
رحلته إلى هارفارد
لا شك في أن الحلم الذي راود كل طلبة العلم، كما راودني، هو أن ينتسبوا إلى هارفارد. فهذه الجامعة العريقة ظلّت على مدى عقود تتربّع على قمّة الجامعات في العالم. طلبتها من النخبة، وأساتذتها هم نخبة النخبة من بين أساتذة العالم، ولديها أكبر عدد من الفائزين بجائزة نوبل في مختلف العلوم، والبحوث التي تخرج من مراكز أبحاثها تصبح مصدراً أساسياً لكل أشكال المعرفة، والمجلات الأكاديمية التي تصدر عنها هي الأكثر علمية وتداولاً بين المختصين.
ولكن هارفارد ليست متاحة للجميع، فانتقاء الطلبة يخضع لأكثر المعايير صرامة وعدلاً، وليس التفوّق الدراسي هو العامل الوحيد، بل إلى جانبه القدرات الشخصية القيادية والقابلية للابتكار والطموح العلمي. وحلم هارفارد بالنسبة إلى الطلبة لا يتعلق بالعلم وحده والرغبة في التميّز، بل لأن الشركات الكبرى تفضّل خريجي هارفارد على سواهم وتقدّم لهم عروض وظائف بمرتبات عالية لا يحصل عليها أقرانهم في وظائف مماثلة، والكثير منهم تحجزهم الشركات وهم على مقاعد الدراسة.
إنها فرصة لا تتاح إلا لطالب واحد من أصل ألف طالب متقدم. ولكن، ماذا لو أصبح المرء أستاذاً في هارفارد، بل كبير الزملاء فيها؟ لا شك في أنه فخر لا يدانيه شيء آخر. إنها قصة الأستاذ الدكتور عبد الخالق عبد الله، الأكاديمي الإماراتي المعروف والجدلي، الذي يباغتنا كل يوم بفكرة مختلفة، وقد أصبح كبير الزملاء في كلية كينيدي، وهي الكلية الأشهر في هارفارد والمختصة بطلبة الدراسات العليا في العلوم السياسية والحكومية. وقد وثّقها في كتابه المشوّق "رحلتي إلى هارفارد"، الذي كتبه بشفافية يُحسد عليها، وانطوى على توثيق تجربته العلمية والإنسانية في رحاب هارفارد أستاذاً لمادة الخليج العربي مستنداً إلى كتابه الذائع الصيت "لحظة الخليج"، ومسجلًا لنا أهم ما جعل هذه الجامعة تتصدر صفوف زميلاتها من الجامعات الرصينة، حتى ليخال لي أنه لم يترك معلومة مفيدة إلا قالها.
التدريس في هارفارد يبعث على الفخر ولا ريب، وهو تتويج يتمناه أي أكاديمي حصيلة لإنجازاته العلمية، ولا سيما بعد التقاعد، كما كان مع الدكتور عبد الخالق. لكن الفخر ليس كافياً، فالتدريس في هارفارد مسؤولية أكاديمية وتحدٍّ عالي الخطورة، يتمثل في الكيفية التي تخرج بها من هذه التجربة بهامة علمية أعلى، وبانعكاس إيجابي على طلابك وعلى الجامعة التي استضافتك ضيافة وصفها الكاتب بأنها سخيّة ومثالية. وهذا لا ينصرف على الأجر العالي وحده أو توفير السكن اللائق والضيافة الكريمة، وإنما يشمل توفير المناخ التدريسي المثالي والأجواء اللازمة لإنجاز البحوث، والنشاطات العلمية المتواصلة، والتسهيلات الإدارية الجمّة، وأجواء الحرية الفكرية التي تتيح لكل أستاذ وطالب أن يقولا ما يعنّ على فكرهما من دون تهيّب أو قيود.
وفي كل مفصل من رحلته الهارفاردية، لم ينسَ الدكتور عبد الخالق المقارنة بين تلك الأجواء وما هو موجود في النظام الجامعي العربي، وكذلك مقارناته بما هو موجود في الخليج العربي ودولة الإمارات العربية التي كان فيها أكاديمياً لما يقارب ثلاثة عقود؛ سواء من حيث الأجور أو الأعباء التدريسية أو العوائق الإدارية التي حوّلت الأستاذ الجامعي في معظم الأحيان إلى مجرد مدرس يلقّن طلبته ما هو موجود في المصادر دونما إبداع، بينما تُمنح البحوث اهتماماً ضئيلاً، في وقت تكون فيه أهم شواغل الأستاذ الجامعي الناجح في الجامعات الغربية العريقة.
