logo
بين المدينة الفاضلة والمدينة المتجسدة: جدل المخيال والواقع في بناء المجال الحضري

بين المدينة الفاضلة والمدينة المتجسدة: جدل المخيال والواقع في بناء المجال الحضري

إيطاليا تلغراف١٧-٠٧-٢٠٢٥
إيطاليا تلغراف
* د. شنفار عبد الله
عظمة المجتمعات والشعوب والأمم؛ لا تقاس بالمدن الفاضلة التي تتمناها في تمثلاتها ومخيلتها الاجتماعيّة؛ ولكن تقاس بالمدن الذكيّة المتحققة والمتجسدة في الواقع، والتي تستطيع إنجازها.
في تحليل هذا الموضوع الهام؛ ننطلق من مسألتين أساسيتين:
مسألة أولى: لماذا نهرب إلى «المدينة الفاضلة»؟
كيف نفسر ميل المجتمعات إلى قياس واقعها بما تحلم به، بدلاً من قياسه بما يمكن أن يتحقق؟ وهل تصلح المثاليات معيارًا للحكم على المنجز؟ إن الميل إلى ابتداع «مدن فاضلة» في المخيال الجمعي لا يُختزل في نزعة طوباويّة حالمة، بل يعكس إستراتيجية رمزيّة للهروب من مواجهة قصور الواقع ومسؤولية تغييره.
منذ أفلاطون في الجمهورية، مرورًا بأوغسطين في مدينة الله، ووصولًا إلى التصورات الرقمية المعاصرة لما يسمى «المدن الذكية»، ظل الحلم بمثالية المدينة وسيلة مزدوجة: لتشخيص الواقع من جهة، وتبرير العجز أمامه من جهة أخرى.
وهنا يبرز سؤال جدلي: من المستفيد حقًا من إدامة المقارنة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؟ أهو المواطن المحبط الذي يجد فيها عزاءً، أم النخب التي توظفها كخطاب لتبرير إخفاقاتها؟
مسألة ثانية: بين «تفاح الجنة» و«تفاح الأرض»
هل المقارنات بين ما هو متخيل وما هو متحقق تنير الواقع أم تحجبه؟ وهل تؤدي دائمًا إلى وعي نقدي أم إلى انسحاب إلى خطاب الشكوى والندب؟ إن المقارنة المستمرة بين المدينة الواقعية والمدينة المتخيلة قد تنزلق إلى مغالطة منطقية، لأنها تجعل أي منجز نسبي يبدو ناقصًا بالضرورة أمام صورة مثالية مكتملة.
وكأننا نقارن بين «تفاح الجنة» الموصوف بالكمال و«تفاح الأرض» الموسوم بالنقصان. ومع ذلك، قد يكون لهذه المغالطة وظيفة اجتماعية وسياسية خفية: فهي تتيح لبعض الفاعلين إعاقة أي مشروع تطوير بدعوى أنه لا يرقى إلى المثال، فيما تبرر للساكنة إحباطها بالعزوف عن الفعل الإيجابي.
وهنا ينبغي أن نسأل: ألا يجدر بنا أن نقيس المدن بقدر ما تحقّق فعلاً ضمن شروط الواقع، لا بما يحلم به الفلاسفة في أوهامهم؟
مدن بلا روح: أزمة السياسات العموميّة المجاليّة والهندسة الحضرية المعاصرة
كيف نفهم انطفاء الروح في مدننا وأحيائنا؟ وهل مسئوليّة ذلك ماديّة وتقنيّة فقط، أم أنها تعكس أزمة ثقافة حضريه؟ يبدو مشهد المدن والقرى المغربية، مشهدًا لمفارقة مؤلمة: توسع عمراني مادي ضخم يقابله انكماش في جودة الحياة وانطفاء روح المكان.
مدن صاخبة خانقة، وأحياء إسمنتية بلا هوية جماليّة، منازل أقرب إلى أضرحة باردة. كل ذلك يكشف أن بناء الحجر والطرقات ليس كافيًا لخلق مدينة حقيقية. الروح الحضرية تُبنى عبر تخطيط إنساني تشاركي يعترف بأن المدينة ليست مجرد تجمع سكني، بل كائن حي له ذاكرة ووجدان.
هنا يتعين أن نتساءل: هل نحن نبني مدنًا للسكن فقط أم نصنع فضاءات للكرامة والعيش الكريم؟
المدن الذكية: أفق ممكن أم مجرد شعار فارغ في الخطاب السياسي؟
إلى أي حد يمكن لمفهوم المدن الذكيّة أن يشكل بديلًا واقعيًا عن مدننا الحاليّة؟ وما الذي يمنع تحققه فعلاً؟ في المغرب، كما في بلدان نامية أخرى، برزت مشاريع تجريبيّة لما يُسمى بالمدن الذكيّة، التي توظف التقنيات الرقميّة لتحسين إدارة وجودة الخدمات الحضرية.
غير أن التجارب ما تزال متعثرة، في ظل بنية تحتية غير مكتملة، وضعف العدالة المجاليّة والاجتماعية في توزيع الخدمات، وهشاشة المشاركة المواطنة في صناعة القرار. فالذكاء الحضري لا يمكن اختزاله في نشر الألياف البصريّة أو الحساسات الذكيّة فقط؛ بل إنه يبدأ أساسًا بإصلاح الإدارة، وتأهيل الفضاء العام، وتعزيز الشفافيّة والوعي الجماعي.
