
3 عقبات تواجه الخطة الأمريكيَّة لتوزيع المساعدات في غزة
متابعة/ فلسطين أون لاين
في وقتٍ يشتد فيه الخناق الإنساني على أكثر من 2.4 مليون إنسان في قطاع غزة، تسعى إسرائيل إلى فرض سيطرة مشددة على آلية توزيع المساعدات الإنسانية، عبر خطة أمريكية وصفت بأنها "غير قابلة للتفاوض"، تقترح تنفيذها من خلال مراكز توزيع تخضع لسيطرة الاحتلال، وتؤمّنها شركات أمنية أميركية خاصة.
وقبل يوم من بدء تنفيذها، تواجه الخطة الجديدة لتوزيع المساعدات في قطاع غزة، تحت إشراف "مؤسسة غزة الخيرية" الأمريكية والتي يقودها أحد جنود "المارينز"، سلسلة من العقبات التي تهدد جدواها، وسط رفض واضح من الأمم المتحدة التي وصفت النموذج الأمريكي بأنه يفتقر إلى الحياد والنزاهة.
واطلعت تقارير على العرض الذي قدمته المؤسسة للحكومة الأميركية، والذي ترجح بنوده وتفاصيله أنها ستكون "دمية بيد الجيش الإسرائيلي، وستعمل كوكيل لعسكرة المساعدات، وتهميش المؤسسات الدولية والفلسطينية، وترسيخ نظام الاحتلال تحت ستار العمل الإنساني المحايد". وتقول المؤسسة، إنها ستنطلق في إدخال المساعدات بدءا من نهاية الشهر الحالي.
ووفقاً لموقع "زمان إسرائيل"، تواجه الخطة الجديدة عقبات من شأنها أن تجعل نجاحها صعباً، من بينها:
1. مؤسسات أمنية بلا خبرة إنسانية
الخطة الأمريكية تعتمد على شركتين خاصتين في الأمن واللوجستيات – "سيف ريتش سولوشنز" و"يو.جي سولوشنز" – يديرهما ضباط سابقون في الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية، دون خبرة ميدانية في المجال الإنساني أو معرفة بالسياق الفلسطيني.
ارتباط بعض المسؤولين التنفيذيين السابقين بشركة "بلاك ووتر" أثار تحفظات داخل المجتمع الإغاثي، ما دفع العديد من الجهات إلى رفض المشاركة في المشروع.
واشارت تقارير إلى أن شركة "سيف ريتش سولوشنز" أعلنت عن شغل وظائف على موقع لينكدإن، وذلك وفقاً لإعلانات الوظائف التي شاركها مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون مع موقع ميدل إيست آي.
وقالت الشركة إنها تبحث عن "ضباط اتصال إنساني" لكي "يعملوا كحلقات وصل حيوية بين فرقنا التشغيلية والمجتمع الإنساني الأوسع"، وفقاً لوصف وظيفي واحد.
2. غموض في التمويل وتضارب مصالح
لم توضح المؤسسة حتى الآن مصادر تمويل عملياتها، سواء في شراء الأغذية أو تسديد مستحقات الشركات المنفذة. تقارير عبرية كشفت عن تحركات لعقد صفقات مع شركات إسرائيلية لتوريد المواد، في خطوة اعتبرها مراقبون دمجاً بين المساعدات الإنسانية والمصالح التجارية للاحتلال.
يُذكر أنه منذ أن شنت إسرائيل الحرب على غزة وحتى توقف المساعدات في مارس/آذار 2025، كان تمويل شراء الأغذية والأدوية المنقولة إلى غزة يأتي من دول الخليج، والأردن، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ودول أخرى.
وخلال هذه الفترة، لم تستفد الشركات الإسرائيلية من بيع منتجاتها في غزة. ووفقاً لـ"زمان إسرائيل"، فإن دخول الشركات الإسرائيلية إلى غزة يخلط المصالح التجارية المباشرة بنظام المساعدات الإنسانية.
وبحسب مصادر في الصناعة، فإن العديد من الشركات "متلهفة" لتوقيع عقود مع مؤسسة غزة الخيرية، متوقعة تحقيق أرباح كبيرة.
وأفادت تقارير نشرها موقع "يديعوت أحرونوت" أن شركة استيراد القمح "شينتاركو" الإسرائيلية وقّعت اتفاقاً مع برنامج الغذاء العالمي لبيع القمح إلى غزة.
