logo
أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

الشرق الأوسط٢٨-٠٤-٢٠٢٥

بعض الكتب كأنها زهور، تترك رائحتها في النفس آثاراً عميقةً لا تزول، أو مثل قوس قزح في سماء بيضاء. كتاب «التثقيف زمن التأفيف» لليازية بنت نهيان ينتمي إلى هذه الفئة، إذ ترسم فيه المؤلفة صوراً معرفيةً وإنسانيةً نمر بها كل يوم بحصافة واقتدار. ألم يخبرنا بابلو نيرودا ذات يوم أن الكتب التي تساعدنا أكثر هي الكتب التي تجعلنا نفكر أكثر؟
في «معرض القاهرة للكتاب» توقفت عند جناح «دار ديوان»، أسأل البائع عن الجديد، وقبل أن تمتد يده لتشير للكتب الصادرة حديثاً، لمحت كتاب «التثقيف زمن التأفيف». أثار اهتمامي بعنوانه الغريب، كنت أنظر إلى غلاف الكتاب الذي تتوزع عليه صور الحسن بن الهيثم وأطلال قديمة، وفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وهي تقول «أووف». يخبرنا صموئيل بيكيت أنه مولع بقراءة الكتب ذات العناوين الغريبة، لأنها حسب رأيه يختلط فيها الترقب بالبحث عن المعرفة. تذكرت هذه النصيحة وقررت أن أخوض التجربة مع هذا الكتاب الغريب العنوان والغلاف.
كتاب صغير الحجم، كبير المحتوى، لا تتجاوز صفحاته المائة وأربعين صفحة، تأخذنا المؤلفة فيها في رحلة مشوقة، تبدأ بالتحية لكلمة «أف» التي نطلقها استياءً من بعض الأفعال المسيئة، وكأن كاتبته اليازية بنت نهيان كانت تفكر وهي تكتب السطور الأولى من كتابها بما قاله أبو العلاء المعري: «أُفٍّ لِما نَحنُ فيهِ مِن عَنتٍ»، هذا العنت الذي يدفع المثقف إلى أن يسرح بخياله في بعض الحكايات والمحطات المستوحاة من مجتمعنا العربي.
مما لا شك فيه أن الثقافة العربية قد طرحت منذ عشرات السنين أسئلتها الدالة على التفاعل الداخلي بين مكونات الذات الحضارية العربية من جهة، وتفاعلها الخارجي مع العالم من جهة أخرى. فنحن ما زلنا منذ أكثر من قرن نطرح أسئلة الأصالة والمعاصرة، وقضايا الموروث والحاضر، والعلاقة بين القديم والجديد، وهذا ما تنتبه له المؤلفة، فتكتب في التمهيد لكتابها أن مهمتها هي البدء بالتشخيص والتحليل «علنا نجد إشارات تنير لنا الدرب، وتمكننا من الوصول إلى إجابات، علها تساعدنا على التقييم والتقويم، تساعدنا على الإدراك حتى وإن كان محدوداً، إدراك أبعاد الماضي وتصورات المستقبل وتحدياته»، بهذه الروحية تخوض المؤلفة رحلتها ببن الحاضر والماضي والخيال والواقع والعادات الموروثة والمستقبل، متنقلةً من أبيات جميل بن معمر، مروراً بمصطفى الرافعي وجواد علي وليس انتهاءً بهايدغر ودوريس ليسنج، بنظرة لا تخلو من فلسفة واقعية خلاصتها أننا بحاجة إلى أن نعيد ترتيب أوراقنا وسط عالم يعج بالحيرة والاضطراب.
يتناول الكتاب موضوعة الثقافة، لكننا ونحن نتجول في صفحاته، سنجد جدلية السؤال في إطار يتشابك مع البحث عن المعرفة، نتنقل بين الحرية والإيمان والسياسة والفن والبحث عن الجذور. تبدأ الكاتبة بالهوية ودلالتها الإنسانية ولا تنتهي بالبحث عن قيم الجمال، لكن الأهم مطاردة الحقيقة من خلال رحلة تأملية، فمعرفة الذات كما يقول أفلاطون هي غاية الغايات.
اليازية بنت نهيان تكتب بلغة يمتزج فيها الفن بالعلوم، تنشر قليلاً وتفكر كثيراً، ويبدو كتابها هذا أشبه بالمغامرة، فحبها للكتب التي تربت معها يجعل القارئ يشعر أنه يقرأ كتاب مليء بالحكمة والحكايات والأفكار والأهم متعة التلقي. يكتب ميشيل دو مونتيني في كتابه الشهير «المقالات»: «أنا لا أبحث في الكتب سوى عن التمتع بها، باستجمام صادق، وإذا ما أنا مارست الدراسة، فليس ذلك إلا بحثاً عن العلم، الذي يتناول معرفتي بنفسي، والذي يعلمني حُسن العيش».
