logo
موائد الإفطار.. تاريخ متقلب في الأفلام والمسلسلات الرمضانية

موائد الإفطار.. تاريخ متقلب في الأفلام والمسلسلات الرمضانية

الجزيرة٢٣-٠٣-٢٠٢٥

تشهد دراما رمضان هذا الموسم (2025) غيابا شبه تام للمظاهر الرمضانية، وكانت جزء أساسيا من المسلسلات التي كان صناعها يستهدفون التماهي مع أجواء الشهر الكريم سنوات كثيرة، وقد كانت موائد الإفطار عنصرا رئيسا فيها، فكانت تعكس أبعادا اجتماعية وثقافية ودينية، تتراوح بين تصوير اللحظات العائلية الحميمية، وبين المبالغة الدرامية التي تجعلها مشاهد استعراضية.
وقد تطور تناول الدراما الرمضانية عبر الزمن، من الواقعية الصادقة في السينما المصرية والعربية إلى الأساليب الحديثة في الدراما التلفزيونية، التي أصبحت أحيانا تميل إلى التصنع والمبالغة. وكان مشهد الإفطار يستخدم في العمل الفني لإبراز العلاقات الأسرية، وتحديد طبقة أصحاب المائدة. ومع تطور الدراما، بدأ تصوير موائد الإفطار يتحول من مشاهد عائلية واقعية إلى استعراض بصري مبالغ فيه، يعكس أحيانا فخامة زائفة، أو مشاهد صراع درامي مبالغ فيه.
وفي بعض المسلسلات البوليسية أو أعمال الحركة، أصبح مشهد الإفطار لحظة درامية صادمة، كما ظهر في مسلسل 'الاختيار' (2020)، فقد شهدت مائدة الإفطار مواقف مشحونة، مثل اغتيال إنسان، أو وقوع خيانة مفاجئة.
ومع أن تناول رمضان في السينما العالمية محدود، فإن بعض الأفلام سلطت الضوء على الإفطار، بوصفه حدثا دينيا وثقافيا، لا سيما الأفلام التي تتناول المسلمين في الغرب.
ولم تكن تلك التحولات الدرامية إلا انعكاسا لتحولات الواقع الاجتماعي المصري خلال السنوات الماضية، ليس فقط على مستوى الفرز الطبقي، وظهور طبقات جديدة في قمة المجتمع ذات مال كثير وقيم قليلة، وأخرى لا مال لها ولا قيم، وتقع على هامش الهامش في العشوائيات، ولكنه جاء انعكاسا أيضا لانقطاعٍ صنعه التحول السياسي مع قيم المرحلة السابقة.
وقد استنكرت ثورة يوليو 1952 قيم المرحلة السابقة عليها، ورأتها رجعية استبدادية معادية للشعب ومصالحه، فمُنعت ونسيت مع نشوء أجيال جديدة، واستنكرت مرحلة حكم الرئيس محمد أنور السادات ما سبقها من حكم ناصري، فنشأ جيل معاد له، وجاءت ثورة يناير 2011 وما تبعها من أحداث درامية، فراكمت تراثا من الصراع بدا واضحا على مائدة الإفطار الرمضاني في دراما ما بعد 2014، التي عكست إرادة السلطات الجديدة في مصر.
موائد تقليدية تعبر عن الواقع.. عصر طفولة الدراما
يعد فيلم 'حياة أو موت' (1954) للمخرج الراحل كمال الشيخ من أشهر الأفلام المصرية وأنجحها في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد اشتهر بالنداء الذي وجهته الشرطة عبر الإذاعة: 'إلى أحمد ابراهيم القاطن في دير النحاس، لا تأخذ الدواء، الدواء فيه سم قاتل'.
قصة الفيلم كتبها كمال الشيخ، وأما السيناريو فقد كتبه علي الزرقاني، ويدور حول رجل يصاب بأزمة قلبية، فيرسل ابنته لجلب الدواء، ولكن يكتشف الصيدلي خطأ في تركيب الدواء جعله سما قاتلا، فيحاول بمساعدة الشرطة البحث عن الرجل، لإنقاذه قبل شرب الدواء.
يقدم الفيلم صورة طبيعية عن الحياة اليومية بلا مبالغة في أيام رمضان، ويصور اجتماع العائلة حول مائدة بسيطة، تتكون من التمر والماء والفول، وتعكس تقاليد المصريين في رمضان.
وخلال العقود الثلاثة التالية، لم تغب مائدة الإفطار الرمضانية عن الدراما تماما، لكنها مرت كالطيف في الأعمال التلفزيونية، وكان حضورها في السينما منعدما إلا في أعمال نادرة.
ولعل أصدق النماذج التي اقتربت من الواقع الاجتماعي المصري، وصورت واقع حياة المصريين في رمضان، قد تمثلت في فيلم 'الكيت كات' (1991) للمخرج داود عبد السيد، ويجسد مائدة إفطار رمضانية في أحد الأحياء الفقيرة، ويجتمع أفراد العائلة على طعام متواضع، ويتحدثون حديثا عفويا يعكس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولم يبالغ في تصوير الطعام، بل كان التركيز على العلاقات العائلية والمشاعر الصادقة.
ما بعد السبعين.. آثار الانفتاح الاقتصادي على الدراما
شهدت السبعينيات انفتاحا اقتصاديا أدى إلى تآكل حاد في الطبقة الوسطى، وإلى صعود طبقة أطلق عليها الاقتصاديون 'الرأسمالية الطفيلية'، وقد جاءت بقيم استهلاكية سرعان ما انعكست على الشاشة في صورة أعمال درامية وسينمائية.
أما مسلسل 'ليالي الحلمية' (1987-1995) الذي ألفه أسامة أنور عكاشة، وأخرجه إسماعيل عبد الحافظ، فقد استطاع صناعه رصد حركة المجتمع صعودا وهبوطا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي خلال تلك الحقبة وغيرها، وقد تناول المسلسل فكرة التطور الاجتماعي عبر العقود، وكان مشهد الإفطار جزءا من تصوير التحولات في العادات المصرية، فظهرت المائدة مقياسا للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية بين الأسر المصرية.
وربما كان 'ليالي الحلمية' آخر الأعمال التي كان صانع الدراما فيها جزءا من الأسرة المصرية بالمعنى القيمي، فقد تعلم الجميع التاريخ من كتاب واحد، وعاشوا ظروفا متشابهة إلى حد كبير، لكن تمويل الأعمال الدرامية ترك أثرا كبيرا على الأجيال التالية من صناع السينما والمسلسلات، فكانت أكثر ميلا لإرضاء الممول على حساب الطرفين؛ الجمهور والحقيقة الاجتماعية.
وإن كان المجتمع المصري قد طالته التحولات نفسها، وتأثرت موائده الرمضانية على مستويين: الأول هو موائد الأغنياء التي شابها الترف والبذخ، والثاني موائد الفقراء التي لم تعد تشبه سابقتها في دراما الخمسينيات والستينيات.
