
كتاب غير منشور لغونتر غراس عن الجمال الأنثوي
يحمل نص غونترغراس عنواناً غريباً هو "اتخاذ الوضعية"، ويدور حول منحوتة تعود إلى العصور الوسطى وتحديداً إلى الفترة الممتدة بين الأعوام 1243 و1249، تمثل النبيلة أوتا دي ناومبورغ (1000-1042).
أسرت هذه المنحوتة غراس يوم زار، قبيل سقوط جدار برلين على هامش جولة أدبية في ألمانيا الشرقية قام بها برفقة زوجته التي تدعى أيضاً أوتا، كاتدرائية ناومبورغ، مكتشفاً مجموعة من روائع الفن القوطي الألماني، وهي عبارة عن 12 تمثالاً تجسد بناة الكاتدرائية.
من بين هذه المنحوتات برزت منحوتة أوتا، التي اعتبرها أندريه مالرو وأومبرتو إيكو مثالاً للجمال الأنثوي في العصور الوسطى، والتي تعتبر كأحد أشهر الأعمال النحتية في الفترة القوطية الألمانية، ويقال إنها من أعمال "معلم ناومبورغ" الذي يتميز بأسلوب نحتي يظهر ملامح الشخصيات التي يجسدها بشكل واضح من خلال الاهتمام بتفاصيل دقيقة في تعابير الوجه أو طريقة الوقوف، مما يضفي على منحوتاته مزيداً من الإنسانية.
أثارت هذه المنحوتة على الفور بسكينتها وأبديتها مشاعر غراس، الذي حلم للتو بالكتابة عنها وعن النماذج التي استلهمت منها، فأتى نصه المتأمل فيها عبارة عن رحلة تنقل القارئ عبر الزمان والمكان والسياسة.
زيارة ألمانيا الشرقية
يبدأ الكتاب بسرد غراس تفاصيل تلقيه دعوة لزيارة جمهورية ألمانيا الديمقراطية وقبوله إياها كما لو كانت دعوة إلى القيام برحلة في الزمن إلى الوراء. ويقول إنه بينما كان بانتظار الإذن لعبور الحدود للدخول إلى الدولة الوحيدة التي تتبنى العمال والفلاحين، بدأ يقلب، متردداً، ذكرياته عن العصور الوسطى، وعندما وصلت الأوراق أخيراً مختومة بعد المماطلات المعتادة، إذ رفض طلبه للحصول على التأشيرة مرتين، حُدد مسار الرحلة خطوة بخطوة وسمح له بقراءة مقتطفات من بعض كتبه في الكنائس والمكتبات والقاعات البلدية. وعلى رغم أن الرحلة كانت لفترة قصيرة، فإنها أتاحت له ولزوجته فرصة زيارة مدن وأماكن قرأ عنها صغيراً في كتبه المدرسية.
كانت ماغديبورغ محطتهم الأولى، ثم هاله فإرفورت ويينا، حيث تعلم مارتن لوثر، الراهب الأوغسطيني، فناومبورغ. في هذه المدن والأمكنة كانت العصور الوسطى القوطية وعماراتها، على ما يروي غراس، تتداعى وتتآكل، وكان الحاضر قد بدأ هو الآخر بالتحول إلى تاريخ من الهوامش. ففي كاتدرائية ناومبورغ، الواقعة في الجزء الشرقي من حوض تورنغن التي بدأ إنشاؤها عام 1028، وصف غونتر غراس شاهداً فريداً على فنون العصور الوسطى وعمارتها، عنيت التماثيل المنحوتة بالحجم الطبيعي لبناة الكاتدرائية، لا سيما تمثال أوتا دي ناومبورغ، زوجة الأمير إيكهارد الثاني من ميسنيا، التي كانت من بين المتبرعين الذين أسهموا في بناء الكاتدرائية. وقد جاء وصفه لهذا التمثال المصحوب برسومات حجرية تعكس مهارته المزدوجة الأدبية والفنية، مقدماً لنا مزيجاً من الدقة والمعرفة، ومن المرح والجدية، مما منح نصه، المكتوب بجمل تشبه موجة ترتفع، تزبد، تبدو وكأنها على وشك الانكسار قبل أن تتدحرج على نفسها وتندفع نحو الموجة التالية، سحراً لا يقاوم.
