
بايدو وغلوناس ويوروستاك.. العالم يتمرَّد على هيمنة "جي بي إس"
اللجوء إلى الصين
لا يمكن اعتبار التعاون الصيني الإيراني في مجال التقنيات الفضائية وليد اللحظة، والواقعة الأخيرة وإن كانت غير مؤكدة، فإنها تفتح الباب لتعاون قريب في هذا المجال. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2015، منحت بكين إيران حق الوصول إلى معدات تحديد المواقع والملاحة والتوقيت التابعة لنظام بايدو الصيني للملاحة بالأقمار الاصطناعية، وكان الهدف تعزيز قدرات الصواريخ الباليستية والمُسيَّرات الإيرانية.
وفي عام 2021، حصلت طهران على حق الوصول الكامل إلى بنية "بايدو" التحتية لاستخدامها في أغراض عسكرية، ووقَّع البلدان معاهدة شراكة إستراتيجية شاملة تنفق بموجبها الدولتان 400 مليار دولار على مدى 25 عاما. وليس من قبيل المصادفة أن مسؤولي القيادة الفضائية الأميركية "سبيس كوم" (SPACECOM) حذروا العام الماضي علنا من تنامي التعاون بين إيران وروسيا وكوريا الشمالية والصين في مجالات التكنولوجيا الناشئة.
كانت الصين قد ألغت اعتماد جيشها على نظام تحديد المواقع العالمي الأميركي "جي بي إس"، بعد انتقال الجيش الصيني إلى استخدام نظام "بايدو". ويُعَد هذا التحوُّل جزءا من إستراتيجية أوسع لتعزيز الاستقلال التقني وتقليل الاعتماد على البنى التحتية الغربية، لا سيَّما في المجالات الحيوية مثل الملاحة والاتصالات العسكرية. وتسعى بكين حاليا إلى توسيع نطاق هذا النظام عالميا، عبر تسويقه للدول التي تُبدي مواقف مناهضة للغرب، وُتسوِّقه على أنه بديل إستراتيجي لأنظمة الملاحة الأميركية، وذلك حسب تقرير لمعهد أبحاث السياسة الخارجية الأميركي.
وقد بدأت دول مثل روسيا وإيران وباكستان وفنزويلا بدمج نظام "بايدو" ضمن منظوماتها العسكرية، مما يُسهِم في تقليص نفوذ الولايات المتحدة على قدرات تلك الدول التشغيلية، ويَحِدُّ من فاعلية العقوبات التي تستهدف بنيتها الدفاعية والعسكرية. ويعزز هذا التوجه قدرة تلك الدول على التصرُّف بمرونة أكبر خارج الإطار التقني الغربي، ويوفر لها أدوات مستقلة للملاحة والمراقبة.
وتدمج الصين نظام "بايدو" ضمن مشاريع مبادرة الحزام والطريق التي أعلنتها عام 2013، مما يجعل الدول المشاركة أكثر التصاقا بالبنية التحتية الصينية، خاصة في مجالات الملاحة وإدارة البيانات. هذا الاعتماد التقني قد يتحول في أوقات الأزمات إلى أداة ضغط إستراتيجية، خاصة في حال حدوث مواجهة محتملة حول تايوان ، حيث يُمكن لبكين التشويش على إشارات "جي بي إس" في المنطقة، مع الإبقاء على فعالية نظام "بايدو" لقواتها العسكرية، مما يمنحها تفوقا تشغيليا حاسما، كما أشار تقرير معهد أبحاث السياسة الخارجية.
حتى منظومة أقمار "بايدو" ليست الوحيدة المنافسة لنظام "جي بي إس"، فعديد من الدول بدأت في إطلاق مشاريعها الخاصة في هذا النطاق. وكان الدافع الأساسي لهذه المشاريع هو الحفاظ على السيادة التقنية وضمان استمرارية الخدمة في حالات الطوارئ أو النزاعات العسكرية، وقد بادرت كل دولة بتطوير نظامها وفق أولوياتها وإستراتيجيتها التكنولوجية.
تعدُّد الأقطاب
مع تصاعُد التنافس الجيوسياسي وظهور نظام دولي متعدد الأقطاب، بدأت تلك التحوُّلات تنعكس على مجال الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، الذي خضع لهيمنة أميركية طويلة، ويبدو أنه يشهد تحديات حقيقية اليوم، بعد أن بقي نظام "جي بي إس" المعيار شبه الوحيد للملاحة الفضائية طيلة عقود، حتى أن اسمه يُستخدم على أنه مُرادف للتقنية ذاتها. غير أن هذه المركزية بدأت تتآكل تدريجيا في السنوات الأخيرة.
لفهم دوافع الدول نحو تطوير أنظمة بديلة للملاحة بالأقمار الاصطناعية، لا بد من التطرُّق إلى خلفية تاريخية بسيطة. لقد نشأ نظام "جي بي إس" بوصفه أداة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع الأميركية في أثناء الحرب الباردة، ودشَّنته واشنطن عبر مجموعة أقمار "نافستار" التي أُطلقت في السبعينيات. وفي تلك المرحلة، كانت الإشارة الدقيقة حِكرا على الاستخدام العسكري، بينما قُدِّمت نسخة مُنخفضة الجودة للاستخدام المدني.
استمر هذا الوضع حتى عام 2000، حين أمر الرئيس الأميركي بيل كلينتون بإزالة التشويش المتعمَّد كي تُتاح الخدمة بدقة مُوحَّدة للجميع. ومع ازدياد عدد الأقمار وانتشار استخدام النظام في مجالات الطيران والملاحة البحرية والتجارة، بدا نظام الملاحة العالمي وكأنه "هدية إستراتيجية" أميركية للعالم، فهو مجاني وموثوق ومُتعدِّد الاستخدامات. ولكن مع ارتفاع حِدة النزاعات والصراعات، تزايدت المخاوف من الاعتماد على المنظومة الأميركية وحدها.
لذا، لجأت عدة دول إلى الاعتماد على أنظمتها الخاصة، مثل الاتحاد الأوروبي الذي أطلق نظام غاليليو، وهو مشروع مدني مستقل تحت إشراف وكالة الفضاء الأوروبية. ويتميز النظام الأوروبي بدقة تصل إلى 20 سنتيمترا، ويُعَد الوحيد الذي يوفِّر خاصية التحقُّق من الإشارات في نسخته المدنية، مما يمنحه مقاومة أكبر لمحاولات الخداع. وقد أطلق الاتحاد الأوروبي مشروع غاليليو من أجل امتلاك بنية تحتية لا تخضع لسيطرة طرف خارجي، ولو كان حليفا مثل الولايات المتحدة.
