logo
الحنين والهوية: كيف تصبح الأغاني والذكريات وطنا بديلا

الحنين والهوية: كيف تصبح الأغاني والذكريات وطنا بديلا

التغيير٠٧-٠٥-٢٠٢٥

الحنين والهوية: كيف تصبح الأغاني والذكريات وطنا بديلا
في زمن الحرب والشتات، تصبح الأغنية بيتًا مؤقتًا، وتغدو الذكريات وطنًا يُحمل في القلب. فهل الحنين عائق، أم بوابة لبناء واقع جديد؟
قالت الكاتبة والفنانة والأكاديمية السودانية، التي تعيش في بلد آخر، باستغراب: لماذا السودانيون يبكون على ماضٍ يمتد إلى سبعة عقود وأكثر ، بينما نحن بالكاد نلتفت إلى ما مضى عليه عقدان؟ كانت دهشتها صادقة، وسألت بتعجب: لماذا نحن نغرق في الذكريات؟ لماذا هذا الحنين الذي لا يفارقنا؟
أعتقد أن الإجابة تكمن في الفرق الكبير بين من يملك تاريخاً ضارباً في القدم، وبين من لا يزال يصنع بدايات تاريخه المعاصر. لا نغرق في الحكايات لأننا عالقون في الماضي، بل لأننا أبناء ذاكرة عميقة يعيش تاريخها فينا. ما عشناه وما بناه الأوائل لم يكن حدثًا عابرًا، بل هو أساس هويتنا وسودانيتنا.
في السودان، كل أغنية قديمة، وكل مشهد يجسد طيبة ينبض فينا شيء يعيد الحياة إلى أرواحنا. الحنين ليس ترفًا، بل وسيلة للمقاومة والانتماء في واقع تمزقه الأزمات.لكنه في ذات الوقت ليس مجرد عاطفة، بل استجابة واقعية لفشل الحاضر وضبابية المستقبل، في ظل الحرب وفشل الدولة المستمر منذ الاستقلال. أنظمة شمولية فاسدة أنتجت فقراً وحروباً وتشظياً، انتهت بانفصال جزء عزيز من الوطن. واستمرت الحروب التي تُصنع على يد الأنظمة نفسها، لتسهيل نهب الثروات وإضعاف البلاد لصالح فئة قليلة.وحين فاض الكيل، خرجت الملايين في أعظم ثورة أعادت الأمل. ثورة الأجيال الشابة الواعية والجسورة التي صنعت ضوءًا في عتمة الفشل، واكتسبت احترام العالم. لكن القوى الشمولية من عسكر ومدنيين تكالبت لإجهاض التغيير، فبلغنا الحرب الشريرة التي تلتهم الماضي والحاضر، وتهدد بجعل المستقبل أكثر ظلامًا.
النوستالجيا – أو الحنين – هي رد فعل طبيعي لفقدان الأمان والاستقرار. نهرب من الحاضر إلى الماضي لأن الحاضر لا يقدم لنا بديلاً مقنعاً. وهذا أمر مفهوم. لكن الخطورة أن يغدو الحنين حاجزًا يمنعنا من رؤية حاضرنا أو السعي لبناء مستقبل أفضل.
ولا يمكن الحديث عن النوستالجيا بمعزل عن فشل الحاضر. فجزء التمسك بالماضي ينبع من إخفاقات حكم ما بعد الاستقلال، بدءًا من الانقلابات العسكرية، مرورًا بغياب المؤسسات، وتسييس الهوية، وصولًا للحرب اللعينة التي لا تزال تلعب دورًا قاتلاً في واقعنا. عقود من الحكم الفاشل حولت السودان من بلد واعد إلى دولة تعاني الحروب والفشل وسوء الإدارة.
ومع ذلك، لا يعود الزمن الجميل بالأغاني فقط. نحتاج إلى فعل، إلى شباب يؤمنون بقدرتهم على التغيير، يصنعون حاضرًا يليق بالكرامة، ومجتمعًا لا يُدار بالعنف أو الفشل، بل بالمؤسسات والعدالة والحرية.
حين يلتقي الحنين بالفعل، يولد مشروع حياة. تصبح الذكريات وقودًا لا قيدًا. نستمد من الماضي ما يُلهم، لا ما يُعيق. وهنا يبدأ التغيير الحقيقي.