استعراض الترف على موائد الإفطار
بدت الدراما الرمضانية كأنما أصيبت بحالة هيستيريا، فتجاهلت الجانب الطقسي الروحاني من الإفطار الرمضاني في العشرية الثانية من الألفية، وأصبحت المائدة استعراضا بصريا مبالغا فيه، يعكس أحيانا فخامة زائفة، أو مشاهد صراع درامي مبالغ فيه.
فقد تركت صراعات ثورة يناير 2011 آثارها على الدراما، سواء من حيث الموضوعات، أو الرسائل التي تضمنتها الدراما، لا سيما بعد أن أصبح الرقيب جزءا أصيلا من العمل، وقد تجلى ذلك في نزع الجانب الروحاني من مشهد مائدة الإفطار.
ولعل مشهد الإفطار في مسلسل 'الوصايا السبع' للمؤلف محمد أمين راضي والمخرج خالد مرعي هو الأشهر في هذا السياق، فقد أصبحت موائد الإفطار جزءا من الصراعات العائلية والمؤامرات بين الأشقاء، لا طقسا دينيا فقط، وأيضا استخدمت لإبراز التناقض بين الغنى الفاحش والفقر المدقع.
وفي مسلسل 'البرنس' الذي ألفه وأخرجه محمد سامي (2020)، ظهرت المائدة رمزا للصراع العائلي، وشهدت مشهد المواجهة بين الأشقاء، قبل أن يُخان 'رضوان البرنس' (الممثل محمد رمضان)، وكانت المائدة تعج بأصناف الأطعمة، لكن الاستخدام الدرامي جعلها ساحة للعداء، لا للاحتفال بشهر رمضان فقط.
ولعل مائدة الصراع الرمضانية لم تكن إلا ترجمة للغليان القيمي والاستقطاب الحاد، الذي لا تستطيع أشكال التجسيد أو الكتابة التعبير عنه.
وقد أصبحت الموائد الرمضانية عنصرا أساسيا في الإعلانات التجارية، فتفننت الشركات في إظهار موائد ضخمة مليئة بالأطباق الفاخرة، فمن ذلك إعلانات بعض الشركات الكبرى في مصر، مما يرسّخ صورة غير واقعية عن الإفطار الرمضاني لدى الجمهور، وهي مساحة جديدة للسيطرة فاز بها الأثرياء على البسطاء.
وصوّر بعض المخرجين مائدة الإفطار رمزا يكشف المفارقة الطبقية، للفت الأنظار إلى الهوة الكبيرة بين الفقراء والأثرياء، كما في مسلسل 'أهو ده اللي صار' (2019)، فيقارن بين إفطار الأثرياء والفقراء في الأزقة الشعبية.
كتب قصة الفيلم عبد الرحيم كمال، وأخرجه حاتم علي، ويدور في إطار درامي اجتماعي خلال حقبة زمنية تبلغ 100 عام تقريبا، ما بين 1918-2018، ويرصد المعاناة التي تلقاها المرأة عموما، والصعيدية خصوصا، واختلاف الأفكار والعادات والتقاليد، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي تخص المرأة.
أما مسلسل 'جراند أوتيل' للمخرج محمد شاكر خضير (2016)، وهو النسخة المصرية من المسلسل الإسباني (Gran Hotel)، فقد جاءت فيه مائدة الإفطار رمزا لتجاوز الفروق الاجتماعية، ويجتمع أبطاله حول مائدة إفطار، مع اختلاف خلفياتهم.
موائد الإفطار في السينما العالمية
ثمة حدث مركزي في السنوات الماضية، صبغ تناول السينما العالمية في كل ما يتعلق بالإسلام، ألا وهو تفجيرات سبتمبر/ أيلول 2001، فقد قدمت عددا من الأعمال التي تصم المسلم بالإرهابي مباشرة، بلا محاولة للتشكيك في هذه الفكرة، وظل الأمر بهذا الشكل حتى استوعب أغلب السينمائيين الغربيين أن الأمور قد خرجت عن الفن إلى الدعاية السوداء.
وبدأت السينما تتخفف من أعباء الدعاية والصراعات بين الشرق والغرب، ومحاولة النظر إلى المسلم بعمق، فتأمل السينمائيون الإنسان المسلم وتفاصيل حياته، ومنها شهر رمضان المعروف لدى الغرب بقدسيته.
ومع أن تناول رمضان في السينما العالمية محدود، فإن بعض الأفلام سلطت الضوء على الإفطار بصفته حدثا دينيا وثقافيا، لا سيما في الأفلام التي تتناول المسلمين في الغرب.
فقد تناول فيلم 'الأصولي المتردد' (The Reluctant Fundamentalist) الذي أخرجته 'ميرا ناير' (2012) حياة مسلم يعيش في الولايات المتحدة، بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ويظهر فيه الإفطار طقسا يعيد ارتباط البطل بجذوره مع غربته، كما يظهر الإفطار مشهدا حميميا في منزله الباكستاني، في مقابل مشاهد الاغتراب التي يعيشها في أمريكا.
أما فيلم 'علي' (Ali) للمخرج 'مايكل مان' (2001)، فيتناول قصة الملاكم المسلم محمد علي كلاي، ويعرض العمل مشاهد من التزامه الديني، منها الإفطار في رمضان، فيظهر احترامه لهذا الطقس حتى أثناء تدريباته الرياضية.
وأما فيلم 'اسمي خان' (My Name is Khan) للمخرج 'كاران جوهر (2010)'، فيستعرض تأثير الإسلام في الحياة اليومية، ويظهر فيه الإفطار الجماعي في مشهد يعكس التضامن بين المسلمين في المهجر، لا سيما بعد ما نالهم من التمييز في الولايات المتحدة.
تدور أحداث العمل حول 'رضوان خان'، وهو مسلم من مومباي مصاب بمتلازمة 'أسبرغر'، وهي شكل من أشكال التوحد عالي الأداء، يعقّد التنشئة الاجتماعية. ثم يتزوج 'مانديرا'، وهي أم هندوسية عزباء، تعيش في سان فرانسيسكو.
وبعد أحداث 11 من سبتمبر/ أيلول، تحتجزه السلطات في مطار لوس أنجلوس الدولي، ظانة أن إعاقته سلوك مُريب، وبعد اعتقاله يلتقي 'رادا'، وهي مُعالجة نفسية تساعده على التعامل مع وضعه ومعاناته، ثم يبدأ رحلة لمقابلة الرئيس الأمريكي لتبرئة اسمه.
تحتل مائدة الإفطار الرمضاني في دراما اليوم -ولا سيما في مصر- مساحة تقترب من الصفر، ومع ذلك فإن التحولات التي تطرأ على الدراما سنويا، لا تخلو من مفاجآت وموجات من البحث عن مشاهد جديد، أو البحث عما يحبه المشاهد الحالي.
ولذلك فإن شاطئ الطقوس الرمضانية سيظل في انتظار من يرسو عليه بالشكل الذي يضمن الصدق مع الواقع الاجتماعي، والتبجيل لمائدة إفطار تحظى باحترام ديني أولا، قبل أن تكون مجرد مائدة لأكل لطعام.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

