logo
مذكرات الموسيقي الحلبي سامي الشوا تشهد على عصر ذهبي

مذكرات الموسيقي الحلبي سامي الشوا تشهد على عصر ذهبي

Independent عربية٢٣-٠٣-٢٠٢٥

لعل آخر تجليات حضور سامي الشوا يتمثل في صدور مذكراته أخيراً، عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، بعنوان "مذكرات بلا رتوش"، بإشراف الباحث الكويتي أحمد الصالحي الذي يحقق المذكرات، ويصدرها بمقدمة ضافية، يعرض فيها لمحات من حياة الموسيقي ومقتطفات من مذكراته.
تشمل المذكرات سيرة صاحبها الذاتية، وتحدره من عائلة موسيقية عريقة، وتعالقه مع كبار الساسة والفنانين والشعراء، والتكريمات التي حظي بها، ومرجعيته الفنية والموسيقية، مما يجعل منها شهادة على العصر، ونافذة على العالم، ووثيقة تاريخية وموسيقية، وليست مجرد سيرة ذاتية لصاحبها، وفق ما يشير إليه المحقق في المقدمة التي يروي فيها كيفية العثور عليها من قبل شريكه في الاهتمام بسامي الشوا الباحث الموسيقي مصطفى سعيد، لدى الإعلامية مشيرة كامل، وقد وجدتها ضمن مقتنيات والدها المؤرخ الموسيقي محمود كامل.
ويذكر الحال التي كانت عليها قبل التحقيق لجهة سقوط صفحات منها، والصعوبات التي واجهته خلاله، والآليات التي اعتمدها فيه، والمصادر التي استعان بها لتدارك الناقص من المعلومات والساقط من الصفحات، مما يعكس حجم الجهد الذي بذله المحقق في عملية التحقيق. ويستفاد من المقدمة والمذكرات التي تمتد على سبعة فصول أن الشوا بدأ مسيرته الموسيقية مطلع القرن الـ20، وأنه بلغ أوج شهرته في العشرينيات منه، وأنه بدأ يدخل في الظل في الخمسينيات، وأنه أخلد إلى الصمت والعزلة في الستينيات.
كتاب المذكرات (المؤسسة العربية)
السنوي في إطار من الخطية الزمنية، فيذكر الأحداث التي حصلت معه في سنة معينة حتى إذا ما انتهى منها ينتقل إلى أخرى، ولا يعني ذلك أن تكون الثانية متصلة بالأولى، فثمة انقطاع في التسلسل أحياناً، يبلغ ذروته في العقد الأخير من عمره الذي لا تأتي المذكرات على ذكر الأحداث الحاصلة فيه. ولعله يكتفي بذكر السنوات التي شهدت أحداثاً بارزة في مسيرته المهنية، مما يجعل من المذكرات مجموعة سنويات متصلة ومنفصلة، في الوقت نفسه. على أن ثمة إشكالية يطرحها هذا الترتيب تتعلق بنسبة الأحداث إلى السنة التي وقعت فيها، فكثيراً ما يخطئ المتذكر في تحديد السنة الصحيحة، وهذا ما يشي بكتابة المذكرات في مرحلة متأخرة من حياته بدأت فيها الذاكرة تضعف، مما يتداركه المحقق استناداً إلى الصحف والمجلات والمصادر المختلفة، وانطلاقاً من النص نفسه الذي قد تضطرب فيه المعلومات بين صفحة وأخرى، فيقوم بردم الفجوات بين السنين وتدارك ما لم تتم الإشارة إليه في المذكرات. ومن خلال هذا التسلسل المتصل المنفصل للسنين، نتعرف إلى الشوا بدءاً من بداياته، مروراً بتعرضه للضوء ودخوله في الظل، وانتهاء بإخلاده للصمت والعزلة.
عائلة موسيقية عريقة
يتحدر الشوا من عائلة حلبية الأصل، يتوارث أفرادها حب الموسيقى أباً عن جد، فجده الكبير يوسف يعزف على الكمان، وجده لأبيه إلياس يعزف على القانون، وأبوه أنطون يعزف على الكمان، وأعمامه عبود وحبيب وجورج يعزفون على العود والطبلة والنقرزان تباعاً. ولعل هذا الشغف العائلي بالموسيقى والعزف هو الذي حدا بالعائلة إلى تأسيس نوبة تحمل اسمها، منذ مطلع القرن الـ19، راحت تحيي الاحتفالات، وتهتم بالموشحات الحلبية. هذا التحدر من عائلة موسيقية عريقة، معطوفاً على شهرة الأب أنطون التي طبقت الآفاق في العزف على الكمان، كان لهما أبلغ الأثر في تشكيل ميول الطفل سامي الفنية واستعداداته الموسيقية المبكرة، فهو، في طفولته، قلما مر يوم لم يسمع فيه عزف أبيه على الكمان، مما جعله يعشق تلك الآلة، وينتهز فرصة غياب الأب عن البيت ليختلس التدرب على العزف، حتى تمكن من عزف الآذان المرفوع من الجامع المجاور لمنزله في حلب، وإثارة إعجاب إمام الجامع به.
سامي الشوا يعزف في حفلة (من الكتاب)
غير أنه كان للأب رأي آخر، فهو ما إن علم بتدرب ابنه على العزف في غيابه حتى بادر إلى تحطيم الكمان كي لا يصرفه العزف عن الدراسة. على أن الشوا يشير، في المقابل، إلى تشجيع أمه له، واحتضانها موهبته منذ البداية، وإطلاقها في حفل عيد ميلاد أبيه، مما فاجأ الأب، وشكل نقطة تحول في موقفه، فأخذ يشرف على تعليمه العزف بنفسه، وأخذت الأسر المسلمة الكبيرة في حلب تدعوه إلى بيوتها، حتى إذا ما نصح المغني المصري يوسف توفيق صديقه الأب بإرسال ابنه إلى مصر لدراسة الموسيقى، يعمل بنصيحته، ويخطو الصبي خطواته الأولى على طريق الشهرة والمجد.