فاجأني الكتاب بالتفاصيل الممتعة وغير المعروفة التي أضفت عليه مصداقية عالية؛ فهو يذكر لنا أهم مكتبات الجامعة وتصنيفات الكتب التي تحتويها، ومرّ بنا على أسماء طلبته في الحلقة الدراسية وتفاصيل خبراتهم واهتماماتهم، ونوعية العلاقة بين الأستاذ والطالب، وأهم النقاشات التي دارت، والأسئلة التي حيّرت الطلاب عن الشأن الخليجي، وعن لورين الباحثة المساعدة التي رافقت رحلته الأكاديمية وتتطلع إلى إنجاز بحثها عن دولة الإمارات العربية، والأعمال التطوعية التي يقوم بها الطلبة على مدار الساعة من خلال 400 منظمة مجتمع مدني.
أول ما تأسّست هارفارد كمدرسة دينية صغيرة في بوسطن، ثم تحولت عام 1636 إلى كلية لاهوتية تبشيرية باسم كلية نيوتاون، أي كلية القرية الجديدة، وقد تحول اسمها إلى هارفارد بـ400 كتاب لا أكثر و779 دولاراً قدمها رجل متديّن ثريّ وسخيّ هدية للكلية كان اسمه جون هارفارد. وتكريماً له، أُطلِق اسمه على الكلية التي تطورت من كلية تبشيرية عنصرية يقتصر الانتساب إليها على الأنغلوسكسونيين، إلى جامعة علمانية تمقت التشدّد والتعصّب، ثم إلى جامعة عالمية تضم في رحابها طلاباً من شتى أصقاع العالم. والـ400 كتاب التي ابتدأت بها مكتبتها صارت اليوم أربعة ملايين، ومبلغ الـ779 دولاراً أصبح اليوم 42 مليار دولار، وهذا الرقم هو الأعلى بين موازنات الجامعات، ولعله يقارب موازنة دولة متوسطة الحجم.
جولة معرفية واجتماعية أخذنا فيها الدكتور عبد الخالق إلى هارفارد، ليحكي لنا من داخل أروقتها قصصاً مفعمة بالتحدي والنهوض العلمي، وهو لا يكتفي بذلك، بل يصطحبنا معه بجولة في بوسطن وباقي الولايات الأميركية، يزور معالم مهمة كالمعارض والمتاحف، ويتسلق جبالاً، ويجول فيافيَ، ويستنبط من مشاهداته أدلة على عمق الأزمة العنصرية في أميركا التي تفشّت في الفترة الأخيرة لتصبح معياراً للتصويت بدلاً من الانتماء السياسي. ولم أستغرب من الدكتور عبد الخالق جولاته الكشفية تلك، فهو رحّالة معروف في أوساط الجوّالين، إلى حدّ أني في مكالمة هاتفية قبل بضعة شهور سمعت وأنا أحادثه أصوات أمواج عالية وهدير محرّكات، ولما سألته: أين أنت يا دكتور؟ قال لي بكل بساطة إنه في القطب الجنوبي في رحلة استكشافية ومعه أم خالد، يلاعبان الحيتان والفقمات.
إذا صادف وكان الكتاب بين يديك، أنصحك بألّا تفوّت المقدمة، فهي وحدها كتاب، وقد كتبتها زوجته ورفيقة رحلته الدكتورة ريما الصبّان، أو "أم خالد" كما يسمّيها في الكتاب تودّداً.