السودان يفقد صوتين وسط الحرب.. رحيل أحمد شاويش ومكاوي الشيخ الأمين
السودان يفقد صوتين وسط الحرب.. رحيل أحمد شاويش ومكاوي الشيخ الأمين

الجزيرة

timeمنذ 11 ساعات

  • الجزيرة

السودان يفقد صوتين وسط الحرب.. رحيل أحمد شاويش ومكاوي الشيخ الأمين

في خضم الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل/نيسان 2023، فقدت الساحة الفنية السودانية اثنين من أبرز رموزها، هما المطرب أحمد شاويش والشاعر مكاوي الشيخ الأمين، اللذان وافتهما المنية في مدينتي عطبرة وأم درمان على التوالي. ومنذ اندلاع الحرب تعذر على كثير من أهل الفن الخروج من السودان بعضهم بسبب المرض ورفض بعضهم الآخر الخروج "بسبب حبهم لهذه البلاد"، كما قال الفنان الكبير أبو عركي البخيت. ولم يغادر مكاوي الشيخ الأمين مدينة أم درمان التي يعشق، لكن أحمد شاويش اضطر للخروج من الخرطوم إلى مسقط رأسه مدينة عطبرة شمالي الخرطوم. أحمد شاويش: صوت متفرد ورحلة فنية متميزة الفنان الراحل أحمد عثمان أحمد شاويش وُلد في مدينة عطبرة، وتخرج في المعهد العالي للموسيقى والمسرح عام 1977، ضمن دفعة ضمت أسماء بارزة مثل أبو عركي البخيت وخليل إسماعيل. وبدأ مسيرته الفنية مقلدا لصالح سعد، ثم عمل في الإذاعة السودانية، حيث أسهم في تطوير الدراما الإذاعية والموسيقى التصويرية، مما أثرى تجربته الفنية. وتميّز شاويش بصوته العذب وأسلوبه المتفرد في الغناء، حيث جمع بين الأداء الدرامي والتعبير الموسيقي العميق. ومن أشهر أعماله "عطر الصندل" و"بتذكرك"، التي كتبها الشاعر محمد نجيب محمد علي. كما تعاون مع شعراء آخرين مثل أبو القاسم عجاج، وكتب ولحن بعض أغانيه بنفسه، مثل "وصف الجميل" و"عادي جدا". رغم قلة إنتاجه الغنائي، فإن شاويش ترك بصمة واضحة في الساحة الفنية السودانية، بفضل اختياراته المتميزة للنصوص والألحان، وتفانيه في تقديم فن راقٍ ومختلف. مكاوي الشيخ الأمين: شاعر الحقيبة وصوت العاطفة أما الراحل مكاوي الشيخ الأمين، فوُلد في قرية الشبيك الخوالدة، ونشأ في ود مكنون والشبيك. والده هو الشيخ الأمين عبد الله عبد المحمود، المعروف بلقب "الغرقان"، وكان من المتصوفة المعروفين في منطقة الجزيرة. ودرس مكاوي في المعهد العلمي، ثم انتقل إلى الخرطوم وعمل في البريد والبرق. وتميزت كتاباته الشعرية بالعاطفة الجياشة والاهتمام بالأغنية السودانية وتجويدها. وعاصر العديد من رموز الغناء الشعبي السوداني، مثل بادي محمد الطيب وعبد الوهاب الصادق وكمال ترباس، وكان فاعلا في مناشط أغنية أم درمان "الحقيبة". وتعرض لحادث أليم في شبابه أدى إلى إصابته بإعاقة حركية، لكنه لم يتوقف عن العطاء، بل استمر في إثراء الساحة الفنية بأشعاره وأغانيه. من أشهر أعماله "ست الريد بقت قساية"، التي كتبها بعد الحادث، وتعكس تجربته الشخصية ومشاعره العميقة. عاش مكاوي في حي الحارة 13 بأم درمان حتى وفاته، وكانت داره ملتقى للأدباء والفنانين والمجتمع، حيث لم تثنه الإعاقة عن مواصلة الإبداع والتأثير في محيطه الثقافي.

