
عبق الماضي
جفرا نيوز -
بقلم: عاطف أبو حجر
- في زوايا الذاكرة، حيث لا تغيب الشمس عن الحقول، ولا تنطفئ نار بيوت الشعر، ونقرةُ الدور الفلاحية، والعقود، والقناطر، يسكن عبقُ الماضي... ذاك العبقُ الذي لا تحمله الرياح، بل تحمله الروح، وتخبّئه في أدراج القلب.
كان للمكان نكهة، وللزمن طَعم، وللناس طِيبة لا تُوصَف. لم نكن نملك الكثير، لكننا امتلكنا كلّ شيء: ابتسامةُ الجد، دعاءُ الجدة، رغيفٌ ساخن من الشراك، وزيتُ زيتونٍ تُغمس فيه الذكريات قبل اللقمة.
في عبق الماضي، كانت الأيادي متعبة، لكنها نظيفة، والقلوب مليئة، ولو كانت الجيوب فارغة. أحيانًا كنا ننام على أسطح البيوت أو في الحوش بمنطقة وادي الأكراد. كنا نعدّ النجوم، ونصحو على صوت ديك الجيران، يُعلِن ميلاد يومٍ جديد. لا رسائل واتساب، ولا منبّهات إلكترونية، فقط نبضُ الحياة.
من بيادر طبلوج بطنا إلى وادي الأكراد، ومن بيت الشعر إلى خريطة اللبن المخيض المعلّقة تحت معرش الدالية، تتمايل بجانب عناقيد العنب في حوض الدار وسط المدينة، كأنها جزءٌ من مشهد لا يُنسى من عبق الماضي. وفي الكوّارة، كانت خطواتُنا على التراب تكتب سطور الحنين دون أن ندري أننا نؤرّخ أجمل ما عشناه.
أتذكّر في الشتاء حين كنا نجتمع حول الصوبة، والخبز الجافر يتقرمش، وزيتُ الزيتون يغمر الزعتر الذي نحمله ككنز. كنا نأكل ببساطة، وكأن كل لقمةٍ فيها دفء الدنيا، ونشرب الشاي من إبريقٍ مطبّقٍ مشحَّبر، تحكي أصداؤه قصص الأهل وأحاديث الليل الطويل.
كانت الحجّة – أطال الله في عمرها – تحضر لنا أشهى الأكلات: الرشوف، والحميميصة، ومرقة العدس، والخبيزة... تلك الأطعمة التي تروي اليوم قصصنا بحلاوة الطعم وصدق الزمن.
وفي الصيف، كان الحقل يعانقنا بدفء الشمس، ونتنقّل بين مناطق الزراعة، نحصد القمح، والعدس، والسمسم، ونلامس البامية، والبندورة، والبطيخ، كأن الأرض تعانقنا بأذرعها الخضراء.
ليالي الحصيدة كانت من أجمل الليالي؛ ننام على بيادر القمح، وسط السنابل والقش، نشعر بعبق الأرض تحت أجسادنا، ونسمع نداءات الأهل وأصوات التراكتور من بعيد.
ومع وقت الظهيرة وارتفاع درجات الحرارة ولهيب الشمس، كان العمّ أبو صايل العناسوة ينادي على والدي:
"يا أبو عاكف! افلح جاي، تعال ارتاح واشرب لك زبدية لبن مخيض."
كنت أفرح بهذا النداء، وبصوت العمّ أبو صايل الذي كان أجمل من مواويل وديع الصافي.
وكانت أم صايل تُصرّ على أن نأكل شيئًا من حواضر البيت: الزبدة، والبيض البلدي، والجبن، والسمن البلقاوي.
ولا يكتمل الكرم إلا بكوبٍ من الشاي، برائحة النفس الطيب ودفء الرفقة.
كانت الذكريات تُنسَج بين نسمات الريح وهمسات العائلة، وفي كل لقطة من حياتنا القديمة حكاية، وفي كل وجبة دفء، وفي كل صوت نداء، موسيقى يعجز عن تأليفها بيتهوفن، تحكي عن حياةٍ لم تَعُد سوى عبقٍ في النفس.
"اللي ما له قديم، ما له جديد"، هذه ليست مجرّد حكمة، بل حقيقة عشناها في كل لحظةٍ من تلك الأيام البسيطة، حيث كان الحب أعمق من الكلمات، والوفاء أصدق من الزمن.