المرحلة المصرية
في مصر، تأخذ شخصية العازف الصغير بالتبلور شيئاً فشيئاً، ويأتي عزفه في بيوت الأسر الكبيرة ليلفت الأنظار إليه، فيذيع صيته، وتشيد به الصحف، وتنهال عليه دعوات العمل، فيعزف مع حسن حويحي، ومحمد إبراهيم، ويوسف المنيلاوي، وإبراهيم القباني، وعبدالحي حلمي، وسلامة حجازي، وسيد درويش، وداوود حسني، وأم كلثوم، وزكي مراد، وأبو العلا محمد، وغيرهم. وخلال هذه المرحلة المصرية، يلتقي كبار القوم في السياسة (مصطفى كامل، سعد زغلول)، والثقافة (محمد عبده، قاسم أمين)، والشعر (إيليا أبو ماضي، أحمد شوقي، خليل مطران)، والغناء (محمد عبدالوهاب، أم كلثوم). ويؤسس مع منصور عوض مدرسة لتعليم الموسيقى العربية، في عام 1907، في حي الظاهر الذي يقيم فيه، ويقبل عليها المتعلمون، من كل حدب وصوب، ويدخل في التدريس فيها بنفسه. وتنهال عليه عروض شركات تسجيل الأسطوانات فيقبلها، مما يعدد مصادر دخله، ويوسع آفاق شهرته. فيتلقى دعوات من خارج مصر للعزف وإحياء الحفلات، وتكون له جولات فنية، أميركية وأوروبية وعربية، تبلغ ذروتها في عشرينيات القرن الـ20 الذي يشهد ذروة تألقه الفني.
حول العالم
وإذا كانت مصر قد شكلت المهد الذي تبلورت فيه موهبة الشوا الموسيقية عزفاً وتأليفاً، ومنحته أجنحة الشهرة التي أتاحت له التحليق حول العالم، فإنه لم يدخر وسعاً في تلبية الدعوات التي راحت تنهال عليه من الخارج للعزف وإحياء الحفلات الموسيقية منفرداً أو بالاشتراك مع آخرين. وفي هذا السياق، يحيي في عام 1908 عشرين ليلة فنية في بيروت مع المطرب عبدالحي حلمي، ويعزف في قصور إسطنبول أربعة أشهر عاشها كالملوك.
يعزف في حفلات في بيروت مع زكي مراد وأبو العلا محمد في عام 1919، ويتوجه منها إلى دمشق لتحية الملك فيصل. يحيي حفلة في جامع باريس في العام 1927 بدعوة من الملك فيصل نفسه لتعريف الفرنسيين بالموسيقى الشرقية. يقوم بجولة أميركية لبضعة أشهر، في العام نفسه، يحيي فيها كثيراً من الحفلات، ويتعرف إلى بعض فناني أميركا ومشاهير الأدباء العرب فيها، ويقدم صورة مشرقة عن الموسيقى العربية الشرقية، وخلال هذه الجولة يتم تكريمه في نيويورك من قبل الجالية العربية، ويترأس لجنة التكريم جبران خليل جبران، فتنشأ بينهما علاقة وثيقة، يدأب فيها الأخير على زيارته في فندق سان جورج في واشنطن والاستماع إلى عزفه، ويكون في عداد لجنة التكريم إيليا أبو ماضي وعبدالمسيح حداد وسلوم مكرزل وآخرون. يقوم بجولة أميركية أخرى لثمانية أشهر، في عام 1932، يلتقي خلالها عازف الكمان الأميركي المشهور جاسكا هايفتس، ويقوم في العام نفسه بجولة على بعض مدن أميركا الجنوبية (ريو دي جنيرو، ساو باولو، مونتيفيديو) ويحيي فيها عدداً من الحفلات. وفي طريق العودة إلى مصر، يعرج على الفاتيكان، ويعزف مقطوعة في إذاعته، الجمعة الحزينة، ما يشكل خروجاً على التقاليد الفاتيكانية، ويزور البابا. على أنه لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن رحلة الشوا الموسيقية الأخيرة كانت إلى أميركا، واستمرت من عام 1952 حتى عام 1955، عاد بعدها إلى مصر ليدخل في عزلة إعلامية وفنية لا سيما بعد سقوط العهد الملكي الذي كان يعد أحد المقربين منه.
تكريمات مختلفة
جرى تكريم الشوا في مصر وخارجها، فكرمه الملك فؤاد في عام 1927، والجامعة الأميركية في بيروت في عام 1929، والملك فيصل في بغداد في عام 1931، وباي تونس في عام 1932، وغيرهم. وفي المقابل، لقد جرت عليه نجاحاته حسد الحاسدين وكيد الحاقدين، فتربصوا به غير مرة، خلال مسيرته الطويلة، لكنه استطاع أن يرد كيدهم إلى نحورهم. وعلى شمول المذكرات أنشطة الشوا المختلفة عزفاً وتأليفاً وتدريساً وتسجيلاً، فإنها أغفلت أنشطة أخرى ذات طابع تجاري أو سينمائي، وهو ما يشير إليه المحقق في خاتمة الكتاب بهدف سد الفجوات الناجمة عن هذا الإغفال.
"مذكرات بلا رتوش "تضيء السيرة الذاتية لصاحبها، وتطل من خلالها على المشهد الموسيقي العربي، في النصف الأول من القرن الـ20. وبذلك، تجمع بين طريف السيرة وتليد التاريخ، وتستحق القراءة بامتياز.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين
فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين

سعورس

time١٧-٠٤-٢٠٢٥

  • سعورس

فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين

وقد اختلفت ردود الفعل تلك، وأشكال النقد الموجَّه لها، بحسب وعي كل مفكر ومثقف وكاتب، وبحسب توجّهه الإيديولوجي ومرجعياته الفكرية والدينية التي كانت تحرّكه نحو ما يريد. ولم يكُن مفكرنا فرح أنطون ببعيدٍ عن ذلك المنهج وتلك الأجواء، إضافة إلى مفكرين عرب آخرين ظهروا في تلك الفترة، سواء الذين اتّفقوا معه وتقاربوا في الأفكار أم الذين اختلفوا معه ورفضوا أفكاره أو خاصموه. والصراع الفكري الأشد الذي كان سائداً في تلك المرحلة التي عاشها فرح أنطون هو صراع العلم والفلسفة مع الديني والسياسي، صراع المقدَّس واللّامقدَّس، اللاهوتي والناسوتي، الديني والعلماني، التجديد والتقليد، التراث والحداثة، وهو الصراع الأزلي المزمن الذي لا يمكن الفرار منه في كل مرحلة تاريخية يعيشها البشر في أغلب المجتمعات والشعوب. وقد عاش أنطون قمّة ذلك الصراع والنزاع الدائر في تلك المرحلة الزمنية، وكان أحد أقطاب الحوار الفكري وروّاده الذين ظهروا في الفكر العربي آنذاك، وأبرزها ما كان يدور بينه وبين الشيخ محمد عبده (ت 1905) من مساجلات ومجادلات وحوارات فكرية شغلت حيزاً ثقافيا مهماً في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، وكان مسرح تلك الحوارات «مجلة الجامعة» التي أنشأها أنطون، و«مجلة المنار» التي أنشأها محمد رشيد رضا (ت 1935)، وكانت «الجامعة» تنتصر للفكر العلمي والخط العلماني، بينما تنتصر «المنار» للفكر الديني وللخط الإسلامي. وتطوَّرت تلك الكتابات والحوارات إلى مؤلفات فكرية تركتْ أثرَها على الساحة الثقافية والفكرية العربية المعاصرة، فألَّف فرح أنطون كتاب «ابن رشد وفلسفته» وفيه ردوده على عبده، بينما ألَّف محمد عبده كتابه «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية» وقد ردَّ فيه على أفكار أنطون، سواء الدينية منها أم المدنية، لأن عبده ينتصر للخط الديني الإسلامي بينما أنطون ينتصر للخط العلمي العلماني، وهناك بونٌ شاسع بين الاثنَيْن، كما أنّنا نلمس اختلافاً في الخط الفكري الواحد بين المفكرين، كما هو الحال مثلاً بين عبده وبين محمّد رشيد رضا. فالأول يقترب من الخط الديني العقلاني والنزعة النقدية، بينما يقترب الثاني من الخط الديني النقلي أو قلْ (الأصولي) السلفي المتشدد، والذي كان من نتاجاته كتابه «الخلافة» الذي تم تأليفه سنة 1922 وقد مضى عليه أكثر من مائة عام، وفيه ينتصر لفكرة الخلافة الإسلامية التي كانت تتغنى بها الدولة العثمانية، والتي تحوَّلت في تلك الفترة من ولادة كتاب محمد رشيد رضا إلى دولة علمانية رافضة للخلافة الإسلامية وتدين بالمدنية والأفكار العلمانية التي ظهرت مع أتاتورك، والتي كان أنطون أحد دعاتها، ولكن بخط توفيقي متزن، يختلف تماماً عما قدّمه شبلي شميّل (ت 1917) من علمانية متشددة ترفض الدين وتجعل العلم ديناً جديداً للبشرية؛ إذ كان أنطون يحتفظ بوسطية وحيادية عالية في فكره، بتشديده على قيمة الدين في حياة الانسان والمجتمعات، ودوره التربوي والأخلاقي والسلوكي، بينما يرفض أنطون تدخُّل الدين في السياسة والعلم، لأن قيمة الدين تتجسد في حفْظ القيَم الروحية والأخلاقية التي تنعكس على رقي المجتمعات وتقدّمها، ولأن قيمة الفلسفة تتحدَّد بوظيفتها في تحقيق الفضيلة للفرد والمجتمع، فيما تتمثَّل وظيفة العلم في تحقيق التقدم التقني والصناعي وخدمة البشر. أما السياسة فهي تعمل على تحقيق سلامة حرية الفرد والمجتمع وفق القانون وضمان عيشه بمختلف طبقات الناس وتنوُّع اختلاف قومياتهم وأديانهم ومعتقداتهم في البلد الواحد، لأن «الدين لله والوطن للجميع» كما يقول أنطون؛ بحيث لا يُمكن للحاكم أن يحكم بما يعتقد به من دين، في حال كانت هناك أديان وأفكار متعدّدة في البلد الواحد، بل يحكم بعقل سياسي، قانوني، مدني، ينشد الفضيلة وحفْظ حقوق جميع مواطني دولته، ويكون الناس سواسية في دولته في الحقوق والواجبات، من دون تمييزٍ بين فرد وفرد بما يعتقد أو يدين، لأن التمييز يهدد أمن الدولة وبقاءها، ويشكل خطراً على المجتمع ويهدد العيش المشترك، فضلاً عن أنه سبب أساس للفرقة وتمزق الوحدة الوطنية داخل الدولة. وقد استنبط أنطون أفكاره تلك من أفكار وفلسفات ونظريات علمية وسياسية متعددة، مختلفة المشارب، من مصادر عربية وإسلامية وغربية، فهو حيناً متأثر بأفكار ابن رشد وابن طفيل والمعري وعمر الخيام وابن خلدون والفلسفة العقلية، وتارة متأثر بأفكار فولتير وروسو وأوغست كونت وكارل ماركس وجول سيمون وإرنست رينان ونيتشه، ويبحث عن الأفكار العقلية النقدية والعلمية التي تؤدي إلى تقدُّم المجتمعات ونهضتها، ولذلك كان من دعاة الاتجاه العلمي أو العلماني في الفكر العربي الحديث والمُعاصر. يحمل فرح أنطون روح عصره، وهموم تاريخه، ووجَعَ مجتمعه، ولذلك كان متعدّد المشارب والمصادر والعلوم والفنون، وتوزَّع جهده الفكري والإصلاحي بين الديني والسياسي والعلمي والفلسفي والصحافي والأدبي والترجمي. وكانت سنوات عمره الثمان والأربعون عاماً زاخرةً بالجهد والنتاج والتفكير. ونتاجه الفكري كان أكبر من سنيّ عمره، ولو عاش أكثر، لكنّا شهدناه يُبدع أكثر ويقدم أكثر، ولكن للموت سلطته وحكمه القاطع، إذ توفي الرجل في يوليو من العام 1922 حين جيء به مغمياً عليه محمولاً إلى بيته في الإسكندرية من مجلة «الأهالي»، محل عمله الأخير. تتمخض رؤية فرح أنطون