في السودان، الأغاني القديمة ليست فقط موسيقى، بل وثائق هوية. هي حكايات البيوت، ودفء الحنين، وأصوات الذاكرة. وسيلة للانتماء، حتى لمن عاش بعيدًا عن الوطن.
الحنين للماضي ليس عابرًا. إنه أسلوب حياة للكثير من السودانيين. لكنه يصبح خطرًا حين يمنعنا من رؤية الحاضر، أو يسجننا في انتظار ماضٍ لا يعود. نلجأ إليه لأن الحاضر لا يقدم بديلاً مقنعًا. الحنين رد فعل لفقدان الأمان، لكنه لا يجب أن يكون عذرًا للجمود.
الانتماء ليس مكانًا بل فعل. هل من لم يعش في السودان ينتمي؟ نعم، إن أحب السودان، وفكر فيه، وشارك همومه، ودافع عن كرامة إنسانه وحقه في الحياة، فهو منتمٍ بحق. الأغنية تذكرنا، لكن الفعل هو ما يصنع الوطن.
اما تجربتي الشخصية فهي احدي وجوه هذا الواقع المؤلم. كالملايين، أجبرتني الحرب على ترك بيتي وإنهاء حياتي كما عرفتها مغادرًا أمام الموت، تاركًا خلفي كل شيء: عملي، مكتبتي، لوحاتي، وألبومات صوري. ، ونهبت الحرب ذاكرتي فقد عبث المحتلون ببيتي لعام ونصف بكل شيء: تكسيرا ونهبا، بعثرة وحرقا للكتب والصور واللوحات. حتى الكهرباء نُزعت أسلاكها، والمطابخ أُفرغت من كل شيء ، وخزانات المياه انتُزعت. أعيش الأسي والحزن على الذكريات والذاكرة التي سرقتها الحرب و تلاشت بين أنقاض الخراب في انتظار انتهاء الحرب اللعينة والعودة التي لا أراها قريبة وأعاني مغتربا عن البيت والوطن قسوة التشتت والانتظار والحنين أسمع أغنية تعيدني إلى السودان، يعود معي مشهد القتال، الحرق، والتدمير الذي يسد أفق الإعلام مما يثقل القلب ، لكنه في الوقت نفسه يولد في داخلي أملًا لا يخبو بأن أعود واعمر حياة جديدة من بين براثن الظلام وطنا يستحق أن يُغنى له ، هذه ليست مجرد أحداث شخصية، بل بوصلة توضح لنا كيف يرتبط الحنين بالمأساة ومع ذلك يولد قوة الإصرار.
كل هذا الخراب لاحقني في صحوي ومنامي. ومع ذلك، هناك أغنية تعيدني إلى بلدي، تمنحني أملًا بالعودة. هذه ليست قصة فردية، بل بوصلة توضح كيف يولد الإصرار من رحم المأساة.
رغم الحرب والدمار، يبقى الأمل شعلة لا تنطفئ. تستمد أجيالنا قوتها من جذورنا، ومن إرادة شعب لا يرضى بالهزيمة.
وفي النهاية، لا يُعاد الزمن الجميل بترديد الأغاني أو استحضار الماضي فقط، بل بصنع واقع جديد نعتز به. المستقبل ينادي شبابنا لأن يكونوا صناع التغيير، يؤمنون بقدراتهم، يعملون من أجل مؤسسات ومجتمع يليق بآمال الأجيال، ووطن يحفظ كرامة أهله ويحتضن أحلامهم.
المستقبل ينادي شبابنا لأن يكونوا صناع التغيير، يؤمنون بقدراتهم، يعملون من أجل مؤسسات ومجتمع يليق بآمال الأجيال، ووطن يحفظ كرامة أهله ويحتضن أحلامهم. لهذا، لا نستنشق الماضي الجميل هروبًا، بل نستلهمه كمصدر إلهام لبناء مستقبل مختلف. لنعلّم أبناءنا الانتماء والإخلاص ، ونزرع فيهم قيم الصدق و العدل والحرية، ليقودونا إلى وطن جديد. وطن ترفرف فيه رايات السلام، وتنبض فيه الحياة. وطن يبنيه شباب يعرفون أن الحلم لا يكفي، بل يجب أن يتحوّل إلى فعل.
هذا هو السودان الذي نحلم به: وطن الحنين، والهوية، ووعد المستقبل الذي لن ينكسر. وحين يلتقي الحنين بالعمل، وننسج من هذا اللقاء خيوط الأمل، يصبح الحاضر أرضًا للنماء، ليشرق السودان من جديد

