logo
أخطر الصفحات السرية من تاريخ مصر!

أخطر الصفحات السرية من تاريخ مصر!

الدستورمنذ 5 أيام

(1)
لم يحدث التاريخ لكى نضعه فى غرف سرية مغلقة. وفى دولة كبرى مثل مصر، هناك صفحاتٌ من التاريخ يجب أن يتم تعليقها تمائم وأحجبة فى رقاب أهل مصر حتى لا ينسوا. وإذا كانت قراءة تاريخ مصر فضيلة مستحبة لعموم المصريين، فإن قراءة صفحاتٍ بعينها منه وتعلمها وإدراك ما بها هو مما يجب أن يكون واجبا حتميا لكل من يتبوأ منصبا فى مصر – من مهنة المعلم وصولا لأعلى درجات السلم الوظيفى فى مصر- منذ وقوع أحداث تلك الصفحات وحتى تقوم قيامة الأرض. بل ويجب أن يكون اجتيازً دوراتٍ تثقيفية لدراسة تلك الصفحات شرطا لا يتم التنازل عنه من صلاحيات هؤلاء الذين خصصتُهم بالذكر لشغل ما يشغلونه من مواقع. فبدونها يصبح بعضُهم كمن يثقل كاهله بقربة ماء ضخمة يعتقد أنه يصنع خيرا بسقاية أهله وهو لا يرى تلك الثقوب الواسعة التى تمزق قربته!
هى صفحاتٌ أصبحت - بفعل عوامل كثيرة - أشبه بالصفحات السرية رغم أنها متاحة مباحة للجميع بين دفاف الموسوعات التاريخية. من عوامل نقلها من خانة العلن إلى الغرف المغلقة أنها لم تترك خلفها إرثا معماريا ضخما يطوف حوله العاشقون. حتى دارسى التاريخ والمشتغلين به لم يتوقفوا أمامها طويلا. فهؤلاء يقفزون فى حديثهم واهتماماتهم من انهيار مصر أواخر الدولة الحديثة حوالى منتصف القرن الحادى عشر قبل الميلاد مباشرة إلى عام 332ق.م حين غزا الإسكندرُ مصر، وكأن مصر فى القرون بين هذين التاريخين كانت خاوية على عروشها لا يسكنها بشرٌ ولم تحدث بها حوادثٌ جلل!
وبعض المنصفين منهم يقتطعون حدثا من هنا أو من هناك، لكننى أزعم أن غالبيتنا لم نتوقف أمام أهم وأخطر صفحات تاريخ مصر، والتى يمكنها أن تكون - لمن يدرك مدى خطورة ما حدث بها - شعاعا من نور يقيه ويقى مصر شر السقوط فى نفس الفخاخ. والتى يمكنها أيضا أن تكون - لمن يتجاهلها أو يجهلها - لعنة كبرى وكأنها تنتقم لنفسها من هذا التجاهل. هذه الفترة تحمل كل أسرار القرون التالية، وهى التى صاغت تاريخ مصر لأكثر من عشرين قرنا آتية ووجهت ذلك التاريخ إلى ما آل إليه ونعرفه جميعا من استبعاد المصريين من حكم بلادهم طوال هذه القرون العشرين!
(2)
لقد كانت مصر طوال تاريخها المكتوب مستهدفة من الجيران والأصدقاء سواء بسواء مع الأعداء. مستهدفة لموقعها الجغرافى، ولما قام به أبناؤها من حضارة على ضفاف النيل، ويمكن تلخيص أسباب الاستهداف بعبارة عبقرية لمرشدة سياحية مصرية (باصينلنا فى العيشة من قديم الزمن!) نعم يستكثرون على مصر ما حباها به الله، وما أنجزه شعبها فى فجر تاريخهم، ويحسدونها على موقعها الجغرافى. ثم لما أقام المصريون حضارتهم ورزقهم الله خيرا كثيرا بعد قرونٍ من الجهد الشاق والعمل الدؤوب، تحول استكثار المنحة الإلهية وتحول حسدهم لمصر عليها إلى طمع صريحٍ وشرٍ فى النفوس وغلٍ متوارث.
ثم تمت ترجمت كل هذا الشر النفسى والشره الجماعى فى الواقع إلى محاولاتٍ لم تتوقف لسرقة ما أنجزه المصريون بالعرق والدم، وذلك بالتخطيط المنظم عسكريا وسياسيا. وأيضا بإرسال الرسل والجواسيس فى صورة تجار، أو مجرد أفرادٍ عاديين باحثين عن عمل بأعدادٍ كبيرة يتجولون فى مصر من أدناها إلى أقصاها، ويسكنون فى القرى النائية، ويسجلون فى عقولهم أو كتابة كل ما يرون وكل ما تمتلكه مصر من قوة ونقاط ضعفٍ، ثم يعودون بعد أن يكون المصريون قد أكرموا وفادتهم ومنحوهم الأمان وخير التجارة. يعودون لمن أرسلوهم بكنوزٍ من الخيرات، وأيضا بكنوزٍ من المعلومات لكشف مصر من الداخل تفصيلا. تعاملت المملكة المصرية منذ فجر تاريخها مع هذه الأطماع والتهديدات العسكرية الصريحة بقوة، فأسست أقدم جيوش العالم المنظمة وأنشأت نقاط الحدود، وأسست لنفسها مجموعة قيم أخلاقية تحكم علاقاتها مع جيرانها فآثرت السلام والتبادل التجارى رغم قدرتها العسكرية على اجتياح جميع بلدان الجيران. لم تبخل عليهم أوقات محنهم التى لم تتوقف من ظروف معيشية صعبة، أو صراعات داخلية تلقى على حدود مصر بالباحثين عن الأمان والعيش، فعرفت مصر مبكرا جدا فكرة استضافة بعض أفراد الجيران فى تلك الظروف، ولدينا آلاف الوثائق التى تثبت هذا، حتى أن اليهود بعد السبى البابلى لم يجدوا غير أبواب مصر ليقصدوها. قوة المملكة المصرية خلق توازنا بين هذه المفردات، وبين الحفاظ على هوية مصر ومصالح شعبها.