نرحل مع المؤلفة في ثمانية تأففات؛ التأفف الأول يبدأ بمناقشة موضوعة الهوية وطرح أسئلة الوجود، وما يشكله الماضي لنا من تبعات لا نزال نخوض غمار خلافاتها، والحاضر الذي يعيش على إيقاع متغير وسريع، ونظرتنا إلى المستقبل غير المعلوم بالنسبة لنا ودورنا فيه، ونمر معها على التأفيف الأخرى فندرك أن المؤلفة تملك صوتها الخاص، وبصيرتها التي تجعل القارئ يسعد بالجلوس إلى صفحاتها، ليصطحبها في رؤيتها المتبصرة للعالم، وتقييمها النادر للأفكار والمعاني.
في كل تأفيفة من تأفيفها الثمانية تحاول إدخال نوع من الجمال المخلوط بدقة المعلومة وسلاستها ورحابة المشاعر الإنسانية، واتساع الأفكار والمعارف. نقرأ هذه العبارة ونتمعن فيها: «في فلسفة المنفعة، نعلم أن الجدوى من استقلال وجهة النظر أو الرأي تقتصر على إقرار الإنسان باتباع تجربة حياتية خاصة به، ثم تتنوع حياة الأفراد»، ولتعزيز هذه الفكرة تذهب المؤلفة إلى مثال قريب من الناس، وهو الشريط السينمائي، فتكتب في الفقرة التالية: «كما في فيلم (موعد غرام) أيقنت فاتن حمامة في دور (نوال) أن أحدهم (بيبص على العربية) وأحداً آخر (بيبص للأخلاق)». لاحقاً تعرض في تأفيف آخر تجارب واختبارات حياتية للبشر كدعوة للتفكير. إن الوضوح الذي يميز هذا الكتاب يجعلنا كقراء نتساءل حول أهمية مثل هذه الكتابات التي تندرج تحت خانة جرأة السؤال قبل التسليم بالإجابة، والبحث عن المعنى خارج حدود المسلمات. كتب الأميركي مارك توين: «من لا يسأل يبقى أحمق إلى الأبد».
تقول المؤلفة عن التأففات الثمانية في التمهيد القصير: «هي دعوة إلى التنقل بين محاور ثقافية، سارحين في ذواتنا لاستكشافها، ولنعرف أسرارها ودوافعها وما يدور في فلكها».
واليازية بنت نهيان تقف على رأس جيل إماراتي وهب حياته للثقافة والعمل على تسهيل وصولها إلى القارئ بكل مستوياته. ونعرف أنها مارست العمل الثقافي من أوسع أبوابه عندما عينت أول سفيرة للثقافة العربية، واستطاعت من خلال موقعها هذا أن تطلق الكثير من المبادرات والجوائز الثقافية والفنية، يضاف إلى ذلك ممارستها الكتابة والنشر في عدد من الصحف والمجلات الرصينة. ولعل بحثها في موضوعة التثقيف يقربها من مفهوم الثقافة الذي وضعه عالم الاجتماع البريطاني إدوارد تايلور من أن الثقافة «منظومة كلية من المعارف والمعتقدات والشرائع والأعراف وسائر الخبرات والعادات التي يكتسبها الفرد بحكم كونه عضواً في المجتمع الذي ينتمي إليه»، ولعل هذا التعريف يتطابق بوضوح مع ما تطرحه في كتابها «التثقيف زمن التأفيف»، فهو يهتم بمناقشة القيم الإنسانية، والعلاقة بين الثقافة والأخلاق، دون أن يثقل على القارئ، بل يحاول أن يدفعه إلى البحث والتنقيب بنفسه عن قضايا تشغل مجتمعاتنا. وكأن المؤلفة تشير بوضوح إلى أن الثقافة هي بمثابة البوصلة للمجتمع التي بدونها ربما لا يعرف الأفراد كيف يتوجهون.
وتعمد المؤلفة في كتابها إلى تعشيق عدة خيوط في آن واحد، وتتحرك من خلال صفحات كتابها على عدة مسارات مختلفة من أجل خلق حالة من حالات الانسجام في سياق كتاب شديد التركيب، شديد البساطة في الوقت نفسه.
هذا الكتاب أتمنى أن أجده في كل مكتبة بيت في بلادنا العربية، لما فيه من موضوعات، ومن أحكام واضحة في الحياة والأخلاق والسلوك، وهو محاولة ثقافية يجب أن نتوقف أمامها كثيراً، فنحن أمام كاتبة تعرف وظيفتها جيداً.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