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الحنين والهوية: كيف تصبح الأغاني والذكريات وطنا بديلا
الحنين والهوية: كيف تصبح الأغاني والذكريات وطنا بديلا

التغيير

time٠٧-٠٥-٢٠٢٥

  • التغيير

الحنين والهوية: كيف تصبح الأغاني والذكريات وطنا بديلا

الحنين والهوية: كيف تصبح الأغاني والذكريات وطنا بديلا في زمن الحرب والشتات، تصبح الأغنية بيتًا مؤقتًا، وتغدو الذكريات وطنًا يُحمل في القلب. فهل الحنين عائق، أم بوابة لبناء واقع جديد؟ قالت الكاتبة والفنانة والأكاديمية السودانية، التي تعيش في بلد آخر، باستغراب: لماذا السودانيون يبكون على ماضٍ يمتد إلى سبعة عقود وأكثر ، بينما نحن بالكاد نلتفت إلى ما مضى عليه عقدان؟ كانت دهشتها صادقة، وسألت بتعجب: لماذا نحن نغرق في الذكريات؟ لماذا هذا الحنين الذي لا يفارقنا؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في الفرق الكبير بين من يملك تاريخاً ضارباً في القدم، وبين من لا يزال يصنع بدايات تاريخه المعاصر. لا نغرق في الحكايات لأننا عالقون في الماضي، بل لأننا أبناء ذاكرة عميقة يعيش تاريخها فينا. ما عشناه وما بناه الأوائل لم يكن حدثًا عابرًا، بل هو أساس هويتنا وسودانيتنا. في السودان، كل أغنية قديمة، وكل مشهد يجسد طيبة ينبض فينا شيء يعيد الحياة إلى أرواحنا. الحنين ليس ترفًا، بل وسيلة للمقاومة والانتماء في واقع تمزقه الأزمات.لكنه في ذات الوقت ليس مجرد عاطفة، بل استجابة واقعية لفشل الحاضر وضبابية المستقبل، في ظل الحرب وفشل الدولة المستمر منذ الاستقلال. أنظمة شمولية فاسدة أنتجت فقراً وحروباً وتشظياً، انتهت بانفصال جزء عزيز من الوطن. واستمرت الحروب التي تُصنع على يد الأنظمة نفسها، لتسهيل نهب الثروات وإضعاف البلاد لصالح فئة قليلة.وحين فاض الكيل، خرجت الملايين في أعظم ثورة أعادت الأمل. ثورة الأجيال الشابة الواعية والجسورة التي صنعت ضوءًا في عتمة الفشل، واكتسبت احترام العالم. لكن القوى الشمولية من عسكر ومدنيين تكالبت لإجهاض التغيير، فبلغنا الحرب الشريرة التي تلتهم الماضي والحاضر، وتهدد بجعل المستقبل أكثر ظلامًا. النوستالجيا – أو الحنين – هي رد فعل طبيعي لفقدان الأمان والاستقرار. نهرب من الحاضر إلى الماضي لأن الحاضر لا يقدم لنا بديلاً مقنعاً. وهذا أمر مفهوم. لكن الخطورة أن يغدو الحنين حاجزًا يمنعنا من رؤية حاضرنا أو السعي لبناء مستقبل أفضل. ولا يمكن الحديث عن النوستالجيا بمعزل عن فشل الحاضر. فجزء التمسك بالماضي ينبع من إخفاقات حكم ما بعد الاستقلال، بدءًا من الانقلابات العسكرية، مرورًا بغياب المؤسسات، وتسييس الهوية، وصولًا للحرب اللعينة التي لا تزال تلعب دورًا قاتلاً في واقعنا. عقود من الحكم الفاشل حولت السودان من بلد واعد إلى دولة تعاني الحروب والفشل وسوء الإدارة. ومع ذلك، لا يعود الزمن الجميل بالأغاني فقط. نحتاج إلى فعل، إلى شباب يؤمنون بقدرتهم على التغيير، يصنعون حاضرًا يليق بالكرامة، ومجتمعًا لا يُدار بالعنف أو الفشل، بل بالمؤسسات والعدالة والحرية. حين يلتقي الحنين بالفعل، يولد مشروع حياة. تصبح الذكريات وقودًا لا قيدًا. نستمد من الماضي ما يُلهم، لا ما يُعيق. وهنا يبدأ التغيير