(3)
ثم نصل إلى تاريخٍ أو حدثٍ فاصل لم تصبح مصرُ بعده أبدا كما كانت قبله. لم يكن هذا الحدث هو غزو عسكرى فقط، لأن مصر كانت قد تعرضت بالفعل قبله لغزوها من قبل الهكسوس لأول مرة فى تاريخها بعد انهيار الدولة الوسطى حوالى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وتجاوزت هذا الغزو، بل وجعلته نقطة إنطلاقٍ كبرى لتأسيس مملكتها الأعظم. لكن ذلك التاريخ أو الحدث الفاصل الذى أعنيه كان بعد ذلك بقرون طويلةٍ وتحديدا فى النصف الأول من القرن الثانى عشر قبل الميلاد، وذلك حين تعرضتْ فى عصر الملك العظيم رمسيس الثالث لأخطر وأضخم موجات غزو فى تاريخها وهو ما يعرف بموجات شعوب البحر. بدأت إرهاصات هذا الحدث قبل وصول الملك رمسيس الثالث للحكم وتقريبا فى عصر الملك مرنبتاح ابن الملك المعظم رمسيس الثانى فى نهايات القرن الثالث عشر قبل الميلاد. عشرات الآلاف من خليط من الأجناس قررت أن تستولى على مصر للأبد. الهجوم برا وبحرا. عمليات إنزال على الشواطىء الليبية والآلاف يجتاحون القبائل الليبية، وبعض تلك القبائل تتوافق معهم وتنضم للتحالف.. فيهاجمون معا حدود مصر الغربية عصر الملك مرنبتاح فيسحقهم ويحضر معه آلاف الأسرى إلى مصر. ويرتكب الخطأ الأول بأن يضعهم فيما يشبه المستعمرات الحربية لكى يجدوا بعد جيلين طريقهم للجيش المصرى كمرتزقة! لو انتهت القصة عند هذا الحد لما كان هناك خطرٌ داهم على عموم مصر.
لكن، وفى عصر رمسيس الثالث عاودت هذه الموجات محاولاتها بشكل أكثر شراسة وبأعداد أضخم. عشرات الآلاف يهاجمون مباشرة سواحل مصر شمالا، وآخرون يهاجمونها برا من الشرق..بخلاف الذين استوطنوا سابقا الأراضى الليبية واندمجوا مع قبائلها واندمجوا مع الأعداد الجديدة التى تم إنزالها فقاموا بمهاجمة مصر غربا بالتزامن مع الآخرين. ثلاث موجات عنيفة فى غضون أقل من عشر سنوات ستغير – مع مفردات أخرى ترتبت عليها – تاريخ مصر للأبد. نجح رمسيس الثالث عسكريا برا وبحرا فى صد الهجوم وأسر عشرات الآلاف ألقى بهم فى نفس المستعمرات الحربية التى أصبحت فى أكثر من موقع فى مصر. كان ذلك هو الظهور الأول للماليك فى مصر! أجانبٌ من شتى بقاع البلدان لا تربطهم بمصر رابطة أرض أو ديانة أو انتماء، بل جاءوا غزاة يملأ الطمع والشره نفوسهم تجاه مصر وأهلها. لقد ارتكب هذا الملك – رغم عظمة ما قام به – خطأ استراتيجيا سيكلف مصر بعده كثيرا جدا جدا!
أجيالٌ أخرى من نسل هؤلاء نشأوا نشأة عسكرية لا ولاء لهم إلا لمصالحهم، وجدوا طريقهم أيضا إلى الجيش المصرى كمرتزقة، وبدأوا فى التسلل للمناصب القيادية حتى أصبحوا بعد أقل من قرنٍ يتحكمون تقريبا فى جسد هذا الجيش. تزامن مع خطأ رمسيس الثالث ضعفُ مَن خلفوه فى الحكمُ، مع اشتداد وتغول قوة رجال الدين. وفى أقل من ثمانين عاما من وفاته قفز رجالُ الدين هؤلاء – ولأول مرة فى تاريخ مصر – إلى العرش ليكونوا أول أسرة ملكية مصرية من الكهنة. كان ذلك نهايات القرن الحادى عشر قبل الميلاد. أى أن هذا الملك العظيم ترك لخلفه الذين لم يكونوا على قدر قوته ما لم يستطيعوا مواجهته أو تغييره.
(4)
كان هذا هو المشهد فى مصر..انهيار السلطة السياسية المدنية، وسيطرةُ المؤسسة الدينية عليها بأن نصبت كاهنا لحكم مصر.. بدءُ سيطرة المماليك على الجيش المصرى ومناصبه الكبرى وقياداته. فقدت مصرُ مكانتها الدولية وأصبح مبعوثوها يُعامَلَون باستهانة شديدة وصلت لتعمد إهانتهم – وثيقة ون أمون – وانقسمت مصرُ مرة ثانية لشمالٍ وجنوب. دمر كهنة أمون يقينَ المصريين بوجود عدلٍ حقيقى، ودمروا ما أنجزته مصر فى مجال التحاكم القانونى، وأصبحت المحاكم لا قيمة لها، والكلمة العليا فى كل شكوى أصبحت هى ما يحكم به الإله والذى ينطق به الكاهن الأكبر باستلهام وحى أمون. متد نفوذ الكهنة إلى تعيين الموظفين بالرشاوى الصريحة لأول مرة فى تاريخ مصر. بدأ فى مصر انهيار ما شيده المصريون من حضارة مادية وقيمية.