لذا يبقى سؤالنا مطروحًا: هل نريد مدينة ذكية فعلًا، أم مجرد قشرة تقنية فوق نظام حضري تقليدي؟
تشابك الشبكات الحضرية: من الفوضى إلى النسقيّة
لماذا تتسم شبكات الخدمات الحضرية في كثير من المدن المغربية بالعشوائية؟ وكيف يمكن تحويلها إلى شبكات منسقة تحترم منطق المدينة؟ إن الفوضى المادية التي تبدو في مشهد امتداد خيوط الكهرباء والإنارة والماء والصرف والهاتف تكشف غيابًا لبنية نسقية متكاملة للتخطيط الحضري.
هذه ليست مجرد علة تقنيّة، بل تعبير عن ضعف الرؤية الاستراتيجية وغياب التنسيق بين الفاعلين. فمعالجة هذه الظاهرة تقتضي اعتماد مقاربة شمولية تقوم على توحيد قواعد البيانات الحضرية، تفعيل المراقبة المركزية، إشراك المجتمع المدني، وإدماج الاعتبارات الجمالية والبيئية ضمن مشاريع البنية التحتية.
لكن يبقى السؤال المركزي: هل نمتلك إرادة سياسية ووعيًا مؤسساتيًا يفرض هذا التحول؟
* سؤال مُحيّر ومربك ومزعج ومصيري: إلى أي مدينة ننتمي؟
في النهاية، ماذا نريد من مدننا؟ أماكن محايدة للإقامة أم فضاءات للكرامة والعدالة الاجتماعية؟ وهل نحن مستعدون للاعتراف بأن المدن التي نستحقها هي المدن التي نشارك في إنجازها، لا تلك التي نكتفي بالحلم بها؟
هنا تكمن المعضلة الوجودية للإنسان المعاصر: فهو ليس ساكنًا سلبيًا في مدينة جاهزة، بل فاعل حضري يشارك في صياغتها بقدر ما تشكله هي. إذا أردنا مدنًا أذكى وأكثر إنسانية، ينبغي إعادة الاعتبار لقيمة المشاركة الجماعيّة والنظر إلى المدينة بوصفها مشروعًا مشتركًا بين الدولة والمجتمع.
يبدو حان الوقت لنتجاوز ثنائيّة «مدينة الجنة» و«مدينة الشيطان»، لنفكر في «مدينة الممكن»: مدينة لا تدّعي الكمال، لكنها تمنح كل ساكنيها الحق في الحلم والعمل المشترك من أجل تحسينها.
* خلاصة مفتوحة للتأمل
ليست العظمة في المدن التي نحلم بها، بل في المدن التي ننجزها. فهل نملك الشجاعة لأن نعيش في مدننا كما هي، مع العمل على أن نصنعها كما ينبغي أن تكون؟ أم سنظل نبيت في أوهام المدن الفاضلة ونترك الواقع يتدهور؟
إن المدينة الفاضلة ليست سوى أفق يرشدنا، لكنها لا تعفينا من مسئوليّة مواجهة المدينة المتحققة بكل تناقضاتها وممكناتها. وإدراك هذه الجدليّة في معادلة بين ما هو ممكن وما هو مرغوب فيه، قد يكون بداية لتأسيس رؤية أكثر توازنًا وإنسانية للمدينة المغربية المعاصرة.
يبرز هذا التحليل أن الفجوة بين المدن المتخيلة والمدن المتحققة ليست مجرد مسافة بين الحلم والواقع، بل هي مسألة وعي اجتماعي وثقافة حضرية وممارسة سياسية. إن الاستمرار في المقارنة بين «تفاح الجنة» و«تفاح الأرض» لا يفضي سوى إلى مراكمة الإحباط وتعطيل الفعل.
لذلك، فإن تجاوز هذه الإشكالية يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين المواطن ومدينته على أساس المشاركة والمساءلة، وتعزيز قدرات المؤسسات على التخطيط المتكامل، والانتقال من مقاربة تقنيّة ضيقة إلى رؤية إنسانيّة شموليّة.
* اقتراحات عملية
- ترسيخ ثقافة التقييم الواقعي للمنجزات الحضريه وفق معايير موضوعية وممكنة التنفيذ.
- دمقرطة التخطيط الحضري عبر إشراك المجتمع المدني والمواطنين في وضع أولويات المدن.
- تحسين الحكامة الحضريه من خلال تنسيق الفاعلين وتحديث الخرائط والبنى التحتيّة المعلوماتيه.
- تطوير مفهوم «المدينة الذكيّة» ليشمل الذكاء الاجتماعي والمؤسسي، لا الاقتصار على التكنولوجيا.
- إعادة الاعتبار للأبعاد الجمالية والثقافية للفضاءات العامة لتغذية «روح المدينة» وتجديد هويتها.
بهذه الإجراءات يمكن إعادة إحياء الفضاءات الحضرية والمحاليّة لتصبح فضاءات كرامة وعدالة، لا مجرد جدار إسمنت وصخب أزقّة وساحات وشوارع .
إيطاليا تلغراف
السابق
شهداء إثر استهداف طالبي المساعدات في خان يونس
التالي
الوقائع والحقائق حول السياسة الصناعية الصينية

