
بين المدينة الفاضلة والمدينة المتجسدة: جدل المخيال والواقع في بناء المجال الحضري
* د. شنفار عبد الله
عظمة المجتمعات والشعوب والأمم؛ لا تقاس بالمدن الفاضلة التي تتمناها في تمثلاتها ومخيلتها الاجتماعيّة؛ ولكن تقاس بالمدن الذكيّة المتحققة والمتجسدة في الواقع، والتي تستطيع إنجازها.
في تحليل هذا الموضوع الهام؛ ننطلق من مسألتين أساسيتين:
مسألة أولى: لماذا نهرب إلى «المدينة الفاضلة»؟
كيف نفسر ميل المجتمعات إلى قياس واقعها بما تحلم به، بدلاً من قياسه بما يمكن أن يتحقق؟ وهل تصلح المثاليات معيارًا للحكم على المنجز؟ إن الميل إلى ابتداع «مدن فاضلة» في المخيال الجمعي لا يُختزل في نزعة طوباويّة حالمة، بل يعكس إستراتيجية رمزيّة للهروب من مواجهة قصور الواقع ومسؤولية تغييره.
منذ أفلاطون في الجمهورية، مرورًا بأوغسطين في مدينة الله، ووصولًا إلى التصورات الرقمية المعاصرة لما يسمى «المدن الذكية»، ظل الحلم بمثالية المدينة وسيلة مزدوجة: لتشخيص الواقع من جهة، وتبرير العجز أمامه من جهة أخرى.
وهنا يبرز سؤال جدلي: من المستفيد حقًا من إدامة المقارنة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؟ أهو المواطن المحبط الذي يجد فيها عزاءً، أم النخب التي توظفها كخطاب لتبرير إخفاقاتها؟
مسألة ثانية: بين «تفاح الجنة» و«تفاح الأرض»
هل المقارنات بين ما هو متخيل وما هو متحقق تنير الواقع أم تحجبه؟ وهل تؤدي دائمًا إلى وعي نقدي أم إلى انسحاب إلى خطاب الشكوى والندب؟ إن المقارنة المستمرة بين المدينة الواقعية والمدينة المتخيلة قد تنزلق إلى مغالطة منطقية، لأنها تجعل أي منجز نسبي يبدو ناقصًا بالضرورة أمام صورة مثالية مكتملة.
وكأننا نقارن بين «تفاح الجنة» الموصوف بالكمال و«تفاح الأرض» الموسوم بالنقصان. ومع ذلك، قد يكون لهذه المغالطة وظيفة اجتماعية وسياسية خفية: فهي تتيح لبعض الفاعلين إعاقة أي مشروع تطوير بدعوى أنه لا يرقى إلى المثال، فيما تبرر للساكنة إحباطها بالعزوف عن الفعل الإيجابي.
وهنا ينبغي أن نسأل: ألا يجدر بنا أن نقيس المدن بقدر ما تحقّق فعلاً ضمن شروط الواقع، لا بما يحلم به الفلاسفة في أوهامهم؟
مدن بلا روح: أزمة السياسات العموميّة المجاليّة والهندسة الحضرية المعاصرة
كيف نفهم انطفاء الروح في مدننا وأحيائنا؟ وهل مسئوليّة ذلك ماديّة وتقنيّة فقط، أم أنها تعكس أزمة ثقافة حضريه؟ يبدو مشهد المدن والقرى المغربية، مشهدًا لمفارقة مؤلمة: توسع عمراني مادي ضخم يقابله انكماش في جودة الحياة وانطفاء روح المكان.
مدن صاخبة خانقة، وأحياء إسمنتية بلا هوية جماليّة، منازل أقرب إلى أضرحة باردة. كل ذلك يكشف أن بناء الحجر والطرقات ليس كافيًا لخلق مدينة حقيقية. الروح الحضرية تُبنى عبر تخطيط إنساني تشاركي يعترف بأن المدينة ليست مجرد تجمع سكني، بل كائن حي له ذاكرة ووجدان.
هنا يتعين أن نتساءل: هل نحن نبني مدنًا للسكن فقط أم نصنع فضاءات للكرامة والعيش الكريم؟
المدن الذكية: أفق ممكن أم مجرد شعار فارغ في الخطاب السياسي؟
إلى أي حد يمكن لمفهوم المدن الذكيّة أن يشكل بديلًا واقعيًا عن مدننا الحاليّة؟ وما الذي يمنع تحققه فعلاً؟ في المغرب، كما في بلدان نامية أخرى، برزت مشاريع تجريبيّة لما يُسمى بالمدن الذكيّة، التي توظف التقنيات الرقميّة لتحسين إدارة وجودة الخدمات الحضرية.