بدأ كبار المرتزقة فى إثارة القلاقل فى مصر، والقيام بالنهب والسرقة وأثاروا الفوضى والإضطراب تماما كما نعرف عن سلوك مماليك العصور الوسطى. مع كل هذا، كان لا يزال هناك أملٌ فى استعادة المصريين لبلادهم وحضارتهم والعودة لعصور الإزدهار، لأن هناك الطرفُ الأهم وهو الشعب المصرى كان لا يزال متماسكا يقوم بزراعة أرضه ولم تتوقف أنشطته التجارية والصناعية حتى مع تدهور بعض مظاهرها. السلطة السياسية المدنية قد سقطت بتغول السلطة الدينية عليها. القوة الصلبة أو الجيش بدأ فى طريق التفكك وسيطرة المماليك عليه. لكن بقيت الأرض وبقى الشعب وهما نصف المعادلة وهما نصف الأساطين الأربعة التى قامت عليها الحضارة المصرية لأكثر من ألفى عامٍ قبل ذلك التاريخ.
لكن ما حدث أو بدأ فى الحدوث فى هذا التوقيت تحديدا سوف يقضى على هذا الأمل وسوف يلقى بمصر فيما آلتْ إليه. لم تكن هناك لا سلطة سياسية ولا جيش مصرى وطنى بمعناه السابق لحماية العنصرين الآخرين – الشعب والأرض – من العبث بهما. هذا هو التاريخ أو الحدث الفاصل الذى أشرتُ إليه، وهذا هو الحدث الحاسم الذى سيغير وجه تاريخ مصر، وهذا ما يجب أن نقرأه جميعا قراءة صحيحة وألا نستهين به.
ما حدث أن أبواب مصر قد أصبحت مفتوحة على مصارعها دون حامٍ أو ضابطٍ أمام عشرات الآلاف من المدنيين الأجانب – من غير المرتزقة العسكريين – من تجار وعاطلين باحثين عن الاستفادة من هذا المشهد الذى كان بعيد المنال أمام أسلافهم. فتح المرتزقة الأبوابَ لإدخال آلاف المرتزقة القادمين من جزر البحر المتوسط ومن اليونان. ولحق هؤلاء آلافٌ من بنى جلدتهم الذين كانت أقصى غايات أسلافهم هى أن يزوروا مصر فقط. فجأة وجدوا حدودَ مصر مباحة لهم فقدموا بحرا وبرا بأعداد بالغة الضخامة. بدأ هؤلاء فى استيطان أماكن بعينها بأعداد كبيرة مكونين ما يشبه مستعمراتٍ خاصة بهم تحت حماية المرتزقة.
لم ينتظر اليهود والسوريون طويلا، فاكتسحت أعدادٌ كبرى منهم أرضَ مصر. بدأت تتكون فى مصر مراكز قوى اقتصادية من كلٍ من اليهود والسوريين واليونانيين وباقى جزر البحر المتوسط. بدأوا فى محاولات السيطرة على تجارة القمح المصرية من التجار المصريين. تكدست الثروات فى أيديهم وفقد التجار المصريون مصادر تجارتهم لصالح التجار اليونانيين والسوريين واليهود. وحين نصل لبدايات القرن السادس قبل الميلاد، يكون التاريخ قد بدأ بالفعل فى دورته القاتمة فى مصر. الجيش المصرى أصبح جيشا غالبيته الفاعلة من المرتزقة، والاقتصاد المصرى أصبح بالفعل فى قبضة غير المصريين. مشهد غزو قمبيز لمصر سبقه فرارُ قائدٍ من المرتزقة اليونانيين من الجيش (المصرى) ولقائه بقمبيز وإطلاعه على تفاصيل استحكامات الثغور المصرية، بل وخطط معه لتفاصيل غزو مصر! وحين حدث الغزو ساعدتْ قبائلٌ على الحدود الشرقية الجيشَ الغازى بإبل محملة بقرب المياه. ثم فى المواجهة العسكرية انهزم وارتد جيشُ المرتزقة المسمى كذبا الجيش المصرى!
(5)
استمر ملوكُ مصر فى السقوط درجة بعد الأخرى، وحتى الذى حاول إعادة بعث المملكة – الملك بسماتيك منتصف القرن السادس قبل الميلاد – سقط مشروعه أو بالأحرى لم يستطع تغيير واقع جيش المرتزقة. بعد السبى البابلى وتدمير الهيكل اليهودى، تدفق آلاف اللاجئين اليهود لمصر، وبلغ الكرمُ المصرى وقتها أنْ تم منحهم قطعة أرض فى الدلتا لإقامة هيكل يهودى، وانتشرت الجالية اليهودية فى عموم مصر حتى وصلوا صعيدها وأقاموا فى إدفو وجزيرة إلفنتين بأسوان، ثم قاموا بعد ذلك بالتنكر للمصريين بالتعاون مع المستعمر الفارسى ضد المصريين وهذا ما وثقته وثائق أو برديات جزيرة إلفنتين!