يشكل هذا النص إذاً تأملاً عميقاً وحساساً في هذه المنحوتة القوطية الملونة وبالحجم الطبيعي التي نفذها إزميل نحات مجهول برع في رسم ملامح جمال نبيل وهادئ يعكس روحاً سامية، من خلال تصوير امرأة شابة جميلة، بأنف دقيق مستقيم، وفم صغير مرسوم بتعبير خفيف يوحي بشخصية حازمة ونظرة صافية صريحة ترنو نحو المذبح الرئيس، حيث الحضور المقدس، وقد كلل رأسها بتاج مزين بزهر الزنبق، مرصع باللآلئ والأحجار الكريمة، وضعه النحات فوق وشاح رأس مصنوع من أشرطة الكتان، وهو وشاح تقليدي للنساء المتزوجات في القرن الـ13، أما لباسها فهو كناية عن معطف شتوي أحمر مطرز بخيوط ذهبية ومبطن بفرو، مما يمنحها هيبة وجلالاً، يغطي هذا المعطف ثوب حريري أحمر فاتح اللون، مثبت عند العنق بدبوس ذهبي. تخفي أوتا ذراعها اليمنى تحت المعطف، وترفع ساعدها لتلمس عنقها بيدها المختبئة تحت النسيج، في حركة أنيقة ومتحفظة، أما يدها اليسرى ذات الأصابع النحيلة المزينة بالخواتم، فتمسك بطرف معطفها المرفوع على الخصر.
منحوتة قوطية
تذكرنا هذه المنحوتة في وضعيتها وملابسها بمنحوتات كاتدرائيات رايمس وباريس وأميان، ولعل وضعها إلى جانب منحوتات تمثل شخصيات علمانية بارزة داخل صحن الكنيسة وحنياتها يعد أمراً غير مألوف، إذ اقتصر التقليد الكنسي القوطي على وضع منحوتات تمثل المسيح أو العذراء مريم أو القديسين لتوضيح القصص الإنجيلية والكتابية للمؤمنين الأميين بمعظمهم آنذاك. ويبدو أن معلم ناومبورغ كان نحاتاً ومهندساً معمارياً في آن واحد، مما يفسر نهجه هذا في البناء، وقد نجح في تبيان الاختلافات بين المواد والأقمشة والتفاصيل الدقيقة للزخارف والأجساد البشرية بدقة استثنائية.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد وصفه هذه المنحوتة طرح غراس من خلالها مسألة صراع الهويات الحاضر دوماً في كل نصوصه وكتاباته، ومن الواضح أن هذا الكتاب الصغير (96 صفحة) سيثير كما كل كتابات الأديب الألماني كثيراً من النقاش والجدل لتنقيبه في الماضي، القريب والبعيد، مستخرجاً منه جمالات لا تحصى أو أهوالاً يرغب كثر في نسيانها، وسيشكل مناسبة للعودة إلى مجمل أعمال غراس ومواقفه الأدبية والسياسية. فكل رواية أو سردية من سردياته تشبه تسليط ضوء كاشف على إحدى حقائق ألمانيا التاريخية والمعاصرة، غالباً ما يكون فيها غراس أقل شاعرية، أو أكثر بساطة أو أكثر سخرية. هذه الفسيفساء من النصوص، التي تقل فيها الملحمية والحيوية، تكمل في الوقت عينه أعماله والرؤية التي يطورها فيها، حين يمزج بين شذرات أدبية وفنية رائعة تضم السردين التاريخي والشخصي.
يتقن غونتر غراس فن المزج بين التشاؤم القاتم والسخرية والخيال الجامح ويؤمن أن اللغة والأدب والفن توحد الشعوب، فالثقافة وحدها هي الجسر الذي يعيد التوازن، ولو شدد على أن دور المثقف يشبه إلى حد بعيد دور الحارس الذي يراقب الأخطار، حتى لو اضطر إلى إزعاج راحة الآخرين. وما المنحوتة التي يصفها في هذا النص البديع إلا ذريعة تأخذ القارئ إلى حافة هاوية تحثه على التفكير من خلال تسليط الضوء على أحد كنوز ألمانيا التاريخية والمعاصرة.