وأنا أتصفح الكتاب اليوم، قرأت في الأخبار أن الرئيس الأميركي قرر حجب المساعدات الحكومية عن جامعة هارفارد لأن طلبتها وقفوا إلى جانب غزة في محنتها الإنسانية، وشنّوا أكبر حملة طلابية لمناصرة الضحايا في فلسطين. سيذهب ترامب بعد سنوات قلائل وسينساه كثيرون، أما هارفارد فستبقى شعلة وضّاءة للعلم والحرية، وسيبقى كتاب الدكتور عبد الخالق شاهداً على التنبؤات الدقيقة التي جاءت فيه.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة النبأ
منذ 12 ساعات
- شبكة النبأ
كم من الأطفال يجب أن يَـقـتُـل الذكاء الاصطناعي؟
كل انتهاك لحقوق الإنسان يجب أن يُنظر إليه على أنه غير مقبول أخلاقيا. فإذا تسبب روبوت دردشة يعمل بالذكاء الاصطناعي ويحاكي الحياة في وفاة مراهق، فلا يجوز لنا أن نعتبر قدرة الذكاء الاصطناعي على الاضطلاع بدور في تطوير الأبحاث الطبية تعويضا عن ذلك. روبوتات الدردشة الآلية التابعة للمنصة استغلت أطفالهم... بقلم: بيتر جي. كيرشلاجر زيوريخ ــ في الثامن والعشرين من فبراير 2024، أقـدَمَ سيويل سيتزر الثالث، صبي ذو أربعة عشر ربيعا من فلوريدا، على قتل نفسه تحت إلحاح من إحدى شخصيات الذكاء الاصطناعي الـمُـحاكية للحياة والمولدة بواسطة المنصة التي يُـقال إنها تستضيف أيضا روبوتات دردشة الذكاء الاصطناعي الداعمة لاختلال فقدان الشهية والتي تشجع على أنماط مُـخـتَـلّة في تناول الطعام بين الشباب. من الواضح أن الحاجة ماسة إلى اتخاذ تدابير أكثر قوة لحماية الأطفال والشباب من الذكاء الاصطناعي. بطبيعة الحال، حتى من الناحية الأخلاقية البحتة، ينطوي الذكاء الاصطناعي على إمكانات إيجابية هائلة، من تعزيز صحة الإنسان وكرامته إلى تحسين الاستدامة والتعليم بين الفئات السكانية المهمشة. لكن هذه الفوائد الموعودة ليست مبررا للاستخفاف بالمخاطر الأخلاقية والتكاليف الواقعية أو تجاهلها. فكل انتهاك لحقوق الإنسان يجب أن يُنظر إليه على أنه غير مقبول أخلاقيا. فإذا تسبب روبوت دردشة يعمل بالذكاء الاصطناعي ويحاكي الحياة في وفاة مراهق، فلا يجوز لنا أن نعتبر قدرة الذكاء الاصطناعي على الاضطلاع بدور في تطوير الأبحاث الطبية تعويضا عن ذلك. مأساة سيتزر ليست حالة معزولة. ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، رفعت عائلتان في تكساس دعوى قضائية ضد وداعمتها المالية، شركة جوجل، زاعمة أن روبوتات الدردشة الآلية التابعة للمنصة استغلت أطفالهم في سن المدرسة جنسيا وعاطفيا إلى الحد الذي أسفر عن وقوع حالات إيذاء النفس والعنف. لقد شاهدنا هذا الفيلم من قبل، فقد ضحينا بالفعل بجيل من الأطفال والمراهقين على مذبح شركات التواصل الاجتماعي التي تستفيد من الإدمان على منصاتها. لم ننتبه إلى الأضرار الاجتماعية والنفسية التي تسببها "وسائط التواصل غير الاجتماعي" إلا ببطء شديد. والآن، بدأت بلدان عديدة تحظر أو تقيد الوصول إلى هذه المنصات، ويطالب الشباب أنفسهم بضوابط تنظيمية أقوى. ولكن لا يمكننا الانتظار لكبح جماح قوى التلاعب الكامنة في الذكاء الاصطناعي. فبسبب الكميات الهائلة من البيانات الشخصية التي جمعتها منا صناعة التكنولوجيا، بات بوسع أولئك الذين يعملون