ملكٌ اسمه (واح إيب رع) استنجد به الليبيون لينقذهم من تدفق المهاجرين اليونانيين، فخاف أن يرسل لهم جيش المرتزقة، وأرسل لهم بعض تشكيلاتٍ مصرية خالصة اتجهت للحدود الغربية. عرف المرتزقة اليونانيون فى الجيش المصرى فبعثوا لليونانيين فى ليبيا فأعدوا كمينا مشتركا للجيش المصرى وكادوا أن يبيدوه. الناجون من هذا الجيش المصرى عادوا وثاروا على الملك فتلاه ملكٌ آخر اسمه أحمس – وقطعا هو غير الملك العظيم أحمس - حاول استرضاء الجنود المصريين واحتواء غضب التجار المصريين وثورتهم ضد سيطرة الأجانب على التجارة.
لكن هذا الملك عجز تماما عن فعل أى شىء. عجز عن طرد التجار الأجانب. كما عجز عن إبعاد مرتزقة الجيش الذين أصبحوا بالفعل القوة الفاعلة المسيطرة، لكنهم كانوا لا يدينون بالولاء لمصر. اتخذ هذا الملك عدة إجراءات لتهدئة ثورة وغضب المصريين لكنها لم تفلح واستمر هذا الغضب. حاول بناء تحصينات جديدة بها جنود مصريون، وحاول بناء معابد جديدة لإرضاء المصريين، وأنشأ حامياتٍ ومناطق توطن فى مناطق جديدة وحاول تشجعة المصريين على الإقامة بها. لكن هذه المحاولات لم تنجح فى تغيير الواقع من وقوع الاقتصاد المصرى تحت سيطرة التجار الأجانب المقيمين فى مصر، وسقوط الجيش تحت سيطرة المرتزقة.
منذ ذلك التاريخ – بدء القرن الخامس قبل الميلاد – وحتى غزو الإسكندر لمصر عام 332 قبل الميلاد، كانت مصر تركض ركضا نحو مصيرها المظلم. لم يستسلم الشعب المصرى – كما يردد بعض الجاهلين بحقيقة ما حدث – أو يتقبل الخضوع للحكم الأجنبى أبدا. قام المصريون بثورات متلاحقة ضد كل محتلٍ طرق بابها فى هذه السنوات، وبعض تلك الثورات كانت قوية جدا ضد الفرس أطلق عليها الثورة الكبرى حوالى 410ق.م وبالتزامن مع هذه الثورات، كان المصريون يثورون ضد تغول وسيطرة المقيمين الأجانب على مفردات التجارة والاقتصاد والاستيلاء على الأراضى وعلى مناطق بعينها. حتى كان الغزو الأكبر حين غزا الإسكندر المقدونى مصر عام 332م لنفس الأسباب التى طمع بها كل الغزاة (الموقع الجغرافى – القمح – تجارة الورق – تفوق المصريين فى الصناعات مثل صناعة السفن وصناعة الأسلحة والمنسوجات والعلوم مثل علوم الطب والصيدلة والهندسة والعمارة).
(6)
قرارٌ خاطىءٌ واحدٌ وجه الضربة الأولى والأقوى لهدم ما شيدته مصر طوال قرونٍ سابقة. الجيش المصرى كان ركنا فاصلا حاسما فى حماية الأرض والشعب والحضارة، بل كان هو ذاته من منجزات الحضارة المصرية. الروح القومية المصرية التى تقدس الأرض كانت هى الركن الثانى الحامى لهذه الدولة العظمى والذى لم يقل فى قيمته وأهميته عن الركن الأول. فلم يتورط الجيش المصرى طوال تاريخه قبل تحوله لجيش مرتزقة فى أية مشاهد مشينة كمشاهد الخيانة التى أصبحت تتكرر حين تحول إلى جيشٍ من المرتزقة وكأنها مشهدا عاديا. ولم تعرف الخيانة طريقها لمفردات المصريين الذين كانوا يضعون تقديس مصر رأسا برأس مع معتقداتهم الدينية. القرار الخاطىء الأول كان ضرب هذا الجيش أو تفكيكه بالمرتزقة أو هدم الأساس القائم عليه كجيش مصرى خالص بفتح أبوابه للمرتزقة.
لو لم يحدث هذا لتغير تاريخ مصر كله. لنتخيل ذلك..هل كان سيستطيع الإسكندر احتلالها؟ وإن حدث – بصفته الجيش الأقوى وقتها – هل كان سيستمر هذا الاحتلال بعد موته وتمزيق دولته العظمى؟ بعد وفاته كان احتمالا قائما بقوة – لو كان الجيش المصرى ما زال قائما بنفس تكوينه الخالص – أن تسترد مصر استقلالها وتبدأ فترة تاريخية أخرى. ولو حدث هذا فقد كان واردا بقوة ألا تصبح مصر من ممتلكات الإمبراطورية الرومانية. وألا ينجح العرب فى غزوها! التاريخ كما حدث هو مصيرٌ مكتوب ولا شك، لكن عدم بحث أسباب حدوثه ليس قدرا ولا مصيرا وإنما تكاسلٌ مذموم يُعاقَب عليه مقترفوه!