في روسيا أعادت موسكو تأهيل نظام غلوناس (GLONASS) الذي بدأ في الثمانينيات بعد أن تراجعت جودته في التسعينيات، وتستخدم الأنظمة العسكرية والمدنية الروسية اليوم نظام غلوناس بوصفه النظام الأساسي للملاحة، في حين يُعَد نظام "جي بي إس" خيارا احتياطيا. ومن اللافت أن عدة دول، مثل الهند وإيران وفنزويلا، تعتمد أيضا على ترددات نظام "غلوناس"، وهو جزء من إستراتيجية روسيا لتعزيز حضورها العالمي ونفوذها الجيوسياسي عبر تقنيات الملاحة الفضائية.
من جهتها، طوَّرت الهند نظام نافيك (NavIC) كي يغطي الهند ومحيطها حتى مسافة 1500 كيلومتر. وقد جاءت جهودها ردا على منع حكومة الولايات المتحدة منحها إشارات دقيقة من نظام "جي بي إس" أثناء حرب "كارغيل" مع باكستان عام 1999. أما اليابان فاعتمدت نظام "كيو زد إس إس" (QZSS)، الذي يُكمِّل إشارات "جي بي إس" ويُعززها في منطقة آسيا والمحيط الهادي ، خصوصا في المدن والمناطق الجبلية، وهو مُكوَّن في الأساس من 4 أقمار، وتعمل اليابان على زيادته إلى 7 أقمار.
لربما تضع إيران أمامها تلك التجارب السابقة كي تقتدي بها، وتحديدا تجربتي الصين وروسيا، سعيا للفكاك من التقنيات الأميركية وتأسيس نظام ملاحة مستقل، بل ولعلها تتجه إلى الاستعانة بما يفيدها من المنظومات غير الأميركية. ولكن حتى تتسنَّى لها فرصة تأسيس نظام مستقل، كيف يمكن أن تحاول إيران الابتعاد عن التقنيات الأميركية للملاحة بالأقمار الاصطناعية، واستعادة بعض من سيادتها التقنية؟
محاولات إيرانية
تُولي إيران اهتماما متزايدا بمسألة الاستقلال في تقنيات الاتصالات والملاحة، بوصفها جزءا من بنيتها الدفاعية السيادية. وقد عبَّر كبار المسؤولين الإيرانيين مرارا عن قلقهم من الاعتماد على أنظمة تديرها الولايات المتحدة، مؤكدين ضرورة تطوير قدرات محلية في البث والملاحة الفضائية، أو البحث عن بدائل من حلفاء آخرين مثل الصين وروسيا.
وفي هذا الإطار، تنظر طهران إلى الاعتماد على نظام "جي بي إس" على أنه ثغرة إستراتيجية قد تُستغل في حالات النزاع والحروب، وتخشى أن يؤدي تصاعد التوتر مع واشنطن إلى حجب الإشارات أو تقييد الوصول للنظام، مما يُعرِّض البنية التحتية الحيوية والأمن القومي للخطر.
وتُفسِّر هذه المخاوف سعي إيران إلى بناء نظام ملاحة مستقل، يحاكي نظام غلوناس الروسي، الذي تأسس بدوره بديلا عن "جي بي إس" في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي.
وقد بدأت إيران خطواتها الأولى في هذا المجال عبر تطوير نظام "هُدَى"، وهو نظام تحديد مواقع محلي أعلنت عنه عام 2016. ولكنه لا يزال محدود التغطية، ويقتصر على نطاقات جغرافية معينة داخل البلاد. أما الوصول إلى نظام فضائي وطني شامل، فيتطلب استثمارات ضخمة وتطورا تقنيا مستمرا كي يتمكن من تأمين تغطية موثوقة في كل الأراضي الإيرانية، ثم التوسُّع خارجها لاحقا.
في عام 2017، أعلنت وكالة الفضاء الإيرانية نيتها إنشاء مجموعة أقمار اصطناعية وطنية للملاحة، لكنها لم تُطلق أي قمر حتى اليوم. وفي ظل هذه الفجوة، لجأت إيران إلى استيراد الدعم التقني، إذ بدأت أجهزتها العسكرية والمدنية تدعم نظام غلوناس، كما أبرمت اتفاقا مع الصين للحصول على إشارات نظام بايدو. وفي مطلع عام 2021، أكد السفير الإيراني في بكين أن بلاده ستحصل على حق استقبال إشارات بايدو، مما يتيح استخدامه داخل إيران. لكن ذلك لا يعني الاستغناء التام عن "جي بي إس"، بل هو أقرب إلى إستراتيجية تستفيد من أنظمة متعددة دون الاعتماد الحصري على أي منها.
وفي حين تواصل إيران تعزيز شراكاتها، فإن خيار التعدد في مصادر إشارات الملاحة يبدو الخيار الواقعي. فالدراسة الجارية لاستخدام بايدو وغلوناس ضمن منظومة أمنية متكاملة لا تعني امتلاك سيطرة على الفضاء أو قدرة على حجب إشارات "جي بي إس"، بل تعني أن إيران، مثل غيرها من الدول التي تتطلع إلى الاستقلال التقني، باتت تعوِّل على تنوُّع المصادر لتقليل الاعتماد على منظومات تقنية أحادية. وقد بدأ هذا التوجه في الانتشار الفترة الماضية، كما يكشف مشروع يوروستاك الأوروبي.
الاستقلال التقني
بدأت دول أوروبية كثيرة تنظر إلى الاعتماد على التقنيات الأميركية بكثير من الريبة، خاصة بعد التحوُّلات الأخيرة في النظام الدولي، مثل تقلُّبات الموقف الأميركي تحت رئاسة دونالد ترامب ، والصعود التكنولوجي الصيني، والتهديد العسكري الروسي. وقد قلبت تلك التحولات التصورات الأوروبية رأسا على عقب، وجعلت التبعية الرقمية أزمة أمن قومي قد تُهدِّد السيادة الأوروبية، وخطرا أمنيا في نظر كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي، الذين يتحدثون عن هذه الأزمة بنبرة القلق نفسها التي يتحدثون بها عن أمن الطاقة والدفاع.