هاشتاغز

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بلمهدي يستقبل الأئمة الموفدين إلى أكاديمية الأزهر بمصر
بلمهدي يستقبل الأئمة الموفدين إلى أكاديمية الأزهر بمصر

النهار

timeمنذ 39 دقائق

  • النهار

بلمهدي يستقبل الأئمة الموفدين إلى أكاديمية الأزهر بمصر

استقبل وزير الشؤون الدينية والأوقاف، يوسف بلمهدي، اليوم الإثنين، بمقر الوزارة، الدفعة الثالثة من الأئمة الموفدين إلى أكاديمية الأزهر العالمية بمجمع البحوث التابع للأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية. وأوضحت الوزارة في بيان لها، أن وزير الشؤون الدينية استقبل الدفعة الثالثة من السادة الأئمة الموفدين إلى أكاديمية الأزهر العالمية. بمجمع البحوث التابع للأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية. وذلك تنفيذا لبنود اتفاقية التعاون في مجال الشؤون الدينية والأوقاف بين البلدين. وخلال اللقاء أسدى الوزير توجيهاته للأئمة، اين أكد على ضرورة الاستفادة القصوى من هذا التكوين النوعي بمؤسسة الأزهر العريقة. وكذا ضرورة تمثيل الجزائر بما يليق بحضارتها وتراثها. بما يجسد روح التعاون المثمر بين وزارة الشؤون الدينية والأوقاف والأزهر الشريف. إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور

مصرع طالب في جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء بعد التحاقه بدورة حوثية
مصرع طالب في جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء بعد التحاقه بدورة حوثية