لكننى أعتقد أن الحدث الذى كان أكثر تأثيرا بالسلب وأكثر خطأ والذى كان له الكلمة الفصل فى صياغة تاريخ مصر بعد ذلك هو دخول عشرات الآلاف – أو ربما مئات الألاف لأننا لا نملك حصرا للأعداد وقتها – من الأجانب وسيطرتهم على مفردات الأنشطة الاقتصادية فى مصر. ولقد بدأوا بأهم محصول وأهم تجارة وهى تجارة القمح، ثم تسللوا لباقى المفردات. لأن ذلك قد أضعف العنصر البشرى المصرى الذى كان يمكنه – لو ظل على تماسكه وقوته الاقتصادية – أن يتدخل فى لحظةٍ ما ضد وجود المرتزقة فى الجيش المصرى. وهنا فأنا لا أتحدث عن وهمٍ بل عن محاولاتٍ وقعت بالفعل حين ثار الجنود المصريون على الملك (واح إيب رع) فأرسل لهم أحد قواده الذى تحدثتُ عنه (أحمس) فشعر المصريون بأنه يمكنه أن يكون ذلك القائد المصرى الذى يصوب أوضاع مصر. فنصبوه ملكا بالفعل! وتجاوب مع تذمر المصريين – التجار منهم خاصة - ضد الوجود الأجنبى وحاول استرضائهم، لكنه عجز عن تغيير الأمر الواقع. فلو أن الأمر فى تلك اللحظة كان متعلقا فقط بقصة المرتزقة لكان من السهولة بمكان أن يتحد العسكريون المصريون الثائرون تحت قيادة هذا الملك مع جموع المصريين لطرد هؤلاء المرتزقة من مصر أو تجريدهم من نفوذهم بالتدريج، وقد فعلها بعد ذلك بقرون محمد على باشا فى القلعة!
أى لولا هذا – وجود تلك الأعداد الكبرى من الأجانب – لكان ممكنا للمصريين أن ينقضوا بالتعاون مع العناصر المصرية فى الجيش المصرى على قادة المرتزقة وأن يخوضوا معركة أو مواجهة مثل المواجهات الأقوى التى خاضوها بعد ذلك ضد الاحتلال الفارسى وهو الأكثر دموية.
ولن أقبل حديثَ أحدهم ناصحا أنْ لو تفتح عمل الشيطان! فلو هنا تفتح العقولَ المغلقة لفهم ما حدث فى مصر واستيعابه. فتمنى عدم غزوها عسكريا وتمنى احتفاظها بشخصيتها واستقلالها لا علاقة له بأديان. فالديانة فكرة، والأفكار لا تحتاج لجيوشٍ لنشرها!
(7)
بعضُ الأحداث فى التاريخ نتجاهلها أو نمر عليها مرورَ العابرين، لكنها فى الحقيقة هى السر الأكبر. هى الإجابة الموضوعية لسؤالٍ مهم طالما سمعناه، وهى الرد القاطع على فكرة كاذبة وقحة طالما رددها بعضُ الجهال بالتاريخ من المصريين، وتبناها رسميا ودعائيا أعداؤهم. كيف رضى المصريون بهذا الكم والتنوع والتعدد للمحتلين الأجانب؟ هذا هو السؤال، أما الأكذوبة فهى تلك العبارة الساخرة المهينة..أن المصريين شعب خانعٌ استمرأ الخضوع.
الحقيقة هى أن صيغة السؤال تقر شيئا وهميا كاذبا وكأنه حقيقة (رضاء المصريين بالحكم الأجنبى)، فالسؤال فاسدٌ تاريخيا. فالمصريون لم يرضوا أبدا بأن يحتل أرضَهم جيشٌ يتلوه آخر. لقد استغرق أمر إخضاع المصريين قسرا للحكم الأجنبى ما يقرب من ستة قرون كاملة..ستة قرون من المقاومة والثورات والتذمر والاضطراب ومحاولات العودة. هل استغرق إخضاعُ أى شعب فى العالم للاستعمار كل هذه القرون من الزمان غير الشعب المصرى؟!
لم يرض المصريون، وقاوموا، وتم تجريدهم من قوتهم العسكرية أولا رغما عنهم. ثم تم إضعافهم إقتصاديا وأيضا رغما عنهم بمزاحمة عشرات الآلاف من الأجانب لهم فى منافساتٍ تجارية غير عادلة أو شريفة، حيث كان هؤلاء الأجانب يتمتعون بما هو أقرب للامتيازات الأجنبية التى وفرتها لهم قواتُ المرتزقة التى أتت من نفس البلاد التى ينتمون إليها، فى حين كانت السلطة السياسية المصرية المدنية الحامية لحقوق المصريين قد سقطتْ، وقوتهم العسكرية كانت تتعرض لمحاولات الإقصاء المتعمدة فانكشف ظهر المصريون فى تلك المنافسات التجارية. أعتقد أن سيطرة هؤلاء على اقتصاد مصر وتجارتها وبعض أراضيها وازدياد أعدادهم وتضاعفها مراتٍ ومراتٍ هو ما أسقط مصر تاريخيا ووضعها فى هذا النفق المظلم من الحكم الأجنبى منذ عصر الإسكندر الأكبر وحتى وصول محمد نجيب للحكم. وأنا هنا لستُ فى معرض تقييم كل فترة تاريخية بين هذين التاريخين – الإسكندر الأكبر ومحمد نجيب – لكننى أتحدث عن أسباب سقوط مصر تحت نير الحكم الأجنبى بعد أن كانت القوة الأعظم فى العالم القديم. كما ذكرت وفصلتُ فأنا لا أعتقد أن المرتزقة كانوا كلمة السر الأهم فى هذا السقوط لما أوردته من أسباب، لكننى أقدم هذه القراءة لهذه الفترات المظلمة من تاريخ مصر لأننى أعتقد أنها ربما تكون قراءة جديدة لمن يقرأها.
وأقدمها الآن تحديدا - بعد أن قدمتها قبل ذلك بسنواتٍ ضمن رؤيتى الأشمل لقصة مصر وحضارتها وأسرار سقوطها خارج مدار الحضارة فى (الكتاب الأسود) – لأننى وبصراحة شديدة أدق بها ناقوس الخطر لعله يكون هناك من يسمع!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