في عبق الماضي، نجد السلام، نلتقي بجذورنا، ونشعر بأننا ما زلنا نرتدي ثوب الطفولة، ونحتضن دفء الأرض والناس.
وفي نهاية المطاف، يحمل عبق الماضي في طيّاته أعظم الدروس وأصدق القيم؛ علّمنا كيف نعيش ببساطة، وكيف نرضى بالقليل ونشكر الله عليه. علّمنا أن الكرم ليس فقط في المال والعزايم، بل في القلب، والوقت، والابتسامة. وأن الجيرة ليست عنوانًا في الخريطة، بل حالةٌ من الروح والوفاء والمحبة.
علّمنا الماضي أن الأرض لا تُنسى، فهي الأم التي تحتضننا، وأن الزرع الذي نغرسه هو وعدُنا بمستقبل أجمل، حتى وإن غابت عنا ثمارُ الحصاد أحيانًا. وأن كل رغيف خبز يُخبَز على نار الحطب ومن ماء البئر، وكل كأسة شاي تُشرب تحت ظلال الأشجار، تحمل قصة، وتحمل عشق الحياة الحقيقي.
في زمن السرعة والتكنولوجيا، حين يلهينا العالم عن أصولنا، يبقى عبقُ الماضي نبراسًا يُضيء لنا الطريق. لنتذكّر، لا لنعيش في الحزن، بل لنحمل قيم البساطة والمحبة التي لم ولن تندثر.
لعلّنا نتعلّم أن نُعيد ترميم جسور المحبة بين الأجيال، وأن نزرع في قلوب أبنائنا حبّ الأرض وأصالة الماضي، لنحفظ لهم عبق الذكريات، ودفء الزمن الجميل.
في أزقّة الحارة الضيّقة، حيث تتراقص أشعة الشمس بين الشقّ والرواق، تتعانق أعمدة البيوت العتيقة وتحكي قصص الزمان. هناك، حيث تتشابك الأزقّة وتتداخل الأرواح، يتردّد صوت طابة الصفة وهو يدوي بين الحيطان، بينما تحلّق طائرات القصيب كأنّها تحرس أمن الحي.
على الأرصفة، تقف عربات الأسلاك، تحمل بين عجلاتها عبق الماضي وذكريات الزرد والدحاريج، التي كانت تنقل المحبة بين أولاد الحارة. وعلى الأرض، تلمع أدوات الفأس، والمنجل، والشوحة؛ أدوات الكدّ والجهد في حقول القمح وأشجار التين والزيتون. وتفوح رائحة الزعتر والشيح البريّ، تُعطّر المكان.
وينساب الماء بالدلو من البئر إلى الجابية، وتُحضّر أمهاتنا وجدّاتنا أطيب المأكولات، تُحمَل بالقدر، والمعجنة، والمِيجنة، وتفوح رائحة القهوة من دِلال الكرم والطيب، بينما يشهد صاع القمح على مواسم الغلال، وشولات الخط الأحمر، ولا ننسى غزل بيوت الشعر بأيدي الجدات.
وكل ذلك، بعيون الدريهمة التي لا تُفارق ألوان الحياة البسيطة، في صورةٍ تنبض بالتراث والدفء، حياةٍ تتسامى على نبض الحارة وأصالة المكان.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

الدستور
منذ 8 ساعات
- الدستور
وزارة الثقافة تقيم احتفالًا مهيبًا بمناسبة عيد الاستقلال الـ79
عمان - أقامت وزارة الثقافة، مساء يوم السبت الماضي، في قاعة المؤتمرات بالمركز الثقافي الملكي، احتفالا مهيبا؛ بمناسبة العيد الـ79 لاستقلال المملكة الأردنية الهاشمية.وقال وزير الثقافة مصطفى الرواشدة الذي رعى الاحتفال في كلمة له، إن يوم عيد الاستقلال الـ79 «يوم نفخر به ونعتز أن ننشد للوطن بحروف وكلمات فصيحة، لأننا حينما نتحدث عن الاستقلال، فإننا نتحدث عن قواعد الدولة الأردنية الراسخة التي تأسست على الشرعية الدينية والشرعية التاريخية، وقيم الدولة التي تأسست على التسامح والمحبة والمشاركة العقلانية والوسطية والتعددية والتنوع كجزء من القيم الثقافية والحضارية، والقيم الإنسانية التي مارسها الهاشميون بحكمتهم وقيادتهم الرشيدة، وتواصلت هذه القيم من المغفور له بإذن الله الملك المؤسس إلى جلالة الملك المعزز عبد الله الثاني».