إن قراءة هذا النص متعة أدبية خالصة، يرجح الباحثون أن غراس كتبه كفصل من سيرته الذاتية "قشور البصل"، ثم أعرض عن نشره، ليعاد اكتشافه أخيراً مع الرسومات الحجرية التي تزينه والتي تعكس، بعد 10 أعوام من وفاته، المهارة المزدوجة الأدبية والفنية لهذا الكاتب الكبير.
ولد غونتر غراس عام 1927 في دانتسيغ، ودرس الرسم والنحت قبل أن يتجه إلى الأدب. عام 1959 منحته رواية "الطبل الصفيح" شهرة عالمية وترجمت إلى لغات عالمية كثيرة من بينها العربية. هذه الرواية هي جزء من ثلاثية معروفة باسم "ثلاثية دانتسيغ" تضم روايتي "القط والفأر" (1961) و"أعوام الكلاب" (1963)، ومن رواياته المشهورة أيضاً "مئويتي" (1999) و"مشية السرطان" (2002) وسواها، وكتب غراس مسرحيتين "الطهاة الأشرار" (1956) و"الفيضان" (1957)، وأصدر أربع مجموعات شعرية أتبعها بنشر عدد كبير من القصص والمقالات.
توفي غراس في الـ13 من أبريل (نيسان) 2015 عن عمر ناهز 87 سنة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوطن
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- الوطن
محاولة لجعل العالم أفضل قليلا
كثيرون هُم الأدباء الغربيّون الذين أتعبتهم بلادهم فكانوا يغادرونها إلى الخارج ليرتاحوا ويتأمّلوا، ولو إلى حين؛ ومن بين هؤلاء الروائيّ الألمانيّ "غونتر غراس" (1927 - 2015) الحائز على جائزة نوبل للآداب عن ثلاثيّته الروائيّة المعروفة بـ "ثلاثيّة داينتسيغ" في العام 1999، والذي كان يَعشق الهند ويتردّد عليها أكثر من مرّة في السنة، إذ كان يرى فيها البلاد التي تُعيد إليه الكثير من حيويّته وتوازن ذاته المضْطربة. وغونتر غراس، إلى جانب كونه روائيّاً فذّاً، هو أيضاً شاعر ونحّات ومسرحيّ يُحسب له حساب في ألمانيا وأوروبا بعامّة؛ فهو أوّل مَن بَشَّر بانتهاء عصر الشخصيّة في الرواية، وأَدخل "ترسانة السورياليّة" إلى أدبه بغنائيّةٍ غاضبة تُناسب تمرّده وانخلاعه على الجهات.. ولقد وصفه الشاعر والناقد الفرنسي ميشال دوغي "بأنّه سيّد الرواية الجديدة أو الأعمال المُعادية للرواية في أوروبا والعالَم". في زيارةٍ شخصيّة لي إلى مدينة دوسلدورف الألمانيّة منذ ما يزيد على عقود ثلاثة، التقيتُ بشعراء ومثقّفين ألمان قدّمني إليهم أحد الأصدقاء اللّبنانيّين المُقيمين في ألمانيا.. ودارَ بيننا حديثٌ مطوّل حول الشعر والأدب والفلسفة في بلاد "غوته"؛ وبمجرّد أن تفوّهتُ أمامهم باسم غونتر غراس، حتّى بادرني أحدهم و"بإنكليزيّة شبه هتلريّة": "تقصد "بورنو غراس".. وأردف: "آه، إنّه كاتب جيّد، لكنّه منعزل وحادّ الطبع". ومن دون أن أستفسره عمّا يقصد "ببورنو غراس"، استطردَ قائلاً: "لا تَرْتَب أيّها الصديق الجديد.. أنا أعني ما أقول، فهو كاتبٌ إباحيّ ومُنخلع في إباحيّته. هو مثل نورمان ميلر في الولايات المتّحدة، جريء وقاطع، إيثاريّ وحاسِم، حتّى لتحسبه واحداً من ضبّاط الجيش الذين يقطّبون جباههم في لحظة نفير جديّة". على أنّ غونتر غراس على "حديديّته الفرديّة"، يظلّ أيضاً ينتقل من العزلة إلى العلاقة، ومن التجاوُز إلى