غير أن التجارب ما تزال متعثرة، في ظل بنية تحتية غير مكتملة، وضعف العدالة المجاليّة والاجتماعية في توزيع الخدمات، وهشاشة المشاركة المواطنة في صناعة القرار. فالذكاء الحضري لا يمكن اختزاله في نشر الألياف البصريّة أو الحساسات الذكيّة فقط؛ بل إنه يبدأ أساسًا بإصلاح الإدارة، وتأهيل الفضاء العام، وتعزيز الشفافيّة والوعي الجماعي.
لذا يبقى سؤالنا مطروحًا: هل نريد مدينة ذكية فعلًا، أم مجرد قشرة تقنية فوق نظام حضري تقليدي؟
تشابك الشبكات الحضرية: من الفوضى إلى النسقيّة
لماذا تتسم شبكات الخدمات الحضرية في كثير من المدن المغربية بالعشوائية؟ وكيف يمكن تحويلها إلى شبكات منسقة تحترم منطق المدينة؟ إن الفوضى المادية التي تبدو في مشهد امتداد خيوط الكهرباء والإنارة والماء والصرف والهاتف تكشف غيابًا لبنية نسقية متكاملة للتخطيط الحضري.
هذه ليست مجرد علة تقنيّة، بل تعبير عن ضعف الرؤية الاستراتيجية وغياب التنسيق بين الفاعلين. فمعالجة هذه الظاهرة تقتضي اعتماد مقاربة شمولية تقوم على توحيد قواعد البيانات الحضرية، تفعيل المراقبة المركزية، إشراك المجتمع المدني، وإدماج الاعتبارات الجمالية والبيئية ضمن مشاريع البنية التحتية.
لكن يبقى السؤال المركزي: هل نمتلك إرادة سياسية ووعيًا مؤسساتيًا يفرض هذا التحول؟
* سؤال مُحيّر ومربك ومزعج ومصيري: إلى أي مدينة ننتمي؟
في النهاية، ماذا نريد من مدننا؟ أماكن محايدة للإقامة أم فضاءات للكرامة والعدالة الاجتماعية؟ وهل نحن مستعدون للاعتراف بأن المدن التي نستحقها هي المدن التي نشارك في إنجازها، لا تلك التي نكتفي بالحلم بها؟
هنا تكمن المعضلة الوجودية للإنسان المعاصر: فهو ليس ساكنًا سلبيًا في مدينة جاهزة، بل فاعل حضري يشارك في صياغتها بقدر ما تشكله هي. إذا أردنا مدنًا أذكى وأكثر إنسانية، ينبغي إعادة الاعتبار لقيمة المشاركة الجماعيّة والنظر إلى المدينة بوصفها مشروعًا مشتركًا بين الدولة والمجتمع.
يبدو حان الوقت لنتجاوز ثنائيّة «مدينة الجنة» و«مدينة الشيطان»، لنفكر في «مدينة الممكن»: مدينة لا تدّعي الكمال، لكنها تمنح كل ساكنيها الحق في الحلم والعمل المشترك من أجل تحسينها.
* خلاصة مفتوحة للتأمل
ليست العظمة في المدن التي نحلم بها، بل في المدن التي ننجزها. فهل نملك الشجاعة لأن نعيش في مدننا كما هي، مع العمل على أن نصنعها كما ينبغي أن تكون؟ أم سنظل نبيت في أوهام المدن الفاضلة ونترك الواقع يتدهور؟
إن المدينة الفاضلة ليست سوى أفق يرشدنا، لكنها لا تعفينا من مسئوليّة مواجهة المدينة المتحققة بكل تناقضاتها وممكناتها. وإدراك هذه الجدليّة في معادلة بين ما هو ممكن وما هو مرغوب فيه، قد يكون بداية لتأسيس رؤية أكثر توازنًا وإنسانية للمدينة المغربية المعاصرة.
يبرز هذا التحليل أن الفجوة بين المدن المتخيلة والمدن المتحققة ليست مجرد مسافة بين الحلم والواقع، بل هي مسألة وعي اجتماعي وثقافة حضرية وممارسة سياسية. إن الاستمرار في المقارنة بين «تفاح الجنة» و«تفاح الأرض» لا يفضي سوى إلى مراكمة الإحباط وتعطيل الفعل.
لذلك، فإن تجاوز هذه الإشكالية يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين المواطن ومدينته على أساس المشاركة والمساءلة، وتعزيز قدرات المؤسسات على التخطيط المتكامل، والانتقال من مقاربة تقنيّة ضيقة إلى رؤية إنسانيّة شموليّة.