وفلسفته حول المسألة الدينية بما يلي: لقد استنبط فرح أنطون فلسفته ومنهجه من أفكار ومنابع متعددة كما سبق وأشرنا، ومنها فلسفة ابن رشد التي كانت حاضرة بقوّة في فكره. تلك الفلسفة التي أراد لها أن تكون أنموذجاً يُحتذى به في المجتمع العربي المتنوع، دينياً وفكرياً وسياسياً، وفق التوجه العقلاني من جهة، والتوجه التوفيقي بين الفلسفة والدين من جهة أخرى. فقد كان ابن رشد، الذي تَمَثَّله أنطون وتشبّه به، يعيش في مجتمع مختلف بتوجهاته ومنابعه، قَبل أن تطيح به نكبته، التي كانت سبباً في نفيه إلى مدينة «اليسانة» اليهودية، حيث كان لليهود الدور الكبير في التعريف به وبترجمة مؤلفاته ونقلها إلى أوروبا، أوروبا العنف والحروب الدينية والكراهية المتمادية، أوروبا محاكم التفتيش والحرق والإعدام، وذلك قبل حدوث نهضتها وتفجير ثورتها العلمية والفكرية والدينية والفلسفية، التي كان للعرب والمسلمين الأثر الكبير في الدفع بها؛ وذلك بشهادة علماء غربيين وبعض المستشرقين المنصفين ممَّن أشادوا بأثر العرب والمسلمين في تلك النهضة. نذكر من هؤلاء غوستاف لوبون، المؤرخ الفرنسي الشهير، في كتابه «حضارة العرب»، والمُستشرقة الألمانية زغريد هونكة في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب». 1 إن الأديان كلها ذات مصدر واحد، وذات هدف واحد، ورسالة واحدة، وهي أن الله وحده لا شريك له، ووظيفة الدين تربوية وأخلاقية وروحية، وهي تحقيق وتعميم الفضائل وتهذيب النفس البشرية وحث المجتمعات على التعلق بحبال الحق والكمال، وتحقيق العدل والمساواة بين البشر، وحق الحياة والعيش الكريم، وهو الهدف نفسه الذي تسعى إلى تحقيقه المبادئ والقوانين في المجتمعات المدنية المعاصرة. 2 إن كل دين كناية عن مجموعة شرائع تحض على الفضيلة. وإذا ما وُجد فرق في ما بين الأديان والشرائع، فعلى مُفسري الأديان ألّا يمعنوا في إبراز الاختلافات والخلافات بينها. عليهم أن يمارسوا أفضل تأويل، لتحقيق وحدة الصف الوطني والإنساني وسلامة المجتمعات والنأي بها عن الحروب الدينية والعنف الطائفي والكراهية والتطرف. فالتأويل والتفسير الضيق قد أدخل بعض المجتمعات في أتون حروب دينية دموية ذهبت بالبلاد والعباد. 3 ثمة إساءة إلى الدين وإلى رسالته ووظيفته من قِبَل بعض رجال الدين الذين أخرجوا الدين من إطار السماحة والرحمة والإنسانية إلى حدود العنف والتطرف والكراهية. لذلك يجدر الفصْل بين الدين الحقيقي (بصورته السماوية) والتدين الشكلي، وفهمه وتفسيره الضيق الذي يتبناه رجال دين ضيّقوا البَصر والبصيرة. 4 لا فرق بين رسالتي المسيحية والإسلام في الدعوة الخلقية والتربوية والروحية، فرسالة الدين تدعو إلى ممارسة الفضيلة وصون كرامة الإنسان، وخروج الدين عن تلك الرسالة والهدف هو شر مطلق وتزييف لحقيقة المعتقد مارسها رجال دين وسلاطين بغرض السيطرة السياسية على مقدرات الناس ومصائرهم. 5 فصْل الدين عن العلم وعن الدولة ضرورة ملحة لا بد منها، بغية تحقيق استقلالية العلم والدولة دونما تدخُّل من رجال الدين، ولضمان نجاح المجتمعات وسلامتها وتقدمها، لأن التجارب الاجتماعية والسياسية أثبتت مدى خطورة ذلك التدخل وتلك السياسة الضيقة. 6 ينبغي للحاكم ألا يحكم الدولة بدينه الشخصي ومعتقده الإيديولوجي، بل بالقانون المدني، لأن الاحتكام لدين الحاكم يُقصي الأديان الأخرى الموجودة في المجتمع الواحد، وبالتالي يهدد سلامة المكونات كلها داخل المجتمع الواحد وأمنه؛ وانتصار الحاكم لدين على دين، ولمذهبٍ على مذهب، هو خطر يمزِّق هوية الدولة وكينونة المواطن والعيش المشترك. 7 ثمة منطقتان يجب الفصل بينهما، منطقة القلب ومنطقة العقل، بغية ضمان سلامتهما وديمومتهما معاً. منطقة القلب هي محطة الدين والإيمان، ومنطقة العقل هي محطة العلم، ولكلٍّ منهما منهجه وأسلوبه وحدوده. 8 استحالة توحيد الأمة على أساسٍ ديني، بل على أساس وطني بحت، كما تتمثل في مفهوم «الجامعة الإسلامية» التي نادت بها الدولة العثمانية، وأحكمت من خلالها قبضتها على المجتمع، حتى أدّت إلى زعزعة الوحدة الوطنية وسقوط الدولة، وتردّي واقعها الاجتماعي والسياسي والديني، فضلاً عن الفتن والاضطرابات بين الإسلام والمسيحية من جهة، وبين أتباع الدين الواحد من جهة أخرى، كما حدث بين المسيحيين أنفسهم، كاثوليك وبروتستانت، أو بين المسلمين، سنة وشيعة. 9 يرى أنطون أن لا مدنية حقيقية ولا تسامُح ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا حرية ولا عمل ولا فلسفة ولا عِلم ولا تقدم في داخل المجتمع ومؤسساته إلّا بفصْل السلطة الدينية عن السلطة المدنية. ولا سلامة للدول ولا عزّ ولا تقدُّم في الخارج إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. 10 تحقق النهضة الحقيقية والإصلاح الجدي المُثمر للمجتمع العربي يكون بسيادة النزعة العلمية والعلمانية التي تَحترم كل منطقة وتؤمن باستقلالية الديني عن العلمي وعن السياسي، والعلمي والسياسي عن الديني، وهناك تجارب شهدتها المجتمعات البشرية، منها ما هو ناجح ومنها ما هو فاشل، وهذا مرهون بتلك الاستقلالية والحرية والتسامح والسياسة التي تنتهجها الدول مع شعوبها، والعالم ينشد المدنية تحقيقاً لسلامة المجتمعات ونجاحها، وقد تشترك رسالة السياسة مع رسالة الدين في تحقيق الأمن والفضيلة والمُساواة بين الناس. *أستاذ الفلسفة، الجامعة المستنصرية، العراق * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.

فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين
فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين

الوطن

time١٧-٠٤-٢٠٢٥

  • الوطن

فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين

عندما نتحدث عن فرح أنطون (1874 - 1922) فإننا نتحدث عن مرحلة زمنية تضج بالأحداث والقضايا السياسية والدينية والعلمية والفلسفية والاجتماعية الكبرى في العالم عموماً، والعالَمَيْن العربي والإسلامي على وجه التحديد. كما أننا نجد هناك أسماءً فكرية وعلمية وفلسفية كبرى شغلت العالم أيضاً في تلك الفترة، وأحدثت ثورات معرفية وعلمية وفلسفية أثارت ردود فعل ثقافية واجتماعية ودينية لم تهدأ أبداً، غربيا وعربيا. وقد اختلفت ردود الفعل تلك، وأشكال النقد الموجَّه لها، بحسب وعي كل مفكر ومثقف وكاتب، وبحسب توجّهه الإيديولوجي ومرجعياته الفكرية والدينية التي كانت تحرّكه نحو ما يريد. ولم يكُن مفكرنا فرح أنطون ببعيدٍ عن ذلك المنهج وتلك الأجواء، إضافة إلى مفكرين عرب آخرين ظهروا في تلك الفترة، سواء الذين اتّفقوا معه وتقاربوا في الأفكار أم الذين اختلفوا معه ورفضوا أفكاره أو خاصموه. والصراع الفكري الأشد الذي كان سائداً في تلك المرحلة التي عاشها فرح أنطون هو صراع العلم والفلسفة مع الديني والسياسي، صراع المقدَّس واللّامقدَّس، اللاهوتي والناسوتي، الديني والعلماني، التجديد والتقليد، التراث والحداثة، وهو الصراع الأزلي المزمن الذي لا يمكن الفرار منه في كل مرحلة تاريخية يعيشها البشر في أغلب المجتمعات والشعوب. وقد عاش أنطون قمّة ذلك الصراع والنزاع الدائر في تلك المرحلة الزمنية، وكان أحد أقطاب الحوار الفكري وروّاده الذين ظهروا في الفكر العربي آنذاك، وأبرزها ما كان يدور بينه وبين الشيخ محمد عبده (ت 1905) من مساجلات ومجادلات وحوارات فكرية شغلت حيزاً ثقافيا مهماً في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، وكان مسرح تلك الحوارات «مجلة الجامعة» التي أنشأها أنطون، و«مجلة المنار» التي أنشأها محمد رشيد رضا (ت 1935)، وكانت «الجامعة» تنتصر للفكر العلمي والخط العلماني، بينما تنتصر «المنار» للفكر الديني وللخط الإسلامي. وتطوَّرت تلك الكتابات والحوارات إلى مؤلفات فكرية تركتْ أثرَها على الساحة الثقافية والفكرية العربية المعاصرة، فألَّف فرح أنطون كتاب «ابن رشد وفلسفته» وفيه ردوده على عبده، بينما ألَّف محمد عبده كتابه «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية» وقد ردَّ فيه على أفكار أنطون، سواء الدينية منها أم المدنية، لأن عبده ينتصر للخط الديني الإسلامي بينما أنطون ينتصر للخط العلمي العلماني، وهناك بونٌ شاسع بين الاثنَيْن، كما أنّنا نلمس اختلافاً في الخط الفكري الواحد بين المفكرين، كما هو الحال مثلاً بين عبده وبين محمّد رشيد رضا. فالأول يقترب من الخط الديني العقلاني والنزعة النقدية، بينما يقترب الثاني من الخط الديني النقلي أو قلْ (الأصولي) السلفي المتشدد، والذي كان من نتاجاته كتابه «الخلافة» الذي تم تأليفه سنة 1922 وقد مضى عليه أكثر من مائة عام، وفيه ينتصر لفكرة الخلافة الإسلامية التي كانت تتغنى بها الدولة العثمانية، والتي تحوَّلت في تلك الفترة من ولادة كتاب محمد رشيد رضا إلى دولة علمانية رافضة للخلافة الإسلامية وتدين بالمدنية والأفكار العلمانية التي ظهرت مع أتاتورك، والتي كان أنطون أحد دعاتها، ولكن بخط توفيقي متزن، يختلف تماماً عما قدّمه شبلي شميّل (ت 1917) من علمانية متشددة ترفض الدين وتجعل العلم ديناً جديداً للبشرية؛ إذ كان أنطون يحتفظ بوسطية وحيادية عالية في فكره، بتشديده على قيمة الدين في حياة الانسان والمجتمعات، ودوره التربوي والأخلاقي والسلوكي، بينما يرفض أنطون تدخُّل الدين في السياسة والعلم، لأن قيمة الدين تتجسد في حفْظ القيَم الروحية والأخلاقية التي تنعكس على رقي المجتمعات وتقدّمها، ولأن قيمة الفلسفة تتحدَّد بوظيفتها في تحقيق الفضيلة للفرد والمجتمع، فيما تتمثَّل وظيفة العلم في تحقيق التقدم التقني والصناعي وخدمة البشر. أما السياسة فهي تعمل على تحقيق سلامة حرية الفرد والمجتمع وفق القانون وضمان عيشه بمختلف طبقات الناس وتنوُّع اختلاف قومياتهم وأديانهم ومعتقداتهم في البلد الواحد، لأن «الدين لله والوطن للجميع» كما يقول أنطون؛ بحيث لا يُمكن للحاكم أن يحكم بما يعتقد به من دين، في حال كانت هناك أديان وأفكار متعدّدة في البلد الواحد، بل يحكم بعقل سياسي، قانوني، مدني، ينشد الفضيلة وحفْظ حقوق جميع مواطني دولته، ويكون الناس سواسية في دولته في الحقوق والواجبات، من دون تمييزٍ بين فرد وفرد بما يعتقد أو يدين، لأن التمييز يهدد أمن الدولة وبقاءها، ويشكل خطراً على المجتمع ويهدد العيش المشترك، فضلاً عن أنه سبب أساس للفرقة وتمزق الوحدة الوطنية داخل الدولة. وقد استنبط أنطون أفكاره تلك من أفكار وفلسفات ونظريات علمية وسياسية متعددة، مختلفة المشارب، من مصادر عربية وإسلامية وغربية، فهو حيناً متأثر بأفكار ابن رشد وابن طفيل والمعري وعمر الخيام وابن خلدون والفلسفة العقلية، وتارة متأثر بأفكار فولتير وروسو وأوغست كونت وكارل ماركس وجول سيمون وإرنست رينان ونيتشه، ويبحث عن الأفكار العقلية النقدية والعلمية التي تؤدي إلى تقدُّم المجتمعات ونهضتها، ولذلك كان من دعاة الاتجاه العلمي أو العلماني في الفكر العربي الحديث والمُعاصر. يحمل فرح أنطون روح عصره، وهموم تاريخه، ووجَعَ مجتمعه، ولذلك كان متعدّد المشارب والمصادر والعلوم والفنون، وتوزَّع جهده الفكري والإصلاحي بين الديني والسياسي والعلمي والفلسفي والصحافي والأدبي والترجمي. وكانت سنوات عمره الثمان والأربعون عاماً زاخرةً بالجهد والنتاج والتفكير. ونتاجه الفكري