
موسم في مهبّ الريح.. مزارعو البقاع اللبناني يواجهون قسوة المناخ وتخلّي الدولة
وفي ظل هذا الفراغ، جاءت ضريبة المازوت لتقصم ظهر الفلاح، وترفع كلفة الإنتاج إلى مستويات لم يعهدها من قبل.
في الماضي، كانت السماء تمنح الأرض ماءها، أما اليوم فيرويها المزارع من عرقه، بعدما تضاعفت تكلفة الري لتشكل نحو 30% من إجمالي النفقات، مقارنة بـ10% فقط في السنوات السابقة. هذا الواقع دفع كثيرين إلى تقليص المساحات المزروعة، بل التخلي عنها تماما في بعض الحالات.
ومن ضجيج القذائف إلى صمت الحقول، ومن أرض كانت تزهر إلى أرض تتشقّق من العطش، يعيش الفلاح البقاعي تحت حصار متعدد الأوجه: مناخي، واقتصادي، وسياسي، يهدد ليس فقط موسمه الحالي، بل مصير الزراعة برمّتها في لبنان.
وفي حديث خاص للجزيرة نت، وصف رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع، إبراهيم الترشيشي، واقع القطاع الزراعي بـ"السلسلة المتشابكة من الأزمات التي وضعت الموسم بأكمله في مهبّ الريح"، مؤكدا أن حجم الإنتاج تراجع بشكل مقلق هذا العام، في ظل انسداد الأفق وغياب أي دعم فعلي من الدولة.
وأوضح الترشيشي أن الموسم الزراعي بدأ هذا العام تحت القصف، إذ عاش المزارعون 66 يوما في ظل الحرب، وما إن انتهى رعب القذائف حتى حلّ شبح الجفاف، الذي خيّم على المنطقة وجعل الأمل في محصول جيد يتلاشى.
أمطار شحيحة
وأشار الترشيشي إلى أن معدلات الأمطار سجّلت تراجعا غير مسبوق هذا العام، موضحا أن المعدل السنوي الطبيعي للأمطار في البقاع يتراوح بين 600 و625 ملم، بينما لم يتجاوز هذا العام 230 ملم فقط، أي ما يقارب 35% من المعدل المعتاد.
هذا النقص الحاد في الهطول تسبّب في خسائر متفاوتة بين المزارعين، نحو 15% منهم فقدوا محاصيلهم بالكامل، في حين لم يحصد نصفهم سوى نصف الكمية المعتادة، رغم أنهم تحمّلوا تكاليف الإنتاج نفسها. أما الباقون، فقد اضطروا إلى رفع كلفة الري إلى 4 أضعاف.
وأضاف الترشيشي: "في السابق، كانت كلفة الري تشكّل نحو 7% من إجمالي تكاليف الإنتاج، أما اليوم فقد تجاوزت 30%، وهو ما يثقل كاهل الفلاحين بشكل خطير".
وأكد أن محصول القمح كان الأكثر تضررا من غياب الأمطار، مشيرا إلى أن بعض المزارعين راهنوا على شتاء متأخر، لكن الشهور من يناير/كانون الثاني إلى أبريل/نيسان مضت دون أن تحمل غيثا يُرتجى، مما أسفر عن تراجع كبير في إنتاج الأشجار المثمرة أيضا.
وحذّر الترشيشي من أن بساتين يعود عمرها لعشرات السنين باتت مهددة بالموت، وهو ما يصعب تعويضه بأي شكل من الأشكال.
ونوّه إلى أن تقلص المساحات المزروعة سيؤدي حتما إلى انخفاض الإنتاج وارتفاع الأسعار، مشدّدا على أن "الغلاء ليس نتاج جشع، بل نتيجة لندرة المعروض وارتفاع كلفة الزراعة"، وضرب مثالا بسعر الكرز الذي وصل إلى 20 دولارا للكيلوغرام، نتيجة تأثر الإنتاج الشديد بالتقلّبات المناخية.
التصدير في مأزق
وفي ما يتعلّق بتسويق المحاصيل، أشار الترشيشي إلى أن الطريق البري إلى الدول العربية -الذي يُعد شريانا حيويا للقطاع- لا يزال مغلقا منذ أكثر من 3 سنوات ونصف سنة.
وقال: "نحتاج سنويا إلى تصدير نحو 200 ألف طن من البطاطا، لكن الطريق البري ما زال مقفلا".
وكشف عن اقتراح قدمه المزارعون إلى الدولة اللبنانية يقضي بنقل البضائع إلى الحدود السعودية أو الأردنية، ثم إعادة تحميلها على غرار ما يقوم به السوريون، لكن حتى اليوم لم يصدر أي رد رسمي على هذا المقترح.