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم
'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

الجزيرة

timeمنذ 6 أيام

  • الجزيرة

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

لطالما كان هلاكنا في نظام تشغيلنا نحن سادة الكون، فنحن نصنع كل هذه الأدوات السحرية، لكن الهمجية لا تزال متأصلة في عقولنا، رؤوسنا مليئة بالبرمجيات المعيبة ذاتها، مثلما كانت قبل آلاف السنين، محرومة من أي تطور. في زمن إنسان الكهف، كان العنف ضروريا للعيش، أما الآن فقد صار السبيل الوحيد لنجاتنا -نحن جنس البشر- أن نتعاون معا، لكننا لا نستطيع ذلك لأننا ما زلنا محكومين بالخوف، ما زلنا متملكين وأنانيين، متعجرفين وعنيفين. يأتي هذا الحوار الذاتي الحكيم ضمن حلقة 'لعبة' من الموسم السابع من مسلسل 'المرآة السوداء' (Black Mirror 7)، على لسان عجوز مهوس بكائنات صفراء صغيرة، تسكن عالما رقميا للعبة اخترعها عبقري مجنون، وتحاول هذه الكائنات السيطرة على البشرية، لتخليصها من خوفها الأبدي، وهي تسمى الحشد، ولها حياة ووعي. ما تقترحه هذه الحكاية الغريبة أن العقل البشري أقرب لحاسوب، وأن الحشد رموز برمجية مكتوبة، تستطيع النفاذ إلى عقلك مباشرة، ثم إعادة برمجته. هل الوعي البشري برمجية يمكن اختراقها؟ تنتمي هذه الحلقة إلى دراما الإثارة النفسية والتحقيق، ومع ذلك تأتي نهايتها المفتوحة بفيض من الأسئلة ذات الجوهر الفلسفي، مثل التساؤل عن الطبيعة الحقيقية للوعي البشري، وعن ما إذا كنا نسير في الحياة بما يشبه البرمجيات الموروثة، أو التي دونتها في عمق الوعي نشأتنا وبيئتنا، وما الأخطار التي تواجهنا في المستقبل، وهل يمكن التأثير علينا واختراقنا بمثل هذه السهولة؟ وما معنى الإرادة الحرة في ظل هذه المعطيات؟ هذه الأسئلة بالتأكيد هي أفضل ما يمنحه لمشاهديه مسلسل 'المرآة السوداء'، الذي يرى البعض أنه مسلسل الخيال العلمي الأفضل والأعمق تأثيرا خلال الـ15 عاما الماضية. واقع اليوم هو مستقبل الأمس سئل مبدع المسلسل 'تشارلي بروكر' في حوار حول الموسم السابع، هل ستستمر حلقاته إلى الأبد؟ فقال إن التطور التقني السريع يمنحه إلهاما أكثر مما حلم به ذات يوم. يستطيع 'بروكر' الآن أن يبتكر حكايات لم يكن يتخيل كتابتها حين بدأ العمل على مسلسله قبل 14 عاما، فلا تبدو حكاياته اليوم كأنها تدور في مستقبل قريب، بل في واقع آني، ولم يبد المسلسل حقيقيا من قبل مثلما يتجلى اليوم، وذلك ما يجعله أكثر إثارة للقلق. اشتهر 'المرآة السوداء' برؤاه المظلمة والقلقة حول مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا، وتدور بعض الحلقات في فلك هذه الرؤى، لكن المسلسل أساسا عن الطبيعة الإنسانية، عن نقاط ضعفنا البشرية، التي تتضخم بسبب التكنولوجيا حتى تبلغ أفقا مرعبا. تظل التكنولوجيا مجرد أداة بين أيدينا، يمكن استخدامها على أي نحو شئنا، وهذه ليست قصة آلات تنقلب على الإنسان، بل قصة ذوات جريحة، معطوبة على نحو جذري، تصير التكنولوجيا سلاحها. قدرات التكنولوجيا.. أدوات جبارة في أيادٍ مختلة أفضل ما يقدمه 'بروكر' في عمله هو تأطير رؤيتنا لأنفسنا في مسارات مستقبلية محتملة، مستبدلا المرايا التقليدية بشاشة التلفاز الباردة اللامعة، أو الهاتف الذكي، فنشاهد انعكاسا مظلما لذواتنا الفردية وللمجتمع كافة، هنا تصبح التكنولوجيا عدسة تمكننا من تفكيك المخاوف البشرية، وهذا أفضل ما تقدمه سرديات الخيال العلمي، فهي تجعلنا نرى أنفسنا على نحو أفضل. يفتتح الموسم الجديد بحلقة 'أناس عاديون'، وتدور حول زوجين محبين من الطبقة العاملة، تنقلب حياتهما حين تشخص الزوجة بورم في المخ، ويكون الحل المنقذ هو تقنية تحول عقلها إلى خوادم سحابية، لكن باشتراك شهري مكلف، والشركة التي تديره تغير الشروط باستمرار. يضطر الزوج للعمل ساعات إضافية، لإبقاء زوجته حية، وتلك استعارة حزينة ساخرة من الرأسمالية في صورتها الأقسى، إذ تعد السلطة الساحقة للشركات موضوعا رئيسيا في المسلسل. يلجأ الزوج يائسا إلى موقع يسمى 'أغبياء أغبياء' (Dum Dummies)، وهو موقع يدفع المشتركون فيه مالا لليائسين، لفعل أشياء قاسية ومهينة بأنفسهم. إنه مشهد كئيب للغاية، لكن لا علاقة له بالتكنولوجيا، بل بالمرض البشري الذي يجد لذة في عذاب الآخرين. وأما حلقة 'الوحش الأسود'، فتثير فيها زميلة دراسة قديمة تدعى 'فيريتي' ارتياب 'ماريا'، التي تعمل عالمة أغذية، بعد أن تلتحق بوظيفة جديدة، وهي قصة انتقام قاتمة، تلعب على فكرة الأكوان المتوازية. تخيل أن بإمكان 'فيريتي' أن تكون كل ما تحلم به في أي كون تشاء، ومع ذلك نجدها عالقة في حكاية جرحها الحزينة، الذي لم تستطع علاجه، وهو يملؤها بالغضب وبرغبة سوداء في الانتقام من كل تسبب في جرحها. قد تخلق الجراح وحوشا سوداء، والتكنولوجيا تمكّن تلك الوحوش من ابتكار عذابات مبتكرة. مرة أخرى لا علاقة للتكنولوجيا بهذه الرغبات، وإنما هي أداة في يد هذا الانتقام. وسيط للانتقام والتشوه النفسي ربما تكون حلقة 'يولوجي' أكثر الحلقات إيلاما في الموسم، وقد أدى فيها الممثل 'بول جياماتي' أداء استثنائيا يكسر القلب، وهو يجسد دور رجل يستكشف ذكريات حبيبته القديمة برفقة 'مرشد رقمي'، فيجمع المعلومات لذكراها. ما من مفاجآت كبيرة، مجرد رجل يدرك الهوة بين الذكرى والواقع، ثم يقع من جديد في حب المرأة التي اتخذها عدوا، عبر تشوهات ذاكرته غير الواعية. ومن بين جميع حلقات 'المرآة السوداء'، كانت هذه الحلقة الأكثر دفئا وعاطفية، إنها قصة