logo
"نهاية الرومانسية": مسألة ألوان وأشكال...أم قصيدة؟

"نهاية الرومانسية": مسألة ألوان وأشكال...أم قصيدة؟

المدن٢٣-٠٥-٢٠٢٥
يجمع معرض "نهاية الرومانسية"، المقام لدى "غاليري جانين ربيز" (الروشة، بيروت)، فنانين ثلاثة هم غريغوري بوشاكجيان، فرانسوا سارغولوغو، وهانيبال سروجي. الفنانون الثلاثة، وعلى الرغم من اختلاف ممارساتهم، إلا أنهم يتشاركون حساسيتهم تجاه مسائل معينة كالانقطاع والذاكرة وثبات الصورة.
وبعد عقدٍ من لقائهم الأول في بيليكولا Pellicula ، يجتمع الفنانون الثلاثة مجددًا من أجل استكشاف ما يمكن أن يتبقى على قيد الحياة عندما يتلاشى النبض الرومانسي، من خلال طرح أسئلة من شاكلة: ما الذي يبقى وراء الجمال، ووراء الشوق؟ في هذا المعرض، يصبح المشهد الطبيعي موضوعًا وشاهدًا في آنٍ واحد - محترقًا، متراكبًا، غزيرًا، أو مهترئًا. وإذ تتلاشى الحدود بين الوسائط المختلفة، وتتلاشى معها الخطوط الفاصلة بين الماضي والحاضر، لا بد من طرح بعض الأسئلة حول النمط الفني والأسلوب في هذا الزمن المختلف.
بداية، ما من شك في أن عنوان المعرض يبدو على جانب من الغموض، أو يهدف، ربما، إلى تضليل المتلقّي، بهدف دفعه إلى التأمل في ممارسات فنية سيراها أمامه. لذا، قد يخطر في بالنا أن عبارة: "نهاية الرومانسية" هي أشبه ببيان "محلي" أشبه بتلك البيانات العالمية المتعلّقة بالفن، والتي تعلن ولادة تيار ما، أو نعيه. وفي الأحوال كلّها، وبالرغم من العنوان المراوغ، فإن الرومانسية، كما نعرفها، تميزت في الرسم بالتعبير العاطفي المكثف، والافتتان بالطبيعة والعزلة، والتساؤل عن دور العقل لصالح الخيال والعواطف. لقد اتجه الفنانون الرومانسيون إلى موضوعات مثل عظمة الطبيعة، والحزن، والحنين، والبحث عن اللانهاية، والتي تم التعبير عنها غالبًا من خلال المناظر الطبيعية الدرامية والشخصيات المنعزلة.
ولا تكمن الرومانسية تحديدًا في اختيار الموضوعات ولا في الحقيقة الدقيقة، بل في طريقة الشعور. لقد بحث الرومانسيون عن الشعور في الخارج، ولم يتمكنوا من العثور عليه إلا في الداخل. من يقول الرومانسية، يقول الفن الحديث - أي الحميمية، والروحانية، واللون، والتطلع إلى اللانهاية، معبراً عنها بكل الوسائل التي تحتويها الفنون، وذلك على أساس يعتمد الإشعاع الحسي أكثر منه البعد المادي. لذا لا نملك إلاّ أن نتأثر بلوحة الفنان كاسبر ديفيد فريدريش الأيقونية "المسافر المتأمل بحر الغيوم" (1818)، التي تظهر فيها فكرة الفنان الشعرية عن اللانهاية، واللامرئي، من خلال سيمفونية من الإشارات، وكذلك من خلال رؤيته التصويرية.
"أنا أميل إلى القراءة والاستماع إلى موضوع من خلال ما أعرفه عن فكر الرسام، أكثر من للمغامرة في مساحة لن تكون سوى الرسم"، يقول الروائي والناقد الفرنسي مارسيل بريون (1895- 1984)، الذي كان على حق عندما أشار إلى أنه بالنسبة للرومانسيين، وخاصة بالنسبة للألمان، "الرسم هو مجرد وسيلة، ولم يعد غاية في حد ذاتها (...) إنه طريقة للقول، كما أنه إغراء "البرنامج" الذي سيعود يوماً ما".
ورد في النشرة الخاصة بالمعرض تساؤل عن أساليب إنتاج الصورة والحفاظ عليها، وطمس الحدود بين الوسائط المختلفة للرسم والتصوير الفوتوغرافي والرسم والكتابة من خلال إضافة منظور غير متزامن، وهو منظور الرومانسية، أو بشكل أدق، نهايتها.
على أن إغراء بعض عناصر الواقع، والوحي الميتافيزيقي أيضاً من خلال الفن (كما الشعر والموسيقى)، يجعل من الرومانسية المكان "الأسطوري" للتحفة الفنية، للفن العظيم الذي تحول إلى دين، يرافقه في الوقت نفسه تأمل في عدم الاكتمال، والتجزئة، وتجاوز الحدود، والعلاقة بين الفن والحياة. إغراء الطبيعة لا بد من أن نلاحظه في أعمال فرنسوا سارغولوغو، لكن هذه الطبيعة تأتي كعمل فني يحمل في طيّاته جملة من الألغاز والأجواء الخيالية، وكأننا، هنا، في مشهد من فيلم "أفاتار" لجيمس كاميرون (2009)، حيث تبرز ثنائية بين فكرة العمل (ويمكن القول أيضا يوتوبياها) وواقعها لدى سارغولوغو. إذ يعرض الفنان مشاهد فوتوغرافية تتميز بانتشار الطبيعة المفعمة بالحيوية، والتي تحمل اسم المعرض نفسه.