وبحسب ما ورد في مجلة "ذا ماركر" العبرية، قامت شركة "سيف ريتش سولوشنز" بتوزيع وثيقة متطلبات لشراء كميات كبيرة من المواد الغذائية من الشركات الإسرائيلية.
وعلم موقع "زمان إسرائيل" أن العديد من الشركات الإسرائيلية الخاصة التي تلقت طلبات من مؤسسة غزة الخيرية أبدت تحفظاتها بشأن توقيع العقود، بسبب تأخر شروط الدفع لمدة 60 يوماً.
3. قيود إسرائيلية تُغذي السوق السوداء
وبينما صرّح وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، بأنه سيتم إدخال الحد الأدنى فقط من المساعدات الإغاثية المطلوبة، فإنه من المتوقع أن تؤدي هذه السياسة إلى تعزيز السوق السوداء وارتفاع كبير في الأسعار.
وقد يتحول صندوق طعام يزن 20 كيلوغراماً — مخصص لمدة أسبوع لأسرة واحدة — إلى سلعة ثمينة، وهدفاً للسرقة.
وقال دبلوماسي إسرائيلي كبير هذا الأسبوع: "إن المواطن الغزاوي الذي يمشي كيلومترات عديدة وهو يحمل 20 كيلوغراماً من المعدات على ظهره قد يتعرض للسرقة".
وأضاف أن فكرة حشد عشرات الآلاف من الأشخاص يومياً للوقوف في طوابير والحصول على الطعام هي "خطة مجنونة وغير منطقية".
وقال موقع "زمان إسرائيل" إن الحد من ظاهرة السوق السوداء لا يكمن في الحد من المساعدات، بل في توسيعها.
ما أبرز الانتقادات لنموذج تشغيل المؤسسة؟
وصف توم فليتشر، مسؤول الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، المؤسسة بأنها "عرض جانبي ساخر"، في مداخلة له أمام مجلس الأمن الدولي قبل أيام. وحذرت الأمم المتحدة من حقيقة أن المواقع الأولية التي ستكون فقط في جنوب ووسط غزة يمكن أن يُنظر إليها على أنها تشجع على هدف إسرائيل المعلن المتمثل في إجبار جميع سكان القطاع على الخروج من شماله.
ويضيف فليتشر، أن الخطة المقترحة للمؤسسة "تفرض المزيد من النزوح، بما يعرض آلاف الأشخاص للأذى. وهي تقتصر المساعدات على جزء واحد فقط من غزة، بينما تترك الاحتياجات الملحة الأخرى دون تلبية. وتجعل المساعدات مشروطة بأهداف سياسية وعسكرية، والجوع ورقة مساومة".
رفض أممي وتحذيرات حقوقية
المكتب الإعلامي الحكومي بغزة دعا بدوره المجتمع الدولي إلى رفض الانخراط في هذه الآلية، أو تمويلها بأي شكل، مطالبًا بتحرك فوري لفتح المعابر دون شروط وضمان تدفّق المساعدات عبر مؤسسات حيادية ومستقلة، تحفظ كرامة الإنسان وتحترم القانون الدولي.
ورأت "واشنطن بوست" أن هذه الخطة ستحد من قدرة وكالات الأمم المتحدة، مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمات الإغاثة الدولية، على العمل داخل غزة، رغم أن إسرائيل لا تزال تأمل في إقناعهم بالانضمام إلى المشروع.
وتلتزم العديد من المنظمات الإنسانية بقواعد تُلزمها بتقديم المساعدات بشكل حيادي، أينما وُجدت الحاجة، دون تدخل أي جهات مسلحة من أي من الجانبين.
وفي مقابلات مع الصحيفة، أعرب ممثلو 10 منظمات إغاثة دولية كبرى تعمل في غزة عن مخاوف بشأن الخطة الإسرائيلية، بما في ذلك أن حصر توزيع المساعدات على عدد قليل من المراكز في جنوب القطاع سيكون تمييزياً، وسيؤدي إلى موجة جديدة من النزوح.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش قد أكد أن المنظمة لن تدعم هذه الخطة المقترحة، قائلاً إنها "لا تحترم المبادئ الإنسانية بشكل كامل".
وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، الأحد، إن إسرائيل تسعى لإجبار منظمات الإغاثة في قطاع غزة على إيصال المساعدات عبر مراكز توزيع خاضعة للإشراف الإسرائيلي، في حال وافقت الحكومة على إعادة فتح المعابر.
وقال المكتب الأممي في بيان، الأحد، "لأكثر من 9 أسابيع، منعت السلطات الإسرائيلية دخول أي إمدادات إلى قطاع غزة، بغض النظر عن مدى ضرورتها لبقاء الناس على قيد الحياة".