حب نوعا ما. وفي حلقة 'فندق ريفيري' أيضا، نواجه تكنولوجيا حديثة قيد التجريب، فتصبح العوالم الافتراضية مساحة لاكتشاف حقيقة الذات والرغبات. إنها قصة رومانسية تأخذك إلى فضاءات وجودية غريبة. تتكسر مرآة في مقدمة كل حلقة من المسلسل منذ بدايته، وإنما تنكسر حين تفلت الظلال المقموعة -ظلالنا الداخلية- من مكمنها، وهي اللحظة التي تؤطرها كل حلقة من هذا المسلسل. الواقع المزيف وقلق الحقيقة 'لقد فقدنا صلتنا بالواقع، فقدنا الأرض الصلبة التي كنا نقف عليها'. هكذا يرى الفيلسوف الفرنسي 'جان بودريار'، ويرى أننا نعيش في 'محاكاة'، وأننا محاصرون ومعزولون دائما عن الواقع. إن فكرة 'بودريار' عن المحاكاة من أكثر الأفكار الفلسفية إثارة للخوف، فالمحاكاة هي ديستوبيا (المدينة الفاسدة) حاضرنا، وهي عالم الواقع الافتراضي التقني الذي نتصل به جميعا. إن محاكاة 'بودريار' هي أكثر رعبا مما نظن، فلا وجود لواقع فيها، بل لنسخ منه فقط، ومن ثم ينهار الفاصل بين الافتراضي والواقع، فما من مخرج من المحاكاة؛ إنها سجن لا ينفك يعيد اختراع نفسه، ولهذا السبب فهي مرعبة للغاية. من أين يبدأ الواقع وأين ينتهي إذن؟ ما تعريف الحقيقي وغير الحقيقي؟ تلك أسئلة تتكرر دائما بتنويعات شتى في المسلسل، وتتجلى واحدة من أكثر اللحظات المرعبة داخل هذا الموسم من المسلسل، عندما تحاول شخصية 'ماري' في حلقة 'الوحش الأسود' التحقق من صحة شيء ما، عبر البحث على الإنترنت، فتكتشف أن الإنترنت قد محا الحقيقة وبدلها، ومن ثم تصبح الحقيقة الزائفة واقعا مصدقا. الأمر المروع للغاية أننا نستعين بغوغل للتحقق من الواقع، ولا تتلاعب 'فيريتي' بعقول معتديها فحسب، بل تعيد تصميم الواقع الذي يعيشون فيه، فهي لا تمارس الحيل في عقولهم فحسب، بل تجعل العالم من حولهم نسخا مشوهة. تيه بين نسخ الواقع المتصارعة أصبحت التكنولوجيا أداة انتقام في يد ملاك مظلم، جاعلة ضحاياها يعيشون في نسخة مشوهة من عالمهم، مصمّمة خصيصا لتعكس ارتباك ذواتهم وهشاشتها. إنها قصة انتقام تستخدم التكنولوجيا لتزييف الواقع والحقيقة، وفي كل مرة تصير الحقيقة المزيفة أمرا واقعا، إنها أكثر اللحظات إثارة للقلق في هذا الموسم، حين تجد أن الواقع كله يتعرض للهجوم. فنحن نعيش في زمن تتنافس فيه نسخ من الواقع، والنسخة المنتصرة ربما لا تكون النسخة الأكثر حقيقية أو صدقا؟ والمسلسل يجعلنا أيضا نطرح أسئلة أخلاقية ووجودية، حول الاحتمالات التي تثيرها التقنيات الجديدة. يواصل مبدع المسلسل 'بروكر' هنا انشغاله بما هو حقيقي وما هو واقعي، وما هي التجربة الأصيلة، وأيضا بما تثيره كائنات رقمية ذات وعي بشري من أسئلة أخلاقية مشكلة، فهو مهتم دائما بعالم الألعاب، وقد عمل صحفيا في مجال الألعاب خلال التسعينيات. من المواضيع الرئيسة في أغلب حلقات المسلسل، وهو أن الكائنات الرقمية إذا كانت ذات وعي بشري، فهل يُقبل السماح بقتل هذه الكائنات الواعية، حتى إذا كانت تعيش في عالم مواز أو افتراضي؟ يمكنك أن تلاحظ ذلك التطرق إلى حد ما في مخلوقات 'ثرونجليتس' في حلقة 'لعبة'، وكذلك في حلقة 'يو إس إس كاليستر: إلى اللانهاية. أخلاقيات العنف ضد التكنولوجيا الواعية نشاهد إنسانا يقتل إنسانا آخر انتقاما لهذه الكائنات، بعد أن ألقى عليها كل تثبيته العاطفي، فأصبحت هاجسه الوحيد، فكرس حياته لمساعدتها على النمو والازدهار. يكشف مشهد من الماضي أن 'لامب' -صاحب الجثة التي تظهر في بداية الحلقة- قد قتل عشرات من مخلوقات 'الثرونجليتس' مرحا، فأثار بذلك غضب 'كاميرون'، فخنقه ثم قطع أوصاله وتخلص من جثته. في حلقة 'يو إس إس كاليستر'، رأينا شخصيات مخلقة بالذكاء الاصطناعي، وقد اكتسبت مستوى الوعي الكافي، لتشعر بالألم والأسى والخوف من الزوال. ويقوم الجوهر العاطفي لهذه الحلقة على تعاطفنا مع هذه الشخصيات، التي تدور سفينتها الفضائية في فلك كوكب افتراضي، ضد بشر يحاولون محوهم تماما لأجل مكاسب مادية. هذا ما يلعب به 'بروكر' هنا، متسائلا عن أخلاقية العنف الممارس على وعي رقمي، وإن كان بشريا. ربما يبدو سؤال كهذا نوعا من الترف، في لحظة نجد فيها من يجد مبررا لعنف مماثل ضد بشر من لحم ودم. جانب التكنولوجيا المشرق لا تدور كل حلقات هذا الموسم في أفق 'ديستوبي' وليست فقط حكاية تحذيرية، فبعض الحكايات تظهر التكنولوجيا ضوءا حقيقيا، كأنها يد ممدودة للمساعدة. ففي حلقة 'تأبين'، ينجح الذكاء الاصطناعي في وضع خاتمة لقصة حب 'فيليب' الحزينة (بول غياماتي)، بل إنه استعاد مشاعر الحب لحبيبته الراحلة، إنها حكاية عن تقبل إنسانيتنا وقت الضعف والخطأ، وأن نكون أكثر تعاطفا مع أنفسنا ومع الآخر. في حلقة 'فندق ريفيري' تعيش 'براندي' (الممثلة إيسا راي) تجربة حب شاذة مع 'كلارا' (الممثلة إيما كورين)، أما 'براندي' فهي ممثلة هوليودية مرموقة، وقد أزهرت قصتها في فضاء فيلمي لكلاسيكية حب قديمة مستعادة بتقنية حديثة. وفي لحظة من مسار هذه التجربة، تتمنى 'براندي' أن يظل وعيها المسقط حرا داخل هذا الفيلم، حتى لو كان معنى ذلك موتها في عالم الواقع. ومع أن هذه العلاقة وقعت في بعد افتراضي، فإنه من الممكن القول إن هذا كان حبا حقيقيا، شعرت به 'براندي' على نحو لم تعشه من قبل. تثير كل حلقة من حلقات هذا المسلسل أسئلة يظل صداها ممتدا بعد المشاهدة بكثير، أسئلة تقول الكثير عنا وعن واقعنا المعيش في هذا اللحظة القائمة، عن العنف المتفجر والوحدة الصاخبة، وعن الجراح الأبدية في روح الإنسان، وقد جرحتها شظايا التكنولوجيا الحديثة مرة أخرى.