خبر للأنباء

timeمنذ 39 دقائق

  • خبر للأنباء

مصرع طالب في جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء بعد التحاقه بدورة حوثية

وأفادت مصادر طلابية أن الطالب عقبة وائل حسن أبوراس، وهو أحد طلاب المستوى الخامس في كلية الطب البشري بجامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء، لقي مصرعه في أحد معسكرات التدريب الحوثية على أطراف محافظة الحديدة. وأشارت المصادر إلى أن الطالب "أبوراس"، المنحدر من محافظة إب، كان معروفًا بتفوقه الأكاديمي، إلا أنه خضع مؤخرًا لدورات فكرية وعسكرية نظمتها الميليشيا داخل الحرم الجامعي تحت عناوين مثل "طوفان الأقصى" و"الفتح الموعود والجهاد المقدس". وذكرت المصادر أن أبوراس تعرض لعملية تعبئة فكرية مكثفة داخل الجامعة، قبل أن يتم نقله إلى أحد المعسكرات في الحديدة، حيث لقي مصرعه في ظروف لم تُكشف تفاصيلها حتى الآن. وأعلنت الميليشيا مقتله لاحقًا ضمن ما سمّته "معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس". وتواصل ميليشيا الحوثي تجنيد طلاب الجامعات عبر ما يُعرف بـ"ملتقى الطالب الجامعي"، الذي يمثل ذراعها التعبوي في الجامعات اليمنية. وتشير وثائق مسرّبة إلى أن نحو 794 طالبًا خضعوا لدورات طائفية في جامعة العلوم والتكنولوجيا خلال أول عامين فقط من سيطرة الميليشيا عليها، تم تجنيد أكثر من 200 منهم للقتال في الجبهات، غالبيتهم من طلاب المستويات الأولى.

زروقي: توقيع مذكرة تفاهم مع إيطاليا يُعد مسارا جديدا للعمل المُشترك وتشجيعا للاستثمار
زروقي: توقيع مذكرة تفاهم مع إيطاليا يُعد مسارا جديدا للعمل المُشترك وتشجيعا للاستثمار

النهار

timeمنذ ساعة واحدة

  • النهار

زروقي: توقيع مذكرة تفاهم مع إيطاليا يُعد مسارا جديدا للعمل المُشترك وتشجيعا للاستثمار

أكد وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، سيد علي زروقي، أن توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين الجزائر وإيطاليا يعد خطوة تؤسس لمسار جديد من العمل المشترك وتشجع على تبادل الخبرات والاستثمار المشترك. وقال زروقي أنه تشرف بمرافقة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، خلال زيارته الرسمية إلى الجمهورية الإيطالية. مشيرا أنها شكّلت محطة مهمة في مسار تعزيز العلاقات التاريخية والمتينة بين البلدين. كما عبر الوزير عن سعادته بالمشاركة في اللقاءات الثنائية رفيعة المستوى التي ترأسها عن الجانب الجزائري عبد المجيد تبون، رئيس الجمهورية. وعن الجانب الايطالي رئيس الجمهورية الإيطالية، سيرجيو ماتاريلا، ورئيسة الوزراء، جورجيا ميلوني. موضحا أن 'خلال هذه اللقاءات جددنا التزامنا المشترك بتطوير آفاق التعاون بين الجزائر وإيطاليا في مختلف المجالات'. وفي ذات السياق، نوه وزير البريد باللقاء الثنائي الذي وصفه بالمثمر مع نظيره وزير المؤسسات والصناعة الإيطالي، ادولفو اورسو. حيث تُوّج بتوقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين البلدين، بما يعكس الإرادة السياسية المشتركة. لبناء شراكات اقتصادية وتقنية استراتيجية، خاصة في مجالات الابتكار والتحول الرقمي والصناعة الذكية. مؤكدا أن هذه الخطوة تؤسس لمسار جديد من العمل المشترك وتشجع على تبادل الخبرات، الاستثمار المشترك، ودفع عجلة الابتكار نحو الأمام بما يخدم مصالح البلدين.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store