الاندغام، لكنّ ذلك كلّه من ضمن نظرة كيانيّة شموليّة تُحذِّر من سقوط العالَم وفراغه القاتل، لا بل إنّه استشرفَ هذا الفراغ الأصفر القاتل من خلال ما حكاه في إحدى رواياته عن الفأرة التي تَرِث الجنس البشري على الأرض بعد دمارها بكوارث نوويّة متحقّقة. ومثل هذا التدمير النووي يُحذّر منه كلّ إنسان سويّ، عاقل ومحبّ للسلام يحرص على وطننا الأمّ جميعاً كبَشر: "الأرض". إنّ هذه مهمّة عظيمة يتجنّد لها غونتر غراس.. هذا الكاتب العظيم المُدرِك في العُمق لمعضلة تدمير الإنسان لنفسه ولغيره، وعجْز هذا الإنسان في الوقت نفسه عن الإقلاع عن مزاولات لعبة التدمير هذه، والتي، ولا شكّ، وَقَفَ وراءها في السابق، وسيَقف لاحقاً، نفرٌ من حكّام ساديّين مرضى بالسياسات الديكتاتوريّة المنحرفة في غير مكانٍ من هذا العالَم. روايات غونتر غراس تدلّنا دائماً على خصوصيّات رغبتنا فيها، وهي عبارة عن خليطٍ متوازن من قوّة التعبير الدلالي و"الكلام الصامت" المندمج في تطهيريّة مُستغرقة تنال من قارئها تماماً.. ويَعرف غراس في النتيجة كيف لا يَجعل من مضمون كتابته تعبيراً عن معنىً أوّل. كما أسلفنا، يُغادر غونتر غراس بلده إلى الهند أكثر من مرّة في السنة، وذلك بهدف الراحة والتأمّل؛ فالهند بما فيها من أجواءٍ أسطوريّة وخرافيّة وبدئيّات تعويذاتيّة، تُجدِّد خيالَ الكاتب الأوروبي المُصادَر بالمنطق والتنظيم البارد؛ كما تُبعد عن لغته ضبابَ السأم والتبرُّم بالعالَم، فيستحيل موقفه في الحياة، وفي النصّ الأدبيّ، حالةً تنفجر بمحمولاتها إلى خارجها بدلاً من أن تظلّ حبيسة نفسها في دورانٍ حلزونيّ لا طائل منه. يصنع غراس روايته من جحيم حياته وتشنّجاته وانقلاباته الخاطفة، وتلك البعيدة الحاذقة.. على الأقلّ هذا ما توحي به بعض أعماله التي قرأناها مترجمةً إلى العربيّة مثل "طبل الصفيح"، "القطّ والفأر" و"مخدِّر موضعي". ففي هذه الروايات يقطع غونتر غراس مع الحقيقة البشريّة التعسّفيّة بحقّ نفسها وحقّ العالَم أجمع، ويظلّ صارماً على الدوام ضدّ السياسات التي تُفاقِم من أورام العصر وتناقضاته الفاقدة من خلال أصحابها لأيّ وعيٍ يقدّمه الدرس التاريخي المتناوب.. في الغرب خصوصاً، علاوة على بعض جوانب الحياة الحديثة المُفضية إلى إدراكٍ مشتّت في الفرد نفسه، ومن ثمّ في الجماعة لاحقاً، سواء بسواء. "ذلك أنّ حياتنا هي نَهْبٌ للمصادفات البحتة التي تظلّ تتدفّق علينا من كلّ صوب يوميّاً" حسبما يقول. وهو أيضاً ضدّ نفسه عندما تُظهر الشكوى أمام مَنْ لا يرحمها. وأحياناً إذا ما أحسّ أنّ الصمت لديه، هو صمت صاغر ومذلّ بإزاء أيّ سلطة استبداديّة مناوئة، فسرعان ما يسعى، وبجهدٍ فوريّ موصول، إلى إقامة ضجيج مُناوىء لهذا الصمت المذلّ، عاملاً على قهْره وطرْده من عقله وذاكرته وضميره دفعةً واحدة. إنّه كاتب مسؤول بدرجةٍ عالية ونافِذة.. يُدرِك أنّ المستقبل، مثل التاريخ، يبقى أساساً للفهم السببيّ للوقائع جميعها. وربّما لأجل ذلك، يظلّ غونتر غراس كاتباً صلباً بموقفه، مهزوماً بقلبه.. وعلى خشية دائمة من أن تُسرَق منه