logo
في حضرة العروي .. كيف التهمت الأيديولوجيا أوطاننا؟

في حضرة العروي .. كيف التهمت الأيديولوجيا أوطاننا؟

عمونمنذ 4 أيام
في أغلب الدول العربية، تتشابك داخل الدولة الواحدة تيارات فكرية متعددة: دينية، وقومية، وتقليدية، وحداثية، دون أن تملك الدولة رؤية موحدة توجّه هذا التنوع وتؤطّره ضمن مشروع سياسي موحّد. هذا الغياب يؤدي إلى احتقان سياسي وانقسام في الوعي العام، فيصبح كل موقف سياسي موضع شك، كما نراه مؤخرًا في تفاعلات الحرب على غزة. ومع كل أزمة كبيرة، تعود الأسئلة القديمة لتطرح نفسها: لماذا تعجز الدولة عن احتواء الاختلاف؟ لماذا يبدو خطابها مفصولًا عن الواقع؟ لماذا يفقد السياسيون قدرتهم على الإقناع؟ ولماذا تنقسم الولاءات داخل البلد الواحد؟.
في مثل هذه اللحظات، أستحضر فكر عبد الله العروي، لأن منهجه التاريخاني وأدواته المفاهيمية تمنحني إطارًا لفهم ما يدور من حولنا بوعي أعمق.
يرى العروي أن بناء الدولة الحديثة يستلزم فهمًا تاريخانيًا للمفاهيم، باعتبارها نتاجًا لسياقات اجتماعية وثقافية محددة. لذا، لا يجوز استيرادها أو استعادتها دون نقد تاريخي. فالتاريخانية شرط لبناء دولة وطنية عقلانية، تقوم على المواطنة والقانون، وتتجاوز الانتماءات التقليدية والخطاب الميتافيزيقي نحو مشروع تحديثي لا يعيد إنتاج الماضي. الدولة الحديثة، كما يفهمها العروي، لا تكتفي بالمؤسسات والقوانين، بل تحتاج إلى فكر يحمل مشروعها، ويمنحها معناها، ويؤطّر علاقتها بالمجتمع والماضي والمستقبل. فكرٌ تاريخاني يؤمن بأن القيم والنُظُم تتغير، ويُوظّف التاريخ لا لتكراره بل لتجاوزه، وينقل الدولة من البُنى التقليدية إلى أفق حداثي عقلاني.
بناء دولة حداثية لا يستقيم على أسس دينية أو قبلية أو مذهبية، لأنها تُكرّس الانقسام وتُعيق المواطنة. من هنا تبرز الحاجة إلى أيديولوجيا تاريخانية تُعيد قراءة الماضي بعقلانية، وتضع التحديث في صلب مشروعها. فالدولة الحديثة تفترض فكرًا سياسيًا يتجاوز البُنى التقليدية، وهو ما تفتقر إليه كثير من الدول العربية التي بقيت رهينة لأيديولوجياتها القديمة.
التصوّر العقلاني للدولة والأيديولوجيا، كما يطرحه العروي، يصطدم بواقع عربي يتسم بالاضطراب؛ فبعض الأنظمة تتبنى خطابات متناقضة، وأخرى تتحوّل إلى وسطاء بين قوى اجتماعية ودينية متصارعة، بينما تُوظّف الأيديولوجيا أحيانًا كغطاء للسلطة بدل أن تكون أداة للوعي. والنتيجة دول هشّة، بلا سردية موحّدة أو مشروع جامع، ما يُبرز أهمية أطروحة العروي كأداة نقدية لفهم هذا الواقع وأسباب تعثّره.
هذا ما نراه بوضوح في السودان واليمن، حيث تتنازع أيديولوجيات متصارعة (قبلية، دينية، جهوية) كيان دولة مفككة أصلًا، فتصبح النتيجة كما نرى: حربًا أهلية بلا مشروع وطني. وفي العراق، الدولة موجودة شكليًا، لكنها رهينة ولاءات طائفية تتنازع على السلطة باسم أيديولوجيات داخلية وخارجية فقدت قدرتها على إنتاج أفق جامع.