لذا، طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مفهوم "السيادة التكنولوجية" بوصفه محورا رئيسيًّا لإستراتيجية أوروبا المستقبلية. كان الدور المحوري الذي لعبته في أوكرانيا شركة خدمات الإنترنت الفضائي ستارلينك -المملوكة لرجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك- جرس إنذار لأوروبا دفعها إلى الاتجاه نحو تحقيق استقلال رقمي حقيقي عن الولايات المتحدة، كي تنأى بنفسها عن دفع ثمن باهظ في حال تحوَّلت التقنية الأميركية إلى سلاح ضغط على بروكسل من جانب واشنطن إذا ما تباينت رؤاهما تجاه الأمن الأوروبي.
من أجل تجاوز هذه التبعية التقنية، تحاول أوروبا رسم معالم مشروع طموح يُعرف باسم يوروستاك. ولا يدَّعي هذا المشروع الانعزال أو الاكتفاء الذاتي الكامل، بل يسعى إلى إعادة هندسة البنية التحتية الرقمية لأوروبا، طبقة تلو الأخرى، بما يضمن وجود خيارات آمنة ومستقلة وغير خاضعة لدول غير أوروبية، كما يشير تقرير في مجلة فورين بوليسي. ويرتكز مشروع يوروستاك على تقسيم البنية التحتية الرقمية الأوروبية إلى 7 طبقات مترابطة، لا يمكن لأي منها أن تعمل بمعزل عن الأخرى.
هجمات التشويش والخداع
ولمزيد من الفهم التقنيّ، يتكوَّن نظام "جي بي إس" من مجموعة تضم 31 قمرا اصطناعيا في مدار الأرض المتوسط، تمتلكها وتديرها وزارة الدفاع الأميركية. وتبث هذه الأقمار إشارات توقيت باستمرار، وتعتمد أجهزة الاستقبال، مثل تلك الموجودة في هاتفك الذكي أو أنظمة الملاحة البحرية، على التقاط إشارات متعددة من الأقمار، ومقارنة توقيتها لتحديد الموقع الجغرافي بدقة.
ولعل إيقاف بث تلك الإشارات بالكامل أمر خارج قدرة أي دولة منفردة، فالأقمار تواصل إرسال إشاراتها بلا انقطاع من مدار الأرض المتوسط. ولكن ما يمكن تنفيذه فعليا، في أوقات الحروب والنزاعات، هو تعطيل استقبال الإشارات في نطاق محلي عبر استخدام تقنيات الحرب الإلكترونية، إما من الأرض أو الجو، في ما تعرف بعمليات التشويش (Jamming) والخداع (Spoofing).
تتجه معظم الأجهزة الحديثة إلى دمج إشارات من أنظمة ملاحة متعددة، بما يُحسِّن الدقة ويعزز الموثوقية. ويُعَد هذا التوجه استجابة مباشرة لتنامي تهديدات الحرب الإلكترونية، مثل أنشطة التشويش والخداع، وهي أنشطة رُصِدت في مناطق عدة، منها أوكرانيا ودول البلطيق والخليج العربي. ففي السنوات الأخيرة، تزايدت الهجمات على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" والأنظمة الأوسع نطاقا للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، المعروفة باسم "جي إن إس إس" (GNSS)، بما فيها إشارات أنظمة الملاحة في أوروبا والصين وروسيا.
وهناك نوعان من العمليات الهجومية على تلك الأنظمة، أولهما التشويش على نظام "جي بي إس"، الذي يهدف إلى إغراق الإشارات اللاسلكية التي يتكوَّن منها النظام، مما يجعله غير صالح للاستخدام. وثانيهما هجمات الخداع التي يُمكنها استبدال الإشارة الأصلية بإشارة أخرى لموقع جديد.
وقد أصبح التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي من الظواهر الشائعة نسبيا، خاصة في ساحات الحروب والمواقع العسكرية الحساسة، إذ يُستخدم لتفادي وتشتيت الضربات المحتملة من المُسيَّرات أو الصواريخ الموجهة. لذا، ينتبه الطيَّارون إلى تلك المواقع الإقليمية الخطرة، التي يُحتمل أن تقع بها مثل تلك الحوادث، ويلجؤون للاعتماد على وسائل المساعدة الملاحية الأخرى المتاحة على متن الطائرات.
أما في حوادث الخداع، فإن هناك إشارات زائفة تُبَث وتتسبَّب بدورها في تضليل المُعِدات الإلكترونية للمركبات، بحيث تحسب موقعها بشكل خطأ، وتعطي توجيهات مُضلِّلة لقائدها، مما يعني خداع جهاز الاستقبال الخاص بنظام "جي بي إس" داخل الطائرة أو السفينة، كي يعتقد الرُبان أنه في منطقة وهو ليس موجودا فيها فعلا.
وقد استُخدِمت مثل تلك الأساليب في الحروب العسكرية مؤخرا، مثل حرب روسيا وأوكرانيا، في إطار محاولات عسكرية لإخفاء التحرُّكات أو إرباك الخصوم، إلا أن تأثيرها لا يزال محليا ومحدودا بالمنطقة التي يغطيها الجهاز المشوش أو المزيف. وعند توقف المصدر أو خروجه من النطاق، تعود الإشارات الأصلية للعمل.
لذا، يُمكن أن نستنتج من أخبار "إيقاف إيران لخدمة جي بي إس" أنها لا تشير بالضرورة إلى توقف النظام ذاته بالكامل، بل إلى أنشطة التشويش أو الخداع في النطاقات المحيطة بإيران في أثناء الحرب الأخيرة، إذ أشارت تقارير صدرت مؤخرا إلى ارتفاع ملحوظ في تلك الأنشطة، خاصة في مياه الخليج. مثلا، أظهرت بيانات من شركة "ويندوارد" أن نحو ألف سفينة يوميا تعرَّضت لتشويش إشارات نظام الملاحة فيها منذ منتصف يونيو/حزيران الماضي. وأشارت وكالة رويترز إلى أن بيانات موقع إحدى ناقلات النفط بدت وكأنها قفزت بين مواقع في روسيا وإيران قبل أن تعود إلى مسارها الطبيعي، مما يشير إلى وقوع عملية خداع في المنطقة.