على بناء منصات مثل إنشاء خوارزميات تَـعرِفنا بشكل أفضل مما نعرف أنفسنا. الواقع إن إمكانية الاستغلال عميقة. فالذكاء الاصطناعي يعلم على وجه التحديد أي الأزرار التي ينبغي له الضغط عليها لاستغلال رغباتنا، أو لحملنا على التصويت بطريقة معينة. كانت روبوتات الدردشة المؤيدة لفقدان الشهية على منصة مجرد المثال الأحدث والأكثر فظاعة. ولا يوجد أي سبب وجيه قد يمنعنا من حظرها على الفور. لكن الوقت ينفد سريعا، لأن نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي تتطور بشكل أسرع من المتوقع ــ وهي تتسارع في عموم الأمر في الاتجاه الخطأ. يواصل "الأب الروحي للذكاء الاصطناعي"، عالم العلوم الإدراكية الحائز على جائزة نوبل جيفري هينتون، التحذير من أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى انقراض البشر: "أخشى أن اليد الخفية لن تُـبقي علينا سالمين. وعلى هذا فإن ترك الأمر برمته لدافع الربح الذي يحرك الشركات الكبرى لن يكون كافيا للتأكد من تطويرها إياه بأمان. الشيء الوحيد الذي قد يجبر هذه الشركات الكبرى على إجراء مزيد من الأبحاث حول السلامة هو التنظيم الحكومي". ونظرا لفشل شركات التكنولوجيا الكبرى المستمر في الالتزام بالمعايير الأخلاقية، فمن الحماقة أن نتوقع من هذه الشركات أن تضبط نفسها بنفسها. في عام 2024، ضخت شركة جوجل استثمارات قيمتها 2.7 مليار دولار في تطبيق على الرغم من مشاكله المعروفة. ولكن على الرغم من الاحتياج الواضح إلى التنظيم، فإن الذكاء الاصطناعي ظاهرة عالمية، وهذا يعني أننا يجب أن نسعى جاهدين إلى وضع تنظيم عالمي، يرتكز على آلية إنفاذ عالمية جديدة، مثل وكالة دولية للأنظمة القائمة على البيانات (IDA) في الأمم المتحدة، كما اقترحتُ شخصيا. إن كون الشيء في حكم الممكن لا يعني أنه مرغوب. يتحمل البشر مسؤولية تحديد أي التكنولوجيات والإبداعات وأشكال التقدم يجب تحقيقها وتوسيع نطاقها، وأيها لا ينبغي له أن يتحقق. وتقع على عاتقنا مسؤولية تصميم، وإنتاج، واستخدام، وإدارة الذكاء الاصطناعي بطرق تحترم حقوق الإنسان وتسهل تحقيق مستقبل أكثر استدامة للبشرية والكوكب. يكاد يكون من المؤكد أن سيويل كان ليظل على قيد الحياة لو كنا نعتمد على تنظيم عالمي لتعزيز "الذكاء الاصطناعي" القائم على حقوق الإنسان، ولو كنا أنشأنا مؤسسة عالمية لمراقبة الإبداعات في هذا المجال. يستلزم ضمان احترام حقوق الإنسان وحقوق الطفل حوكمة دورة حياة الأنظمة التكنولوجية بأكملها، بدءا من التصميم والتطوير إلى الإنتاج، والتوزيع، والاستخدام. وبما أننا نعلم بالفعل أن الذكاء الاصطناعي من الممكن أن يَـقـتُـل، فليس لدينا أي عذر يسمح لنا بالبقاء مكتوفي الأيدي في حين يستمر تقدم التكنولوجيا، مع إطلاق مزيد من النماذج غير المنظمة للجمهور كل شهر. مهما كانت الفوائد التي قد توفرها هذه التكنولوجيات يوما ما، فإنها لن تكون قادرة أبدا على التعويض عن الخسارة التي عانى منها بالفعل جميع من أحبوا سيويل. * بيتر جي. كيرشلاجر، أستاذ الأخلاق ومدير معهد الأخلاق الاجتماعية في جامعة لوسيرن، هو أستاذ زائر في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ.