في سوريا، مَثّل حزب البعث نموذجًا لدولة ترفع شعار القومية العربية، لكنها في العمق كانت تُدار وفق منطق طائفي أمني مركزي، هذه الأيديولوجيا القومية، بدل أن توحّد الشعب، أصبحت غطاءً لاحتكار السلطة وإقصاء المختلف. مع اندلاع الثورة السورية، انكشفت هشاشة الدولة وتحوّلت سوريا إلى ساحات نفوذ داخلية وخارجية، تتنازعها أيديولوجيات متضاربة، بعضها ديني، وبعضها انفصالي. اليوم، ما نشهده من محاولات السلطة الجديدة لإشراك كل المكونات السياسية والاجتماعية والمذهبية، يواجه تحديات، أبرزها الطائفية ومشاريع التقسيم، بينما تفقد الأيديولوجيا القومية التي حكمت سوريا لعقود طويلة قدرتها على توحيد الرؤية أو استعادة الشرعية.
في غزة، لا تغيب الأيديولوجيا هناك أيضًا، رغم أن الطابع العام المُحرّك تأسس على قضية وجودية نضالية بامتياز في مواجهة احتلال، لكنها هي الأخرى ليست بعيدة عن نماذج الأيديولوجيا التي حكمت ولا زالت المجتمعات العربية، كما وصفها العروي: بين حماس بخطابها الإسلامي المقاوم، وفتح بخطابها الوطني التقليدي، وحركات أخرى تلوّن الصراع الفلسطيني بلغة دينية أو ثورية أو حتى شعبوية. المشكلة أن هذه الأيديولوجيات تتحول في كثير من الأحيان إلى أداة لإدامة الانقسامات، أكثر من كونها مشروعًا جامعًا للتحرير وبناء الدولة.
أما في لبنان، فحدّث ولا حرج، فالدولة تتنازعها الطوائف، وكل طائفة تحمل أيديولوجيا خاصة بها: دينية أو سياسية أو ثقافية، بل ومرتبطة بولاءات خارجية تجعل من فكرة الدولة مجرد توازن للمصالح لا أكثر، سحبت لبنان ومؤسساته إلى الهاوية. وهذا هو النموذج الذي ينتقده العروي، حيث تتحول الأيديولوجيا من أداة لبناء الدولة إلى عامل يُعطّل حركتها ويُكرّس عجزها.
في الحالة الأردنية، تبرز أزمة غياب الأيديولوجيا كما يُحلّلها عبد الله العروي بوضوح لافت. فالدولة لم تُنتج بعد فكرًا عقلانيًا حديثًا يُوحّد المجتمع ويوجّه وعيه، بل اكتفت بإدارة توازناته التقليدية القائمة على الدين والعشيرة والشرعية التاريخية. ومع اندلاع حرب غزة، ظهر هذا الخلل بشكل ملفت: تشتّت المواقف، وانقسم الشارع، واهتزّت الثقة بالخطاب الرسمي. الإعلام أخفق في بلورة موقف وطني واضح، وانشغل بالتبرير أو الصمت، وخطاب السياسيين والمثقفين ضعيف وعاجز.
بهذا المعنى، فإن الدولة الأردنية، في ظل غياب أيديولوجيا عقلانية تُشكّل وعيًا جمعيًا، بدت عاجزة عن قيادة الناس، مكتفية بإدارة الأزمة لا بتوجيهها، تاركة المواطن يتأرجح بين الولاءات الضيقة وغياب الانتماء الفعلي للدولة الوطنية الحديثة.
لهذا، حين أعود إلى فكر عبد الله العروي، أفهم أكثر كيف وصلت أوطاننا إلى هذا الحال. لم تكن الأيديولوجيا في ذاتها هي المشكلة، بل غياب الفكر العقلاني الذي يوحّدها في مشروع وطني جامع. في غياب هذا الإطار، تحوّلت الأيديولوجيا إلى ساحة صراع، لا أداة وعي. وهكذا، لا أجد وصفًا أدق لما حدث لنا سوى أن الأيديولوجيا التهمت أوطاننا، لا لأنها كانت قوية، بل لأن الدولة كانت ضعيفة، بلا رؤية، بلا فكر، وبلا مشروع.