كان أكبر من سنيّ عمره، ولو عاش أكثر، لكنّا شهدناه يُبدع أكثر ويقدم أكثر، ولكن للموت سلطته وحكمه القاطع، إذ توفي الرجل في يوليو من العام 1922 حين جيء به مغمياً عليه محمولاً إلى بيته في الإسكندرية من مجلة «الأهالي»، محل عمله الأخير. تتمخض رؤية فرح أنطون وفلسفته حول المسألة الدينية بما يلي: لقد استنبط فرح أنطون فلسفته ومنهجه من أفكار ومنابع متعددة كما سبق وأشرنا، ومنها فلسفة ابن رشد التي كانت حاضرة بقوّة في فكره. تلك الفلسفة التي أراد لها أن تكون أنموذجاً يُحتذى به في المجتمع العربي المتنوع، دينياً وفكرياً وسياسياً، وفق التوجه العقلاني من جهة، والتوجه التوفيقي بين الفلسفة والدين من جهة أخرى. فقد كان ابن رشد، الذي تَمَثَّله أنطون وتشبّه به، يعيش في مجتمع مختلف بتوجهاته ومنابعه، قَبل أن تطيح به نكبته، التي كانت سبباً في نفيه إلى مدينة «اليسانة» اليهودية، حيث كان لليهود الدور الكبير في التعريف به وبترجمة مؤلفاته ونقلها إلى أوروبا، أوروبا العنف والحروب الدينية والكراهية المتمادية، أوروبا محاكم التفتيش والحرق والإعدام، وذلك قبل حدوث نهضتها وتفجير ثورتها العلمية والفكرية والدينية والفلسفية، التي كان للعرب والمسلمين الأثر الكبير في الدفع بها؛ وذلك بشهادة علماء غربيين وبعض المستشرقين المنصفين ممَّن أشادوا بأثر العرب والمسلمين في تلك النهضة. نذكر من هؤلاء غوستاف لوبون، المؤرخ الفرنسي الشهير، في كتابه «حضارة العرب»، والمُستشرقة الألمانية زغريد هونكة في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب». 1ـ إن الأديان كلها ذات مصدر واحد، وذات هدف واحد، ورسالة واحدة، وهي أن الله وحده لا شريك له، ووظيفة الدين تربوية وأخلاقية وروحية، وهي تحقيق وتعميم الفضائل وتهذيب النفس البشرية وحث المجتمعات على التعلق بحبال الحق والكمال، وتحقيق العدل والمساواة بين البشر، وحق الحياة والعيش الكريم، وهو الهدف نفسه الذي تسعى إلى تحقيقه المبادئ والقوانين في المجتمعات المدنية المعاصرة. 2ـ إن كل دين كناية عن مجموعة شرائع تحض على الفضيلة. وإذا ما وُجد فرق في ما بين الأديان والشرائع، فعلى مُفسري الأديان ألّا يمعنوا في إبراز الاختلافات والخلافات بينها. عليهم أن يمارسوا أفضل تأويل، لتحقيق وحدة الصف الوطني والإنساني وسلامة المجتمعات والنأي بها عن الحروب الدينية والعنف الطائفي والكراهية والتطرف. فالتأويل والتفسير الضيق قد أدخل بعض المجتمعات في أتون حروب دينية دموية ذهبت بالبلاد والعباد. 3ـ ثمة إساءة إلى الدين وإلى رسالته ووظيفته من قِبَل بعض رجال الدين الذين أخرجوا الدين من إطار السماحة والرحمة والإنسانية إلى حدود العنف والتطرف والكراهية. لذلك يجدر الفصْل بين الدين الحقيقي (بصورته السماوية) والتدين الشكلي، وفهمه وتفسيره الضيق الذي يتبناه رجال دين ضيّقوا البَصر والبصيرة. 4ـ لا فرق بين رسالتي المسيحية والإسلام في الدعوة الخلقية والتربوية والروحية، فرسالة الدين تدعو إلى ممارسة الفضيلة وصون كرامة الإنسان، وخروج الدين عن تلك الرسالة والهدف هو شر مطلق وتزييف لحقيقة المعتقد مارسها رجال دين وسلاطين بغرض السيطرة السياسية على مقدرات الناس ومصائرهم. 5ـ فصْل الدين عن العلم وعن الدولة ضرورة ملحة لا بد منها، بغية تحقيق استقلالية العلم والدولة دونما تدخُّل من رجال الدين، ولضمان نجاح المجتمعات وسلامتها وتقدمها، لأن التجارب الاجتماعية والسياسية أثبتت مدى خطورة ذلك التدخل وتلك السياسة الضيقة. 6ـ ينبغي للحاكم ألا يحكم الدولة بدينه الشخصي ومعتقده الإيديولوجي، بل بالقانون المدني، لأن الاحتكام لدين الحاكم يُقصي الأديان الأخرى الموجودة في المجتمع الواحد، وبالتالي يهدد سلامة المكونات كلها داخل المجتمع الواحد وأمنه؛ وانتصار الحاكم لدين على دين، ولمذهبٍ على مذهب، هو خطر يمزِّق هوية الدولة وكينونة المواطن والعيش المشترك. 7ـ ثمة منطقتان يجب الفصل بينهما، منطقة القلب ومنطقة العقل، بغية ضمان سلامتهما وديمومتهما معاً. منطقة القلب هي محطة الدين والإيمان، ومنطقة العقل هي محطة العلم، ولكلٍّ منهما منهجه وأسلوبه وحدوده. 8ـ استحالة توحيد الأمة على أساسٍ ديني، بل على أساس وطني بحت، كما تتمثل في مفهوم «الجامعة الإسلامية» التي نادت بها الدولة العثمانية، وأحكمت من خلالها قبضتها على المجتمع، حتى أدّت إلى زعزعة الوحدة الوطنية وسقوط الدولة، وتردّي واقعها الاجتماعي والسياسي والديني، فضلاً عن الفتن والاضطرابات بين الإسلام والمسيحية من جهة، وبين أتباع الدين الواحد من جهة أخرى، كما حدث بين المسيحيين أنفسهم، كاثوليك وبروتستانت، أو بين المسلمين، سنة وشيعة. 9ـ يرى أنطون أن لا مدنية حقيقية ولا تسامُح ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا حرية ولا عمل ولا فلسفة ولا عِلم ولا تقدم في داخل المجتمع ومؤسساته إلّا بفصْل السلطة الدينية عن السلطة المدنية. ولا سلامة للدول ولا عزّ ولا تقدُّم في الخارج إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. 10ـ تحقق النهضة الحقيقية والإصلاح الجدي المُثمر للمجتمع العربي يكون بسيادة النزعة العلمية والعلمانية التي تَحترم كل منطقة وتؤمن باستقلالية الديني عن العلمي وعن السياسي، والعلمي والسياسي عن الديني، وهناك تجارب شهدتها المجتمعات البشرية، منها ما هو ناجح ومنها ما هو فاشل، وهذا مرهون بتلك الاستقلالية والحرية والتسامح والسياسة التي تنتهجها الدول مع شعوبها، والعالم ينشد المدنية تحقيقاً لسلامة المجتمعات ونجاحها، وقد تشترك رسالة السياسة مع رسالة الدين في تحقيق الأمن والفضيلة والمُساواة بين الناس. *أستاذ الفلسفة، الجامعة المستنصرية، العراق * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.