هذا، في حين يعرض بوشاكجيان منظراً من مستوى عين الطائر لمعبد روماني، ويجمع سروجي بين الألوان الكبيرة المتلألئة والمناظر الطبيعية المتجمدة والمتفحمة والمقطعة. وهنا تكمن، كما يقترح المؤرخ هانز بيلتينج في "نموذج الحداثة"، المساهمة الأساسية التي قدمتها الرومانسية (مع الأخذ في الإعتبار عنوان المعرض وتوجّهات المشاركين فيه)، نقول إن هذه المساهمة للعمل الفني الشامل سوف تتمثل في تنظيم التوتر بين المثالي والواقعي، بين الاكتمال وعدم الاكتمال. في الصفحات الأولى من كتابه "نيتشه ضد فاغنر"، يسخر نيتشه من البذخ والظروف المحيطة بالطقوس الفاغنرية، وذوقه في اللوحات الجدارية الكبيرة؛ وهو، في الحقيقة، كمن يقول: فاغنر مقبول فقط في التفاصيل، وأعماله تتألق في المقاطع المجزّأة، "لأنه أستاذ في فن التفاصيل الصغيرة".
الأماكن الخارجة عن النظام، كالمنازل المهجورة وما يشبهها، تُصبح آلات لسرد القصص لدى غريغوري بوشاكجيان، كما كانت محور اهتمامه الرئيسي لعقد من الزمن. بمجرد عبور العتبة، تسمح الأنقاض والبقايا للشخصيات والأحداث بالظهور، متقاطعةً بين المستويات الحميمة والتاريخية. بناءً على الأدلة الواقعية، يُفترض أن تكون هذه القصص حقيقية. ومع ذلك، قد تكون غير واقعية، بل ومتناقضة في نهاية المطاف. أمّا لدى فرانسوا سارغولوغو "تصبح الطبيعة مرآةً، نقيضًا لعصرنا، الذي، وإن كان يُدهشنا بإنجازاته وتقدمه وبهجته، إلا أنه يُثير فينا الخوف والقلق بسبب تجاوزاته" كما يقول. ويضيف: "هذه ليست سلسلة من الحنين العقيم والتأملي إلى ماضٍ مُتخيل أو إلى طبيعة، بل هي نذيرٌ لمستقبلٍ غامض". ومنذ ذلك الحين، تبدو الرغبة في إبراز جمال الطبيعة وقوتها كطاقة اليأس - الفعل الأخير، الذي يُعطى فيه كل شيء ويُعرض بإفراط، كنوعٍ من الاندفاع المتهور نحو نهاية حقبةٍ ماضية، قبل حلول مستقبلٍ يبدو غامضًا ومقلقًا.
كما أن هانيبال سروجي، كان ينوي تقديم أعمال فنية كبيرة وملونة، وأخرى أصغر نسبيًا، تكاد تكون عديمة اللون. بيد أنه، وعلى العموم، ينظر إلى الأمور بايجابية بالرغم من أجواء الحرب الأخيرة التي أرغمت المنظمين على تأجيل المعرض، وربما كانت بدّلت بعض مقرباتهم.
"أؤمن اليوم بأننا نعيش مع نظرة مستقبلية واعدة، من واقع صادم مفروض علينا"، يقول سروجي. هل هو خيال؟ الفنانون الرومانسيون عكسوا حالات المناطق، والشعوب المستَعمَرة، ورسموا المشاهد المعبرة إن في الطبيعة أم مع الناس، وفي رأي سروجي فإن "هذه الحركة انعكست علينا في المشرق، وطُرحت في موضوعات بصورة غير واقعية، حيث تصور الكثير من الأشياء غير الموجودة، بالرغم من رغم حساسيتها، في وقت كان العالم يعيش الحروب والدمار". "العنوان ليس هو المهم في الموضوع، ولم يُطرح من باب نهاية الرومانسية، وكلنا رومانسي بطريقة ما، ونعمل بالقلب والعقل معاً، لكن العنوان طرح فكرة الرومانسية، ومآلها، وهل هي مسألة ألوان وأشكال، أم هي قصيدة تحاول التعبير عمّا واجهه الإنسان"؟
إنطلاقاً من هذا المبدأ "فان الكون إنساني وفكري، ونحن لسنا متخصصين في موضوع الرومانسية رغم معرفتنا به، وقد طبقناه ليكون مثار حوار، ونقاش، وبلورة الفكرة مع المشاهدين"، يضيف سروجي، الذي كان همّه، مع زملائه، هي تلك التساؤلات التي تهم الإنسان في النهاية، في ظل ما تتعرض له الإنسانية. لذا، لقد عمل الفنانون الثلاثة، قدر الإمكان، على قراءة مأساته، وطرحها للنقاش، وهذا هو المهم في الموضوع.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"القماش الرنّان" معرض عابر للفنون في بيروت
"القماش الرنّان" معرض عابر للفنون في بيروت