* اقتراحات عملية
- ترسيخ ثقافة التقييم الواقعي للمنجزات الحضريه وفق معايير موضوعية وممكنة التنفيذ.
- دمقرطة التخطيط الحضري عبر إشراك المجتمع المدني والمواطنين في وضع أولويات المدن.
- تحسين الحكامة الحضريه من خلال تنسيق الفاعلين وتحديث الخرائط والبنى التحتيّة المعلوماتيه.
- تطوير مفهوم «المدينة الذكيّة» ليشمل الذكاء الاجتماعي والمؤسسي، لا الاقتصار على التكنولوجيا.
- إعادة الاعتبار للأبعاد الجمالية والثقافية للفضاءات العامة لتغذية «روح المدينة» وتجديد هويتها.
بهذه الإجراءات يمكن إعادة إحياء الفضاءات الحضرية والمحاليّة لتصبح فضاءات كرامة وعدالة، لا مجرد جدار إسمنت وصخب أزقّة وساحات وشوارع .
إيطاليا تلغراف
السابق
شهداء إثر استهداف طالبي المساعدات في خان يونس
التالي
الوقائع والحقائق حول السياسة الصناعية الصينية
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الخبر
منذ 44 دقائق
- الخبر
عطاف يستقبل نظيره الإثيوبي
استقبل وزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية، أحمد عطاف، اليوم الأربعاء بمقر الوزارة، وزير الشؤون الخارجية لجمهورية إثيوبيا الفيدرالية، جيديون تيموثيوس، الذي يقوم بزيارة رسمية إلى الجزائر، وفق ما أفاد به بيان للوزارة. وأوضح البيان أن اللقاء "سمح باستعراض واقع العلاقات الجزائرية-الإثيوبية وبحث السبل الكفيلة بالحفاظ على الحركية الإيجابية التي تشهدها، لاسيما في سياق تجسيد مخرجات الدورة الخامسة للجنة الحكومية المشتركة التي انعقدت شهر أفريل الماضي بأديس أبابا". كما تناول الوزيران، بالتشاور والتنسيق، "أهم الملفات المطروحة على أجندة الاتحاد الإفريقي وتبادلا الرؤى والتحاليل حول الأوضاع الإقليمية الراهنة بمنطقتي الساحل الصحراوي والقرن الإفريقي"، حسب ما جاء في بيان الوزارة.


الجمهورية
منذ 44 دقائق
- الجمهورية
حادث ملعب 5 جويلية: رئاسة الجمهورية تتسلم تقريرا نهائيا من لجنة التحقيق
تسلمت رئاسة الجمهورية تقريرا نهائيا من لجنة التحقيق حول حادث وفاة مناصرين بملعب 5 جويلية خلال المباراة التي جرت يوم 21 جوان الفارط, حيث سلمته بدورها إلى الجهات القضائية المختصة التي عهد لها باتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة, حسب ما أورده اليوم الأربعاء بيان لرئاسة الجمهورية. وجاء في البيان: "تنفيذا لأمر رئيس الجمهورية, السيد عبد المجيد تبون, بفتح تحقيق معمق عقب حادث وفاة مناصرين بملعب 5 جويلية خلال المباراة التي أجريت بتاريخ 21 جوان 2025, ينهى إلى الرأي العام أن رئاسة الجمهورية تسلمت تقريرا نهائيا من لجنة التحقيق وقد سلمته بدورها إلى الجهات القضائية المختصة, عهد لها باتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة".