نفسه في درجةٍ مفاجئة من العنف المجنون، والذي تتنكّبه، كما العادة، حفنةٌ مشوَّهة من السياسيّين المُرتبطين بجماعات الاحتكارات الماليّة الضخمة على مستوىً عالميّ، والتي يُحرّكها الشره وعمى الأنانيّة والتنافُس الضيّق على كلّ شيء. وأستطرد فأقول إنّ غراس هو روائي الأسئلة السياسيّة الحارقة التي تظلّ تطرق رؤوسنا كلّ لحظة وبحرارة لا يُخطئها الحسّ لديه. كان غونتر غراس مُحبّاً للعرب ومُناصراً لقضاياهم، وخصوصاً في فلسطين والجزائر، وكان مناوئاً شرساً للمشروع النووي الإسرائيلي، ولكيان إسرائيل الدخيل على المنطقة، كما قال بذلك الألماني أندرياس نوربرت كوهلر، صديق صديقي اللّبناني ميخائيل جوزيف خطّار المُقيم في ألمانيا منذ أكثر من 57 عاماً. وأَردف كوهلر، بحسب خطّار، يقول إنّه جالَسَ مراراً غونتر غراس في واحدة من مقاهي مدينة دوسلدورف التي كان يحبّ التردُّد عليها، وحادَثَه في أمور كثيرة.. سياسيّة وثقافيّة، بخاصّة في ما يتّصل منها بأوروبا ومصيرها، وخصوصاً بعد قيام كيان الاتّحاد الأوروبي، وإنّه كان على الضدّ جملةً وتفصيلاً من التبعيّة الأوروبيّة المُذلّة للولايات المتّحدة الأميركيّة وفي كلّ أمر سياسي وحتّى ثقافي استراتيجي عامّ... وعلى العكس من ذلك (والكلام لكوهلر) كان على أوروبا، في رأي غونتر غراس، أن تقود هي أميركا وتعقلها في كلّ شيء آنيّ ومستقبليّ، أوّلاً، لأنّ العقل الأوروبي السياسي هو الأهدأ والأعمق من العقل السياسي الأميركي المحكوم دوماً بمنطق القوّة والمُكابَرة والتنطّع... وثانياً لأنّ الدول الأوروبيّة لم تَزل تتمتّع باحترامٍ وافر من معظم شعوب العالَم، بعكس ما تُبديه هذه الشعوب من نفورٍ تجاه الولايات المتّحدة وجبروتها مهما أبدت هذه الأخيرة عكس ما هو مروَّج عنها. وفهمتُ من الصديق اللّبناني ميخائيل خطّار بَعد، وعلى لسان صديقه الألماني المذكور، أنّ هذه الوضعيّة الأميركيّة يجب أن يتبصّرها الاتّحاد الأوروبي على الدوام، وحتّى قَبل غيره من دول العالَم كافّة، وعلى مختلف الصعد والمستويات. وكفى في رأيه "لهذه الأوروبا الخبيرة والعظيمة بطبقاتها السياسيّة والفكريّة والإبداعيّة الرائدة.. كفى لها أن تظلّ هكذا مقودة للولايات المتّحدة وبكلّ شيء تقريباً... نعم، إنّه أمر لا يليق بالاتّحاد الأوروبي أن يظلّ يَظهر لنا، ولغيرنا في العالَم، على هيئة جسمٍ عملاق ديموغرافيّاً وجغرافيّاً ولكن برأسٍ سياسي في منتهى الصغر". على ما تقدّم، لا يُمكن للعالَم، وبرأي كثير من المفكّرين التنويريّين من مختلف الشعوب، أن يُقاد إلّا بالتعاون الجدّي الخلّاق بين الجميع.. جميع القادرين من الدول، ودائماً بالفكر والعِلم والمعرفة والثقافة والإبداع، وليس عبر "مفاهيم" الشركات الكبرى والتروستات الماليّة والاحتكاريّة على أنواعها. ألا من سيضْطلع بهذه المهمّة الإنسانيّة الحضاريّة التاريخيّة الفاصلة، في غرب العالَم وشرقه، في شماله وجنوبه، في محاولةٍ منه لجعْل هذا العالَم المُنهَك والمتآكل أفضل قليلاً؟! *مؤسسة الفكر العربي * تزامناً مع دورية أفق الإلكترونية.