«فوات الأوان»... ديوان يمزج السخرية بالتجريب
«فوات الأوان»... ديوان يمزج السخرية بالتجريب

الشرق الأوسط

timeمنذ 2 أيام

  • الشرق الأوسط

«فوات الأوان»... ديوان يمزج السخرية بالتجريب

تشكل السخرية ملمحاً بارزاً من ملامح ديوان «فوات الأوان» للشاعر محمد أبو زيد، الصادر حديثاً في القاهرة عن «دار ديوان»، حيث تتسع لتشمل رؤيته للعالم والبشر والأشياء من حوله، كما يصل فيها الشاعر إلى حد انتقاد نفسه كشاعر وانتقاد زملائه الشعراء، بل السخرية من فكرة الشعر نفسها. في قصيدة «جد عجوز فاض به الكيل لا يحتمل أحداً» تمتزج السخرية بمحاولة التجريب في الشكل من خلال بداية تبدو هجومية النبرة، قصصية الطابع، تجمع بين الفصحى والعامية الدارجة ينادي فيها «الشاعر - الراوي» على عدد من الشخصيات مستنكراً مواقفهم الحياتية، كما تعيد قراءة التراث العالمي المتمثل في قصتي «السندريلا» و«الشاطر حسن» من منظور مختلف. يقول الشاعر: «هاهاها. والله أنت طفل مسخرة. هل صدقت حكاية الشاطر حسن الذي سيتزوج الأميرة في نهاية القصة؟ وأنت؟ هل فعلاً تعتقدين أن سندريلا لم تتناس الحذاء؟ الأحمق الذي يفكر في المستقبل هناك أخبرني أولاً لماذا ننزلق إلى قاع البالوعة؟ أين عقولكم؟ ماذا تتعلمون في المدرسة؟ أنتِ؟ أليس من الأولى أن تفكري في غسل الصحون المتراكمة في المطبخ؟ وأنتَ لماذا تأخر راتبك حتى الآن؟ هل سيستغنون عنك؟». ويسخر الشاعر من فكرة التجديد في شكل كتابة القصيدة حيث يبدي نوعاً من الحنين للشكل الكلاسيكي العمودي قائلاً: «لا أفهم لماذا يكتب الشعراء قصائدهم بهذه الطريقة! كان السطران مريحين أكثر، أضع رأسي في واحد وأمدد قدمي في الآخر. أتغزل في فتاة لا أعرفها أول القصيدة وأمدح رجلاً لا أعرفه في منتصفها وأملأ جيبي بصرة دنانير وأنا أغلق درفتي دولابها خلفي». وتمتزج السخرية بالمأساة في قصيدة «كم أنت جميل أيها الموت»، فرغم رهبة المقابر، فإنها تتحول هنا إلى مباراة عبثية بين اثنين من «الحانوتية» يتنافسان على أيهما قام بدفن جثة أجمل من الأخرى: «أمام مقبرتين متجاورتين، قال الحانوتي لزميله: جثتي أجمل من جثتك رد الزميل: تؤتؤ جثتي أجمل - لكن جثتي عيناها خضراوان كطحالب بركة آسنة - لجثتي عينان سوداوان كحقل قمح محروق - جثتي شعرها أطول من لسانك.. انظر»، ويستشهد الشاعر في مقدمة ديوانه بكلمة كان قد قالها في ديوانه «سوداء وجميلة»، الصادر 2015، تتعلق بعنوان ديوانه الحالي وحيثيات اختياره له جاء فيها: «أفكر أن أسمي كتابي القادم (فوات الأوان) لكنني لم أحدد هل أضيف في البداية (قبل) أم (بعد)، لكن أياً ما يكون الأمر سأكون قد أطلقت صرختي الأخيرة وأنا راض تماماً. يتحدث ميلان كونديرا على أن الحياة لا تتكرر ويسخر من فكرة نيتشه عن العود الأبدي، لكنني لست بحاجة إليه لأدرك أنني عرفت هذا بعد فوات الأوان، فكل شيء أدركه بعد أن تكون قدمي وصلت إلى الحافة وتأرجح جسدي في الهواء». يشار إلى أن محمد أبو زيد شاعر وصحافي مصري، وهو مؤسِّس ورئيس تحرير «موقع الكتابة الثقافي». ولد بمحافظة سوهاج بصعيد مصر عام 1980، وتخرَّجَ في كلية التجارة بجامعة الأزهر، وعمل بالصحافة أثناء دراسته الجامعية بمكتب صحيفة «الشرق الأوسط» بالقاهرة، ثم بجريدة «التحرير» المصرية. أصدر عدداً من الدواوين الشعرية، منها «قوم جلوس حولهم ماء»، «مديح الغابة»، «طاعون يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر للسماء». وصدرت له أعمالٌ سردية، منها رواية «أثر النبي»، «عنكبوت في القلب» و«ملحمة رأس الكلب». فازت روايته «ممر طويل يصلح لثلاث جنازات متجاورة» بجائزة يحيى حقي بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر 2003، وفي عام 2005 حصل على جائزة سعاد الصباح في الشعر عن ديوانه «أمطار مرت من هنا».