في الأخير، لا يمكن لأي دولة الحديث عن سيادة تقنية كاملة في مجال البرمجيات إذا كانت الرقائق الإلكترونية المُستخدمة في الأجهزة مستوردة، ولا عن أمان البيانات إذا كانت شبكات الإنترنت تعتمد على خوادم أو أقمار اصطناعية أجنبية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
ملف الشهر: تطور أنظمة الدفاع الجوي في مواجهة تهديدات المستقبل
نشر موقع الجزيرة نت على منصاته الرقمية حلقة جديدة من برنامج "ملف الشهر"، المخصص لتناول الموضوعات الراهنة والمستجدات المهمة على الساحة العالمية. وتطرق ملف هذا الشهر إلى تاريخ نشأة منظومات الدفاع الجوي وأهمّها عالميا، بالإضافة إلى مسار تطورها وتطوّر تكنولوجيات تشغيلها. وظهرت أنظمة الدفاع الجوي خلال الحرب العالمية الأولى ، حيث كانت تعتمد على المدافع الأرضية المضادة للطائرات بأسلوب الرماية المباشرة، إلا أن الحرب العالمية الثانية شهدت قفزة نوعية في هذا المجال، بفعل تصاعد الهجمات الجوية وتطور الطيران العسكري، مما فرض الحاجة إلى وسائل دفاع أكثر دقة وفاعلية. وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، انخرطت الولايات المتحدة و الاتحاد السوفياتي في سباق تسلح صاروخي، كان من أبرز نتائجه ظهور أول منظومات الدفاع الصاروخي المتطورة في خمسينيات القرن الماضي، ممهدة الطريق أمام حقبة جديدة في مجال الدفاع الجوي. ومع نهاية السبعينيات، تزامن دخول الحواسيب المتطورة والرادارات الرقمية مع ثورة حقيقية في تصميم وتشغيل أنظمة الدفاع الجوي. ومن أبرز تلك الأنظمة "باتريوت" الأميركي و"إس 300″ السوفياتي، اللذان اعتمدا على التحكم الإلكتروني والرصد المتعدد الوظائف. إثر ذلك طورت الولايات المتحدة الأميركية نظام "ثاد" في حين توصلت روسيا إلى تطوير نظام "إس-400" وإن صمم الأول لاعتراض الأهداف داخل وخارج الغلاف الجوي فقد صمم الثاني للتصدي للطائرات المقاتلة والطائرات المسيّرة والصواريخ بمختلف أنواعها. وإلى جانب الولايات المتحدة وروسيا، دخلت الصين خط الإنتاج الدفاعي بمنظومة هونغ تشي-9. بينما طورت إيران عدة أنظمة محلية من بينها: باور 373، رعد، طبس، خرداد 3، وكمين 2. وخلال القرن الـ21، واجهت الأنظمة التقليدية تحديات جديدة، أبرزها انتشار الطائرات دون طيار والصواريخ الفرط صوتية، بالإضافة إلى تقنيات التشويش الإلكتروني، مما دفع الدول إلى إعادة النظر في أدواتها الدفاعية، وتحديثها لمواكبة هذه التهديدات المستجدة. كما كشفت المواجهات الميدانية الأخيرة حول العالم عن فجوات اقتصادية وتقنية، حيث استطاعت طائرات مسيرة منخفضة الكلفة إرباك منظومات دفاعية تتجاوز تكلفتها ملايين الدولارات، وهو ما أفرز توجها جديدا نحو تطوير أنظمة أكثر مرونة وأقل تكلفة. في هذا السياق، عملت إسرائيل على تطوير نظام الشعاع الحديدي كحل متقدم لمواجهة التهديدات الجديدة، في حين كشف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن مشروع القبة الذهبية، التي تمزج بين أنظمة أرضية وبحرية وفضائية لمواجهة تهديدات محتملة قد تطول المصالح الأميركية في الفضاء. يذكر أن تقارير عديدة تشير إلى احتمالات واردة بشأن توسع مسرح المواجهات ليشمل الفضاء الخارجي، مما قد يهدد سلامة الأقمار الصناعية المسؤولة عن الاتصالات والملاحة والرصد، ويطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الحروب القادمة وحدودها.


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
دراسة: البشر يستنزفون موارد الأرض بأسرع ما يمكن استعادته
صادف يوم تجاوز موارد الأرض لعام 2025 يوم 24 يوليو/تموز، وهو التاريخ الذي استنفدت فيه البشرية كامل الميزانية السنوية للطبيعة من الموارد والخدمات البيئية، وفقا ل دراسة تحليلية لشبكة البصمة العالمية. وذكرت الدراسة أن سكان الكوكب يفرطون في الاستهلاك باستنزاف موارد الطبيعة بوتيرة أسرع مما تستطيع تجديده، وهو ما يتجلى في إزالة الغابات، وفقدان التنوع البيولوجي، وتراكم انبعاثات الكربون في الغلاف الجوي. وهذا جزء من سياق بدأ في أوائل سبعينيات القرن الماضي. ويأتي هذا اليوم، الذي يتم الاحتفال به سنويا، قبل أسبوع واحد فقط من تاريخ العام الماضي 2024، ويرجع ذلك أساسا إلى حقيقة أن المحيطات يمكن أن تمتص كميات أقل من ثاني أكسيد الكربون مما تم الإبلاغ عنه سابقا. وتشير الدراسة إلى أنه لو استهلك كل سكان الكوكب مثل سكان الولايات المتحدة، لكانت الموارد قد استنفدت بحلول 13 مارس/آذار. أما ألمانيا وبولندا، فاستنفدتا مواردهما في الثالث من مايو/أيار والصين وإسبانيا في 23 مايو/أيار، وجنوب أفريقيا في الثاني من يوليو/تموز. وتستهلك البشرية حاليا، موارد الطبيعة أسرع بنسبة 80% من قدرة النظم البيئية على الأرض على التجدد، ويحدث هذا الإفراط في الاستخدام نتيجةً لاستنزاف رأس المال الطبيعي، وهذا يُعرّض أمن الموارد على المدى الطويل للخطر. وتتجلى عواقب ذلك في إزالة الغابات، وتآكل التربة، وفقدان التنوع البيولوجي، وتراكم ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وهذا