الحقيقي. في السودان، الأغاني القديمة ليست فقط موسيقى، بل وثائق هوية. هي حكايات البيوت، ودفء الحنين، وأصوات الذاكرة. وسيلة للانتماء، حتى لمن عاش بعيدًا عن الوطن. الحنين للماضي ليس عابرًا. إنه أسلوب حياة للكثير من السودانيين. لكنه يصبح خطرًا حين يمنعنا من رؤية الحاضر، أو يسجننا في انتظار ماضٍ لا يعود. نلجأ إليه لأن الحاضر لا يقدم بديلاً مقنعًا. الحنين رد فعل لفقدان الأمان، لكنه لا يجب أن يكون عذرًا للجمود. الانتماء ليس مكانًا بل فعل. هل من لم يعش في السودان ينتمي؟ نعم، إن أحب السودان، وفكر فيه، وشارك همومه، ودافع عن كرامة إنسانه وحقه في الحياة، فهو منتمٍ بحق. الأغنية تذكرنا، لكن الفعل هو ما يصنع الوطن. اما تجربتي الشخصية فهي احدي وجوه هذا الواقع المؤلم. كالملايين، أجبرتني الحرب على ترك بيتي وإنهاء حياتي كما عرفتها مغادرًا أمام الموت، تاركًا خلفي كل شيء: عملي، مكتبتي، لوحاتي، وألبومات صوري. ، ونهبت الحرب ذاكرتي فقد عبث المحتلون ببيتي لعام ونصف بكل شيء: تكسيرا ونهبا، بعثرة وحرقا للكتب والصور واللوحات. حتى الكهرباء نُزعت أسلاكها، والمطابخ أُفرغت من كل شيء ، وخزانات المياه انتُزعت. أعيش الأسي والحزن على الذكريات والذاكرة التي سرقتها الحرب و تلاشت بين أنقاض الخراب في انتظار انتهاء الحرب اللعينة والعودة التي لا أراها قريبة وأعاني مغتربا عن البيت والوطن قسوة التشتت والانتظار والحنين أسمع أغنية تعيدني إلى السودان، يعود معي مشهد القتال، الحرق، والتدمير الذي يسد أفق الإعلام مما يثقل القلب ، لكنه في الوقت نفسه يولد في داخلي أملًا لا يخبو بأن أعود واعمر حياة جديدة من بين براثن الظلام وطنا يستحق أن يُغنى له ، هذه ليست مجرد أحداث شخصية، بل بوصلة توضح لنا كيف يرتبط الحنين بالمأساة ومع ذلك يولد قوة الإصرار. كل هذا الخراب لاحقني في صحوي ومنامي. ومع ذلك، هناك أغنية تعيدني إلى بلدي، تمنحني أملًا بالعودة. هذه ليست قصة فردية، بل بوصلة توضح كيف يولد الإصرار من رحم المأساة. رغم الحرب والدمار، يبقى الأمل شعلة لا تنطفئ. تستمد أجيالنا قوتها من جذورنا، ومن إرادة شعب لا يرضى بالهزيمة. وفي النهاية، لا يُعاد الزمن الجميل بترديد الأغاني أو استحضار الماضي فقط، بل بصنع واقع جديد نعتز به. المستقبل ينادي شبابنا لأن يكونوا صناع التغيير، يؤمنون بقدراتهم، يعملون من أجل مؤسسات ومجتمع يليق بآمال الأجيال، ووطن يحفظ كرامة أهله ويحتضن أحلامهم. المستقبل ينادي شبابنا لأن يكونوا صناع التغيير، يؤمنون بقدراتهم، يعملون من أجل مؤسسات ومجتمع يليق بآمال الأجيال، ووطن يحفظ كرامة أهله ويحتضن أحلامهم. لهذا، لا نستنشق الماضي الجميل هروبًا، بل نستلهمه كمصدر إلهام لبناء مستقبل مختلف. لنعلّم أبناءنا الانتماء والإخلاص ، ونزرع فيهم قيم الصدق و العدل والحرية، ليقودونا إلى وطن جديد. وطن ترفرف فيه رايات السلام، وتنبض فيه الحياة. وطن يبنيه شباب يعرفون أن الحلم لا يكفي، بل يجب أن يتحوّل إلى فعل. هذا هو السودان الذي نحلم به: وطن الحنين، والهوية، ووعد المستقبل الذي لن ينكسر. وحين يلتقي الحنين بالعمل، وننسج من هذا اللقاء خيوط الأمل، يصبح الحاضر أرضًا للنماء، ليشرق السودان من جديد