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف
أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

الشرق الأوسط

time٢٨-٠٤-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

أسئلة الثقافة في زمن التأفيف

بعض الكتب كأنها زهور، تترك رائحتها في النفس آثاراً عميقةً لا تزول، أو مثل قوس قزح في سماء بيضاء. كتاب «التثقيف زمن التأفيف» لليازية بنت نهيان ينتمي إلى هذه الفئة، إذ ترسم فيه المؤلفة صوراً معرفيةً وإنسانيةً نمر بها كل يوم بحصافة واقتدار. ألم يخبرنا بابلو نيرودا ذات يوم أن الكتب التي تساعدنا أكثر هي الكتب التي تجعلنا نفكر أكثر؟ في «معرض القاهرة للكتاب» توقفت عند جناح «دار ديوان»، أسأل البائع عن الجديد، وقبل أن تمتد يده لتشير للكتب الصادرة حديثاً، لمحت كتاب «التثقيف زمن التأفيف». أثار اهتمامي بعنوانه الغريب، كنت أنظر إلى غلاف الكتاب الذي تتوزع عليه صور الحسن بن الهيثم وأطلال قديمة، وفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وهي تقول «أووف». يخبرنا صموئيل بيكيت أنه مولع بقراءة الكتب ذات العناوين الغريبة، لأنها حسب رأيه يختلط فيها الترقب بالبحث عن المعرفة. تذكرت هذه النصيحة وقررت أن أخوض التجربة مع هذا الكتاب الغريب العنوان والغلاف. كتاب صغير الحجم، كبير المحتوى، لا تتجاوز صفحاته المائة وأربعين صفحة، تأخذنا المؤلفة فيها في رحلة مشوقة، تبدأ بالتحية لكلمة «أف» التي نطلقها استياءً من بعض الأفعال المسيئة، وكأن كاتبته اليازية بنت نهيان كانت تفكر وهي تكتب السطور الأولى من كتابها بما قاله أبو العلاء المعري: «أُفٍّ لِما نَحنُ فيهِ مِن عَنتٍ»، هذا العنت الذي يدفع المثقف إلى أن يسرح بخياله في بعض الحكايات والمحطات المستوحاة من مجتمعنا العربي. مما لا شك فيه أن الثقافة العربية قد طرحت منذ عشرات السنين أسئلتها الدالة على التفاعل الداخلي بين مكونات الذات الحضارية العربية من جهة، وتفاعلها الخارجي مع العالم من جهة أخرى. فنحن ما زلنا منذ أكثر من قرن نطرح أسئلة الأصالة والمعاصرة، وقضايا الموروث والحاضر، والعلاقة بين القديم والجديد، وهذا ما تنتبه له المؤلفة، فتكتب في التمهيد لكتابها أن مهمتها هي البدء بالتشخيص والتحليل «علنا نجد إشارات تنير لنا الدرب، وتمكننا من الوصول إلى إجابات، علها تساعدنا على التقييم والتقويم، تساعدنا على الإدراك حتى وإن كان محدوداً، إدراك أبعاد الماضي وتصورات المستقبل وتحدياته»، بهذه الروحية تخوض المؤلفة رحلتها ببن الحاضر والماضي والخيال والواقع والعادات الموروثة والمستقبل، متنقلةً من أبيات جميل بن معمر، مروراً بمصطفى الرافعي وجواد علي وليس انتهاءً بهايدغر ودوريس ليسنج، بنظرة لا تخلو من فلسفة واقعية خلاصتها أننا بحاجة إلى أن نعيد ترتيب أوراقنا وسط عالم يعج بالحيرة والاضطراب. يتناول الكتاب موضوعة الثقافة، لكننا ونحن نتجول في صفحاته، سنجد جدلية السؤال في إطار يتشابك مع البحث عن المعرفة، نتنقل بين الحرية والإيمان والسياسة والفن والبحث عن الجذور. تبدأ الكاتبة بالهوية ودلالتها الإنسانية ولا تنتهي بالبحث عن قيم الجمال، لكن الأهم مطاردة الحقيقة من خلال رحلة تأملية، فمعرفة الذات كما يقول أفلاطون هي غاية الغايات. اليازية بنت نهيان تكتب بلغة يمتزج فيها الفن بالعلوم، تنشر قليلاً وتفكر كثيراً، ويبدو كتابها هذا أشبه بالمغامرة، فحبها للكتب التي تربت معها يجعل القارئ يشعر أنه يقرأ كتاب مليء بالحكمة والحكايات والأفكار والأهم متعة التلقي. يكتب ميشيل دو مونتيني في كتابه الشهير «المقالات»: «أنا لا أبحث في الكتب سوى عن التمتع بها، باستجمام صادق، وإذا ما أنا مارست الدراسة، فليس ذلك إلا بحثاً عن العلم، الذي يتناول معرفتي بنفسي، والذي يعلمني حُسن العيش». نرحل مع المؤلفة في ثمانية تأففات؛ التأفف الأول يبدأ بمناقشة موضوعة الهوية وطرح أسئلة الوجود، وما يشكله الماضي لنا من تبعات لا نزال نخوض غمار خلافاتها، والحاضر الذي يعيش على إيقاع متغير وسريع، ونظرتنا إلى المستقبل غير المعلوم بالنسبة لنا ودورنا فيه، ونمر معها على التأفيف الأخرى فندرك أن المؤلفة تملك صوتها الخاص، وبصيرتها التي تجعل القارئ يسعد بالجلوس إلى صفحاتها، ليصطحبها في رؤيتها المتبصرة للعالم، وتقييمها النادر للأفكار والمعاني. في كل تأفيفة من تأفيفها الثمانية تحاول إدخال نوع من الجمال المخلوط بدقة المعلومة وسلاستها ورحابة المشاعر الإنسانية، واتساع الأفكار والمعارف. نقرأ هذه العبارة ونتمعن فيها: «في فلسفة المنفعة، نعلم أن الجدوى من استقلال وجهة النظر أو الرأي تقتصر على إقرار الإنسان باتباع تجربة حياتية خاصة به، ثم تتنوع حياة الأفراد»، ولتعزيز هذه الفكرة تذهب المؤلفة إلى مثال قريب من الناس، وهو الشريط السينمائي، فتكتب في الفقرة التالية: «كما في فيلم (موعد غرام) أيقنت فاتن حمامة في دور (نوال) أن أحدهم (بيبص على العربية) وأحداً آخر (بيبص للأخلاق)». لاحقاً تعرض في تأفيف آخر تجارب واختبارات حياتية للبشر كدعوة للتفكير. إن الوضوح الذي يميز هذا الكتاب يجعلنا كقراء نتساءل حول أهمية مثل هذه الكتابات التي تندرج تحت خانة جرأة السؤال قبل التسليم بالإجابة، والبحث عن المعنى خارج حدود المسلمات. كتب الأميركي مارك توين: «من لا يسأل يبقى أحمق إلى الأبد». تقول المؤلفة عن التأففات الثمانية في التمهيد القصير: «هي دعوة إلى التنقل بين محاور ثقافية، سارحين في ذواتنا لاستكشافها، ولنعرف أسرارها ودوافعها وما يدور في فلكها». واليازية بنت نهيان تقف على رأس جيل إماراتي وهب حياته للثقافة والعمل على تسهيل وصولها إلى القارئ بكل مستوياته. ونعرف أنها مارست العمل الثقافي من أوسع أبوابه عندما عينت أول سفيرة للثقافة العربية، واستطاعت من خلال موقعها هذا أن تطلق الكثير من المبادرات والجوائز الثقافية والفنية، يضاف إلى ذلك ممارستها الكتابة والنشر في عدد من الصحف والمجلات الرصينة. ولعل بحثها في موضوعة التثقيف يقربها من مفهوم الثقافة الذي وضعه عالم الاجتماع البريطاني إدوارد تايلور من أن الثقافة «منظومة كلية من المعارف والمعتقدات والشرائع والأعراف وسائر الخبرات والعادات التي يكتسبها الفرد بحكم كونه عضواً في المجتمع الذي ينتمي إليه»، ولعل هذا التعريف يتطابق بوضوح مع ما تطرحه في كتابها «التثقيف زمن التأفيف»، فهو يهتم بمناقشة القيم الإنسانية، والعلاقة بين الثقافة والأخلاق، دون أن يثقل على القارئ، بل يحاول أن يدفعه إلى البحث والتنقيب بنفسه عن قضايا تشغل مجتمعاتنا. وكأن المؤلفة تشير بوضوح إلى أن الثقافة هي بمثابة البوصلة للمجتمع التي بدونها ربما لا يعرف الأفراد كيف يتوجهون. وتعمد المؤلفة في كتابها إلى تعشيق عدة خيوط في آن واحد، وتتحرك من خلال صفحات كتابها على عدة مسارات مختلفة من أجل خلق حالة من حالات الانسجام في سياق كتاب شديد التركيب، شديد البساطة في الوقت نفسه. هذا الكتاب أتمنى أن أجده في كل مكتبة بيت في بلادنا العربية، لما فيه من موضوعات، ومن أحكام واضحة في الحياة والأخلاق والسلوك، وهو محاولة ثقافية يجب أن نتوقف أمامها كثيراً، فنحن أمام كاتبة تعرف وظيفتها جيداً.