Independent عربية
٠٧-٠٤-٢٠٢٥
- Independent عربية
كتاب غير منشور لغونتر غراس عن الجمال الأنثوي
يحمل نص غونترغراس عنواناً غريباً هو "اتخاذ الوضعية"، ويدور حول منحوتة تعود إلى العصور الوسطى وتحديداً إلى الفترة الممتدة بين الأعوام 1243 و1249، تمثل النبيلة أوتا دي ناومبورغ (1000-1042). أسرت هذه المنحوتة غراس يوم زار، قبيل سقوط جدار برلين على هامش جولة أدبية في ألمانيا الشرقية قام بها برفقة زوجته التي تدعى أيضاً أوتا، كاتدرائية ناومبورغ، مكتشفاً مجموعة من روائع الفن القوطي الألماني، وهي عبارة عن 12 تمثالاً تجسد بناة الكاتدرائية. من بين هذه المنحوتات برزت منحوتة أوتا، التي اعتبرها أندريه مالرو وأومبرتو إيكو مثالاً للجمال الأنثوي في العصور الوسطى، والتي تعتبر كأحد أشهر الأعمال النحتية في الفترة القوطية الألمانية، ويقال إنها من أعمال "معلم ناومبورغ" الذي يتميز بأسلوب نحتي يظهر ملامح الشخصيات التي يجسدها بشكل واضح من خلال الاهتمام بتفاصيل دقيقة في تعابير الوجه أو طريقة الوقوف، مما يضفي على منحوتاته مزيداً من الإنسانية. أثارت هذه المنحوتة على الفور بسكينتها وأبديتها مشاعر غراس، الذي حلم للتو بالكتابة عنها وعن النماذج التي استلهمت منها، فأتى نصه المتأمل فيها عبارة عن رحلة تنقل القارئ عبر الزمان والمكان والسياسة. زيارة ألمانيا الشرقية يبدأ الكتاب بسرد غراس تفاصيل تلقيه دعوة لزيارة جمهورية ألمانيا الديمقراطية وقبوله إياها كما لو كانت دعوة إلى القيام برحلة في الزمن إلى الوراء. ويقول إنه بينما كان بانتظار الإذن لعبور الحدود للدخول إلى الدولة الوحيدة التي تتبنى العمال والفلاحين، بدأ يقلب، متردداً، ذكرياته عن العصور الوسطى، وعندما وصلت الأوراق أخيراً مختومة بعد المماطلات المعتادة، إذ رفض طلبه للحصول على التأشيرة مرتين، حُدد مسار الرحلة خطوة بخطوة وسمح له بقراءة مقتطفات من بعض كتبه في الكنائس والمكتبات والقاعات البلدية. وعلى رغم أن الرحلة كانت لفترة قصيرة، فإنها أتاحت له ولزوجته فرصة زيارة مدن وأماكن قرأ عنها صغيراً في كتبه المدرسية. كانت ماغديبورغ محطتهم الأولى، ثم هاله فإرفورت ويينا، حيث تعلم مارتن لوثر، الراهب الأوغسطيني، فناومبورغ. في هذه المدن والأمكنة كانت العصور الوسطى القوطية وعماراتها، على ما يروي غراس، تتداعى وتتآكل، وكان الحاضر قد بدأ هو الآخر بالتحول إلى تاريخ من الهوامش. ففي كاتدرائية ناومبورغ، الواقعة في الجزء الشرقي من حوض تورنغن التي بدأ إنشاؤها عام 1028، وصف غونتر غراس شاهداً فريداً على فنون العصور الوسطى وعمارتها، عنيت التماثيل المنحوتة بالحجم الطبيعي لبناة الكاتدرائية، لا سيما تمثال أوتا دي ناومبورغ، زوجة الأمير إيكهارد الثاني من ميسنيا، التي كانت من بين المتبرعين الذين أسهموا في بناء الكاتدرائية. وقد جاء وصفه لهذا التمثال المصحوب برسومات حجرية تعكس مهارته المزدوجة الأدبية والفنية، مقدماً لنا مزيجاً من الدقة والمعرفة، ومن المرح والجدية، مما منح نصه، المكتوب بجمل