النوستالجيا.. غزة... طولكرم... جنين
النوستالجيا.. غزة... طولكرم... جنين

وكالة خبر

time٠٣-٠٥-٢٠٢٥

  • وكالة خبر

النوستالجيا.. غزة... طولكرم... جنين

في السياق الفلسطيني، ليست النوستالجيا ترفا عاطفيا أو مجرّد مشاعر وجدانية عابرة، بل هي أحد أهم المفاتيح لفهم الذات الجمعية لشعب ما زال يرزح تحت ثقل الاحتلال، ويكافح من أجل البقاء، ويتنقل بين المنافي والمخيمات والشتات. الحنين إلى الماضي، في التجربة الفلسطينية، لا يرتبط فقط بطفولة شخصية أو مشهد عائلي، بل هو حنين إلى الوطن، إلى البيت الذي هُدم، إلى الزاوية التي اختبأت فيها الجدة من القصف، إلى المدرسة التي أصبحت ثكنة عسكرية، وإلى البرتقال الذي كان يعبق في يافا ولم يعد. في غزة، لا تعني الحياة مجرد النجاة من القصف، بل الحفاظ على جوهر إنساني وسط الركام. حين تتوقف الكهرباء وتعمّ العتمة، لا يختفي النور، بل يخرج من أعماق الذاكرة. يتذكّر الغزيون البحر حين كان يعني نزهة للعائلات لا مقبرة للغرقى، والمدارس حين كانت تعلّم الطموح لا النجاة. وفي مخيمات غزة، التي كانت ذات يوم عناوين للنكبة الأولى، باتت، اليوم، رموزا للنكبة المتجددة. مخيم الشاطئ، المغازي، جباليا، النصيرات، رفح، والبريج، ليست مجرد أسماء، بل فضاءات مكتظة بالحياة والصبر. سكانها يتذكرون تفاصيل حياتهم حين كانت الأزقة تُنظَّف بالأيادي، والملابس تُنشر على الحبال، والمناسبات تُحيى على السطوح. اليوم، يعيش هؤلاء بين فقدٍ متكرر وأمل لا يموت. في كل ركن من هذه المخيمات، تسكن ذاكرة مشبعة بالحياة، رغم الموت الذي يمر من كل بيت. وفي جنين، المخيم الذي صار رمزا عالميا للصمود، تتداخل في ذاكرة الناس صور الحاضر والماضي. زقاق المخيم، التي كانت تعجّ بالأطفال ونداءات الباعة، تحولت، اليوم، إلى مسارح اقتحام واشتباك. مخيم جنين تحديدا ليس فقط بؤرة توتر، بل بؤرة ذاكرة. هنا يُصنع التاريخ الشعبي الفلسطيني من لحم ودم، ومن سرديات الجدات عن قرى مهجّرة وأبطال مجهولين. الناس يتداولون أسماء الشهداء كما لو كانوا أبطال روايات، ويقصّون على أطفالهم حكايات عن أيام الحصار في 2002، واللحظات التي واجه فيها المخيم جيشا مدججا بالكرامة. المخيم هنا ليس عبئا على المدينة، بل قلبها النابض. الحنين في جنين ليس عاطفيا فقط، بل مسيّس، مقاوم، ومتجذر. أما طولكرم، المدينة التي تتكئ على سفوح الجبال وتنظر غربا إلى البحر الممنوع، فهي تعيش على إيقاع الانتظار. طولكرم تُدمَّر مثل غزة، تُجتاح مثل جنين، لكنها تنزف صمتا. وإلى جوارها، يقف