وقال المكتب الأممي"تخالف هذه الخطة المبادئ الإنسانية الأساسية، ويبدو أنها تهدف إلى استخدام السيطرة على المواد الحيوية كأداة ضغط عسكرية، إنها خطة خطيرة تدفع المدنيين إلى مناطق عسكرية للحصول على الغذاء، مما يعرض حياتهم للخطر، وتُسهم في ترسيخ التهجير القسري".
وذكر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أن "الأمين العام للأمم المتحدة، ومنسق الإغاثة الطارئة أكدا عدم مشاركتهما في أي مخطط لا تلتزم بمبادئ الاستقلالية والحياد".
وحث المكتب الأممي قادة العالم على استخدام نفوذهم لرفع الحصار الخانق عن قطاع غزة وإدخال المساعدات. وأضاف: "ما زالت فرقنا على الأرض في غزة، جاهزة لتوسيع نطاق تسليم الإمدادات والخدمات الحيوية من جديد، نملك مخزوناً كبيراً من المواد الجاهزة للدخول فور رفع الحصار".
من جهتها، أعربت حركة حماس عن رفضها بشدة "تحويل المساعدات إلى أداة ابتزاز سياسي أو إخضاعها لشروط الاحتلال"، مؤكدة أن الآلية المطروحة تمثل خرقاً للقانون الدولي وتنصلاً من التزامات الاحتلال بموجب اتفاقية جنيف، وامتداداً لسياسة التجويع والتشتيت التي تمنح الاحتلال وقتاً إضافياً لارتكاب جرائم الإبادة، ما يتطلب موقفاً دوليًا وعربياً ومصرياً حازماً".
وثمنت الحركة في بيان موقف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الرافض "لأي ترتيبات لا تحترم المبادئ الإنسانية الأساسية، وعلى رأسها الحياد والاستقلال والإنسانية وعدم الانحياز، مشددة على أن الجهة الوحيدة المخوّلة بإدارة وتوزيع المساعدات هي المؤسسات الدولية والحكومية المختصة، لا الاحتلال أو وكلاؤه".
ودعت الحركة المجتمع الدولي إلى "عدم الانخداع بروايات الاحتلال الكاذبة، والعمل فوراً على كسر الحصار بشكل كامل، وفتح المعابر أمام تدفق المساعدات الغذائية والطبية، تحت إشراف الأمم المتحدة وبعيداً عن أي تدخلات عسكرية أو سياسية".
المصدر / عربي بوست + موقع زمان إسرائيل + وكالات
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


قدس نت
منذ 2 ساعات
- قدس نت
وسط استمرار المجاعة والحصار المشدّد... الجيش الإسرائيلي يستعد لتوسيع المناورات البرّية في غزة
في تصعيد جديد لحرب الابادة الجماعية على قطاع غزة الذي يتعرض للحصار الخانق والمجاعة على مدار أكثر من شهرين وفي اطار زيادة الضغوط على المواطنين، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي استعداده لنشر آلاف الجنود الإضافيين داخل قطاع غزة، في إطار توسيع نطاق المناورات البرية المستمرة ضمن ما يسميه الجيش بـ"عملية عربات جدعون"، وسط توقعات بتصعيد كبير في العمليات العسكرية خلال الساعات المقبلة. وبحسب مصادر عسكرية إسرائيلية نقلها موقع "واللا"، فإن الحملة الجديدة ستتسم بـ"كثافة نارية مرتفعة"، ومن المتوقع أن تشمل هجوماًبريًا واسع النطاق، إلى جانب تصعيد في وتيرة الضربات الجوية والمدفعية، خاصة في الجهة الغربية لمدينة غزة. وأكد مجلس "شاعر هنيغيف" الإقليمي في بيان لمواطنيه، أن نشاط الجيش سيتوسع الليلة، مشيرًا إلى احتمالية سماع انفجارات قوية نتيجة اشتداد العمليات في محيط غزة. استعدادات ميدانية وتوجيهات لوجستية كشفت مصادر في الجيش أن خطة قائد المنطقة الجنوبية، اللواء يانيف آسور، ترتكز على الدفع بأعداد كبيرة من الجنود داخل القطاع، ما سيؤدي إلى "تصاعد في حجم إطلاق النار وارتفاع معدل تدمير المنازل". وبالتزامن، أصدر رئيس شعبة التكنولوجيا واللوجستيات، اللواء ميشيل يانكو، تعليمات برفع مستوى الجاهزية