مذكرات الموسيقي الحلبي سامي الشوا تشهد على عصر ذهبي
مذكرات الموسيقي الحلبي سامي الشوا تشهد على عصر ذهبي

Independent عربية

time٢٣-٠٣-٢٠٢٥

  • Independent عربية

مذكرات الموسيقي الحلبي سامي الشوا تشهد على عصر ذهبي

لعل آخر تجليات حضور سامي الشوا يتمثل في صدور مذكراته أخيراً، عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، بعنوان "مذكرات بلا رتوش"، بإشراف الباحث الكويتي أحمد الصالحي الذي يحقق المذكرات، ويصدرها بمقدمة ضافية، يعرض فيها لمحات من حياة الموسيقي ومقتطفات من مذكراته. تشمل المذكرات سيرة صاحبها الذاتية، وتحدره من عائلة موسيقية عريقة، وتعالقه مع كبار الساسة والفنانين والشعراء، والتكريمات التي حظي بها، ومرجعيته الفنية والموسيقية، مما يجعل منها شهادة على العصر، ونافذة على العالم، ووثيقة تاريخية وموسيقية، وليست مجرد سيرة ذاتية لصاحبها، وفق ما يشير إليه المحقق في المقدمة التي يروي فيها كيفية العثور عليها من قبل شريكه في الاهتمام بسامي الشوا الباحث الموسيقي مصطفى سعيد، لدى الإعلامية مشيرة كامل، وقد وجدتها ضمن مقتنيات والدها المؤرخ الموسيقي محمود كامل. ويذكر الحال التي كانت عليها قبل التحقيق لجهة سقوط صفحات منها، والصعوبات التي واجهته خلاله، والآليات التي اعتمدها فيه، والمصادر التي استعان بها لتدارك الناقص من المعلومات والساقط من الصفحات، مما يعكس حجم الجهد الذي بذله المحقق في عملية التحقيق. ويستفاد من المقدمة والمذكرات التي تمتد على سبعة فصول أن الشوا بدأ مسيرته الموسيقية مطلع القرن الـ20، وأنه بلغ أوج شهرته في العشرينيات منه، وأنه بدأ يدخل في الظل في الخمسينيات، وأنه أخلد إلى الصمت والعزلة في الستينيات. كتاب المذكرات (المؤسسة العربية) السنوي في إطار من الخطية الزمنية، فيذكر الأحداث التي حصلت معه في سنة معينة حتى إذا ما انتهى منها ينتقل إلى أخرى، ولا يعني ذلك أن تكون الثانية متصلة بالأولى، فثمة انقطاع في التسلسل أحياناً، يبلغ ذروته في العقد الأخير من عمره الذي لا تأتي المذكرات على ذكر الأحداث الحاصلة فيه. ولعله يكتفي بذكر السنوات التي شهدت أحداثاً بارزة في مسيرته المهنية، مما يجعل من المذكرات مجموعة سنويات متصلة ومنفصلة، في الوقت نفسه. على أن ثمة إشكالية يطرحها هذا الترتيب تتعلق بنسبة الأحداث إلى السنة التي وقعت فيها، فكثيراً ما يخطئ المتذكر في تحديد السنة الصحيحة، وهذا ما يشي بكتابة المذكرات في مرحلة متأخرة من حياته بدأت فيها الذاكرة تضعف، مما يتداركه المحقق استناداً إلى الصحف والمجلات والمصادر المختلفة، وانطلاقاً من النص نفسه الذي قد تضطرب فيه المعلومات بين صفحة وأخرى، فيقوم بردم الفجوات بين السنين وتدارك ما لم تتم الإشارة إليه في المذكرات. ومن خلال هذا التسلسل المتصل المنفصل للسنين، نتعرف إلى الشوا بدءاً من بداياته، مروراً بتعرضه للضوء ودخوله في الظل، وانتهاء بإخلاده للصمت والعزلة. عائلة موسيقية عريقة يتحدر الشوا من عائلة حلبية الأصل، يتوارث أفرادها حب الموسيقى أباً عن جد، فجده الكبير يوسف يعزف على الكمان، وجده لأبيه إلياس يعزف على القانون، وأبوه أنطون يعزف على الكمان، وأعمامه عبود وحبيب وجورج يعزفون على العود والطبلة والنقرزان تباعاً. ولعل هذا الشغف العائلي بالموسيقى والعزف هو الذي حدا بالعائلة إلى تأسيس نوبة تحمل اسمها، منذ مطلع القرن الـ19، راحت تحيي الاحتفالات، وتهتم بالموشحات الحلبية. هذا التحدر من عائلة موسيقية عريقة، معطوفاً على شهرة الأب أنطون التي طبقت الآفاق في العزف على الكمان، كان لهما أبلغ الأثر في تشكيل ميول الطفل سامي الفنية واستعداداته الموسيقية المبكرة، فهو، في طفولته، قلما مر يوم لم يسمع فيه عزف أبيه على الكمان، مما جعله يعشق تلك الآلة، وينتهز فرصة غياب الأب عن البيت ليختلس التدرب على العزف، حتى تمكن من عزف الآذان المرفوع من الجامع المجاور لمنزله في حلب، وإثارة إعجاب إمام الجامع به. سامي الشوا يعزف في حفلة (من الكتاب) غير أنه كان للأب رأي آخر، فهو ما إن علم بتدرب ابنه على العزف في غيابه حتى بادر إلى تحطيم الكمان كي لا يصرفه العزف عن الدراسة. على أن الشوا يشير، في المقابل، إلى تشجيع أمه له، واحتضانها موهبته منذ البداية، وإطلاقها في حفل عيد ميلاد أبيه، مما فاجأ الأب، وشكل نقطة تحول في موقفه، فأخذ يشرف على تعليمه العزف