"ليالي" نجيب محفوظ ارتبطت بالوجدان الرمضاني المصري
"ليالي" نجيب محفوظ ارتبطت بالوجدان الرمضاني المصري

Independent عربية

time٠٥-٠٣-٢٠٢٥

  • Independent عربية

"ليالي" نجيب محفوظ ارتبطت بالوجدان الرمضاني المصري

هذا الأثر لم تستحوذ عليه الدراما المستوحاة من السردية العربية الكبرى وحسب، بل إنها في هيئتها الورقية ظلت مقصداً للقراء من كل حدب وصوب، كذلك حاول بعض الكتاب العرب استلهام عوالمها السحرية في أعمالهم، على رأسهم نجيب محفوظ في روايته "ليالي ألف ليلة". تتجلى صلة نص أديب نوبل بالنص التراثي عبر عنوان الرواية، ومع تدفق السرد تتوثق هذه الصلة، ولا سيما مع بروز تيمات السحر والجن والترحال والمغامرة، ومع استدعاء شخصيات السندباد والإسكافي ونور الدين ودنيا زاد، وغيرهم، ويوظف الكاتب هذه العوالم والتيمات والشخصيات لتمرير العديد من الرؤى الفلسفية والإسقاطات الرمزية، وكحال الليالي الأصلية شرع محفوظ سرده من حكاية إطارية وانتقل منها إلى تفريعات حكائية. تبدأ أحداث الحكاية الأم في ليالي محفوظ من حيث انتهت أحداث الحكاية التراثية، لتنبئ عن تحول شهريار الذي رضي أخيراً عن زوجته شهرزاد، ولم يعد متعطشاً للدماء، وإن لم يتخلَّ عن قسوته وغروره. رواية نجيب محفوظ (مكتبة ديوان) أما المدينة البائسة فكما امتلأت بالفرح لتوقف شلال الدم، امتلأت أيضاً بالمنافقين، بعدما قُتل الأبرياء والصادقون (في السردية التراثية)، وهؤلاء المنافقون كانوا رافد الشر في الحكايات المتناسلة من الحكاية الأم، وكانت أحداث هذه الحكايات باعث تحولات عاد صداها مرة أخرى إلى شهريار نفسه. وعلى رغم هذا الاستلهام لعوالم ألف ليلة على مستوى الموضوع والتقنية، فإن نجيب محفوظ عمد إلى بنية مغايرة، إذ حرم شهرزاد من دور الراوي، وحولها إلى إحدى شخصيات الحكاية، ووضعها في بعض مواضع السرد في موقع المحكي له، في حين لجأ إلى تقنية الراوي العليم، ومنحه عبء قيادة الرحلة. وتشارك أبطال الحكايات الفرعية مع أبطال الحكاية الإطارية الفضاءين المكاني والزماني أنفسهما، وجمعتهم روابط وعلاقات وثيقة، ولم يكونوا كما في حكايات ألف ليلة وليلة أبناءً لخيال شهرزاد وحكاياتها. تقلب الدهر ينطلق السرد من رؤية فلسفية تعي تقلب الدهر وتحولاته، التي تنسحب على كل الموجودات، ومرر نجيب محفوظ هذه الرؤية عبر مساحات الحوار، وعبر أجناس أدبية أخرى استدعاها إلى نسيجه الروائي، مثل الشعر "من عادة الدهر إدبار وإقبال/ فما يدوم له بين الورى حال"، (ص 203 طبعة دار ديوان). ومثلما عمد إلى التصريح بهذه الرؤية في بعض مواضع السرد، مررها ضمناً في مواضع أخرى، كما في دلالات تكراره عبارة "لا تأمن هذه الدنيا يا إبراهيم" على لسان "صنعان الجمالي"، وهيأ مناخاً ملائماً ومحفزاً لهذه التحولات، فأبرز الثنائيات المتقابلة في النفس والعالم، التي عادة ما تتحول الشخوص من أحد قطبيها إلى الآخر، فيؤول العزيز إلى ذليل، ويتبدل الفقر بالغنى، والغنى بالفقر، ويتحول البؤس إلى بهجة، والسعادة تصبح حزناً مقيماً، وبذا