
ما وراء مؤتمر "حلّ الدولتَين" - إيطاليا تلغراف
إيطاليا تلغراف
علي أنوزلا
صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع 'لكم. كوم'.
أمام هول حرب الإبادة، والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل في غزّة والضفة الغربية، منذ أكثر من 22 شهراً، جاء المؤتمر الدولي حول حلّ الدولتَين، الذي احتضنته الأمم المتحدة برعاية كلٍّ من فرنسا والسعودية في نهاية الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، بمثابة نوع من التكفير عن التواطؤ مع المجرمين، أو على الأقلّ السكوت عن جرائمهم. وهكذا، وككلّ مرّة، عندما يتعلّق الأمر بتخيّل حلٍّ لجريمة الاحتلال المستمرّة منذ أكثر من سبعة عقود، تبرز فكرة واحدة باستمرار: حلّ الدولتَين الذي يدعو إلى إنشاء دولتَين مستقلّتَين، إحداهما فلسطينية والأخرى إسرائيلية. لكن في الحقيقة، وفي أرض الواقع، الدولة الإسرائيلية موجودة وقائمة منذ عام 1948، وهي تتمدّد وتحتلّ وتستوطن وتضمّ أراضي دول أخرى، وتطرد وتشرّد وتهجّر وتقتل مواطني كلّ الدول التي تحتلّ أراضيها. فما هو مطلوب هو إقامة الدولة الفلسطينية الموعودة منذ قرار التقسيم قبل 77 سنة، مروراً باتفاقات أوسلو الموقّعة منذ 32 سنة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، التي وعدت بإقامة دولة فلسطينية، لكنّها فعلت عكس ذلك، وعزّزت الاستعمار والاحتلال والاستيطان، وأدّت إلى قبر كلّ مساعي السلام في المنطقة، وحتى اتفاقات أبراهام، التي وعدت بالسلام العادل والشامل في كلّ المنطقة، وُلِدت ميّتةً عندما سعت إلى إقامة السلام بين الإسرائيليين ودول عربية لم يسبق لها أن خاضت أيّ حرب ضدّ إسرائيل، وتجاهلت الفلسطينيين أصحاب الحقّ والأرض، وكان طبيعياً أن تأتي أحداث '7 أكتوبر' (2023) ردّة فعل على إهمال المجتمع الدولي حق الفلسطينيين، ليس فقط في إقامة دولتهم المستقلة، وإنما أيضاً في الوجود. ماذا يعني اليوم إعادة الحديث مجدّداً عن حلّ الدولتَين، وفي مؤتمر دولي ترعاه الأمم المتحدة، وتشارك فيه دول لها تأثيرها وقوتها في صنع القرار الدولي؟
لم يهدف مؤتمر نيويورك إلى إنقاذ حلّ الدولتين، بقدر ما هدف إلى حفظ ماء وجه دول متورّطة في جرائم الحرب الإسرائيل
يدرك جميع المشاركين في هذا المؤتمر، الذي قاطعته إسرائيل والولايات المتحدة، أن إقامة الدولة الفلسطينية لن تتحقّق غداً، لذلك وضعوا شروطاً كثيرة على الجانب الفلسطيني لدعم قيام دولتهم، بينما غضّوا الطرف عن كلّ جرائم إسرائيل المستمرّة في غزّة والضفة الغربية، وتجاهلوا تصريحات الساسة الإسرائيليين المتطرّفين الذين يدعون صراحة إلى قتل الفلسطينيين وتجويعهم وطردهم واحتلال أراضيهم وضمّها إلى دويلة إسرائيل، في تحدّ سافر للمجتمع الدولي وقوانينه وشرائعه، مدعومين بالانحياز الأعمى لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى مخطّطاتهم الاستيطانية والاحتلالية، ولم نسمع أو نقرأ أيّ إدانة أو شجب، أو مجرّد 'عتاب'، لإسرائيل ولساستها المتطرّفين. إن عجز كلّ هاته الدول عن مجرّد توجيه اللوم إلى إسرائيل وتحميلها مسؤولية ما يجري من مآسٍ في غزّة والضفة الغربية، يدلّل على وجود خلل ما في منظومة الأخلاق والقوانين الدولية، التي باسمها عقد ذلك المؤتمر.
في الواقع، ومن منظور المراقب المحايد، يبدو هذا المؤتمر كما لو كان محاولةً للتكفير عن صمت المجتمع الدولي زهاء سنتَين عن الجرائم البشعة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة والضفة الغربية، وهو بالنسبة إلى دول متواطئة ومشاركة في الجريمة محاولة للحصول على براة ذمّة من حرب الإبادة المستمرّة، عندما يحين وقت الحساب. لكن ما لم يصدر عن المؤتمر في بيانه الختامي هو أهم من كلّ ما نُوقش من أفكار فيه، كلّها قديمة ومتداولة ومكرورة، الأمر يتعلّق بحقيقة ساطعة تؤكّد أن القضية الفلسطينية، رغم كلّ الحروب والجرائم والمؤامرات التي حيكت لطمسها، ما زالت حيّةً، لا يمكن إلغاؤها من أجندة المجتمع الدولي، وأن تطلّع الفلسطينيين إلى التحرّر وتقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلّة حقّ أبدي لا يسقط بفعل التقادم أو التآمر أو جرائم الإبادة التي لم تتوقّف، منذ أن زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين التاريخية.