الشروق
منذ ساعة واحدة
- الشروق
تفنيدٌ قانوني لمزاعم وزير الداخلية الفرنسي
تتجدد فصول التوتر في العلاقات الجزائرية- الفرنسية، وكأنها مرآة تعكس عمق وتعقيد تاريخ يرفض أن يغادر الحاضر. وفي أحدث تصعيد، أثار وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، جدلاً واسعًا باعتراضه على قيام القنصليات الجزائرية في فرنسا بإصدار جوازات سفر لمواطنين جزائريين يقيمون على الأراضي الفرنسية، حتى وإن كانوا في وضعية غير نظامية. هذا الموقفُ الفرنسي، وإن ادَّعى الدفاع عن سياسة الهجرة الداخلية، إلا أنه يتجاهل عمدًا مبادئ راسخة في القانون الدولي، ويُشكل مساسًا مباشرًا بالسيادة الجزائرية. فما هي حقيقة هذه المزاعم في ميزان القانون الدولي؟ تتجاهل هذه التصريحات حقائق أساسية: ففرنسا، كأي دولة، لها الحق في تنظيم سياستها الخاصة بالهجرة وتطبيق قوانينها الداخلية، ولكن هذا الحق لا يمكن أن يتجاوز حدود السيادة الوطنية للدول الأخرى أو يمس بحقوق مواطنيها الأساسية. الخلاف الحقيقي هنا لا يتعلق بشرعية إصدار الجزائر للوثائق، بل بمدى تعاون الدولتين في ملف ترحيل المهاجرين، والجدل حول الاتفاقيات الثنائية القائمة، كـاتفاقية 1968 التي تنظم حركة الجزائريين في فرنسا. إن ما تقوم به الجزائر هو ممارسة طبيعية وراسخة لحقها السيادي وواجبها تجاه مواطنيها، وهو حق لا يمكن لأي دولة أجنبية أن تعترض عليه من الناحية القانونية، فالجزائر بهذا التصرف، لا تحترم فقط الالتزامات الواقعة عليها بموجب القانون الدولي، بل وتُحافظ على حقوق الإنسان لمواطنيها وتدافع عنها بقوة. الأساس في ذلك يعود إلى ركائز القانون الدولي العام: السيادة القنصلية المتأصلة بموجب القانون الدولي: تُعدّ صلاحية إصدار وثائق الهوية والسفر، وعلى رأسها جوازات السفر، من الوظائف الجوهرية للبعثات القنصلية حول العالم. تنص المادة الخامسة من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963، وهي معاهدة دولية ملزِمة صادقت عليها كلتا الدولتين، بوضوح على أن وظائف القنصلية تشمل 'إصدار جوازات السفر ووثائق السفر لمواطني الدولة الموفدة'. الأهم في هذا السياق هو أن هذه الصلاحية غير مشروطة أبدًا بوضع الإقامة القانوني للمواطن في الدولة المضيفة. المعيار الوحيد هنا هو الجنسية؛ فالدولة ملزَمة برعاية مواطنيها حيثما كانوا، وتوفير الوثائق التي تثبت هويتهم وتضمن حقوقهم. جواز السفر: الأداة الجوهرية لتفعيل الحق في التنقل: إن توفير وثائق الهوية والسفر لمواطنينا هو التزامٌ أخلاقي وقانوني يخدم حقوق الإنسان الأساسية المكفولة دوليًّا، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 13)، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 12)، الذي دخل حيز النفاذ في 23 مارس 1976، يؤكدان الحق في حرية التنقل، ومغادرة أي بلد (بما في ذلك بلده)، والعودة إليه. هنا تكمن الأهمية القصوى: جواز السفر ليس مجرد ورقة إدارية، بل هو الأداة العملية التي لا غنى عنها لتفعيل هذه الحقوق الجوهرية، وتحويلها من مجرد مبادئ نظرية إلى واقع ملموس، فكيف يمكن لمواطن أن يمارس حقه في مغادرة وطنه أو العودة إليه من دون وثيقة سفر رسمية معترف بها؟ إن حرمان أي مواطن جزائري من وثيقة سفر رسمية، لأي سبب كان يتعلق بوضعيته في دولة أخرى، سيكون بمثابة انتهاك مباشر لحق أصيل من حقوقه الأساسية المكفولة دوليًّا. وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في تفسيراتها وأحكامها، وعلى سبيل المثال في قضية De Brún v. Ireland (2000)، أن حرمان المواطن من وثيقة السفر من دون مبرِّر قانوني مشروع يُمكن أن يُعدَّ انتهاكًا لحقه في حرية التنقل. وبما أن الجزائر لا تحرم مواطنيها من هذا الحق، بل تمكّنهم منه، فإن موقفها متوافق تمامًا مع هذه المبادئ، فالجزائر، انطلاقًا من مسؤوليتها السيادية والإنسانية، لا يمكن أن تتخلى عن واجبها في توفير وثائق لمواطنيها الذين قد يجدون أنفسهم في وضعيات صعبة بالمهجر، وهي وثائق أساسية لا لعودتهم فحسب، بل لتسوية أوضاعهم إن أمكن في أي وقت. لا يوجد حظر قانوني