مخيم طولكرم شاهدا صامتا على هشاشة الجغرافيا وصلابة البشر. هذا المخيم الصغير في مساحته، الكبير في رمزيته، كان ملاذا للفلسطيني الذي خسر قريته لكنه لم يخسر ذاكرته. الحنين في المخيم ليس للمكان القديم فحسب، بل للمخيم ذاته حين كان أكثر بساطة، أكثر دفئا، أقل كاميرات وأكثر أغاني. هناك أيضا مخيم نور شمس، الذي كان يعرف بأزقته الضيقة التي تفوح منها رائحة الخبز والزيت، واليوم، يعرف باقتحاماته الدامية. لكن حتى في ظل الدمار، تُروى الحكايات: عن الأعراس التي كانت تقام على صوت العتابا، عن الشهداء الذين رحلوا وهم يحلمون، وعن أطفال ما زالوا يلعبون كرة القدم في الشوارع المهدّمة. الحنين، إذاً، ليس عاطفة سلبية. في فلسطين، هو شكل من أشكال الصمود. هو الاحتفاظ بالأصل وسط التزوير، بالجوهر وسط التشويه، وبالكرامة وسط المحو. حين تفقد المدن والمخيمات ملامحها بفعل القصف أو الاجتياح أو الإهمال، يبقى الحنين مرآة تقول للفلسطيني، أنت لست نكرة، أنت ابن مكان له اسم، وله نكهة، وله سردية. في غزة وجنين وطولكرم، ومعها مخيماتها، يتقاطع الحنين مع الحاضر، لا ليجعلنا نتحسر، بل لنذكّر أنفسنا أن ما نعيشه ليس طبيعيا، وأن ما ننتظره ليس مستحيلا. النوستالجيا هنا ليست هروبا من الوجع، بل احتضان له وتذكير دائما بأن لنا ما يستحق الحياة. تُصبح النوستالجيا، في حالتنا، أكثر من حالة وجدانية، إنها فعل مقاومة للزمن والطمس. ولأن الفلسطيني يعيش في حاضر دائم التشظي، فإن الماضي لا يغدو مجرد ذكرى، بل هو مرجع أخلاقي وسياسي وثقافي. كل أغنية من زمن ما قبل النكبة، كل صورة لمدينة قبل الاحتلال، كل اسم شارع تغيّر قسرا، كل تفصيل صغير من حياة قبل التشريد، يتحول إلى وثيقة إثبات، إلى جدار معنوي يصمد أمام محاولات الإنكار والإلغاء. ولعلّ ما يجعل النوستالجيا الفلسطينية فريدة، هو تزامنها الدائم مع الحاضر المتفجر، ومع مستقبل مفتوح على الاحتمالات، لكنها تظل مصدر أمل. إن استعادة مشهد الطفولة في القدس، أو رائحة الخبز في نابلس، أو صوت المؤذن في مسجد قديم بغزة، لا تُعدّ فقط طقوسا للذكرى، بل وسيلة لترميم الذات، والحفاظ على ما تبقى من توازن نفسي في وجه الانهيار الجماعي. النوستالجيا ليست تأسيا على الماضي، بل هي دليل على أننا ما زلنا نمتلك الإحساس، والقدرة على الحب، والتمسك بما فقدناه كأنه ما زال حيا. إنها امتداد لحقنا، ووسيلتنا لترميم الأمل، ودافعنا للاستمرار. ففي عالم تحاول فيه قوى الطمس والنسيان أن تُحوّلنا إلى ظلال، يبقى الحنين ذاكرة مقاومة، وشعلة حياة.