هاشتاغز

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الاحتلال الإسرائيلي يصدر أوامر إخلاء لمناطق شرقي مدينة غزة
الاحتلال الإسرائيلي يصدر أوامر إخلاء لمناطق شرقي مدينة غزة

الدستور

timeمنذ 26 دقائق

  • الدستور

الاحتلال الإسرائيلي يصدر أوامر إخلاء لمناطق شرقي مدينة غزة

غزة - أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي أوامر بالإخلاء القسري إلى جميع المواطنين الفلسطينيين في حيي الدرج والتفاح بمدينة غزة في البلوكات 699، 713، 715، 716. وطالب الاحتلال في منشور له السكان بإخلاء تلك المناطق فورًا باتجاه الجنوب نحو المواصي غرب خان يونس جنوب قطاع غزة. --(بترا)

بدء تقديم طلبات القبول الموحد الثلاثاء
بدء تقديم طلبات القبول الموحد الثلاثاء

سرايا الإخبارية

timeمنذ 26 دقائق

  • سرايا الإخبارية

بدء تقديم طلبات القبول الموحد الثلاثاء

سرايا - كشف مدير وحدة تنسيق القبول الموحد والناطق الإعلامي باسم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مهند الخطيب، أن تقديم طلبات القبول الموحد لمرحلة البكالوريوس سيبدأ اعتبارًا من 12 آب الحالي، ويستمر حتى الساعة 12 منتصف الليل من مساء 19 من الشهر ذاته. وقال الخطيب، الخميس، إن تقديم طلبات القبول الموحد لمرحلة الدبلوم المتوسط سيبدأ صباح يوم الأربعاء 13 آب، ويستمر حتى 20 من الشهر ذاته.

تونس.. توتر أمام مقر اتحاد الشغل بعد احتجاجات تطالب بتجميده
تونس.. توتر أمام مقر اتحاد الشغل بعد احتجاجات تطالب بتجميده

خبرني

timeمنذ 26 دقائق

  • خبرني

تونس.. توتر أمام مقر اتحاد الشغل بعد احتجاجات تطالب بتجميده

خبرني - قال الاتحاد العام التونسي للشغل، إن مقرّه المركزي بالعاصمة تونس تعرّض إلى محاولة اقتحام واعتداء، وذلك إثر تجمّع عدد من المحتجين المناهضين لسياساته، على خلفية تنفيذه سلسلة من الإضرابات وتلويحه بالتصعيد. وتجمّع عدد من المحتجين، اليوم الخميس، أمام مقر اتحاد الشغل للتنديد بأدواره، رافعين شعارات مناهضة له تطالب الرئيس قيس سعيّد بالتدخل لتجميده ومحاسبة قياداته الذين وصفوهم بـ"العصابات"، وذلك على خلفية تنفيذ سلسلة من الإضرابات، أبرزها إضراب قطاع النقل العام الأسبوع الماضي، وما رافقه من تعطيل واسع لمصالح المواطنين واتهم المحتجون قيادة الاتحاد بـ"تخريب الاقتصاد الوطني وتعطيل مؤسسات الدولة والتنمية"، داعين الرئيس قيس سعيّد إلى التدخل لوضع حد لـ"تغوّل" المنظمة النقابية. في المقابل، ندّد اتحاد الشغل، في بيان، بمحاولة اقتحام مقرّه من قبل ما وصفها بـ"العصابة الإجرامية"، متهما "أنصار الرئيس" بالوقوف وراء حملات التجييش والتحريض على العنف ضد النقابيين، بعد التحرّكات الأخيرة للعديد من القطاعات وبعد الإعلان عن تحرّكات أخرى في الأسابيع القادمة، للدفاع عن حقوق العمال. وأشار إلى أن هدف هذا الاعتداء هو "محاولة إسكات صوت الاتحاد ومنعه من لعب دوره في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال ونضاله من أجل الحريات العامة والفردية"، داعيا النيابة العامة إلى فتح بحث عاجل في جرائم الاعتداء والثلب والتشهير والتحريض على العنف التي جرت اليوم أمام مقرّه. في الأثناء، تجمّع نقابيون أمام مقر الاتحاد، رافعين شعارات وهتافات معارضة للحكومة وللرئيس قيس سعيّد. وتعكس هذه الأحداث تصاعد التوتر بين مؤيّدي سياسات الرئيس قيس سعيد والاتحاد العام التونسي للشغل، في ظل تباين واضح في المواقف حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ورفض المنظمة النقابية لعدد من الخطط التي تعتمدها السلطة، لا سيما في ما يتعلّق بالإصلاحات الاقتصادية والتعامل مع الأزمات المعيشية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store