كاميرا لا تعرف 'ستوب'.. لماذا فشلت دراما السير الذاتية في مصر؟
كاميرا لا تعرف 'ستوب'.. لماذا فشلت دراما السير الذاتية في مصر؟

الجزيرة

time٠٨-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

كاميرا لا تعرف 'ستوب'.. لماذا فشلت دراما السير الذاتية في مصر؟

في عام 1975، اضطر المخرج الفرنسي ذو الأصل الهنغاري 'كلود سوتيه' للتخلي عن أكبر مشاريعه المهنية طموحا، وهو إصدار عمل سينمائي يوثق حياة مطرب فرنسا الأول 'موريس شيفالييه'. قال 'سوتيه' بنبرة لا تُنسى، مع أن فظاظة التصريح أثارت حفيظة أكثر من 15 ممثلا كانوا مرشحين للبطولة: لا أحد يمكنه أن يكون 'شيفالييه'، إلا 'شيفالييه' ذاته. وقبل 36 عاما من ذلك التاريخ، قرر الخلاسي ذو الدماء الأيرلندية والروح الأمريكية 'جون فورد' إصدار فيلم 'السيد لينكولن الصغير' (Young Mr. Lincoln) عام 1939، فوثق فيه حياة بطل أمريكا ومحرر عبيدها 'أبراهام لينكولن'. وبعد سبعة أشهر من ذلك، حاول 'فورد' إقناع مشاهدي دور العرض في ساحة التايمز، الذين مطوا بأعناقهم في مقاعدهم، وتمزقت راحات أيديهم من التصفيق، بأن العمل الذي حظي باهتمام شعبي فاق فيلم 'ولادة أمة' (The Birth of a Nation) لـ'ديفيد غريفيت' لم يكن سوى جذوة فكرية عابرة، جاءته وهو في أريزونا يشعل سجائر ذات تبغ رخيص، متحررا من شبح حرب عالمية تلوح في الأفق. بدأت منذ تلك اللحظة سلسلة لا تنتهي من سينما ما سيسمى لاحقا 'السينما الذاتية' كما وصفها ذات مرة 'جورج ستاينر'، ناقد أمريكا وفيلسوفها الذي لن يُنسى، لتضرب بمقارعها أبواب السينما الأوروبية. ثم انتقلت بلا وسطاء ولا شهود إلى السينما الشرقية وتحديدا المصرية، التي أفردت سرودا خاصة لمثل هذا النوع من السينما، راحت تتغير مضامينها وقصصها ورسائلها بتغير الحقب والأزمنة، التاريخ والجغرافيا، وربما الشخوص والأمكنة. لا يستهدف هذا المقال تفكيك ما هو مركب، ولا تركيب ما قد تفكك إزاء نوع ما من السينما أو الدراما، بقدر ما يستهدف سبر أغوارها، في سعي قرطاجي لفهم هذا النوع من السينما أو الدراما، ومدى قابليتهما الجماهيرية في البديهية الشعبية المصرية. أيها السادة، سأروي لكم قصة إنسان كما جبلته الطبيعة وسلخته الحياة، وهذا هو المؤسف في الأمر.. فاقبلوا اعتذاري ومودتي. جان جاك روسو – الاعترافات 'أم كلثوم'.. شذوذ عن القاعدة العامة يمكن أن نقول إن أول رواية أدبية تروي بتشخيص معملي إحدى قصص السعي الإنساني من الصعود إلى الأفول، هي المسودة الخالدة لفيلسوف فرنسا العريق 'جان جاك روسو' (الاعترافات)، التي يروي فيها مآثره ونكباته ومآسيه، في بحور الزمن التي تخللت حياته، من الصعود المدوي حتى السقوط المشرف، ومن الولادة المبتسرة حتى الموت بأحد أمراض الحياة الخبيثة. ويعدّ أول فيلم يتناول قصة سيرة ذاتية ذات طابع ملحمي حاملا ثقل هذا النوع بداخله هو فيلم 'ولادة أمة' (1915)، الذي يسلط الضوء على قصة عائلتين من السكان الأصليين من قبيلة 'الهونيكا' خلال الحرب الأهلية الأمريكية، ومدى تعاطي حيزهم الاجتماعي الجديد مع معتقداتهم وموروثهم الثقافي والاجتماعي، حتى عصر إعادة الإعمار، مرورا بصك وثيقة الاستقلال، إحدى مفاخر أمريكا التي تسبب الصداع حتى لحظة كتابة هذا المقال. ثم بدأت بعد ذلك -كما قلنا- سلسلة لا تنتهي من سينما ودراما الترصد المرئي لقصص السير الذاتية، اختلفت عن سينما التوثيق التاريخي اختلافا طفيفا، ولكنه يظل اختلافا. فبينما ذهبت سينما التوثيق لرصد حالات التغاير المجتمعي والتاريخي، وأثره على الذات المفردة من شخوص أوليين أو ثانويين، استقرت سينما السير الذاتية على سبر أغوار الشخصية الفردية، وتحليلها فنيا بما يناسب موقعها الاجتماعي والتاريخي والمكاني. ففي 'أم كلثوم' (1999) -الذي يصنف أول مسلسل قصص ذاتي في مصر- ترسم صانعة العمل إنعام محمد علي حكاية سردية تأملية ذات مضمون روائي اجتماعي، وربما كان هذا ما أكسب العمل قداسته الفنية، ومنحه مكانا تحت الشمس، بصفته واحدا من دعائم دراما السيرة الذاتية في مصر والوطن العربي. فقد قوبل المسلسل منذ لحظاته الأولى باحتفاء جماهيري، لكونه أيقونة درامية صُنعت على عجل وربما بجهد 'حميري' من صناع العمل، واستغرق إنتاجه 3 أشهر فقط، ويتناول في طيّه حياة كوكب الشرق 'أم كلثوم'. ومع ذلك، فقد استطاع تفصيص الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية في مصر الملكية، حتى بداية صعود الاشتراكية القومية الناصرية وأفولها، من خلال شخصية محورية؛ ألا وهي أم كلثوم، التي عانت تحت شمس كل تلك الظروف، ونمت تحت قمرها متوغلة في ميدان ما يستحق الثناء والرثاء معا. 