لم يكن هدف مؤتمر نيويورك إنقاذ حلّ الدولتين (كما هو شعاره)، بقدر ما كان هدفه (غير الُمعلَن) حفظ ماء وجه المجتمع الدولي، وخصوصاً الدول المتورّطة في جرائم حرب الإبادة من خلال دعم إسرائيل بالمال والسلاح والدبلوماسية والإعلام، وماء وجه الدول التي خذلت الشعب الفلسطيني بصمتها، وبعدم تحرّكها لوقف حرب الإبادة، وحرب التجويع المستمرّة في غزّة، وفي مقدور دول كثيرة شاركت في ذلك المؤتمر فعل ذلك لو توافرت لديها الإرادة السياسية الحقيقية.
حجم المأساة التي تتكشّف حالياً في غزّة تتطلّب أكثر من مجرّد مؤتمر دولي يعبّر عن نيات، مهما كانت صادقةً لن تغيّر من الواقع شيئاً
قرار حلّ الدولتَين، لا يمكن استجداؤه من حكومة يمينة فاشية، لم يجرؤ مؤتمر نيويورك على توجيه الإدانة إلى جرائمها، وإنما يجب فرضه بقوة القانون الدولي، وإلا لا معنى لهذا القانون الذي يطبّق على الضعفاء. فإلى متى سيظلّ المجتمع الدولي عاجزاً عن إجبار إسرائيل على الامتثال لمقرّرات دولية؟ لقد رأينا كيف تحرّك الجزء الغربي من هذا المجتمع عندما تعلّق الأمر بمعاقبة روسيا والوقوف في وجه حربها ضدّ أوكرانيا، لذلك ما زال يُنتظر من دول كثيرة، خاصّة الغربية، أن تستيقظ ضمائر ساستها، وتستعيد سيادة قرارها، وتستمع إلى صوت شعوبها الرافضة لكلّ ما يجري في غزّة من جرائم يندى لها جبين الإنسانية.
لا يمكن أن يكون حلّ الدولتَين نتيجة مفاوضات مع حكومات إسرائيلية يمينة فاشية فقط، أفشلت كلّ محاولات (ومساعي) السلام مع الفلسطينيين ومع العرب طوال العقود الماضية، بل يجب فرضه على إسرائيل من خلال العقوبات، كما حصل في عهد حكومات الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وكما حصل أخيراً مع روسيا. على المجتمع الدولي، إذا أراد أن يستعيد مصداقيته، ويمنح قراراته شرعيتها المفقودة فيعيد لمؤسّساتها الدولية هيبتها، أن يتوقّف عن الكيل بمكيالَين. قيام دولة فلسطينية اليوم، لأن هذا هو المطلوب، هي مسؤولية هذا المجتمع الدولي، فحجم المأساة التي تتكشّف حالياً في غزّة تتطلّب أكثر من مجرّد مؤتمر دولي يعبّر عن نيات، مهما كانت صادقةً لن تغيّر من الواقع شيئاً.
يحتاج الوضع الحالي في غزّة والضفة الغربية بكلّ مآسيه تضامناً إنسانياً عاجلاً، واستجابة عالمية لوقف محنة الشعب الفلسطيني من خلال إلزام إسرائيل بوقف حرب الإبادة والجرائم ضدّ الإنسانية والتطهير العرقي، وفرض تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلّة، وليس هذا بكثير على إرادة دول العالم، متى كانت هذه الإرادة صادقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
التالي
مادوخوناش .. كلكم في الإخفاق سوى
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ ساعة واحدة
- إيطاليا تلغراف
أطفال مرضى وجرحى من غزة يصلون إلى الأردن لتلقي العلاج - إيطاليا تلغراف
إيطاليا تلغراف نشر في 7 أغسطس 2025 الساعة 17 و 00 دقيقة السابق الكرملين وترامب يصفان لقاء ويتكوف مع بوتين بأنه 'مثمر للغاية'


النهار
منذ 2 ساعات
- النهار
النقل الجامعي .. بداري يترأس اجتماعا لتحسين الخدمة
ترأس وزير التعليم العالي والبحث العلمي، كمال بداري، مقر الوزارة، إجتماع لتحسين خدمة النقل الجامعي بكل الوسائل. تحسبا للدخول الجامعي المقبل و حضر هذا الإجتماع من جانب وزارة النقل، الأمين العام لوزارة النقل. الرئيس المدير العام لمجمع ترونسلاف، و المدير العام لشركة النقل الجامعية.


الشروق
منذ 2 ساعات
- الشروق
الفريق أول شنقريحة يدشّن المقر الجديد لقيادة الدفاع الجوي
يشرف الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة على تدشين المقر الجديد لقيادة قوات الدفاع الجوي عن الإقليم. وفي مستهل المراسم، وقف الفريق أول وقفة ترحم على روح الشهيد البطل العقيد بن علي بودغن المدعو 'لطفي' والذي يحمل مقر قيادة قوات الدفاع الجوي عن الإقليم اسمه حيث وضع إكليلا من الزهور أمام المعلم التذكاري المخلد له وتلا فاتحة الكتاب على روحه الطاهرة وعلى أرواح الشهداء الأبرار. بعدها تابع رئيس أركان الجيش عرضا شاملا حول هذا المقر الجديد قدمه القائمون على إنجاز المشروع، ليجتمع بإطارات قوات الدفاع الجوي عن الإقليم. وبهذ المناسبة، ألقى الفريق أول شنقريحة كلمة بثت إلى كافة وحدات الدفاع الجوي عن الإقليم عن طرق تقنية التحاضر عن بعد، أكد في مستهلها عن سعادته بالإشراف على تدشين المقر الجديد ولقاء إطارات ومستخدمي قوات الدفاع الجوي عن الإقليم. كما أشار الفريق أول إلى التحولات العميقة التي تعرفها طبيعة وساحة المعركة الحديثة التي تطرح تحديات حقيقية حتى على أقوى الجيوش في العالم مما يستدعي التكيف مع هذه التحولات ورفع تحدياتها.