيك الألغام فيه لم يتم، ولم تبادر المليشيات بأي خطوة تؤكد حسن النية. فهل يعقل أن نغامر بأرواح الناس وجنودنا من أجل فتحة لا تحمل أي ضمانات أمنية أو إنسانية؟! إن الترتيبات التي سبقت فتح طريق الضالع كانت أكثر من كافية من حيث الحضور القيادي والتنسيق، ومع ذلك حصل ما حصل. فكيف سيكون الحال مع طريق عقبة ثره الأكثر وعورة وخطورة وتربصًا ؟! نحن ما زلنا في حالة حرب مفتوحة ومعركة مع مليشيا الحوثي الإيرانية، والحديث عن فتح طرقات في ظل استمرار احتلالهم لأراضٍي جنوبية كمديرية مكيراس في أبين هو تجاهل صارخ لحقيقة المعركة. إن الحل الوحيد هو التحرير الكامل لما تبقى، لا الهدن المؤقتة، ولا المنافذ الملغومة. من يريد السلام عليه أن يدرك أولًا أن الحوثي لا يؤمن به، ولا يعرف له طريقًا. لا للاستعجال.. نعم للحذر والتعقل.. فالجنوب اليوم لا يتحمل أخطاء ناتجة عن حسن نية غير محسوب، والواجب يحتم علينا التحلي بالحكمة والصلابة، وعدم تقديم أية تنازلات مجانية تحت شعار المعاناة الإنسانية، التي لا تعني شيئًا عند عدو لا يهمه الإنسان ولا الوطن .. وما هيا إلا اهداف خبيثة وفخ قاتل منه!. الضالع صامدة ومقبرة لهم... وعقبة ثره عصيّة عليهم... وقواتنا المسلحة الجنوبية بالمرصاد لهم باذن الله. رحم الله شهداءنا الأبرار... والشفاء للجرحى. وتحياتي لكل من يستوعب ما ذكر ..