بنفسه، وأخذت الأسر المسلمة الكبيرة في حلب تدعوه إلى بيوتها، حتى إذا ما نصح المغني المصري يوسف توفيق صديقه الأب بإرسال ابنه إلى مصر لدراسة الموسيقى، يعمل بنصيحته، ويخطو الصبي خطواته الأولى على طريق الشهرة والمجد. المرحلة المصرية في مصر، تأخذ شخصية العازف الصغير بالتبلور شيئاً فشيئاً، ويأتي عزفه في بيوت الأسر الكبيرة ليلفت الأنظار إليه، فيذيع صيته، وتشيد به الصحف، وتنهال عليه دعوات العمل، فيعزف مع حسن حويحي، ومحمد إبراهيم، ويوسف المنيلاوي، وإبراهيم القباني، وعبدالحي حلمي، وسلامة حجازي، وسيد درويش، وداوود حسني، وأم كلثوم، وزكي مراد، وأبو العلا محمد، وغيرهم. وخلال هذه المرحلة المصرية، يلتقي كبار القوم في السياسة (مصطفى كامل، سعد زغلول)، والثقافة (محمد عبده، قاسم أمين)، والشعر (إيليا أبو ماضي، أحمد شوقي، خليل مطران)، والغناء (محمد عبدالوهاب، أم كلثوم). ويؤسس مع منصور عوض مدرسة لتعليم الموسيقى العربية، في عام 1907، في حي الظاهر الذي يقيم فيه، ويقبل عليها المتعلمون، من كل حدب وصوب، ويدخل في التدريس فيها بنفسه. وتنهال عليه عروض شركات تسجيل الأسطوانات فيقبلها، مما يعدد مصادر دخله، ويوسع آفاق شهرته. فيتلقى دعوات من خارج مصر للعزف وإحياء الحفلات، وتكون له جولات فنية، أميركية وأوروبية وعربية، تبلغ ذروتها في عشرينيات القرن الـ20 الذي يشهد ذروة تألقه الفني. حول العالم وإذا كانت مصر قد شكلت المهد الذي تبلورت فيه موهبة الشوا الموسيقية عزفاً وتأليفاً، ومنحته أجنحة الشهرة التي أتاحت له التحليق حول العالم، فإنه لم يدخر وسعاً في تلبية الدعوات التي راحت تنهال عليه من الخارج للعزف وإحياء الحفلات الموسيقية منفرداً أو بالاشتراك مع آخرين. وفي هذا السياق، يحيي في عام 1908 عشرين ليلة فنية في بيروت مع المطرب عبدالحي حلمي، ويعزف في قصور إسطنبول أربعة أشهر عاشها كالملوك. يعزف في حفلات في بيروت مع زكي مراد وأبو العلا محمد في عام 1919، ويتوجه منها إلى دمشق لتحية الملك فيصل. يحيي حفلة في جامع باريس في العام 1927 بدعوة من الملك فيصل نفسه لتعريف الفرنسيين بالموسيقى الشرقية. يقوم بجولة أميركية لبضعة أشهر، في العام نفسه، يحيي فيها كثيراً من الحفلات، ويتعرف إلى بعض فناني أميركا ومشاهير الأدباء العرب فيها، ويقدم صورة مشرقة عن الموسيقى العربية الشرقية، وخلال هذه الجولة يتم تكريمه في نيويورك من قبل الجالية العربية، ويترأس لجنة التكريم جبران خليل جبران، فتنشأ بينهما علاقة وثيقة، يدأب فيها الأخير على زيارته في فندق سان جورج في واشنطن والاستماع إلى عزفه، ويكون في عداد لجنة التكريم إيليا أبو ماضي وعبدالمسيح حداد وسلوم مكرزل وآخرون. يقوم بجولة أميركية أخرى لثمانية أشهر، في عام 1932، يلتقي خلالها عازف الكمان الأميركي المشهور جاسكا هايفتس، ويقوم في العام نفسه بجولة على بعض مدن أميركا الجنوبية (ريو دي جنيرو، ساو باولو، مونتيفيديو) ويحيي فيها عدداً من الحفلات. وفي طريق العودة إلى مصر، يعرج على الفاتيكان، ويعزف مقطوعة في إذاعته، الجمعة الحزينة، ما يشكل خروجاً على التقاليد الفاتيكانية، ويزور البابا. على أنه لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن رحلة الشوا الموسيقية الأخيرة كانت إلى أميركا، واستمرت من عام 1952 حتى عام 1955، عاد بعدها إلى مصر ليدخل في عزلة إعلامية وفنية لا سيما بعد سقوط العهد الملكي الذي كان يعد أحد المقربين منه. تكريمات مختلفة جرى تكريم الشوا في مصر وخارجها، فكرمه الملك فؤاد في عام 1927، والجامعة الأميركية في بيروت في عام 1929، والملك فيصل في بغداد في عام 1931، وباي تونس في عام 1932، وغيرهم. وفي المقابل، لقد جرت عليه نجاحاته حسد الحاسدين وكيد الحاقدين، فتربصوا به غير مرة، خلال مسيرته الطويلة، لكنه استطاع أن يرد كيدهم إلى نحورهم. وعلى شمول المذكرات أنشطة الشوا المختلفة عزفاً وتأليفاً وتدريساً وتسجيلاً، فإنها أغفلت أنشطة أخرى ذات طابع تجاري أو سينمائي، وهو ما يشير إليه المحقق في خاتمة الكتاب بهدف سد الفجوات الناجمة عن هذا الإغفال. "مذكرات بلا رتوش "تضيء السيرة الذاتية لصاحبها، وتطل من خلالها على المشهد الموسيقي العربي، في النصف الأول من القرن الـ20. وبذلك، تجمع بين طريف السيرة وتليد التاريخ، وتستحق القراءة بامتياز.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store