وأضاف: ونحن نحتفل بعيد الاستقلال، فإننا لا نتحدث عن يوم واحد، وإنما ينبغي أن نعيشه في كل تفاصيل حياتنا بالمعنى الذي يتحقق في المثابرة والعمل والنجاح وتحمل المسؤولية والانتماء للوطن وقيادته الهاشمية، وعلى رأسها سليل الدوحة الهاشمية، الحفيد الثالث والأربعين حامل شرف الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية جلالة الملك عبد الله الثاني.واستذكر الرواشدة، في كلمته، «دور البناة الأوائل الذين شيدوا أركان الدولة الأردنية، وكانوا الرجال الرجال حماة الاستقلال، وحماة مكتسبات الوطن».وتابع في الاحتفال، الذي حضره عدد من أعضاء مجلس الأعيان ومسؤولون عسكريون ومدنيون وعدد من سفراء الدول العربية الشقيقة والإسلامية الصديقة وأدباء وكتاب ومثقفون وفنانون وإعلاميون، إنّ عيد الاستقلال يمثل مرحلة فاصلة في تاريخ الأردن، برمزيته التي تعني سيادة الدولة الأردنية وقيمها وإرثها الحضاريّ والإنساني، كما يمثل الاستقلال قيمة وطنية نشأنا عليها جميعًا نعتز بما أتاحه لبلدنا في النهوض والتقدم عبر مراحل البناء ونحن نعبر المئوية الثانية في ظلّ الهاشميين الذين عززوا مسيرة التقدم والازدهار.وكانت فرقة الحسين الموسيقية، التابعة لوزارة الثقافة، استقبلت الحضور بمعزوفات وطنية، كما استهلت الاحتفال بالسلام الملكي وموسيقات وطنية وتراثية.وجرى، خلال الاحتفال، عرض مادة فلمية مصاحبة لأغنية «أردن أرض العزم» استهل بتسجيل لخطاب المغفور له بإن الله الملك المؤسس حينما أعلن استقلال الاردن في 25 أيار من عام 1946، واشتملت على عرض مواقع أثرية وتاريخية وحضارية في مختلف الجغرافيا الأردنية معبرة عن جذور الأردن الضاربة في عمق تاريخه الثري وما شهده من حضارات ومدنيات وصولا إلى ما يشهد في عهد الدولة الاردنية الحديثة من نهضة وتطور مستمر وحداثة وعمران، علاوة على مشاهد لما يتمتع به من مناظر مواقع طبيعية وبيئية جذابة.وألقى الشاعر علي الفاعوري قصيدة وطنية طويلة من الشعر العمودي بعنوان: «مقام المجد» مطلعها «هذا الحمى العربي الهاشمي» نالت تفاعل الجمهور العريض.وفي الاحتفال الذي تلألأت فيه عناصر الإضاءة بألوان العلم الأردني، وشهد توزيع العلم الأردني على الجمهور، وقام على إخراجه المخرج محمد الخابور، قدمت فرقة شابات السلط المكونة من 4 شابات و3 شباب لوحات فنية تراثية من فنون الدبكة والسامر.وواصل الاحتفال فعالياته بعرض موسيقي غنائي وطني قدمته فرقة معهد تدريب الفنون الجميلة التابع لوزارة الثقافة بقيادة مدير المعهد الفنان الدكتور حسين الدغيمات ومشاركة كورال المعهد المكون من 24 شابا وشابة يصاحبهم 11 عازفا وعازفة من مدرسي المعهد وطلابه حيث استهلوا بأغنية «وطني الشمس» لنجم الأردن عمر العبداللات وكلمات ماجد زريقات.كما قدمت الفرقة بكورالها وموسيقييها في أداء متميز اغنيتي «فدوة لعيونك يا أردن» من كلمات الشاعر الراحل سليمان المشيني و»مع عبدالله يد بيد» من كلمات الشاعر الكبير حيدر محمود.وتوج ختام الاحتفال بحضور مميز لفرقة اللوزيين (الفنانان وسام وحسام اللوزي) بمصاحبة عازفين، واللذين قدما عددا من أغانيهما الخاصة والأغاني الوطنية والتراثية استهلا بها بأغنيتهم ذائعة الصيت «يا بيرقنا العالي عبدالله الثاني» لتتبعها أغنية «لعيونك يا عبدالله».كما قدموا بأسلوب «الميدلي» أغنيات «سيدنا يا سيدنا « و»ياهلا بالجيش» و»بالله تصبوا هالقهوة» وسط تفاعل كبير من الجمهور.واختتمت فرقة اللوزيين فقراتها التي أشعلت الاحتفال، بفن السامر والدحية وأغنية «هلا بيك يا هلا».وفي ختام الاحتفال، عادت فرقة الحسين الموسيقية المكونة من متقاعدي موسيقات القوات المسلحة الأردنية، لتقدم معزوفات وطنية معلنة نهاية الاحتفال. (بترا)