في وحداته لتأمين الحملة العسكرية الواسعة، سواء من حيث الدعم اللوجستي للمناورات البرية أو عمليات السيطرة الميدانية والتمركز داخل الأراضي الفلسطينية. وأجرى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، المقدم إيال زامير، جولة ميدانية اليوم في مقر القيادة الجنوبية، رافقه خلالها القادة الميدانيون، حيث قدّم اللواء يانيف آسور استعراضًا للإنجازات العسكرية منذ بدء المناورة البرية الموسعة، مشيرًا إلى "تطبيق منهجي للدروس المستخلصة من الجولات السابقة"، خصوصًا في ما يتعلق بالتنقل في مناطق مدمرة وآليات التمشيط والمناورة في بيئة حضرية مليئة بالركام. تصعيد ميداني واستعداد لجولة جديدة المؤشرات الميدانية تشير إلى أن المناورة البرية مرشحة للتصعيد خلال الأيام القادمة، مع توسيع نطاق العمليات ومحاولة الجيش الإسرائيلي فرض سيطرته على أجزاء أوسع من قطاع غزة، وسط تصاعد التحذيرات من كارثة إنسانية متفاقمة في ظل شح المساعدات واستمرار موجات النزوح القسري. المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - القدس المحتلة

جريدة الايام
منذ 2 ساعات
- جريدة الايام
حين تصبح العدالة إرثاً منسياً
في العقود الثلاثة الأخيرة، شهد العالم انزياحاً عميقاً في بنية منظومته القيمية والمعرفية، حتى بدت مفاهيم كالعدالة والتحرر والكرامة وكأنها تنتمي إلى عصر مضى، أو إلى قاموس رومانسي تجاوزه الزمن. وفي خضم هذه التحولات، تبرز القضية الفلسطينية كحالة استثنائية، لا فقط بصفتها صراعاً سياسياً أو إقليمياً، بل كمرآة تعكس التناقض الأخلاقي العميق الذي يعيشه النظام العالمي المعاصر. لقد أدّى انهيار الثنائية القطبية عقب نهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينات إلى إعلان ما وُصف بـ»نهاية التاريخ»، كما كتب فوكوياما، لصالح انتصار الليبرالية الديمقراطية الغربية. غير أن ما تلا هذا الانتصار لم يكن نظاماً عالمياً أخلاقياً أو متّزناً، بل انفجار في العولمة الاقتصادية والرقمية والثقافية، وتحلّل تدريجي للمعايير الجماعية لمصلحة الفردانية، النفعية، واختفاء الفوارق بين الحقيقة والتأويل. في هذا السياق، أعادت المجتمعات الغربية - خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول – ترتيب أولوياتها القيمية؛ فصارت «الأمننة» تطغى على الحقوق، و»الحرب على الإرهاب» تبرر تجاهل القوانين الدولية، و»الواقعية السياسية» تعلو على المبدأ. أما الجنوب العالمي، فوجد نفسه أمام خيارين: إما التكيف مع هذه المنظومة الجديدة رغم تفككها الداخلي، أو الدخول في نفق التهميش، العقوبات، والعزلة. وفي هذا المشهد العالمي الرمادي، تبقى فلسطين مشتعلة، كجمر تحت رماد الصفقات والتسويات. فمنذ اتفاق أوسلو (1993)، لم تُترجم وعود «السلام مقابل الأرض» إلى سيادة أو حقوق، بل إلى واقع استيطاني أكثر وحشية، وتفكك مجتمعي واقتصادي تُغذّيه البيروقراطيات الدولية المانحة، وتستثمره قوى الاحتلال لصالح إدارة الصراع بدل حله. أما على المستوى الأخلاقي، فقد أصبحت فلسطين اختباراً عالمياً للسقوط القيمي. فالدول التي تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان تساند اليوم احتلالاً عسكرياً مباشراً، يتوسّع ويتوحش بلا رادع. الإعلام العالمي، الذي كان يوماً ما ينقل المأساة الفلسطينية، صار ينتج سرديات مضادة، تُجرّم الضحية وتُخلي سبيل الجلاد. وحتى الجامعات الغربية، التي كانت تُخرّج نخباً مناصرة للعدالة، باتت تُهدد طلبتها بالفصل إن هم عبّروا عن تضامنهم