الديار

time٠٧-٠٧-٢٠٢٥

  • الديار

"القماش الرنّان" معرض عابر للفنون في بيروت

اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب بهدف خلق حوار بين خلفيات وممارسات فنيّة مختلفة، يستضيف غاليري "جانين ربيز" في الروشة- بيروت معرضا فنياً جامعاً، مستعيداً أعمال 14 فنان وفنانة، تتخلله عروض موسيقية على العود للعازف، أنطونيو الملّاح، من ضمن "أيام بيروت الفنية"، وهي سلسلة فعاليات تنظمها "الأجندة الثقافية"، تحت شعار "الفن عاصمة". ومن خلال مواصفات المعرض الذي يضم أعمالاً تشكيلية، ونحتاً، وموسيقى، يمكن فهم عنوانه "قماش رنّان" جامعاً بين التشكيل القائم بغالبه على قماشة اللوحة، والموسيقى كرديف للصوت الرنان، ومحقِّقاً الهدف من إقامته الجامعة لحشد واسع من الفنانين، لاختبار تفاعل الخلفيات الفنية المختلفة فيما بينها. هكذا يشارك الفنان، بسام جعيتاني، بأعمال بعنوان "بشرة الزمن"، وهي لوحات من ذاكرة المدينة، تجسد الدورة الأبدية للبناء والتآكل والتجدد، وتحمل كل قطعة بصمات الزمن: من المواد البالية والصدئة التي تروي قصص الأجيال الماضية، وتعكس الأسطح المخدوشة حياة صاخبة تكشف عن النسيج المعقد والمتعدد الطبقات لتاريخ المدينة. وتسعى الفنانة غادة زغبي إلى استكشاف التناقض بين الرغبة والخطيئة، مشيرةً إلى أنه قبل أن تصارع البشرية مع الأخلاق، كان هناك توق فطري للتجربة والاكتشاف، وقبل حكايا الصواب والخطأ، كانت هناك ببساطة رغبة في السعي وراء شيء نقي، في احتضان الوجود النقي. يُجسّد عملها لحظةً عالقةً في الزمن قبل وطأة الخطيئة المرتبطة بمفهوم السقوط. الفنان آلان فاسويان تمثّل بنصب "برج التأمل" من راتنج وخشب مطليان، وهو جزء من سلسلة "سارقو الأجساد"، يتراوح ارتفاعه بين 36 و38 سم تقريباً. وتتميز المنحوتات من هذه السلسلة بقدرتها على تبادل أجزائها باستمرار لتشكيل أشكال جديدة، ويستخدم هذا العمل الفني تنويعة على الرأس نفسه 3 مرات لاستحضار حالة من السكينة الجماعية. الفنانة كريستين كتانة شاركت بعمل فني تركيبي بعنوان "المجسّات" (Feelers) يتألف من فيلم تجريبي قصير وعمل نحتي مصنوع من الملح، أُنجز خلال إقامة فنية في نيسيمي، صقلية (2018). الفنانة دينا ديوان تبدو في عملها "من شاطئ إلى آخر" مُتأثرة بشدة بالأماكن التي نتركها وراءنا في الرحيل، وتلك التي نصل إليها من دون معرفة الأرض. تستكشف ديوان المساحات الشاسعة، والمناظر الطبيعية، والمسارات، والنباتات، ويستحضر معرض رحلة من يعبرون البحار ليستقروا في أرض جديدة. الفنانة عايدة سلوم شاركت بلوحة تجريدية ميالة لزرقة البحر والمحيطات، يوحي عملها بأنك "تبتعد لكن