رئيس البرلمان العربي يعزي مصر في استشهاد طاقم طائرة تدريب عسكرية نتيجة عطل فني
رئيس البرلمان العربي يعزي مصر في استشهاد طاقم طائرة تدريب عسكرية نتيجة عطل فني

النهار المصرية

timeمنذ 39 دقائق

  • النهار المصرية

رئيس البرلمان العربي يعزي مصر في استشهاد طاقم طائرة تدريب عسكرية نتيجة عطل فني

أعرب محمد بن أحمد اليماحي رئيس البرلمان العربي عن خالص التعازي وصادق المواساة لجمهورية مصر العربية قيادة وحكومة وبرلمانًا وشعبًا في استشهاد طاقم طائرة تدريب عسكرية تابعة للقوات الجوية المصرية أثناء تنفيذها نشاط تدريبي نتيجة عطل فني. وأكد اليماحي تضامن البرلمان العربي الكامل مع مصر في هذا الحادث الأليم، داعيًا الله أن يلهم أهالي الشهداء الصبر والسلوان .

صنعاء .. مسيرات راجلة ووقفات قبلية حاشدة دعما لغزة وإعلانًا للبراءة من الخونة
صنعاء .. مسيرات راجلة ووقفات قبلية حاشدة دعما لغزة وإعلانًا للبراءة من الخونة