تشبه موجة ترتفع، تزبد، تبدو وكأنها على وشك الانكسار قبل أن تتدحرج على نفسها وتندفع نحو الموجة التالية، سحراً لا يقاوم. يشكل هذا النص إذاً تأملاً عميقاً وحساساً في هذه المنحوتة القوطية الملونة وبالحجم الطبيعي التي نفذها إزميل نحات مجهول برع في رسم ملامح جمال نبيل وهادئ يعكس روحاً سامية، من خلال تصوير امرأة شابة جميلة، بأنف دقيق مستقيم، وفم صغير مرسوم بتعبير خفيف يوحي بشخصية حازمة ونظرة صافية صريحة ترنو نحو المذبح الرئيس، حيث الحضور المقدس، وقد كلل رأسها بتاج مزين بزهر الزنبق، مرصع باللآلئ والأحجار الكريمة، وضعه النحات فوق وشاح رأس مصنوع من أشرطة الكتان، وهو وشاح تقليدي للنساء المتزوجات في القرن الـ13، أما لباسها فهو كناية عن معطف شتوي أحمر مطرز بخيوط ذهبية ومبطن بفرو، مما يمنحها هيبة وجلالاً، يغطي هذا المعطف ثوب حريري أحمر فاتح اللون، مثبت عند العنق بدبوس ذهبي. تخفي أوتا ذراعها اليمنى تحت المعطف، وترفع ساعدها لتلمس عنقها بيدها المختبئة تحت النسيج، في حركة أنيقة ومتحفظة، أما يدها اليسرى ذات الأصابع النحيلة المزينة بالخواتم، فتمسك بطرف معطفها المرفوع على الخصر. منحوتة قوطية تذكرنا هذه المنحوتة في وضعيتها وملابسها بمنحوتات كاتدرائيات رايمس وباريس وأميان، ولعل وضعها إلى جانب منحوتات تمثل شخصيات علمانية بارزة داخل صحن الكنيسة وحنياتها يعد أمراً غير مألوف، إذ اقتصر التقليد الكنسي القوطي على وضع منحوتات تمثل المسيح أو العذراء مريم أو القديسين لتوضيح القصص الإنجيلية والكتابية للمؤمنين الأميين بمعظمهم آنذاك. ويبدو أن معلم ناومبورغ كان نحاتاً ومهندساً معمارياً في آن واحد، مما يفسر نهجه هذا في البناء، وقد نجح في تبيان الاختلافات بين المواد والأقمشة والتفاصيل الدقيقة للزخارف والأجساد البشرية بدقة استثنائية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) بعد وصفه هذه المنحوتة طرح غراس من خلالها مسألة صراع الهويات الحاضر دوماً في كل نصوصه وكتاباته، ومن الواضح أن هذا الكتاب الصغير (96 صفحة) سيثير كما كل كتابات الأديب الألماني كثيراً من النقاش والجدل لتنقيبه في الماضي، القريب والبعيد، مستخرجاً منه جمالات لا تحصى أو أهوالاً يرغب كثر في نسيانها، وسيشكل مناسبة للعودة إلى مجمل أعمال غراس ومواقفه الأدبية والسياسية. فكل رواية أو سردية من سردياته تشبه تسليط ضوء كاشف على إحدى حقائق ألمانيا التاريخية والمعاصرة، غالباً ما يكون فيها غراس أقل شاعرية، أو أكثر بساطة أو أكثر سخرية. هذه الفسيفساء من النصوص، التي تقل فيها الملحمية والحيوية، تكمل في الوقت عينه أعماله والرؤية التي يطورها فيها، حين يمزج بين شذرات أدبية وفنية رائعة تضم السردين التاريخي والشخصي. يتقن غونتر غراس فن المزج بين التشاؤم القاتم والسخرية والخيال الجامح ويؤمن أن اللغة والأدب والفن توحد الشعوب، فالثقافة وحدها هي الجسر الذي يعيد التوازن، ولو شدد على أن دور المثقف يشبه إلى حد بعيد دور الحارس الذي يراقب الأخطار، حتى لو اضطر