الدستور
منذ 8 ساعات
- الدستور
تكريم كوكبة من نجوم الرياضة الأردنية الأعضاء في الرابطة
عمانرعى بشير الرواشدة وزير الشباب الأسبق وعضو مجلس الإدارة، الاحتفال الذي أقامته رابطة اللاعبين الأردنيين الدوليين الثقافية أمس الأول السبت، احتفالا بعيد الإستقلال الـ79 للمملكة وعيد ميلاد رئيسة ومؤسسة الرابطة، الفارسة الهاشمية سمو الأميرة هيا بنت الحسين، بحضور أمين عام الرابطة وعدد من أعضاء مجلس الإدارة وكوكبة من نجوم الرياضة الأردنية.وشهد الاحتفال الذي أقيم في متنزه الرابطة بمنطقة تركي في ناعور، فعاليات ورياضية وترفيهية بمشاركة مجموعة من الأطفال مرضى السرطان من أبناء قطاع غزة الذين يتلقون العلاج في مركز الحسين للسرطان بمكرمة ملكية، ومؤسسة الأراضي المقدسة للصم والبكم من مدينة السلط ومجموعة من مرضى متلازمة داون، مبادرة - معنا حياتنا لها معنى-، وبإشراف فريق الأساطير، إضافة لعرض رياضي للاعب البارالمبي عبود النابلسي في رياضة الكالسثنيكس.كما شهد الاحتفال تكريم كوكبة من الرياضيين أعضاء الرابطة الذين حققوا إنجازات رياضية أسهمت في رفع علم الأردن في المحافل الأولمبية والدولية والقارية والعربية.وشملت قائمة المكرمين كل من: إيمان العزب (المبارزة)، أيمن دعيس (كرة السلة)، وعد القاق (رمي الرمح ورمي الجلة)، أحمد السعود (الجمباز)، أحمد الهندي (دفع الكرة الحديدية ورمي الجلة)، أحمد شديد (الكراتيه)، عثمان الحسنات (كرة القدم).وفي الختام تناوب راعي الحفل وأعضاء مجلس إدارة الرابطة على توزيع ميداليات تذكارية على المشاركين والمشاركات، ثم قطع كيكة الاحتفال وتوزيع الحلوى على الجميع وسط أجواء مليئة بالسعادة، تزامنت مع أهازيج الفرح والأغاني الوطنية، للوطن وقائد الوطن صاحب الجلالة الهاشمية جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم حفظه الله ورعاه، داعين الله ان يبقى الأردن واحة أمن وآمان، ومتمنين للفارسة الهاشمية سمو الأميرة هيا التي ترأس الرابطة منذ تأسيسها عام 1993 عمرا مديدا في عيد ميلادها الميمون وان تنعم بالصحة والعافية.


الدستور
منذ 11 ساعات
- الدستور
عجلون تحتفل بعيد الاستقلال والاعياد الوطنية
عجلون برعاية رئيس مجلس محافظة عجلون، عمر المومني، وبالتعاون مع مدير ثقافة عجلون سامر فريحات، أقام منتدى السندس الأخضر الثقافي احتفالًا وطنيًا في المركز الثقافي بمناسبة عيد الاستقلال والاعياد الوطنية. وحضر الحفل عدد من المسؤولين، منهم مدراء الزراعة والشباب، ورئيس بلدية الشفا، ومندوبو الدوائر الحكومية، إلى جانب فعاليات رسمية وثقافية.تخلل الحفل السلام الملكي وتلاوة من القرآن الكريم، وكلمة راعي الحفل، إضافة إلى فقرات شعرية وغنائية ودبكات وطنية، وفيلم وثائقي عن تاريخ الأردن وإنجازاته. وفي الختام، كرّم راعي الحفل المشاركين وشخصيات ساهمت في دعم الثقافة، وحافظات كتاب الله الكريم.