مع غزة أو رفضهم للإبادة. وربما كانت الحرب على غزة بعد السابع من أكتوبر 2023 اللحظة الأكثر فجاجة في فضح هذا الانهيار القيمي. فخلال أكثر من 200 يوم، وثّقت منظمات دولية ووكالات الأمم المتحدة جرائم ممنهجة: قتل للمدنيين، تدمير للبنية التحتية، استخدام للتجويع كأداة حرب، وتهجير قسري جماعي. ومع ذلك، لم تتحرك آليات المحاسبة الدولية، وظلت المحكمة الجنائية الدولية تحت ضغط السياسيين، فيما استخدمت بعض الدول الكبرى «الفيتو الأخلاقي» لمنع وقف إطلاق النار. فما الذي يعنيه كل هذا للفلسطيني اليوم؟ تعني العودة إلى البديهيات الأولى: أن الكرامة ليست ترفاً، وأن مقاومة الظلم حق طبيعي، وأن العدالة لا تُقاس بمصالح السوق، بل بوزن الضمير الإنساني. وهنا، يتقاطع الفلسطيني مع حركات التحرر عبر التاريخ، من فيتنام إلى جنوب أفريقيا، في الإيمان بأن الاستعمار لا يسقط فقط بالقوة، بل بالصمود الثقافي، والنفَس الطويل، والتشبث بالقيم في وجه عالم ينكرها. لكن فلسطين ليست فقط ضحية هذا الانهيار العالمي، بل قد تكون – فرصة لإعادة بناء الخطاب القيمي. فالحالة الفلسطينية تُحفّز المثقفين، الأكاديميين، ونخب الجنوب العالمي على استعادة الأسئلة التأسيسية: ما العدالة؟ ما دور الدولة؟ من يملك سردية «الخير» في عصر ما بعد الحقيقة؟ وهل يمكن إعادة تشكيل منظومة دولية جديدة تُعيد الاعتبار للمجتمعات، لا فقط للأنظمة والأسواق؟ إن النخبة الفكرية، خصوصاً في العالم العربي، معنية اليوم أكثر من أي وقت مضى بتجديد خطابها تجاه فلسطين، لا بوصفها رمزاً للعروبة فقط، بل كبوصلة أخلاقية في عصر اللايقين. ليس المطلوب تكرار الشعارات القديمة، بل إنتاج معرفة جديدة تُفكك البنية الاستعمارية الحديثة، وتُحرّك ضمير العالم بلغة يفهمها الجيل الجديد من الكتّاب والقراء والفاعلين السياسيين. فلسطين ليست فقط قضية «مظلومية»، بل قضية «معرفة». من خلالها نعرف كيف تغيّر العالم، ومن خلالها يمكن أن نعيد رسم طريق آخر، طريق لا يُقدّس الهيمنة، ولا يُجرّم الأمل.

جريدة الايام
منذ 2 ساعات
- جريدة الايام
فوضى التزييف العميق.. باكستان والهند مثالاً
كثيرون سمعوا عن تقنية «التزييف العميق» التي تعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي في توليد مقاطع فيديو وصوت مفبركة وبعيدة عن الواقع، وهي إحدى أدوات الذكاء الاصطناعي المتسارعة تطوراً، إلى درجة قد تفوق التوقعات. هذه التقنية التي تعتمد على «الشبكات التوليدية التنافسية» لإنتاج صور ومقاطع مضلّلة، ظهرت بقوة خلال الحرب الخاطفة التي اندلعت، مؤخراً، بين باكستان والهند بسبب النزاع المزمن على كشمير، قبل أن تتوقف بفعل ضغوط خارجية، دون أن يُعرف بوضوح الطرف المنتصر أو الخاسر. صحيح أن الحرب كانت سريعة ولم تتجاوز الأربعة أيام، لكنها كانت كافية لمعرفة من هو الطرف الذي ألحق ضرراً أكبر في الطرف الآخر. غير أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوليد مقاطع الفيديو المفبركة حال دون معرفة الحقيقة. قبل ظهور الإعلام الرقمي، كانت تستخدم الدول في حروبها التقليدية الدعاية الإعلامية باعتبارها وسيلة مؤثرة في الحرب، وألمانيا النازية أيام الحرب العالمية الثانية الهتلرية، خير مثال لاستخدام «الماكينة» الإعلامية لدعم الروح الوطنية والمعنوية للألمان عموماً والجيش النازي بشكل خاص. اليوم، تضيف الدول تقنيات الذكاء الاصطناعي لتمجيد حروبها وتعظيم انتصاراتها، أو تشويه الرسالة الحقيقية من الحرب لدعم مواقفها السياسية، كما يحدث