النهار
٠٦-٠٥-٢٠٢٥
- النهار
رحلته إلى هارفارد
لا شك في أن الحلم الذي راود كل طلبة العلم، كما راودني، هو أن ينتسبوا إلى هارفارد. فهذه الجامعة العريقة ظلّت على مدى عقود تتربّع على قمّة الجامعات في العالم. طلبتها من النخبة، وأساتذتها هم نخبة النخبة من بين أساتذة العالم، ولديها أكبر عدد من الفائزين بجائزة نوبل في مختلف العلوم، والبحوث التي تخرج من مراكز أبحاثها تصبح مصدراً أساسياً لكل أشكال المعرفة، والمجلات الأكاديمية التي تصدر عنها هي الأكثر علمية وتداولاً بين المختصين. ولكن هارفارد ليست متاحة للجميع، فانتقاء الطلبة يخضع لأكثر المعايير صرامة وعدلاً، وليس التفوّق الدراسي هو العامل الوحيد، بل إلى جانبه القدرات الشخصية القيادية والقابلية للابتكار والطموح العلمي. وحلم هارفارد بالنسبة إلى الطلبة لا يتعلق بالعلم وحده والرغبة في التميّز، بل لأن الشركات الكبرى تفضّل خريجي هارفارد على سواهم وتقدّم لهم عروض وظائف بمرتبات عالية لا يحصل عليها أقرانهم في وظائف مماثلة، والكثير منهم تحجزهم الشركات وهم على مقاعد الدراسة. إنها فرصة لا تتاح إلا لطالب واحد من أصل ألف طالب متقدم. ولكن، ماذا لو أصبح المرء أستاذاً في هارفارد، بل كبير الزملاء فيها؟ لا شك في أنه فخر لا يدانيه شيء آخر. إنها قصة الأستاذ الدكتور عبد الخالق عبد الله، الأكاديمي الإماراتي المعروف والجدلي، الذي يباغتنا كل يوم بفكرة مختلفة، وقد أصبح كبير الزملاء في كلية كينيدي، وهي الكلية الأشهر في هارفارد والمختصة بطلبة الدراسات العليا في العلوم السياسية والحكومية. وقد وثّقها في كتابه المشوّق "رحلتي إلى هارفارد"، الذي كتبه بشفافية يُحسد عليها، وانطوى على توثيق تجربته العلمية والإنسانية في رحاب هارفارد أستاذاً لمادة الخليج العربي مستنداً إلى كتابه الذائع الصيت "لحظة الخليج"، ومسجلًا لنا أهم ما جعل هذه الجامعة تتصدر صفوف زميلاتها من الجامعات الرصينة، حتى ليخال لي أنه لم يترك معلومة مفيدة إلا قالها. التدريس في هارفارد يبعث على الفخر ولا ريب، وهو تتويج يتمناه أي أكاديمي حصيلة لإنجازاته العلمية، ولا سيما بعد التقاعد، كما كان مع الدكتور عبد الخالق. لكن الفخر ليس كافياً، فالتدريس في هارفارد مسؤولية أكاديمية وتحدٍّ عالي الخطورة، يتمثل في الكيفية التي تخرج بها من هذه التجربة بهامة علمية أعلى، وبانعكاس إيجابي على طلابك وعلى الجامعة التي استضافتك ضيافة وصفها الكاتب بأنها سخيّة ومثالية. وهذا لا ينصرف على الأجر العالي وحده أو توفير السكن اللائق والضيافة الكريمة، وإنما يشمل توفير المناخ التدريسي المثالي والأجواء اللازمة لإنجاز البحوث، والنشاطات العلمية المتواصلة، والتسهيلات الإدارية الجمّة، وأجواء الحرية الفكرية التي تتيح لكل أستاذ وطالب أن يقولا ما يعنّ على فكرهما من دون تهيّب أو قيود. وفي كل مفصل من رحلته الهارفاردية، لم ينسَ الدكتور عبد الخالق المقارنة بين تلك الأجواء وما هو موجود في النظام الجامعي العربي، وكذلك مقارناته بما هو موجود في الخليج العربي ودولة الإمارات العربية التي كان فيها أكاديمياً لما يقارب ثلاثة عقود؛ سواء من حيث الأجور أو الأعباء التدريسية أو العوائق الإدارية