دولي: يجب التأكيد أنه لا يوجد في القانون الدولي أي نص يمنع دولة من إصدار وثائق هوية لمواطنيها، حتى لو كانوا مقيمين بشكل غير نظامي في دولة أخرى. هذا الأمر يُعدُّ جزءًا أصيلًا من ممارسة الدولة لسيادتها على مواطنيها. المحاكم الدولية الكبرى، كمحكمة العدل الدولية، لم تنظر قط في قضايا تطعن في هذا الحق السيادي، بل على العكس، فإن قضايا الجنسية والحماية الدبلوماسية (مثل قضية نوتيبوم الشهيرة عام 1955) تُبرز أهمية الرابط بين الفرد ودولته الأم، وهو رابط يتجسد في وثائق الهوية. موقفٌ فرنسي متطرف إن اعتراض وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، ليس جديدًا في طبيعته، ويعكس توجهًا فرنسيًّا متشددًا تجاه ملف الهجرة. هذا التوجه هو سمة مميزة لسياسات اليمين المتطرف، الذي يجد فيه روتايو مساحة لزيادة تطرفه في موقعه على رأس وزارة الداخلية. إن ادِّعاءه 'عدم الاعتراف' بهذه الجوازات لأغراض الإقامة، هو محاولة لممارسة ضغط سياسي على الجزائر، وربما استجابة لاعتبارات انتخابية داخلية في فرنسا أكثر منها مقاربة قانونية. لقد تأجّجت هذه المسألة بشكل كبير بسبب رفض الجزائر ترحيلَ مواطنيها من فرنسا في بعض الحالات. هذا الرفض الجزائري ليس تعسفيًّا، بل غالبًا ما يأتي في سياق يمسّ بالقواعد المعمول بها في القانون الدولي العرفي، لاسيما تلك المتعلقة بقواعد الطرد المقرة من قبل لجنة القانون الدولي. لقد تبنت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة 'مشروع المواد بشأن طرد الأجانب' في عام 2014، والذي يعكس قواعد القانون الدولي العرفي في هذا الشأن ويضع قيودًا واضحة على سلطة الدول في طرد الأجانب. هذه القواعد تشترط ضمانات إجرائية صارمة، وتحظر الطرد الجماعي، وتُلزم الدول باحترام كرامة الأفراد وحقوقهم الأساسية خلال عملية الترحيل. إذا كانت إجراءات الترحيل لا تلتزم بهذه المعايير الدولية، أو لا توفّر الضمانات الكافية لحقوق الأفراد، فإن الجزائر تحتفظ بحقها السيادي في تقييم كل حالة على حدة، وفي رفض استقبال مواطنيها إذا كانت هذه الإجراءات تتنافى مع القانون الدولي أو كرامة مواطنيها. تتجاهل هذه التصريحات حقائق أساسية: ففرنسا، كأي دولة، لها الحق في تنظيم سياستها الخاصة بالهجرة وتطبيق قوانينها الداخلية، ولكن هذا الحق لا يمكن أن يتجاوز حدود السيادة الوطنية للدول الأخرى أو يمس بحقوق مواطنيها الأساسية. الخلاف الحقيقي هنا لا يتعلق بشرعية إصدار الجزائر للوثائق، بل بمدى تعاون الدولتين في ملف ترحيل المهاجرين، والجدل حول الاتفاقيات الثنائية القائمة، كـاتفاقية 1968 التي تنظم حركة الجزائريين في فرنسا. بدلاً من الخطاب التصعيدي الذي لا يخدم إلا تأجيج التوتر، ينبغي أن يكون التركيز على الحوار البنّاء والتفاوض الدبلوماسي لإيجاد حلول عملية وملزِمة للطرفين. إن التحديات المتعلقة بالهجرة تتطلب مقاربة شاملة تقوم على التعاون الدولي، لا على فرض الإملاءات أحادية الجانب أو تجاهل المبادئ القانونية الراسخة. احترام السيادة هو أساس العلاقة تؤكد هذه الأزمة المتجددة أن العلاقة بين الجزائر وفرنسا، بتاريخها المعقد وثقله، لا يمكن أن تُدار بمنطق الاستعلاء أو التضييق على حقوق الدول. إن الجزائر، بدفاعها عن حقها في إصدار وثائق لمواطنيها، تؤكد على سيادتها الكاملة والتزامها بمسؤولياتها الدولية تجاه أبنائها، وهو موقف راسخ لا يمكن التراجع عنه. إن المسار الصحيح لتجاوز هذه الأزمات يكمن في العودة إلى مبدأ الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، والالتزام الصارم بالقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية. بدلاً من محاولات فرض الإملاءات التي لا تنتج سوى المزيد من التوتر، يجب أن تسود روح التعاون البراغماتي والحوار الصريح الذي يضع المصالح المشتركة فوق المناكفات السياسية. الجزائر، بتعاملها مع هذا الملف، تؤكِّد التزامها الكامل بمسؤولياتها الدولية، وتدعو فرنسا إلى إتِّباع المسار ذاته القائم على الشرعية الدولية والاحترام المتبادل لبناء علاقة قوية ومستقرة تخدم مصالح الشعبين.