تقترب، وتغيب لكن تتجلّى، وتنكشف لكن تختبئ" كما تقول في وصف، وهو "شجرةٌ لكن عصفور، وواحدةٌ لكن متعددة، وكل لكن مجموع، وورقةٌ لكن لون، وخط لكن هواء، ويد لكن نجمةٌ تتهاوى. الفنان الفوتوغرافي فرانسوا سارغولوغو حمّل مشاهد عمله بحضور الطبيعة النابض بالحياة، وعكس الصور البانورامية، التي تُشبه حالة "أحلام اليقظة"، وهو جزء من مجموعة أعمال مستوحاة من عالم الأحلام والمحاكاة الساخرة الرومانسية. يستحضر هذا العمل الطبيعة في أوج عظمتها، مُبشّرًا بما هو آتٍ، شعورٌ يتجاوز الجمال، مُثيرًا الرهبة والرعب، ومُحاصرًا المُشاهد بين الدهشة والقلق. أما الفنانة ليلى جبر جريديني فتتمثل بعمل من معرضها "شجرة الباوباب"، وبسبب شكلها الغريب، تقول أسطورة عربية إن "الشيطان اقتلع شجرة الباوباب، وغرز أغصانها في الأرض، وترك جذورها في الهواء". بدوره، شارك جوزيف حرب بلوحة ثلاثية بعنوان "النِعَم الثلاث" (Les 3 Graces)، أكريليك على ورق تستكشف هذه اللوحة الثلاثية الوجود الأنثوي في 3 شخصيات تبدو كل امرأة متجمدة في لحظة معلقة، ويستحضر العمل ذاكرة الجسد، وطبقات الحميمية، والآثار التي تركها التاريخ الشخصي والجماعي. أما الفنان بترام شلش فيستكشف في عمله التشكيلي الجمال الكامن في عدم الثبات ومرور الزمن الهادئ، وتصوّر هذا العمل الإيقاع الدوري للانحلال والتجدد. مستوحاة من العمليات الطبيعية للتآكل والتجدد، تُمثل لوحته تأملًا في التحول بعملية ذوبان الأشياء، وتحولها، وظهورها من جديد في أشكال جديدة، احتفاءً بالأمل من خلال التجديد المستمر. ثم هانيبال سروجي الذي يُرسل إشارات متناقضة بأعمال متوسطة الحجم، قد تُشير ألوانها وحركاتها المتلألئة إلى مناظر بحرية رومانسية. بعيداً عن الواقعية، يُدعى الفنان إلى الانغماس في خيال بصري للتأليف الموسيقي، والتأمل في قطع من الأرض والبحر والسماء، حيث تتشابك المساحات، وتتغير الأبعاد الزمنية، وتُستبعد الشخصية البشرية. أما داليا بعاصيري، في الحصاد على مدى السنوات الثلاث الماضية، فجمعت أشكالاً مختلفة أبرزها: شظايا جدران من مبنى فياض المطل على مرفأ بيروت، وشموع مشتعلة تُركت بعد الصلاة في حريصا، وأغصان أشجار مكسورة متناثرة في شوارع بيروت، مقطوعة عمداً لصنع فحم لمدخني الشيشة. ثم منار علي حسن- في ملاحم أجساد متألّمة -حبر وتطريز يدوي على مواد متنوعة تستكشف هذه السلسلة الحقائق العميقة، والتي غالباً ما تكون خفية، للعيش مع الألم المزمن، كاشفةً كيف تُشكل المعاناة الجسدية المستمرة الهوية والتجربة. يذكر أن "أيام بيروت الفنية" تتم بالتعاون مع زينة صالح كيالي، مؤسسة ومديرة مجموعة "شخصيات موسيقية لبنان".