يمرس

timeمنذ 40 دقائق

  • يمرس

صنعاء .. مسيرات راجلة ووقفات قبلية حاشدة دعما لغزة وإعلانًا للبراءة من الخونة

ورفع المشاركون في المسيرات والوقفات التي شهدتها عزل وادي الاجبار مديرية سنحان، وادي ضهر مديرية همدان ، متوح مديرية صعفان، الكبس مديرية الحصن، جبل اللوز مديرية الطيال، مسور مديرية جحانة ، مفحق ، بني محمد، بني منصور ،بني شمهان ، بني وليد ، يادع مديرية الحيمة الخارجية، رجام مديرية بني حشيش، و الوقشة مديرية نهم ، العلمين اليمني والفلسطيني، وشعار البراءة من أعداء الله . وأطلقوا الهتافات الغاضبة المنددة بالمجازر الصهيونية بحق أبناء غزة ، والمعبرة عن استنكارهم للمواقف العربية والإسلامية المخزية من تلك الجرائم والانتهاكات الإنسانية التي يرتكبها العدو الصهيوني بشكل يومي في قطاع غزة ، لافتين الى تزايد تلك الجرائم والانتهاكات عقب قمة الخزي والعار. كما أطلقوا الهتافات المعبرة عن الجهوزية القتالية والاستعداد الكامل لأي مواجهة أو تصعيد يستهدف الوطن وأمنه وسيادته واستقلاله. وأكدت الوقفات بحضور نائب رئيس مجلس الشورى وعدد من أعضاء مجلس الشورى ومديري المديريات ومسؤولي التعبئة العامة والشخصيات الاجتماعية ، الجهوزية الكاملة لمواجهة تصعيد العدو الصهيوني في غزة واليمن. ووقع المشاركون في الوقفات، على وثيقة الشرف القبلية ، معلنين البراءة من الخونة والعملاء وكل من يشارك أو يتخابر مع دول العدوان على الوطن، مؤكدين وجوب العقوبات المتعارف عليها في الوسط القبلي على الخونة والعملاء ، وإهدار دمهم وقطع الصحبة معهم. وطالب أبناء مديريات سنحان وصعفان وجحانة ونهم والحيمة الخارجية وبني حشيش والطيال والحصن وهمدان ، الجهات المعنية بتنفيذ قانون الخيانة العظمى وتطبيق الأحكام القانونية ضد الخونة والعملاء. وجددوا التأكيد على الوقوف إلى جانب القيادة الثورية والقوات المسلحة في نصرة الأقصى والانتصار للشهداء والدفاع عن الدين والأرض والعرض وخوض معركة" الفتح الموعود والجهاد المقدس" بكل إصرار وثبات . وثمنت البيانات الصادرة عن الوقفات ، مواقف قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي المشرفة في نصرة المستضعفين في غزة..منوهة بعمليات القوات المسلحة التي تستهدف عمق كيان العدوّ الصهيوني وتقض مضاجع اليهود المغتصبين . وحثت على استمرار التحشيد والتعبئة للالتحاق بالدورات العسكرية المفتوحة والتعبئة والتدريب والتأهيل ورفد مراكز التدريب بالمقاتلين استعدادًا للمواجهة المباشرة مع العدو الصهيوني، أو أي طارئ أو أي خيارات تتخذها القيادة الثورية في إطار "معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس" . وأكدت أن جرائم العدو الصهيوني على الوطن لن تخيف أهل الحكمة والإيمان بل تزيدهم عزيمة وإصرارًا وثباتًا على الموقف الإيماني والأخلاقي المساند للمظلومين في غزة. وجدّدت البيانات موقف قبائل محافظة صنعاء ، في إسناد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في مواجهة العدو، وتحصين الجبهة الداخلية، والبراءة من الخونة والعملاء الذين ارتموا في أحضان اليهود والنصارى ضد وطنهم وشعبهم، ورفع يد الحماية عنهم، معلنة الجهوزية الكاملة لخوض غمار معركة تحرير الأراضي المحتلة والتحدي للعدو الصهيوني وكل من شارك في العدوان على الوطن وارتكب الجرائم بحق الأشقاء في غزة.