'إمام الدعاة'.. بحث عن نجاح سريع بشخصية محبوبة ربما كان النجاح المدوي الذي ناله مسلسل 'أم كلثوم' هو ما شجع صناع عمل كثيرين بعد ذلك، للتوغل في صحراء ملح بارود دراما السيرة الذاتية، ولكن بجهد حثيث، لتجنب شقائق نعمان المشاكل الاجتماعية، ومستنقعات بحور السياسة الواقعية ومخاضات الأزمات الاقتصادية، آملين اجتياز رأس رجائهم الصالح إلى نجاح سريع، يليق بحكاية ذاتية تميل إلى أقصوصة يوتيوبية منها إلى رواية عادلة لأزمات الأزمنة. ففي 2003، أصدر المخرج مصطفى الشال مسلسل 'إمام الدعاة'، الذي يروي قصة حياة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وقد حقق أيضا نجاحا جماهيريا، ولكن ليس لوزنه الفني أو التقني كما حدث في 'أم كلثوم'، بل لحجمه 'التعريفي'. فمنذ اللحظة الأولى، لم يدع صانع العمل فرصة أمام الجمهور لالتقاط الأنفاس، بل مزق بضربة منجل واحدة خيوط عنكبوت الواقع بأصابع غير مرئية. فالمسلسل يتناول سيرة واحد من أكثر الشخصيات الدينية قداسة في مصر، وربما في العالم العربي في القرن العشرين، ويبدو ذلك جليا من الاسم الذي أصر المخرج أن يدبغ به عمله 'إمام الدعاة'. وقد أسهم ذلك في قبوله جماهيريا وهضمه شعبيا ونجاحه فنيا، برغم افتقاده إلى تقنية السرد الحر والعادل لبعض الأزمات السياسية والاجتماعية، التي تخللت مولد البطل حتى مماته، مستندا إلى شحنة دينية مثقلة من الأساس بقداسة شعبية شبه أرضية معدة سلفا لشخص البطل في الواقع المعاش. أعمال تعجز عن حمل الشخصيات الثقيلة من أبرز الاتهامات التي توجه إلى صُناع دراما السير الذاتية وأبطالها في مصر، أنهم يجنحون إلى مثل هذا النوع من الأعمال دون قناعة فنية متكاملة، أو دون إلمام بالحيثيات النفسية والمضامين الاجتماعية والشخصية التي تتخللها حياة بطل القص، مما يتسبب بالطردية في نص مجزوء ومتلف، وسرد متآكل وناقص، وحبكة شويت على نار هادئة في رماد الأيام والأزمنة. وإنما غاية مرامهم نجاح سريع للعمل عند صانعه مخرجا كان أو منتجا، وشهرة أسرع لبطله ثانويا كان أم أوليا، حتى ولو أدى ذلك إلى عدم التناسق النظري والتطبيقي بين البطل متقمص الدور الذاتي، والأحداث والأزمات التي كان يعج بها عصره أو حقبته المعيشة. ويبدو 'السندريلا' (2006) الذي يروي قصة حياة سعاد حسني مثالا حيا على الفشل الفني والإبداعي، والمبالغة في اجتزاء النص التاريخي، وتحوير وقائع الأزمنة، مداهنةً لرموز سياسية أو اجتماعية، كانت لها سلطة ما في تلك الأيام، كضابط المخابرات صفوت الشريف، الذي عُين لاحقا رئيسا لمجلس شورى النواب حتى إقالته في 2011. أصبح المسلسل منذ أيام عرضه الأولى حتى اللحظة المعيشة نموذجا حيا للرداءة الفنية، وعدم التناسق التطبيقي بين شخوص العمل 'المتقمصين'، والأشخاص الحقيقيين الذين يدور عنهم القص. من هؤلاء عبد الحليم حافظ، الذي أدى دوره المغني مدحت صالح، برغم عدم وجود سمات نفسية أو بيولوجية بينه وبين عبد الحليم حافظ، وكذلك منى زكي في تجسيدها لدور سعاد حسني، برغم افتقادها للحضور النفسي، وربما الأنثوي الذي امتازت به سعاد حسني، مما جعلها عن جدارة فرعونية تستحق لقب 'السندريلا'، وهو اللقب الذي عُرفت به لحما وعظما حتى موتها. وكذلك تقمص المؤلف تامر حبيب دور صلاح جاهين، برغم انعدام الحضور الفني والذهني، للقيام بدور شاعر كبير في لغتنا العامية. ناهيك عن غير ذلك من الأخطاء الفنية والتاريخية، التي جعلت العمل يتحول من مسلسل سيرة ذاتية إلى 'ستاند أب' كوميدي على منصات التواصل الاجتماعي حتى الآن، وهذا أقل ما يقال عنه من باب الأمانة التحليلية. مضحك برغم أنه غير مضحك يرى الباحث أحمد كمال خطاب في بحثه 'دراما السيرة الذاتية