"نهاية الرومانسية": مسألة ألوان وأشكال...أم قصيدة؟
"نهاية الرومانسية": مسألة ألوان وأشكال...أم قصيدة؟

المدن

time٢٣-٠٥-٢٠٢٥

  • المدن

"نهاية الرومانسية": مسألة ألوان وأشكال...أم قصيدة؟

يجمع معرض "نهاية الرومانسية"، المقام لدى "غاليري جانين ربيز" (الروشة، بيروت)، فنانين ثلاثة هم غريغوري بوشاكجيان، فرانسوا سارغولوغو، وهانيبال سروجي. الفنانون الثلاثة، وعلى الرغم من اختلاف ممارساتهم، إلا أنهم يتشاركون حساسيتهم تجاه مسائل معينة كالانقطاع والذاكرة وثبات الصورة. وبعد عقدٍ من لقائهم الأول في بيليكولا Pellicula ، يجتمع الفنانون الثلاثة مجددًا من أجل استكشاف ما يمكن أن يتبقى على قيد الحياة عندما يتلاشى النبض الرومانسي، من خلال طرح أسئلة من شاكلة: ما الذي يبقى وراء الجمال، ووراء الشوق؟ في هذا المعرض، يصبح المشهد الطبيعي موضوعًا وشاهدًا في آنٍ واحد - محترقًا، متراكبًا، غزيرًا، أو مهترئًا. وإذ تتلاشى الحدود بين الوسائط المختلفة، وتتلاشى معها الخطوط الفاصلة بين الماضي والحاضر، لا بد من طرح بعض الأسئلة حول النمط الفني والأسلوب في هذا الزمن المختلف. بداية، ما من شك في أن عنوان المعرض يبدو على جانب من الغموض، أو يهدف، ربما، إلى تضليل المتلقّي، بهدف دفعه إلى التأمل في ممارسات فنية سيراها أمامه. لذا، قد يخطر في بالنا أن عبارة: "نهاية الرومانسية" هي أشبه ببيان "محلي" أشبه بتلك البيانات العالمية المتعلّقة بالفن، والتي تعلن ولادة تيار ما، أو نعيه. وفي الأحوال كلّها، وبالرغم من العنوان المراوغ، فإن الرومانسية، كما نعرفها، تميزت في الرسم بالتعبير العاطفي المكثف، والافتتان بالطبيعة والعزلة، والتساؤل عن دور العقل لصالح الخيال والعواطف. لقد اتجه الفنانون الرومانسيون إلى موضوعات مثل عظمة الطبيعة، والحزن، والحنين، والبحث عن اللانهاية، والتي تم التعبير عنها غالبًا من خلال المناظر الطبيعية الدرامية والشخصيات المنعزلة. ولا تكمن الرومانسية تحديدًا في اختيار الموضوعات ولا في الحقيقة الدقيقة، بل في طريقة الشعور. لقد بحث الرومانسيون عن الشعور في الخارج، ولم يتمكنوا من العثور عليه إلا في الداخل. من يقول الرومانسية، يقول الفن الحديث - أي الحميمية، والروحانية، واللون، والتطلع إلى اللانهاية، معبراً عنها بكل الوسائل التي تحتويها الفنون، وذلك على أساس يعتمد الإشعاع الحسي أكثر منه البعد المادي. لذا لا نملك إلاّ أن نتأثر بلوحة الفنان كاسبر ديفيد فريدريش الأيقونية "المسافر المتأمل بحر الغيوم" (1818)، التي تظهر فيها فكرة الفنان الشعرية عن اللانهاية، واللامرئي، من خلال سيمفونية من الإشارات، وكذلك من خلال رؤيته التصويرية. "أنا أميل إلى القراءة والاستماع إلى موضوع من خلال ما أعرفه عن فكر الرسام، أكثر من للمغامرة في مساحة لن تكون سوى الرسم"، يقول الروائي والناقد الفرنسي مارسيل بريون (1895- 1984)، الذي كان على حق عندما أشار إلى أنه بالنسبة للرومانسيين، وخاصة بالنسبة للألمان، "الرسم هو مجرد وسيلة، ولم يعد غاية في حد ذاتها (...) إنه طريقة للقول، كما أنه إغراء "البرنامج" الذي سيعود يوماً ما". ورد في النشرة الخاصة بالمعرض تساؤل عن أساليب إنتاج الصورة والحفاظ عليها، وطمس الحدود بين الوسائط المختلفة للرسم والتصوير الفوتوغرافي والرسم والكتابة من خلال إضافة منظور غير متزامن، وهو منظور الرومانسية، أو بشكل أدق، نهايتها. على أن إغراء بعض عناصر الواقع، والوحي الميتافيزيقي أيضاً من خلال الفن (كما الشعر والموسيقى)، يجعل من الرومانسية المكان "الأسطوري" للتحفة الفنية، للفن العظيم الذي تحول إلى دين، يرافقه في الوقت نفسه تأمل في عدم الاكتمال، والتجزئة، وتجاوز الحدود، والعلاقة بين الفن والحياة. إغراء الطبيعة لا بد من أن نلاحظه في أعمال فرنسوا سارغولوغو، لكن