النوستالجيا.. غزة... طولكرم... جنين
النوستالجيا.. غزة... طولكرم... جنين

جريدة الايام

time٠٣-٠٥-٢٠٢٥

  • جريدة الايام

النوستالجيا.. غزة... طولكرم... جنين

في السياق الفلسطيني، ليست النوستالجيا ترفا عاطفيا أو مجرّد مشاعر وجدانية عابرة، بل هي أحد أهم المفاتيح لفهم الذات الجمعية لشعب ما زال يرزح تحت ثقل الاحتلال، ويكافح من أجل البقاء، ويتنقل بين المنافي والمخيمات والشتات. الحنين إلى الماضي، في التجربة الفلسطينية، لا يرتبط فقط بطفولة شخصية أو مشهد عائلي، بل هو حنين إلى الوطن، إلى البيت الذي هُدم، إلى الزاوية التي اختبأت فيها الجدة من القصف، إلى المدرسة التي أصبحت ثكنة عسكرية، وإلى البرتقال الذي كان يعبق في يافا ولم يعد. في غزة، لا تعني الحياة مجرد النجاة من القصف، بل الحفاظ على جوهر إنساني وسط الركام. حين تتوقف الكهرباء وتعمّ العتمة، لا يختفي النور، بل يخرج من أعماق الذاكرة. يتذكّر الغزيون البحر حين كان يعني نزهة للعائلات لا مقبرة للغرقى، والمدارس حين كانت تعلّم الطموح لا النجاة. وفي مخيمات غزة، التي كانت ذات يوم عناوين للنكبة الأولى، باتت، اليوم، رموزا للنكبة المتجددة. مخيم الشاطئ، المغازي، جباليا، النصيرات، رفح، والبريج، ليست مجرد أسماء، بل فضاءات مكتظة بالحياة والصبر. سكانها يتذكرون تفاصيل حياتهم حين كانت الأزقة تُنظَّف بالأيادي، والملابس تُنشر على الحبال، والمناسبات تُحيى على السطوح. اليوم، يعيش هؤلاء بين فقدٍ متكرر وأمل لا يموت. في كل ركن من هذه المخيمات، تسكن ذاكرة مشبعة بالحياة، رغم الموت الذي يمر من كل بيت. وفي جنين، المخيم الذي صار رمزا عالميا للصمود، تتداخل في ذاكرة الناس صور الحاضر والماضي. زقاق المخيم، التي كانت تعجّ بالأطفال ونداءات الباعة، تحولت، اليوم، إلى مسارح اقتحام واشتباك. مخيم جنين تحديدا ليس فقط بؤرة توتر، بل بؤرة ذاكرة. هنا يُصنع التاريخ الشعبي الفلسطيني من لحم ودم، ومن سرديات الجدات عن قرى مهجّرة وأبطال مجهولين. الناس يتداولون أسماء الشهداء كما لو كانوا أبطال روايات، ويقصّون على أطفالهم حكايات عن أيام الحصار في 2002، واللحظات التي واجه فيها المخيم جيشا مدججا بالكرامة. المخيم هنا ليس عبئا على المدينة، بل قلبها النابض. الحنين في جنين ليس عاطفيا فقط، بل مسيّس، مقاوم، ومتجذر. أما طولكرم، المدينة التي تتكئ على سفوح الجبال وتنظر غربا إلى البحر الممنوع، فهي تعيش على إيقاع الانتظار. طولكرم تُدمَّر مثل غزة، تُجتاح مثل جنين، لكنها تنزف صمتا. وإلى جوارها، يقف مخيم طولكرم شاهدا صامتا على