التلفزيونية وتشكيل الصورة الذهنية لدى الجمهور'، أن الدراما المصرية نجحت إلا قليلا في تجنب تعقيدات الحيثيات التاريخية، والحقائق الواقعية والسياسية، التي يفترض أن تعج بها سيرة المشاهير الذاتية، تفاديا لأخطار لا داعي لها مع دوائر الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها، نظرا لما تزخر به حياة بعض المشاهير من مناكفات سياسية مع دوائر السلطة في حقبتهم، فتفضل صب مثل هذه القوالب في طابع أقرب إلى اليوتوبيا المعدة سلفا للهضم الفني. وإذا استطعنا تحريف طريقة الباحث أحمد كمال خطاب الموغلة في التخصص الأكاديمي، وشددناها على مساحة من الواقع، لوجدنا أن دراما السيرة الذاتية المصرية في الألفية الجديدة قد لجأت -وربما عمدا- لعدم رصد حقائق بعض المشاهير السياسية والاجتماعية وربما الجنسية، تفاديا لدائرة حكم أو مركز سلطة ما. ففي 'أبو ضحكة جنان' (2009)، الذي يروي قصة حياة إسماعيل ياسين، يبتعد صانع العمل عن أي تلميح -وإن رمزي- للأزمة التي حدثت بين إسماعيل ياسين ومجلس قيادة الثورة، وانتهت بتأميم أملاكه المكتسبة شخصيا. أما 'الضاحك الباكي' (2022)، الذي يحكي حياة الفنان نجيب الريحاني، فقد ذهب إلى عدم التطرق لحياته السياسية والجنسية، التي دارت أقاويل عنها، حتى بلغت مسامع القصر الملكي يومئذ، مما كان سيتسبب في النهاية الحتمية لحياته الفنية. في حين حمل 'أسمهان' (2008) شحنة سريالية مثقلة في حمولتها، في سرده حياة المغنية والممثلة المصرية ذات الأصل اللبناني أسمهان الأطرش، من دون التطرق إلى حياتها السياسية والجنسية، كاتهامها بالعمالة للمخابرات الإنجليزية في زمن الحرب، وعلاقتها الجنسية مع الملك فاروق. كل هذه الأسباب ربما أسهمت في جعل كل هذه الأعمال أعمالا كوميدية، وُوجهت بالنقد اللاذع جماهيريا على المستوى الشعبي، وأدبيا على المستوى النقدي، نظرا لافتقادها إلى النص المتكامل، والنفس الطويل والعادل في القص، وهو بالتأكيد ما يبحث عنه المشاهد قبل الناقد. 'معصومية الشخصية'.. تمجيد كثير وحقائق قليلة في عام 1996، أصدر المخرج محمد فاضل أكثر أعماله رسوخا في الذاكرة الشعبية؛ ألا وهو 'ناصر 56″، الذي يروي قصة منفصلة من حياة الرئيس جمال عبد الناصر، بدءا من الجلاء البريطاني عن مصر، حتى قرار تأميم قناة السويس، مرورا بمأثرة العدوان الثلاثي، أو ما سمته الأدبيات السياسية لاحقا 'قضية السويس'. ومع أن الفيلم لا يصنف ضمن سينما السيرة الذاتية بالمعنى المادي للكلمة، فإنه كان بمنزلة مسمار عجلة الانطلاق لما سيطلق عليه 'كاميرا المخرج الواحد'، التي ذهبت إلى التقديس شبه الأعمى للشخصية، بدلا من تحليلها وسبر غورها، لا سيما إذا كانت ذات وزن سياسي، له شرط أرضي يمنع تحليل الشخصية معمليا في محاولة لفهم بعض جوانبها النفسية، والاكتفاء بتسليط الضوء على جوانبها الإيجابية والمثالية، التي مكنتها من قيادة قبيلة ومن ثم أمة. فهذا ما يسمى في بعض الأدبيات الفنية 'معصومية الشخصية'، وهذا ما أدى بطبيعة الحال إلى خلق سينما ودراما سيرة ذاتية سياسية، منفصلة شكلا وموضوعا عن الوقائع التاريخية والحقائق السياسية التي يعرفها الجميع. يختصر فيلم 'أيام السادات' (2001) قصة حياة الرئيس الراحل أنور السادات في سرد هلامي، افتقد لبعض الحقائق الاجتماعية والسياسية عن شخص الرئيس 'أنور السادات'، منها اتهامه بالعمالة للمخابرات الألمانية من الداخل المصري في زمن الحرب، وعلاقته بالراقصة والجاسوسة حكمت فهمي. وذهب 'الاختيار 3' (2022) إلى تركيز الكاميرا من زواياها الأربع، لسرد قصة حياة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الاجتماعية والعسكرية والسياسية، من خلال إظهاره بمسحة قداسة وصوفية، أسهمت في تنصيبه حتى هذه اللحظة رئيسا للجمهورية. في النهاية، يمكننا القول إن سينما ودراما السيرة الذاتية في مصر تحديدا لا تزال تعاني أفولا فنيا، نظرا لافتقادها إلى رسائل ومضامين واقعية وعدم حياديتها التاريخية في تناول الأحداث السياسية والاجتماعية وافتقادها إلى نص قوي ومتماسك يتيح لها مكانا تحت شمس القابلية الشعبية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store