هذه الطبيعة تأتي كعمل فني يحمل في طيّاته جملة من الألغاز والأجواء الخيالية، وكأننا، هنا، في مشهد من فيلم "أفاتار" لجيمس كاميرون (2009)، حيث تبرز ثنائية بين فكرة العمل (ويمكن القول أيضا يوتوبياها) وواقعها لدى سارغولوغو. إذ يعرض الفنان مشاهد فوتوغرافية تتميز بانتشار الطبيعة المفعمة بالحيوية، والتي تحمل اسم المعرض نفسه. هذا، في حين يعرض بوشاكجيان منظراً من مستوى عين الطائر لمعبد روماني، ويجمع سروجي بين الألوان الكبيرة المتلألئة والمناظر الطبيعية المتجمدة والمتفحمة والمقطعة. وهنا تكمن، كما يقترح المؤرخ هانز بيلتينج في "نموذج الحداثة"، المساهمة الأساسية التي قدمتها الرومانسية (مع الأخذ في الإعتبار عنوان المعرض وتوجّهات المشاركين فيه)، نقول إن هذه المساهمة للعمل الفني الشامل سوف تتمثل في تنظيم التوتر بين المثالي والواقعي، بين الاكتمال وعدم الاكتمال. في الصفحات الأولى من كتابه "نيتشه ضد فاغنر"، يسخر نيتشه من البذخ والظروف المحيطة بالطقوس الفاغنرية، وذوقه في اللوحات الجدارية الكبيرة؛ وهو، في الحقيقة، كمن يقول: فاغنر مقبول فقط في التفاصيل، وأعماله تتألق في المقاطع المجزّأة، "لأنه أستاذ في فن التفاصيل الصغيرة". الأماكن الخارجة عن النظام، كالمنازل المهجورة وما يشبهها، تُصبح آلات لسرد القصص لدى غريغوري بوشاكجيان، كما كانت محور اهتمامه الرئيسي لعقد من الزمن. بمجرد عبور العتبة، تسمح الأنقاض والبقايا للشخصيات والأحداث بالظهور، متقاطعةً بين المستويات الحميمة والتاريخية. بناءً على الأدلة الواقعية، يُفترض أن تكون هذه القصص حقيقية. ومع ذلك، قد تكون غير واقعية، بل ومتناقضة في نهاية المطاف. أمّا لدى فرانسوا سارغولوغو "تصبح الطبيعة مرآةً، نقيضًا لعصرنا، الذي، وإن كان يُدهشنا بإنجازاته وتقدمه وبهجته، إلا أنه يُثير فينا الخوف والقلق بسبب تجاوزاته" كما يقول. ويضيف: "هذه ليست سلسلة من الحنين العقيم والتأملي إلى ماضٍ مُتخيل أو إلى طبيعة، بل هي نذيرٌ لمستقبلٍ غامض". ومنذ ذلك الحين، تبدو الرغبة في إبراز جمال الطبيعة وقوتها كطاقة اليأس - الفعل الأخير، الذي يُعطى فيه كل شيء ويُعرض بإفراط، كنوعٍ من الاندفاع المتهور نحو نهاية حقبةٍ ماضية، قبل حلول مستقبلٍ يبدو غامضًا ومقلقًا. كما أن هانيبال سروجي، كان ينوي تقديم أعمال فنية كبيرة وملونة، وأخرى أصغر نسبيًا، تكاد تكون عديمة اللون. بيد أنه، وعلى العموم، ينظر إلى الأمور بايجابية بالرغم من أجواء الحرب الأخيرة التي أرغمت المنظمين على تأجيل المعرض، وربما كانت بدّلت بعض مقرباتهم. "أؤمن اليوم بأننا نعيش مع نظرة مستقبلية واعدة، من واقع صادم مفروض علينا"، يقول سروجي. هل هو خيال؟ الفنانون الرومانسيون عكسوا حالات المناطق، والشعوب المستَعمَرة، ورسموا المشاهد المعبرة إن في الطبيعة أم مع الناس، وفي رأي سروجي فإن "هذه الحركة انعكست علينا في المشرق، وطُرحت في موضوعات بصورة غير واقعية، حيث تصور الكثير من الأشياء غير الموجودة، بالرغم من رغم حساسيتها، في وقت كان العالم يعيش الحروب والدمار". "العنوان ليس هو المهم في الموضوع، ولم يُطرح من باب نهاية الرومانسية، وكلنا رومانسي بطريقة ما، ونعمل بالقلب والعقل معاً، لكن العنوان طرح فكرة الرومانسية، ومآلها، وهل هي مسألة ألوان وأشكال، أم هي قصيدة تحاول التعبير عمّا واجهه الإنسان"؟ إنطلاقاً من هذا المبدأ "فان الكون إنساني وفكري، ونحن لسنا متخصصين في موضوع الرومانسية رغم معرفتنا به، وقد طبقناه ليكون مثار حوار، ونقاش، وبلورة الفكرة مع المشاهدين"، يضيف سروجي، الذي كان همّه، مع زملائه، هي تلك التساؤلات التي تهم الإنسان في النهاية، في ظل ما تتعرض له الإنسانية. لذا، لقد عمل الفنانون الثلاثة، قدر الإمكان، على قراءة مأساته، وطرحها للنقاش، وهذا هو المهم في الموضوع.