د. أيمن رفعت المحجوب يكتب: خانة الهوية
د. أيمن رفعت المحجوب يكتب: خانة الهوية

الطريق

timeمنذ ساعة واحدة

  • الطريق

د. أيمن رفعت المحجوب يكتب: خانة الهوية

الثلاثاء، 20 مايو 2025 04:32 مـ بتوقيت القاهرة لا حظت تناقضا واضحا فى التحليل حول ما يقال محليا وغير محلى وتأكدت أن ما يقوله ابن البلد الوطنى الأصيل من كلمة تخالف هوى بعض أصحاب الصحف والقنوات التليفزيونية وبعض التيارات السياسية، فيرمون بما اعتادوا أن يرموا به مخالفيهم ويقول الآخر الكلمة نفسها بالتمام فى وقت يناسبهمـ فيعدها كلمة ذهبية وينسون أنها كانت بالأمس نحاسة أو أقل , فما السر فى هذا ؟ إن الأمانى فى المسألة المصرية ليست بسيطة يمكن تحقيقها حالا والكل يعرف ذلك، وأنه من العبث الاستنجاد بالمعونات الخارجية غربية كانت أم شرقية، وان نتصور أنها حل لكل المشكلات الاقتصادية او السياسية او حتى الاجتماعية منها، والحقيقة أنه لا شيء أنفع للمصريين من اعتمادهم على أنفسهم لتحصيل الكفاءة بالمجموع، ( أى العمل والإنتاج) فقيام البعض الخارجى يتخرصون فى شأننا ويرموننا ويظنون أن هذا يحزننا أو يحرجنا، كلا إنما يحزننا أمران: أولهما أن يضيع الرأى العام فى ضوضاء هذه الأهواء, وثانيهما أن تكون المناقشة داخلنا فوضى إلى درجة أن أحدنا يذم منا الشيء ويمدحه من غيرنا, وأن الشواهد لهذا كثيرة ! ويعلم القراء أنه حينما يقول صاحب المقام العالى فى بلاد الأحلام والديمقراطية من جانب , إن الواجب على الشعوب كلها أن تمارس الضغوط على الدول الآخذة فى النمو أمثال مصر بتطبيق الديمقراطية وممارسة الحريات واحترام حقوق الإنسان وعدم التعدى على الأقليات وعدم المساس بمقدساتهم, حتى ننال الرضا ونأخذ المنحة أو القرض، أو حينما يقول على الجانب الآخر من المعمورة فى بلاد الفرس , إن الواجب علينا أن نكون نموذجا مثلهم أو نحذو حذوهم, وليس على الله بكثير أن نكون يوما ما إحدى أكبر ولاياتهم, لكى نأخذ البترول او الغاز, والحقيقة أن السعى إلى هذا الغرض الشريف ظاهريا من الفريقين, يجعل بعض مفكرينا يقول سمعا وطاعة ! ولكن لا يسعنا كتمان ما فى تحقيق هذه الأمانى المغرضة من صعوبات, فإن من الحمق اعتبار المسألة بهذه البساطة, ويمكن تحقيقها, فإن التركيبة السكانية المصرية والنسيج الوطنى والمعتقدات الدينية راسخة ومتينة ومتماسكة, ولها تاريخ يصعب اختراقه من أى جهة خارجية فنحن أمة واحدة من الألف إلى الياء, نزرع ونحصد معا ومصيرنا واحد مهما يطل الزمان, كما أنه من العبث التغرير بالمصريين بمثل هذه الأمانى والصدقات المخلوطة بالاهداف الخفية فى ظل المعطيات الواقعية ، فإلى من يوجهون هذا الخطاب الساذج يا ترى؟! فالواجب علينا فى هذا الموضوع هو إنشاء روح وطنية قومية مصرية واحدة لا روح عناد واضطراب وفتنة طائفية واستخدام شعارات منفردة مثل عنصرى الأمة أو الهلال مع الصليب... الخ, بل الواجب أن يحترم بعضنا بعضا وأن نفعل سيادة القانون على كل من يحاول المساس بما حققناه من ثورة بيضاء لا حمراء ولا سوداء, بل إن أسهل سبل الإقناع وأكدها فى الوصول إلى الغرض هو سبيل المحاسنة التى لا تجر إلى ترك حق أو تزيين باطل, فما كان من البعض إلا إعدام هذا القيد وتسمية المحاسنة التى تكلمنا عنها محاسنة مطلقة. وبنيت على ذلك سؤالا طويلا لا يرد فى مثله جواب, لم يكن من لزومه لإعادة هذا الماضى , لولا ما أحزننا من هذه الفوضى فى المناقشات والمعاملات والحوار الفكرى والدعاوى , وما آلمنا أكثر من ذلك نفوذ بعض التكتلات ذات الصبغات المختلفة فى كل شيء حتى حياتنا اليومية وأمورنا الشخصية التى يفترض أن تكون حرة . إن الاستقلال الذاتى القومى بعد الثورات هو جملة أمانينا , فكم يألم أحدنا إذا لم يجد لهذا الاستقلال أثرا حين يرى قادة الأفكار من هذا الجانب أو من الجانب الآخر منا يستحسنون ويستهجنون أقوالا واحدة بعينها بالنظر لقائليها حسب انتماءاتهم , لا بالنظر إليها نفسها! نحن لا ندعى علما كعلمهم ولا مقاما فى الوجود كمقامهم, فى فهم السياسة الداخلية او الخارجية , ولكن يحزننا أن يتسم الفرق بيننا وبينهم إلى درجة تناحر فى تأويل وذم قولنا ومدح قولهم , وهما سواء, إن الاستقلال الذاتى فوق كل شيء, فيؤسفنا أن نراه مقضيا عليه إلى هذا الحد, وعسى أن نراه يوما حيا يتجلى فتعرف به الأشياء كما هى على حقيقتها العارية, ولا ينظر لأحد بعين ولآخر بعين غيرها. وأتصور فى النهاية أن هذا هو أحد أسباب قيام ثورة يناير و يونيو , بل أؤكد أن هذا الهدف كان على رأس أولوياتها وهو المساواة, ولعل الوقت لم ينقض بعد حتى نحقق كما تمنينا عيشا, حرية, كرامة انسانية, عدالة الاجتماعية, لكل المصريين، بدون تمييز بين مصرى ومصرى من خلال خانة الديانة فى هوية التعريف. فالحق واجب والحق أننا كلنا نعبر عن مصر, ولايوجد عندنا مواطن من الدرجة الأولى وآخر من الدرجة الثانية مثل بعض البلاد الأخرى التى تقدم لنا النصح والإرشاد باسم حماية الحريات وحفظ حقوق الأقليات.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store