حالياً في الحرب الإسرائيلية البشعة والعدوانية على قطاع غزة، وتصوير سكانه على أنهم إرهابيون. في مثال الحرب الباكستانية - الهندية، أنتجت مقاطع فيديو مضللة بين البلدين خلال وبعد الحرب الخاطفة، وعجت شبكات التواصل الاجتماعي بمقاطع تشير إلى إسقاط مضادات أرضية باكستانية طائرات حربية هندية، وفيديو مزعوم لوزير الدفاع الباكستاني يعلن فيه الهزيمة. والمشكلة أن التزييف العميق يمتلك قدرات تضليلية هائلة في زمن الحرب، حيث تقل قدرة الصحافيين والمواطنين على معرفة الحقيقة، حتى أنهم يتداولون نشر تلك المقاطع ويتحدثون عنها في الفضاء الرقمي، والنتيجة أن الحقيقة تضيع وسط هذه الفوضى. والطامة الكبرى أن الذكاء الاصطناعي يتطور بمتوالية هندسية، وهذا ينعكس تماماً على تقنيات التزييف العميق التي يمكنها أن تتطور كلما تحسنت مولداتها، وكذلك الحال فيما يتعلق بكشف التمييز العميق مع اللجوء إلى المولدات المتطورة. في ضوء كل ذلك، لا يمكن للإعلام التقليدي أن يجاري نظيره الرقمي وأدواته المختلفة، مع أن الإعلام الرسمي يترجم رسالة السلطة الحاكمة ويفترض أنه الأصدق في نشر الرواية الرسمية، إلا أنه غير قادر على إحداث التأثير الكبير في عقول الناس بدون قوانين صارمة تضبط النشر الإلكتروني، توازيها برامج توعوية لمحو الأمية الحاسوبية. دون وعي مستمر في تقنيات الذكاء الاصطناعي وضوابط تمنع الاستخدام السيئ لهذه التقنيات المتطورة، فقد نكون كمن يقفز في الفراغ وسط فوضى من الشائعات المضللة وغياب الحقيقة، لذلك لا مفر من ضرورة التحكم البشري في تقنيات الذكاء الاصطناعي. بمعنى أن على البشر التحكم في الفضاء الرقمي والذكاء الاصطناعي وليس العكس، بما يشمل توظيف التكنولوجيا الحديثة في مصلحة البشر، دون الإخلال في سوق العمالة والاستغناء عن الموظفين بادعاء أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يحل محل البشر. لقد قطعت فنلندا شوطاً كبيراً في محو الأمية التقنية على مستوى مواطنيها، وخصصت برامج متنوعة من المراحل العمرية المبكرة وحتى كبار السن، لهضم وفهم تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوظيفها في الإطار الصحيح الذي يخدم في النهاية العنصر البشري. عدا المنهج الوطني للتعليم الرقمي وبرامج المعارف الجديدة والتقدم الرقمي ودورات عناصر الذكاء الاصطناعي، حققت فنلندا الكثير من مستهدفاتها نحو بناء مجتمع واعٍ رقمياً، يمكنه على الأقل عدم إطلاق الأحكام الجزافية والسريعة قبل فهم الحقيقة الكاملة في الفضاء الرقمي. عودة إلى حالة باكستان والهند، يمكن القول، إن هناك مئات الملايين من المواطنين في البلدين يفتقرون إلى الوعي الكافي بالفضاء الرقمي واستخلاص الحقائق، وهذا يأتي في إطار تحد أكبر يتعلق بوجود حوالى 45% من البالغين في الدول النامية لا يمتلكون المهارات الرقمية الأساسية. هناك فجوة هائلة بين البلدين في الوصول إلى التكنولوجيا، وهذا يشكل بيئة خصبة لاستقبال الأخبار المضللة، ولذلك تحتاج الدول النامية إلى تطوير البنى التحتية الرقمية بما يعزز إمكانية وصول أفراد المجتمع إلى مصادر التكنولوجيا والتوعية تجاهها واستخدامها بطريقة إيجابية تعزز الصالح العام. أخيراً، لا بد للبشر أن يدركوا أن خلاصهم ليس مرتبطاً بالذكاء الاصطناعي والآلة، لأنها في النهاية سلاح ذو حدين والجهل فيها قد يحيل جيشاً منهم إلى البطالة، والأولى فهم واستيعاب الأدوات التقنية والذكاء الاصطناعي وتوظيفها في خدمتهم لتطوير احتياجاتهم وتحسين حياتهم على كافة المستويات.