منح التحول دور البطولة في كل الحكايا. دراما مصرية مستوحاة من رواية محفوظ (ملف الدراما) وبينما تشاركت أغلب الشخوص الطبيعة البشرية ذاتها، التي تراوح ما بين الخير والشر، كان تحول بعضها نتيجة مباشرة لما يعتمل في دواخلها من صراع بين نوازع طيبة وأخرى رديئة، في حين كان تحول شخوص أخرى ناتجاً عن قوى خارجية، حفزت ظلام النفس، وأذكت صراعاتها، فكان العفريت "قمقام" مسؤولاً عن تحول "صنعان الجمالي" من الصفاء إلى الكدر، ومن السكينة إلى القلق، الذي حفّز بدوره ظلام نفسه، فتحول التاجر الخيّر الوقور إلى مغتصب قاتل، وتلوثت يده الممدوة للفقراء بالدماء، وكان تحوله سبباً في عسر أسرته بعد يسر، وهوانها بعد طيب المقام، كذلك كان العفريت "سنجام" محفزاً لتحولات "جمصة البلطي"، الشرطي الذي كان ينصاع إلى أوامر الفاسدين، بحجة الواجب وقلة الحيلة، مما جعل منه يدَهم التي تبطش بالأبرياء. وعزَّز الشيخ "عبدالله البلخي" بذرة هذا التحول، التي ألقاها العفريت في قلب "جمصة"، ليتغلب خيره على شره، وتتحول استكانته إلى تمرد وينقلب انحيازه للسلطة إلى ثورة عليها، ويسلك بذلك طريقاً معاكساً لطريق سلكه "صنعان الجمالي". وبينما كانت العفاريت التي بدا بعضها وكأنه معادل للقدر في فرض الاختبارات والفتن (قمقام وسنجام)، وبدا بعضها الآخر معادلاً للشيطان الذي يوسوس بالشر ويقود إليه (سخربوط وزرومباحة)، مثيرات خارجية قوية باعثة على التحول، كان التناقض الداخلي الصارخ والصراع العنيف بين الخير والشر في دواخل النفس الإنسانية، مسؤولاً على نحو أكبر عن تحول بعض الشخوص، بعدما تأججت هذه الصراعات الداخلية بفعل إغراءات السلطة والحكم والشهوة والمال والجمال والمغامرة: "قال سخربوط بفتور: عباس الخليجي حاكم الحي، سامي شكري كاتم السر، خليل فارس كبير الشرطة، لا يتوقع منهم انحراف قريب، فتساءلت زرمباحة بسخرية: لماذا؟ - جاؤوا في إثر تجربة مريرة أطاحت بالمنحرفين. - دعنا من الحكام، وانظر إلى ذلك الفتى الهمام فاضل صنعان"، ص235. تجليات التحول كان لأغلب الشخوص في كل الحكايات نصيب من التحولات، وإن اختلفت هذه التحولات في مستوياتها، وتجلياتها، فبدت على مستوى المظهر، وهيئة الشخوص الخارجية، كما في شخصية "جمصة البلطي"، الذي تحول إلى صور وهيئات بشرية عدة، فتبدلت صورته قبل إعدامه إلى هيئة عبد حبشي "عبدالله الحمال"، ثم تحول إلى هيئة جديدة، بعدما نزل إلى الماء استجابة لنداء عبدالله البحري، وكذلك تحولت العفريتة "زورمباحة" إلى امرأة طاغية الجمال "أنيس الجليس"، ثم تحولت مرة أخرى من الهيئة الإنسانية إلى دخان ورماد، وتحول شهريار إلى فتى أمرد، بعد نزوله للماء المسحور، ثم تحول إلى شيخ طاعن في العمر، بعدما دفعه الفضول إلى اقتراف الممنوع، وفتح الباب المغلق في المدينة المسحورة، على رغم التحذير المكتوب عليه. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وخلاف المظهر والهيئة الخارجية، طاولت التحولات مشاعر الشخوص وسلوكها ومصائرها، فتشارك كل الحكام وأعوانهم من الشرطة وكاتمي السر، في كل الحكايات مصير الضعف بعد القوة، وصعد "نور الدين" من مراتب العامة إلى مراتب النبلاء، وتحول "السندباد" بعد معايشة البحر وأهواله، من الفقر ومحدودية التجربة إلى الثراء والحكمة، وطاول التحول العفريتين أيضاً، فتخلص "قمقام" من السحر الأسود، وتحول من العبودية إلى الحرية، وخرج "سنجام" من القمقم فتحول من الحبس إلى الحرية، كذلك تحول "عجر" من الفقر إلى الغنى، ثم تحول عائداً إلى الفقر مرة أخرى، وتحول "معروف" من إسكافي فقير إلى حاكم وصاحب نفوذ، وتحول "حسام الفقي" إلى قاتل تحت سطوة الجمال والشهوة، وتحول "فاضل" من عزيز ثري إلى فقير رقيق الحال، ومرة أخرى من مناضل في سبيل الحق والعدل إلى لص وقاتل ومعتدٍ، كذلك بدا التحول في مشاعر أهل المدينة الذين عاشوا الخوف لجنون شهريار في قتل النساء، ثم تحولوا إلى الابتهاج والطمأنينة بعد إعلانه الرضا بزوجته شهرزاد، وتوقفه عن القتل، كما تبدل حال المدينة مرات بين الاستقرار والاضطراب "مات كثيرون وشبعوا موتاً، وولد كثيرون لا يشبعون من الحياة، هبط من الأعالي قوم، وارتفع من القعر قوم، أثرى أناس بعد جوع، وتسول آخرون بعد عز"، ص 273. ولعبت كل تلك التحولات دوراً رئيساً في تطور البنية الدرامية، وكانت كذلك دافع التحول التدريجي في شخصية شهريار، إذ تهذبت نفسه عقب كل حكاية، ليجد في النهاية طريقه نحو الخلاص، "على مدى 10 سنوات عشتُ ممزقاً بين الإغراء والواجب، أتذكر وأتناسى، أتأدب وأفجر، أمضي وأندم، أتقدم وأتأخر، أتعذب في جميع الأحوال، آن لي أن أصغي إلى نداء الخلاص... نداء الحكمة"، ص 285. التناص وتيار الوعي وظَّف محفوظ، إضافة للغة الحية، العديد من التقنيات السردية في خدمة التحولات، ولا سيما تيار الوعي، فكان حلم نور الدين و"دنيا زاد" سبيلاً لتحولهما، إلى حال العشق، كما كان جسراً عبره "نور الدين" من الفقر وضيق الحال إلى الثراء والجاه والسلطان، وكان أيضاً وسيلة لفكاك "دنيا زاد"، وتحولها من زوجة لكرم الأصيل القزم القبيح صاحب الملايين إلى زوجة للشاب الوسيم "نور الدين"، الذي التقته في أحلامها، كذلك كان المونولوغ الداخلي وسيلة لاستجلاء الصراعات الداخلية لدى النفس المأزومة بالتأرجح بين الخير والشر"، التي تنتهي بها متحولة من الخير إلى الشر، أو العكس "جعل يسائل نفسه أهو العفريت، أهو المنزول؟ أهو صنعان الجمالي"، ص29، وحتى النزوع الصوفي الذي بدا في غير موضع من النسيج، وبرز على نحو خاص في شخصية "عبدالله البلخي"، وظفه الكاتب لإبراز تيمة التحول، إذ إن جوهر الصوفية قائم على "تحويل القلب عن الأشياء إلى رب الأشياء"، ص221، كذلك وظف التناص لخدمة الفكرة ذاتها، فاستدعى في خروج شهريار من النعيم، نتيجة الفضول والرغبة في المعرفة، قصة خروج آدم من الجنة. وهكذا كان استلهام "محفوظ" عوالم ألف ليلة وليلة وسيلة لتمرير رؤاه حول وجود الإنسان وحاله المتراوحة والمتحولة بين المعصية والتوبة، وطبيعته المجبولة على النقص والخطأ.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store