هشاشة الجغرافيا وصلابة البشر. هذا المخيم الصغير في مساحته، الكبير في رمزيته، كان ملاذا للفلسطيني الذي خسر قريته لكنه لم يخسر ذاكرته. الحنين في المخيم ليس للمكان القديم فحسب، بل للمخيم ذاته حين كان أكثر بساطة، أكثر دفئا، أقل كاميرات وأكثر أغاني. هناك أيضا مخيم نور شمس، الذي كان يعرف بأزقته الضيقة التي تفوح منها رائحة الخبز والزيت، واليوم، يعرف باقتحاماته الدامية. لكن حتى في ظل الدمار، تُروى الحكايات: عن الأعراس التي كانت تقام على صوت العتابا، عن الشهداء الذين رحلوا وهم يحلمون، وعن أطفال ما زالوا يلعبون كرة القدم في الشوارع المهدّمة. الحنين، إذاً، ليس عاطفة سلبية. في فلسطين، هو شكل من أشكال الصمود. هو الاحتفاظ بالأصل وسط التزوير، بالجوهر وسط التشويه، وبالكرامة وسط المحو. حين تفقد المدن والمخيمات ملامحها بفعل القصف أو الاجتياح أو الإهمال، يبقى الحنين مرآة تقول للفلسطيني، أنت لست نكرة، أنت ابن مكان له اسم، وله نكهة، وله سردية. في غزة وجنين وطولكرم، ومعها مخيماتها، يتقاطع الحنين مع الحاضر، لا ليجعلنا نتحسر، بل لنذكّر أنفسنا أن ما نعيشه ليس طبيعيا، وأن ما ننتظره ليس مستحيلا. النوستالجيا هنا ليست هروبا من الوجع، بل احتضان له وتذكير دائما بأن لنا ما يستحق الحياة. تُصبح النوستالجيا، في حالتنا، أكثر من حالة وجدانية، إنها فعل مقاومة للزمن والطمس. ولأن الفلسطيني يعيش في حاضر دائم التشظي، فإن الماضي لا يغدو مجرد ذكرى، بل هو مرجع أخلاقي وسياسي وثقافي. كل أغنية من زمن ما قبل النكبة، كل صورة لمدينة قبل الاحتلال، كل اسم شارع تغيّر قسرا، كل تفصيل صغير من حياة قبل التشريد، يتحول إلى وثيقة إثبات، إلى جدار معنوي يصمد أمام محاولات الإنكار والإلغاء. ولعلّ ما يجعل النوستالجيا الفلسطينية فريدة، هو تزامنها الدائم مع الحاضر المتفجر، ومع مستقبل مفتوح على الاحتمالات، لكنها تظل مصدر أمل. إن استعادة مشهد الطفولة في القدس، أو رائحة الخبز في نابلس، أو صوت المؤذن في مسجد قديم بغزة، لا تُعدّ فقط طقوسا للذكرى، بل وسيلة لترميم الذات، والحفاظ على ما تبقى من توازن نفسي في وجه الانهيار الجماعي. النوستالجيا ليست تأسيا على الماضي، بل هي دليل على أننا ما زلنا نمتلك الإحساس، والقدرة على الحب، والتمسك بما فقدناه كأنه ما زال حيا. إنها امتداد لحقنا، ووسيلتنا لترميم الأمل، ودافعنا للاستمرار. ففي عالم تحاول فيه قوى الطمس والنسيان أن تُحوّلنا إلى ظلال، يبقى الحنين ذاكرة مقاومة، وشعلة حياة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store