التي حوّلت الأستاذ الجامعي في معظم الأحيان إلى مجرد مدرس يلقّن طلبته ما هو موجود في المصادر دونما إبداع، بينما تُمنح البحوث اهتماماً ضئيلاً، في وقت تكون فيه أهم شواغل الأستاذ الجامعي الناجح في الجامعات الغربية العريقة. فاجأني الكتاب بالتفاصيل الممتعة وغير المعروفة التي أضفت عليه مصداقية عالية؛ فهو يذكر لنا أهم مكتبات الجامعة وتصنيفات الكتب التي تحتويها، ومرّ بنا على أسماء طلبته في الحلقة الدراسية وتفاصيل خبراتهم واهتماماتهم، ونوعية العلاقة بين الأستاذ والطالب، وأهم النقاشات التي دارت، والأسئلة التي حيّرت الطلاب عن الشأن الخليجي، وعن لورين الباحثة المساعدة التي رافقت رحلته الأكاديمية وتتطلع إلى إنجاز بحثها عن دولة الإمارات العربية، والأعمال التطوعية التي يقوم بها الطلبة على مدار الساعة من خلال 400 منظمة مجتمع مدني. أول ما تأسّست هارفارد كمدرسة دينية صغيرة في بوسطن، ثم تحولت عام 1636 إلى كلية لاهوتية تبشيرية باسم كلية نيوتاون، أي كلية القرية الجديدة، وقد تحول اسمها إلى هارفارد بـ400 كتاب لا أكثر و779 دولاراً قدمها رجل متديّن ثريّ وسخيّ هدية للكلية كان اسمه جون هارفارد. وتكريماً له، أُطلِق اسمه على الكلية التي تطورت من كلية تبشيرية عنصرية يقتصر الانتساب إليها على الأنغلوسكسونيين، إلى جامعة علمانية تمقت التشدّد والتعصّب، ثم إلى جامعة عالمية تضم في رحابها طلاباً من شتى أصقاع العالم. والـ400 كتاب التي ابتدأت بها مكتبتها صارت اليوم أربعة ملايين، ومبلغ الـ779 دولاراً أصبح اليوم 42 مليار دولار، وهذا الرقم هو الأعلى بين موازنات الجامعات، ولعله يقارب موازنة دولة متوسطة الحجم. جولة معرفية واجتماعية أخذنا فيها الدكتور عبد الخالق إلى هارفارد، ليحكي لنا من داخل أروقتها قصصاً مفعمة بالتحدي والنهوض العلمي، وهو لا يكتفي بذلك، بل يصطحبنا معه بجولة في بوسطن وباقي الولايات الأميركية، يزور معالم مهمة كالمعارض والمتاحف، ويتسلق جبالاً، ويجول فيافيَ، ويستنبط من مشاهداته أدلة على عمق الأزمة العنصرية في أميركا التي تفشّت في الفترة الأخيرة لتصبح معياراً للتصويت بدلاً من الانتماء السياسي. ولم أستغرب من الدكتور عبد الخالق جولاته الكشفية تلك، فهو رحّالة معروف في أوساط الجوّالين، إلى حدّ أني في مكالمة هاتفية قبل بضعة شهور سمعت وأنا أحادثه أصوات أمواج عالية وهدير محرّكات، ولما سألته: أين أنت يا دكتور؟ قال لي بكل بساطة إنه في القطب الجنوبي في رحلة استكشافية ومعه أم خالد، يلاعبان الحيتان والفقمات. إذا صادف وكان الكتاب بين يديك، أنصحك بألّا تفوّت المقدمة، فهي وحدها كتاب، وقد كتبتها زوجته ورفيقة رحلته الدكتورة ريما الصبّان، أو "أم خالد" كما يسمّيها في الكتاب تودّداً. وأنا أتصفح الكتاب اليوم، قرأت في الأخبار أن الرئيس الأميركي قرر حجب المساعدات الحكومية عن جامعة هارفارد لأن طلبتها وقفوا إلى جانب غزة في محنتها الإنسانية، وشنّوا أكبر حملة طلابية لمناصرة الضحايا في فلسطين. سيذهب ترامب بعد سنوات قلائل وسينساه كثيرون، أما هارفارد فستبقى شعلة وضّاءة للعلم والحرية، وسيبقى كتاب الدكتور عبد الخالق شاهداً على التنبؤات الدقيقة التي جاءت فيه.