إلى إزعاج راحة الآخرين. وما المنحوتة التي يصفها في هذا النص البديع إلا ذريعة تأخذ القارئ إلى حافة هاوية تحثه على التفكير من خلال تسليط الضوء على أحد كنوز ألمانيا التاريخية والمعاصرة. إن قراءة هذا النص متعة أدبية خالصة، يرجح الباحثون أن غراس كتبه كفصل من سيرته الذاتية "قشور البصل"، ثم أعرض عن نشره، ليعاد اكتشافه أخيراً مع الرسومات الحجرية التي تزينه والتي تعكس، بعد 10 أعوام من وفاته، المهارة المزدوجة الأدبية والفنية لهذا الكاتب الكبير. ولد غونتر غراس عام 1927 في دانتسيغ، ودرس الرسم والنحت قبل أن يتجه إلى الأدب. عام 1959 منحته رواية "الطبل الصفيح" شهرة عالمية وترجمت إلى لغات عالمية كثيرة من بينها العربية. هذه الرواية هي جزء من ثلاثية معروفة باسم "ثلاثية دانتسيغ" تضم روايتي "القط والفأر" (1961) و"أعوام الكلاب" (1963)، ومن رواياته المشهورة أيضاً "مئويتي" (1999) و"مشية السرطان" (2002) وسواها، وكتب غراس مسرحيتين "الطهاة الأشرار" (1956) و"الفيضان" (1957)، وأصدر أربع مجموعات شعرية أتبعها بنشر عدد كبير من القصص والمقالات. توفي غراس في الـ13 من أبريل (نيسان) 2015 عن عمر ناهز 87 سنة.

سعورس
٠٥-٠٣-٢٠٢٥
- سعورس
جمعية الذوق العام تطلق مبادرة توعية في مساجد المنطقة الشرقية
تزامنًا مع شهر رمضان المبارك، وانطلاقًا من الرسالة السامية في إيجاد بيئة مجتمعية تمتاز بالذوق العام في جميع التصرفات والتعاملات لجوانب الحياة المختلفة، استنادًا إلى القيم الدينية والمعايير الاجتماعية؛ انطلقت جمعية ذوق في رحلتها التوعوية للمصلين حول الممارسات الذوقية الواجب اتباعها في المساجد، ضمن الأنشطة التنفيذية لبرنامج "المساجد" وبرنامج "وافد"، اللذان أطلقهما ودشنهما صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود – أمير المنطقة الشرقية – الرئيس الفخري للجمعية. وأوضح مدير عام جمعية الذوق العام عبدالعزيز المحبوب أن الرحلة التوعوية الرمضانية تأتي بالتحالف مع عدد من الجمعيات الخيرية، مثل جمعية هداية للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالخبر، وبالدمام ، وبالجبيل، بالإضافة إلى جمعية البر بالأحساء، وجمعية غراس، وجمعية الراكة، حيث شملت التوعوية العديد من الجوامع والمساجد، بالإضافة إلى توعية الجاليات بأكثر من ١٠ لغات؛ وذلك لتعزيز القيم الإسلامية الخاصة بالمساجد. وأضاف المحبوب بأن التوعية مستمرة طوال شهر رمضان المبارك في جهود مشتركة ومتواصلة لنشر الوعي بقيم الذوق العام، وتثقيف الوافدين بالذوقيات العامة المرتبطة بالقيم الدينية وثقافة المجتمع السعودي، حيث يشتمل النشاط على أكثر من ٣٠ ألف نسخة من المطبوعات التوعوية، والتي تركز على رحلة المصلي انطلاقًا من استعداده في منزله للتوجّه للمسجد مروراً بكافة نقاط ومواقع الارتباط بمرافق المسجد كالمواقف والمداخل ودورات المياه، وكذلك في العلاقة والتعامل مع المصلين على مختلف شرائحهم، وغير ذلك من الممارسات التي تكفل للمصلي رحلة إيمانية خلال هذا الشهر المبارك.