ليلى جبر جريديني: فتنة شجرة الحياة
ليلى جبر جريديني: فتنة شجرة الحياة

المدن

time٢٨-٠٣-٢٠٢٥

  • المدن

ليلى جبر جريديني: فتنة شجرة الحياة

تعرض ليلى جبر جريديني، في "غاليري جانين ربيز" (الروشة-بيروت)، مجموعة من الأعمال، ذات أحجام مختلفة وتقنيات متنوّعة، وذلك تحت عنوان "باوباب - شجرة الحياة". هذا المعرض الفردي هو الرابع للفنانة لدى الغاليري المذكورة، وذلك بعد معارضها الفردية الثلاثة السابقة: "شظايا" 2012، و"مقاتلو الحرية" 2019، و"البنوة" 2023. المعروف عن شجرة الباوباب الأفريقية أنها مقدسة لدى العديد من الثقافات، كما أنها شجرة "محادثة"، لا يجوز قطعها، فهذا الفعل يعتبر تدنيسًا لها، وهي الشجرة النموذجية لأفريقيا الاستوائية الجافة، وشعار دولة السنغال وغينيا. ثمرها يسمّى خبز القرد، وهو صالح للأكل. أمّا اسم الشجرة فمشتق من الكلمة العربية "أبو حباب"، وفاكهتها، بيضاوية الشكل، تحتوي على مئات البذور. وقد ورد في النشرة الخاصة بالمعرض أن "الباوباب - شجرة الحياة، ونظراً لشكلها الغريب، تقول الأسطورة العربية إن الشيطان اقتلع هذه الشجرة، ودفع أغصانها في الأرض، وترك جذورها في الهواء". وللمناسبة، فإن الباوباب تنمو بأشكال متعددة إلى حد ما، ولها جذع مستدير وخشب ناعم مشبع بالماء (لهذا تسمى الشجرة الزجاجة). مظهر الشجرة مميز من دون شك، إضافة إلى ضخامة وارتفاع يصل إلى 25 مترًا، ومحيط قد يبلغ أكثر من 20 مترًا أحياناً، وهي تحتوي على تاج من الفروع غير المنتظمة، الخالية من الأوراق في الجزء العلوي من الجذع، وهذا أحد تفسيرات تسميتها "الشجرة المقلوبة"، لأنها بأغصانها العارية تبدو وكأنها انقلبت رأساً على عقب وجذورها في الأعلى. هذا المظهر المميّز لم يغب عن الفنانة التي تقول: "كان حبًا من النظرة الأولى. لم يسبق لي أن صادفتُ اسم الشجرة إلا في كتاب طفولتي "الأمير الصغير" لسانت إكزوبيري الذي ترك أثرًا عميقًا في نفسي. قصةٌ ألهمت أحلام طفولة لا تُحصى، وحملت خيالي إلى آفاقٍ مجهولة. من كان ليتوقع أنني، بعد سنوات، سأُفتنُ تمامًا بأشجار الباوباب التي اكتشفتها في زنجبار؟ في اللحظة التي رأيتها فيها، تعرّفتُ عليها غريزيًا، رغم أنني لم أكن أعرف شيئًا عن النباتات المحلية. وجدتُ نفسي في رحلة بحث، أمسح المناظر الطبيعية بحثًا عن كل شجرة مهيبة ألمحها في الأفق". يشير الفنان الألماني جواشيم فون ساندرارت (1606- 1688) إلى ضرورة اكتساب "علم طبيعي جيد لجميع الأشجار العظيمة، وأوراقها أو أنواعها، سواء القريبة منها أو البعيدة". وفي الواقع، إذا كان من الصعب دائمًا معرفة جميع أنواع هذه الأشجار، وأوراقها وألوانها وجذوعها، فمن السهل أيضًا الوقوع في فخ رسمها دائمًا بالطريقة نفسه. لقد رسمت ليلى جبر جريديني شجرة باوباب بالفعل، كما تطلعنا الأعمال المعروضة في الغاليري، لكن ليس من الممكن إغفال المنحى الذي اتبعته الفنانة في تعاطيها مع الموضوع، إذ تنقّلت بين الحفاظ على الرسم الشكلي، الذي يشير إلى الشجرة مباشرة، وبين معالجة تشكيلية ذات منحى يبتعد، إلى حد ما، عن الشكل كي يغوص في معالجة أسلوبية ذاتية. فالشجرة تعبق بالحياة، كما الكائن البشري، ولها أسرارها أيضاً، وهو ما أوقع جريديني تحت سحر الباوباب. "لقد شعرتُ برغبةٍ جامحةٍ في اكتشاف ما يجعل أشجار الباوباب استثنائيةً إلى هذا الحد. هل كان حجمها الهائل، أم أشكالها المذهلة، أم الشعور بالغموض الذي تثيره؟ ربما كان مزيجًا من كل شيء..."، تقول. والشجرة في شكل عام، أكانت الباوباب أو سواها، ليست ذات أبعاد ثابتة، وجزء كبير من جمالها يتلخص في التباين بين فروعها، وفي التوزيع غير المتساوي لخصلاتها، وأخيراً في غرابة معينة تلعب بها الطبيعة، والتي يكون الرسام حكماً جيداً عليها. ومع ذلك، لا بد من القول أن الطريق الذي شقته الفنانة، في تنقلّها بين التمثيل وما يقترب من التجريد في بعض الأعمال، لا يعتبر تقليدياً من بين العديد من الطرق الأخرى، بيد أنه يلاحق الطبيعة في تنوعها، متسلّحاً بذوق واضح، وتلوين ذي اتجاه ذاتي، بعيداً من التمثيل الدقيق. إن المنظور الخاص بجذع فروع شجرة الباوباب، لدى جريديني، هو منظور عاطفي بحت، ويضاف إليه ما ابتكرته من فعل الخياطة والنسيج والرسم بالألوان في طريقتها لإبراز الجمال الساحر لهذه الأشجار المهيبة. أضف إلى ذلك، أن أشجار الباوباب تُعدّ مصدرًا حيويًا للمأوى والغذاء، إذ تُوفر ثمارًا مغذية لعدد لا يُحصى من الحيوانات والزواحف والحشرات والخفافيش كما أنها تخزّن الماء في "خراطيمها"، مما يُغذي الأفيال خلال مواسم الجفاف، وتلعب أوراقها الصالحة للأكل دورًا رئيسيًا في العديد من العلاجات العشبية. "إن كل قطعة في هذه المجموعة تلتقط جزءًا من هذه القصة، على أمل تكريم والحفاظ على إرث هذه الأشجار القديمة، والتي عاش بعضها - مثل شجرة "جروتبوم" الناميبية المنهارة مؤخرًا - أكثر من 1275 عامًا"، بحسب جريديني.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store