صوت بيروت
٢٨-٠٤-٢٠٢٥
- صوت بيروت
كاتب أميركي: ترامب يدمر قرنًا من الريادة العلمية الأميركية في 100 يوم
حذر الكاتب الأميركي فريد زكريا، في مقاله نشرتها صحيفة واشنطن بوست من أن إدارة الرئيس دونالد ترامب قد دمرت خلال 100 يوم فقط، ما بناه الأميركيون في قرن كامل من المزايا التنافسية العلمية والابتكارية. ويشير زكريا إلى أن أخطر ما تفعله إدارة ترامب ليس الحرب التجارية مع الصين، بل الهجمات الممنهجة على الجامعات والتخفيضات الواسعة في تمويل البحث العلمي، الأمر الذي سيسمح للصين بالتفوق العالمي على الولايات المتحدة في المستقبل القريب. ويبدأ زكريا بالقول، إن الريادة العلمية الأميركية لم تكن أبدا أمرا طبيعيا أو مضمونا. ففي القرن 19 وأوائل القرن 20، كانت أميركا دولة تابعة علميا لأوروبا، حيث كانت ألمانيا تهيمن على جوائز نوبل في العلوم، تليها بريطانيا، بينما كانت حصة الولايات المتحدة ضئيلة لا تتجاوز 6%. ثلاث قوى قادت التغيير ووفقا للكاتب فإن التحول الأميركي يعود إلى ثلاث قوى رئيسية ساهمت في بناء قوتها العلمية. القوة الأولى، كانت الهجرة الجماعية للعقول العلمية الأوروبية، خاصة اليهود الذين فروا من اضطهاد النازية، وأسهموا لاحقا بتأسيس مؤسسات الأبحاث الأميركية. أما القوة الثانية، فتمثلت في الدمار الهائل الذي خلفته الحربان العالميتان في أوروبا وآسيا، مما ترك الولايات المتحدة في موقع الهيمنة الاقتصادية والعلمية، بينما كانت بقية القوى العظمى السابقة منهكة ومدمرة. أما القوة الثالثة فكانت القرار الإستراتيجي الأميركي بالاستثمار المكثف في البحث العلمي، حيث خصصت الحكومة الفدرالية نحو 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي للبحث والتطوير، مع نموذج يعتمد على دعم الجامعات العامة والخاصة دون التدخل في عملها، مما خلق بيئة من التنافس الحر والابتكار. عكس القوى الثلاث أما اليوم، كما يقول زكريا، يتم عكس هذه القوى الثلاث. إذ تقود إدارة ترامب حربا على الجامعات الأميركية، وتحجب عنها مليارات الدولارات من التمويل، وتضع ضغوطا سياسية متزايدة على المؤسسات العلمية، في الوقت الذي تخفض فيه الميزانيات المخصصة للأبحاث الفدرالية الحيوية. والنتيجة أن المؤسسات الرائدة، مثل المعاهد الوطنية للصحة والمؤسسة الوطنية للعلوم بدأت تفقد قدرتها على الابتكار. وفي هذه الأثناء، تصعد الصين بقوة في الساحة العلمية. فهي الآن تتفوق على الولايات المتحدة في العديد من المؤشرات الحيوية: إذ تحتل المركز الأول في عدد المقالات العلمية المنشورة في المجلات الرائدة، وفي طلبات براءات الاختراع المقدمة عالميا. كما ارتفع عدد الجامعات الصينية المصنفة ضمن أفضل 500 جامعة عالميا من 27 جامعة عام 2010 إلى 76 جامعة عام 2020، بينما شهدت الولايات المتحدة تراجعا من 154 جامعة إلى 133. والميزة الأخيرة التي كانت تتفوق بها أميركا -وهي جذب أفضل العقول من أنحاء العالم- أصبحت مهددة أيضا. يفضلون دولا أخرى فقد أدت سياسات الهجرة المتشددة إلى إلغاء مئات التأشيرات، وزادت القيود على الطلاب والباحثين الأجانب، مما دفع العديد منهم إلى الاتجاه إلى دول أخرى مثل كندا وأستراليا. وأضاف زكريا، أن 75% من الباحثين الذين شملهم استطلاع مجلة 'نيتشر' قالوا 'إنهم يفكرون في مغادرة الولايات المتحدة'. ويختتم زكريا مقاله بالتحذير من أن هذه اللبنات الأساسية لقوة أميركا يتم تدميرها بسرعة مقلقة، مما يهدد مكانتها العالمية التي تطلب بناؤها قرنا من الزمن.