يُسهم في ازدياد وتيرة الظواهر الجوية المتطرفة وانخفاض إنتاج الغذاء. ويُحدَّد يوم تجاوز موارد الأرض باستخدام أحدث إصدار من حسابات البصمة البيئية والقدرة البيولوجية الوطنية. وتُوفر وكالات الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها، جميع بيانات المدخلات لحسابات شبكة البصمة العالمية، بعد مراجعة دورية لمجموعات بياناتها، وقد يُؤدي هذا إلى تحديثات في حسابات البصمة البيئية والقدرة البيولوجية التاريخية. ومن المراجعات الرئيسية هذا العام تعديل تنازلي لقدرة المحيطات على امتصاص الكربون، إلى جانب ارتفاع طفيف في بصمة الفرد وانخفاض طفيف في القدرة البيولوجية، أدى إلى تقديم يوم تجاوز موارد الأرض 8 أيام عن موعده عام 2024، وكانت 7 من هذه الأيام ناتجة عن مراجعات البيانات. تجاوز الحدود البيئية وظل يوم تجاوز موارد الأرض ثابتا نسبيا خلال العقد الماضي، ولكنه لا يزال يقع في بداية العام، أي بعد أقل من 7 أشهر. أما بقية العام، فتعيش البشرية على استنزاف رأس المال الطبيعي، وهذا يزيد من تآكل المحيط الحيوي. وحتى لو بقي التاريخ ثابتا، فإن الضغط على الكوكب يتزايد، مع تراكم الضرر الناجم عن تجاوز الموارد بمرور الوقت. فمنذ أن بدأ ما يعرف بالتجاوز البيئي العالمي في أوائل سبعينيات القرن الماضي، تراكم العجز السنوي ليُشكل دينا بيئيا متزايدا. ويُعادل هذا الدين حاليا 22 عاما من الإنتاجية البيولوجية الكاملة للأرض. وبعبارة أخرى، إذا كان التجاوز البيئي قابلا للعكس تماما، فسيستغرق الأمر 22 عاما من القدرة التجديدية الكاملة للكوكب لاستعادة التوازن المفقود. ومع ذلك، من غير المرجح أن يكون التجاوز البيئي بأكمله قابلا للعكس. وإذا استمر تجاوز الحد الأقصى للانبعاثات عند مستواه الحالي، فسينمو هذا الدين بنحو 0.8 سنويا. ومن العواقب الملموسة لهذا التجاوز التراكمي ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي: فمنذ بدء تجاوز الحد الأقصى العالمي، زادت التركيزات بمقدار 100 جزء في المليون. ففي عام 1970، بلغت مستويات ثاني أكسيد الكربون 47 جزءا في المليون فوق مستويات ما قبل الصناعة، أما اليوم فهي أعلى بمقدار 147 جزءا في المليون. ويقول الدكتور لويس أكينجي، عضو مجلس إدارة شبكة البصمة العالمية "إننا نتجاوز حدود الضرر البيئي الذي يمكننا التغاضي عنه، فقد دخلنا الآن ربع القرن الـ21، ونحن مدينون لكوكبنا بما لا يقل عن 22 عاما من التجديد البيئي". ويضيف أكنجي أنه حتى "لو أُوقف أي ضرر إضافي الآن. إذا كانت البشرية لا تزال ترغب في اعتبار هذا الكوكب موطنا لها، فإن هذا المستوى من التجاوز يستدعي طموحا في التكيف والتخفيف من آثاره، من شأنه أن يُقزّم أي استثمارات تاريخية سابقة قمنا بها من أجل مستقبلنا المشترك"، من جهته، يقول الدكتور ماتيس واكرناجل، عضو مجلس إدارة شبكة البصمة العالمية: " نظرا لطبيعة الفيزياء، لا يمكن أن يدوم التجاوز. سينتهي إما بتصميم متعمد أو بكارثة مُلقاة على عاتقنا. لا ينبغي أن يكون اختيار الخيار الأفضل صعبا، لا سيما في ظل كثرة الخيارات المتاحة". وتشير الدراسة إلى أن الحلول والفرص التي يمكنها تأجيل يوم تجاوز طاقة الأرض في الاتجاه الصحيح تتوفر في 5 مجالات رئيسية، وهي المدن، والطاقة، والغذاء، والسكان، والكوكب، إذ سيؤدي خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الوقود الأحفوري بنسبة 50% على سبيل المثال إلى تأجيل يوم تجاوز طاقة الأرض لمدة 3 أشهر فقط.


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
الهزائم العسكرية العجيبة.. لماذا نتفاجأ مما نعرفه؟
«وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ…» ثمة نوعان من المفاجآت: الأول ، حين نتفاجأ بشيء لا نملك معلومات عنه، ويبدو هذا بديهيا جداً. والنوع الآخر، حين نتفاجأ بشيء لدينا معلومات كثيرة عنه، ويبدو هذا شديد الغرابة. ومع غرابة الأمر، فإنه يحدث بشكل ثابت مع الأفراد والجماعات على حد سواء، آخرها تفاجؤ إيران بالهجوم الإسرائيلي الذي أدى إلى اغتيال العديد من القيادات العسكرية وعلماء رفيعي المستوى في المشروع النووي، بعضهم كان في بيته من فرط ما كان مطمئناً. ومع أن إيران راقبت أمام عينيها المفاجأة "المتوقعة" في "الإطباق" على حزب الله، وكانت على دراية باستعداد "إسرائيل" للهجوم عليها، فإنها استبعدت ذلك وتفاجأت به عندما حدث. المفاجآت التي نعرفها تحدث على الدوام، حدثت مع الأميركيين يوم هجوم اليابان على بيرل هاربر عام 1941، ويوم حرب أكتوبر /تشرين الأول 1973، و اجتياح صدام للكويت عام 1990، والكثير من الأمثلة، فما الذي يجعل المفاجأة المعروفة مسبقا تحدث؟ الأطر و"الفلاتر".. أين تذهب الملاحظات؟ حين وضع توماس كون كتابه "بنية الثورات العلمية"، كان يفكر بالطريقة التي يتقدم بها العلم: تتوارد الملاحظات التي يعجز نموذج مستقر على معالجتها، إلا أن ذلك لا يؤدي إلى استبداله على الفور، فهذا يحتاج إلى ثورة داخل التصور تأخذ وقتا، لأن الذي يحكم تطور العلم ليس الحقائق العلمية المستقرّة في داخله فحسب، بل أيضا البيئة النفسية والاجتماعية للسياق العلمي. الانتقال من تصوّر بطليموس للكون إلى تصوّر كوبرنيكوس، والمشاكل التي واجهتها فيزياء نيوتن مُتيحةً المجالَ لظهور النسبية، وغيرها من المسائل التي لم يحكمها تطور العلم بحدّ ذاته فقط، بل يلعب الإطار المعرفي (البردايم) دوراً أساسياً في ظهور بعضها وتأخر قبول بعضها الآخر. قد تتراكم الملاحظات والمشاكل أمام العلماء ولا يرونها أو يستثنونها، حفاظاً على إطار تقليدي للفهم اعتادوه، حتى لا يعدّ بالإمكان تجاهل هذا التنافر الرهيب بين الملاحظات والإطار التفسيري، فتصبح هناك ضرورة لإحداث ثورة على هذا الإطار التفسيري، غالبا ما تواجه بتعنت وصدام، لأن الفطام عن المألوف شديد، وهذه قصة تغير البنى العلمية كل فترة. هذا يعني باختصار أن تطور العلم ليس هو قصة تطوّر تجاربه ومعلوماته فقط، بل أيضا قصّة الطريق الطويل الذي تعبره الحقائق في صراع أطر الفَهم، والتي تعمل مثل "فلتر" حقيقي يحجب أحيانا ما هو بدهي، شديد الوضوح. ولقد بدأتُ بطرح الظاهرة في عالم العلم، لأنه يبدو أبعد الأماكن عن تحيزات الأطر والمفاهيم، إلا أن هذا منزع إنساني يحتاجه الإنسان لكي يشعر بنوع من السيطرة والأمن على محيطه، لكنه إذا استقر أكثر من اللازم يصبح تهديداً، وفي عالم السياسة والحرب يصبح قاتلاً، فمفهوم واحد مضلل يكفي لهزيمة بلد بأكمله. المفاهيم المفخخة في مساء 5 أكتوبر/تشرين الأول 1973، كان المقدم الإسرائيلي يونا باندمان يراقب بلا اكتراث؛ التقارير التي تتوالى عن استعداد مصر وسوريا لشن الهجوم الصادم، الذي سيشكل لاحقا عقدة حقيقية في الوعي الصهيوني. كتب بثقة: "مع أن مجرد تصور تشكيل الطوارئ على جبهة القناة يحمل ظاهريًا مؤشرات على مبادرة هجومية، فإنه على حد علمنا، لم يطرأ أي تغيير على تقييم المصريين لتوازن القوى بينهم وبين قوات جيش الدفاع الإسرائيلي. لذا، فإن احتمالية نية المصريين استئناف القتال ضئيلة". كانت المعلومات التي أمامه تتحطم سريعا على "فلتر" ضخم من الثقة بالفهم، ثقة ستأخذ لاحقاً مصطلحاً محدداً في الوعي الإسرائيلي: "المفهوم"، وهو الاسم الذي أطلقته لجنة "أغرانات" خلال محاولة إجابتها عن الإخفاق في التنبؤ بالهجوم. بدأ "المفهوم" بالتشكّل أواخر عام 1968، ففي اجتماع لهيئة الأركان العامة الإسرائيلية يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني، قيّم رئيس إدارة الطيران في القوات الجوية، اللواء بيني بيليد، أن المصريين سيرتكبون خطأً فادحًا إذا حاولوا عبور القناة دون تحقيق تفوق جوي، وقال بثقة: "أتمنى أن يرتكبوا هذا الخطأ". وافقه رئيس الجيش الإسرائيلي وقائد سلاح الجو قبل حرب الأيام الستة ، اللواء عزرا وايزمان. شيئاً فشيئاً، سيتحول هذا التقييم إلى إطار للرؤية وإطار لحجبها أيضا، فقد استقرّ "المفهوم" إطاراً صارماً للفهم بعد أن صاغه قسم الأبحاث في مديرية استخبارات الجيش الإسرائيلي عام 1971، واضعاً شروطاً مسبقة تحكم ذهاب المصريين والسوريين إلى خيار الحرب، وأساسُه هو: لن تذهب مصر إلى الحرب مع "إسرائيل" ما لم تضمن لنفسها القدرة الجوية على مهاجمتها في العمق، خاصة المطارات الرئيسية لديها. ومن أجل شل حركة القوات الجوية الإسرائيلية، احتاجت مصر من الاتحاد السوفياتي أن يزودها بالطائرات المقاتلة بعيدة المدى (طائرات "ميغ 23") التي يمكنها ضرب قواعد القوات الجوية الإسرائيلية، وأسلحة الردع (صواريخ "سكود" أرض-أرض) التي من شأنها أن تهدد العمق الإسرائيلي وتردعه عن ضرب أهداف عميقة في مصر، إلا أن ذلك لم يحصل. بعد أقل من سنة سينشأ لدى القيادة الإسرائيلية تناقض رهيب بين المعلومات الاستخباراتية التي تشير إلى استعدادات مصرية وسورية لخوض الحرب، وحقيقة أن مصر لم تحقق بعدُ القدرة الجوية لشل سلاح الجو الإسرائيلي. ارتفع "المفهوم" إلى مرتبة العقيدة، ولم تعد آحاد الملاحظات والتقارير قادرة على زعزعته. وخلال ذلك، كان تقدير المصريين قد تغيّر: سنخوض المعركة دون الحصول على الطيران السوفياتي. كان العبور المصري حدثا صادما، ما زال يحفر في الوعي الإسرائيلي بعيداً، خاصة أن الإنذار المبكر وما يحمله من ضرورة تفوق استخباري، يشكل أحد الأركان الثلاثة الأساسية لمفهوم الأمن الإسرائيلي، إلى جانب الردع والحسم. لقد كان اندلاع الحرب بدون سابق إنذار ودون استعداد الجيش الإسرائيلي، "وضعا كارثيا" كما وصفه رئيس أركان الجيش، اللواء ديفيد إليعازر. وكما أشارت لجنة "أغرانات"، فإن المفاجأة الاستخباراتية كانت لها عواقب وخيمة عند اندلاع القتال. ومقابل الدم الكثير الذي سال إسرائيلياً، سال حبر كثير في محاولة الإجابة عن السؤال الأهم: كيف تفاجأنا بشيء كان يحدث أمامنا طوال الوقت؟ عام 1983، كتب المؤرخ العسكري تسفي لانير كتاب "المفاجأة الأساسية.. استخبارات في أزمة"، محاولاً التفريق بين "المفاجأة الظرفية" الناتجة عن نقص المعلومات وبين "المفاجأة الأساسية"؛ تلك التي تحدث بسبب فجوة مفاهيمية لا يصلح فيها إطار الفهم في استيعاب المعلومات الواردة، وبالتالي فإن المعلومات الإضافية لا تُساعد في معالجتها. "تحديد المفاجآت الأساسية أمر معقد"، كتب لانير، "فحتى بعد وقوع الحدث، نستمر في الحكم عليه باستخدام النظام الإدراكي القديم"، مقترحاً الوقوف في منطقة وسطى بين التفكير المنطقي والتفكير الحدسي، أو بكلماته: "التفكير في العاطفة"، ولكن ماذا يعني هذا؟ كان الدرس الأهم* بالنسبة للجنة "أغرانات" فيما يتعلق بالفشل الاستخباراتي قبل الحرب، أنه لا ينبغي الاعتماد على تحليل نوايا العدو، بل يجب على الجيش الإسرائيلي أن يُجهِّز نفسه بناءً على تقييم قدراته. هذا معناه، أن تكون العين على توسيع القدرات، لا على الانشغال بنوايا الأعداء، وأن تعدّ نفسك وكأنك ستُهاجَم الآن، ومن كل أحد. لجان وإجراءات وكتب، حاولت "إسرائيل" من خلالها أن تسيطر على الطبيعة البشرية المجبولة على النقص. وضعت ثقتها في التكنولوجيا حيث التفوّق الاستخباراتي، فظنّت أن الجبل التكنولوجي سيعصمها من الماء، لكنْ جاءها الطوفان. طوفان الأقصى.. لماذا أخفقت "إسرائيل" مجددا؟ أمام أنظار "إسرائيل"، كانت تجري التدريبات العسكرية على اقتحام " غلاف غزة". وفي الأسابيع الأخيرة التي سبقت هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وردت التقارير التي تفيد بقيام مزارعين فلسطينيين بالتقاط صور للسياج الحدودي، وأخرى تتحدث عن عناصر من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يراقبون المواقع العسكرية والمستوطنات وبيدهم خرائط، لكنْ جرى تجاهل كل هذا. قبل 11 ساعة من الهجوم، كان بالإمكان تفاديه، تقول التقارير الاسرائيلية، ففي 6 أكتوبر/تشرين الأول، أرسلت الاستخبارات الإسرائيلية بعض المؤشرات التحذيرية، التي أدت إلى سلسلة من المشاورات الأمنية في وقت متأخر من الليل، بين قادة في مناصب حسّاسة. لكن "المفهوم" سيطر عليهم، فلم يرسل "الشاباك" سوى عدد قليل من العاملين الإضافيين إلى قطاع غزة، بينما واصل مدير "جهاز الاستخبارات العسكرية" (أمان) اللواء أهارون هاليفا ، قضاء إجازته في إيلات. بتقدير مشترك من جهازي "الشاباك" و"أمان"، كانت ثمة قناعة راسخة بأن التفوق العسكري والاستخباري الإسرائيلي من شأنه أن يردع حماس عن الشروع في أي عمل عسكري كبير، وفي حال وجود هجوم يُخطط له فسيكون مسبوقاً بتحذير من المؤسستين في الوقت المناسب. أخفقت "إسرائيل" أمام مثال سبق أن تعرضت له، واستطاعت المقاومة الفلسطينية أن تتحرك باتجاهين: أولاً: تعزيز "المفهوم" عند العدو حتى يصبح عقيدة، وهو ما انعكس بضبط النفس الذي أبدته كتائب القسام بعدم دخولها في المواجهات المتقطعة بعد " سيف القدس"، وبمواصلة تدفق المساعدات المالية، وبزيادة نسبة العمال في الداخل المحتل؛ كلها مؤشرات أفادت بردع حماس وبنيّتها الذهابَ نحو تهدئة طويلة. ثانياً: التخدير بالإغراق، وهو أمر عملت عليه حماس بشكل ذكي، فخدّرت اليقظة الاستخبارية وأغرقتها بالعديد من الرسائل الأمنية، التي أدت في النهاية إلى تعطيل حاسة الخطر. إن كنتَ مسؤولاً عن تقييم المخاطر الكبرى، وكنت تحصل كل يوم على تحذير بمخاطر كبرى، فإنك لا تعود قادراً على معرفة الخطر الكبير عندما سيأتي. لقد قرأنا قصة شبيهة في طفولتنا عن الراعي الذي كان على الدوام يستنفر أهل قريته ضد ذئب غير موجود، فعندما جاء الذئب حقيقةً لم يكن أحد قادرا على أخذ تحذيره على محمل الجد. نُقلت القصة كما هي لتوصيف هذا الخطأ في عالم الاستخبارات، وصارت تعرف باسم "متلازمة الذئب" (Cry wolf syndrome)، وهي المشكلة المعروفة باسم "إرهاق التحذيرات". تكلمت حماس بشكل مستمر عن الطوفان والغلاف والاستعداد للمعركة الكبرى، وذُكر هذا في خطاب العديد من القادة، بل وأنتجت الحركة مسلسلاً تلفزيونياً يتحدث عن الخطة بكل وضوح؛ خالقةً حالة "تبلد التحذير" عند العدو. إن خلق الضوضاء طريقة فعالة أمام هيمنة المراقبة وزيادة سطوتها، ومع أن الأمر قديم، فإن فاعليته الآن تزداد مع تزايد الرقابة واتساع قدرتها على جمع المعلومات. قبل الهجوم على بيرل هاربر عام 1941، أدى فائض الإنذارات والافتراضات إلى إلغاء فاعليتها، وعُدت هذه الحالة مثالا مرجعيا في فشل الاستخبارات الناتج عن ضوضاء التحذيرات. يكشف معهد "بونيمون" أن المحللين الأمنيين، بسبب التشبّع المفرط بالمعلومات، يفوتون ما نسبته 31% من التحذيرات، وتتراوح الإنذارات الكاذبة بين 75 و95% من جميع التنبيهات الأمنية. سوريا.. كيف يمكن "للمفهوم" أن لا يعضك؟ لا يمكن الاستغناء عن المفاهيم والأطر التحليلية، فهي ضرورية لترتيب الزخم الكبير من المعلومات التي تحيط بنا. وتساهم الأطر في تحديد الأولويات ورؤية العالم ووضع الخطط، وفي كثير من الأحيان يعتبر التحليل أهم من المعلومة ومقدما عليها، فبإمكان المعلومات أن تكون مُضلّلة، كما ضللت الديكَ الرومي ألفُ يوم حول نيّات صاحب البيت الذي يطعمه ثم يذبحه في عيد الشكر، والمثال لنسيم طالب. ولو أن الديك الرومي تمسّك بالمعرفة التاريخية عن الإنسان والأعياد وموقعه هو من عالم البشر، لما اغتر بالمعلومات الخاطئة المُستقاة من رعايته اليومية واستعد ليومه الموعود. تشيع العديد من القناعات اليوم في الفضاء العام السوري، آخذة طريقها نحو تشكيل أطر مفخخة للفهم في مجال السياسة، قناعات مثل أننا دخلنا مرحلة بناء الدولة بما يتطلبه الأمر من وعد بالاستقرار والرفاه، وأن الالتزام بهذا التوجه من شأنه أن يطمئن الإقليم ومن خلفه العالم إلى التجربة الجديدة فيقومون بدعمها، وكأن العالم يكافئ أصحاب النيات الجيدة ويعاقب أصحاب النيات السيئة، وليس قائما على تدافع خشن وعنيف يهدف إلى تجريد أي تجربة في منطقتنا من ممكنات قوتها، إما بتنفيسها تدريجيا ثم جزّها، وإما بالقضاء عليها قبل أن تكتمل. ويُخشى أن استقرار المفاهيم الوردية على التصور السياسي يُفوّت القدرة على التحليل الثابت لطبيعة النظام العالمي والإقليمي العربي (مثلما حدث مع الديك الرومي)، ويفوت قراءة المعلومات الكثيرة التي تتوارد من مشروع إسرائيل الكبرى الذاهب إلى إخضاع التجربة وتقسيمها بوصفها مجالا لنفوذه الإقليمي، خصوصا بعد تراجع إيران. فنحن نتكلم عن ثلاث قوى إقليمية: إيران وتركيا وإسرائيل، ولن تترك دولة فراغا لأخرى إلا بالصراع، وهذا يعني أن سوريا بطبيعة الحال ميدان لهذا الصراع حاضرا ومستقبلا. مجددا، تُوازن المعلومات بالتحليل ويُراجع التحليل بتراكم المعلومات، ويقتضي الحس السليم فحص المجالين باستمرار وطلب الهداية من الله. قد تستدرجنا المعلومات إلى الفخ، وقد تخدرنا، وقد تزيد من استرخائنا النفسي أمام الأخطار، ولهذا، فإن الاستناد إلى التحاليل والبنى والمعرفة التاريخية ضروري جداً لترتيب كل ما يحدث. ومع توارد الملاحظات الجديدة، فإن علينا باستمرار أن نفحص مفاهيمنا عن الواقع ومدى قدرتها التفسيرية، ثمّ ردّها إلى الأسس الثابتة في فهم طبائع الأمور والصراعات. الواقع متغير ولا يمكن القبض عليه في لحظة سكون، والتناقضات الداخلية في هذا الواقع مكون أساسي فيه. وبالطبع، تساعدنا المفاهيم، لكن ستخيب آمال أولئك الذين يضعون ثقتهم فيها بلا نهاية. يلعب الهوى دوراً خطيراً في كل هذا، تميل النفس إلى تفسير المعلومات وفقًا لرغبتها في سير الأمور، والنتائج التي تنفر من رؤيتها في الواقع تقلل معالجة المعلومات التي ترسخها. بطبيعة الحال، فإن التخلّص من الهوى أمر صعب، لكن فحصه باستمرار؛ أمانة وقوة وضرورة. ومن المهم بمكان، الفصل بين "التحليل السياسي" (وهو عملية موضوعية بطبيعتها) وبين "اتخاذ الموقف" (وهي عملية انحياز واع وإيماني)، لكنّ أحدهما لا يحل مكان الآخر، وبدافع الرغائب؛ كثيراً ما يصبح الموقف تحليلًا والتحليل موقفاً. يساعدنا التدربُ على طرح سؤال "ماذا لو؟" بدلاً من "هل؟"، والقيادات التي لا تعود للتفكير في السؤال الأول، تخاطر في مواقعها، أو أنها تسلمها مسبقا. فليس السؤال في سوريا اليوم "هل إسرائيل ستقبل بوجود التجربة الجديدة مستقرة وقوية بقربها؟"، بل السؤال الحقيقي: ماذا لو قررت "إسرائيل" مهاجمة سوريا قريباً؟ بقاء السؤال يقظا يتيح الإعداد الجاد، ويبقي النفس خارج مناطق الراحة القاتلة. يصف القرآن الكفار "بالعَمَه"، وهو عدم القدرة على رؤية الأمور على حقيقتها استناداً إلى البصيرة، وهو غيرُ العمى الخاص بتعطل جارحة العين. يخبرنا ابن فارس أن "العين والميم والهاء أصلٌ صحيح واحد يدل على حيرةٍ وقلة اهتداء". ولقد اقترن الفعل "يعمهون" بالطغيان في 5 آيات، وبالسكرة في آية، وبالتزيين في آية، مما يدل على فقدان التبصّر والتنبيه في "العمه". وهذا يعني أن التزكية وتخليص النفس من انحيازاتها؛ مسألة أساسية في رؤية الأمور على حجمها الحقيقي، وفي رؤية المخاطر قبل قدومها، وفي التصدي لطغيان النفس وثقتها الزائدة بنفسها ، خصوصاً بعد لحظة انتصار، وعند السُكر والنشوة التي قد تصيبنا تحت وطأة الفرح أو الفزع، وعند التزيين الذي يمارسه شياطين الإنس والجن.. ومن تغلّب على نفسه "عدوه الداخلي"، يوشك أن يظفر بعدوه الخارجي. __________ قبل الحرب، كانت مديرية الاستخبارات تحتكر تقييم المعلومات الاستخبارية في "إسرائيل". وكجزء من دروس الحرب، تم تفكيك مركزية التقييم، كما أُنشئت هيئات تقييم في "الموساد" (شعبة الاستخبارات) ووزارة الخارجية (دائرة البحوث السياسية). أنشأت مديرية استخبارات الجيش الإسرائيلي قسم الرقابة (المعروف أيضًا باسم "التقييم المحتمل")، ومهمته تقديم تفسيرات بديلة للتقييم المركزي، لإثارة التساؤلات حول افتراضاته الأساسية. رئيس القسم ضابط برتبة مقدم، ويرفع تقاريره مباشرةً إلى رئيس مديرية الاستخبارات، وليس إلى رئيس قسم الأبحاث. بالإضافة إلى ذلك، تقرر فصل شعبة الاستخبارات عن هيئة الاستخبارات، التي سيرأسها ضابط استخبارات رئيسي تابع لرئيس الاستخبارات العسكرية، واستبدالها بمنصب "مساعد رئيس الاستخبارات العسكرية". وكان الهدف من ذلك، تمكين رئيس الاستخبارات العسكرية من تكريس نفسه للبحث وتقييم المعلومات الاستخبارية والتحذير، وإزالة الأعباء الإدارية للشؤون اللوجستية والتنظيمية عنه.