أما خيار التصدير البحري، فقد ضاعف كلفة الشحن من 1800 دولار إلى أكثر من 5500 دولار للحاوية، وهو ما يجعل من المستحيل منافسة دول مثل مصر وسوريا وباكستان.
غياب الدولة
في ختام حديثه، حمّل الترشيشي الدولة اللبنانية مسؤولية التقاعس في مواجهة الجفاف، قائلا: "صحيح أن المناخ ليس بيد أحد، لكن الدولة مسؤولة عن بناء السدود وتخزين مياه الشتاء، وهذه المشاريع لا تزال غائبة بالكامل".
وأضاف بأسى: "عندما تفيض السيول نصرخ، بينما كان يفترض أن نكون قد خزّناها قبل أن تضيع. نحتاج إلى تفعيل الدعم الزراعي فعليا، وليس بمسميات فقط. مؤسسة إيدال كانت توفّر دعما حقيقيا، أما اليوم فيُحسب على سعر صرف 1500 ليرة (للدولار)، بينما تجاوز الدولار 60 ألفا".
القطاع المنكوب
من جهته، أكد المزارع حمزة الموسوي أن الموسم الحالي هو "الأسوأ منذ سنوات"، مشيرا إلى أن آبار الري قد جفّت بالكامل، وأنهم باتوا يعتمدون على مضخات تعمل بالمازوت بكلفة باهظة، ازدادت بعد فرض ضرائب إضافية على المحروقات.
وحذّر الموسوي من أن نسبة كبيرة من المزارعين ستتوقف عن الزراعة هذا الصيف، متوقعا أن تصل نسبة الأراضي غير المزروعة إلى 70%، وهو ما يشكّل تهديدا مباشرا للأمن الغذائي في لبنان.
وأشار إلى أن أسعار المحاصيل تتراجع في الأسواق رغم ارتفاع كلفة الإنتاج، مما يعكس أزمة حادّة في التسويق وغياب قنوات البيع الفاعلة.
وختم حديثه بحسرة: "لا نشعر بوجود الدولة. لا توجد خطة إنقاذ، ولا دعم حقيقي، المزارع يستيقظ كل يوم على كارثة جديدة دون أن يجد من يصغي إليه".
نداء المزارعين
وسط هذه الظروف القاسية، وجّه المزارع حسن نداء مباشرا إلى الدولة اللبنانية، داعيا إلى التفاتة عاجلة تجاه المزارعين الذين يعانون من غلاء فاحش في الأسعار والتكاليف، خصوصا في ظل موجة الجفاف القاسية التي ضربت البلاد.
وطالب برفع سعر البطاطا قليلا، في محاولة لتعويض الارتفاع الحاد في تكاليف الإنتاج، مؤكّدا أن القطاع الزراعي يشكّل "ركيزة أساسية في اقتصاد لبنان، بل قد يكون أهم من القطاع الصناعي في بعض المناطق، لأنه يوفر فرص عمل كثيرة ولا ينبغي تركه يتهاوى".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
"واليتم رزق بعضه وذكاء".. كيف تفنن الشعراء في تناول مفهوم اليتم ووصف اليتيم؟
عندما نسمع كلمة يتيم فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو المعنى الأصلي والعام للكلمة، ففاقد الأب يتيم الأب، وفاقد الأم يتيم الأم، وفاقدهما كذلك يتيم، وتجمع الكلمة على يتامى وأيتام. ويقيد معنى الفقد في اليتم بالفتح والضم لغة وفقها بمرحلة الطفولة أي بالمرحلة العمرية التي تسبق البلوغ، فمن يفقد أباه قبل عمر البلوغ وسن التكليف يعد يتيما، وما بعد ذلك فإنه بالغ راشد، كما يقيد المعنى بفقد الأب لدى الإنسان، ومن فقد أمه فهو منقطع، ويقيد المعنى بفقد الأم وموتها والانقطاع عنها في عالم الحيوان. وقد فصل ابن بري في تحديد استعمال كلمة اليتيم فقال: "اليتيم الذي يموت أبوه، والعجِي الذي تموت أمه، واللطيم الذي يموت أبواه". ويقال إذا كان المرء في حاجة إلى شيء فهو في يتم إليه. واليتم بفتح الياء وتسكين التاء هو الهم والغم. وإذا كان في سير المرء ومشيته فتور وضعف وإبطاء يقال: في سيره يتم. وكل المعاني على اختلاف تحريك الحروف تلتقي في بعد واحد يدور في فلك الفقد والشعور بالحاجة والضيق، وقد قال أبو عمرو: "اليتم هو الإِبطاء، ومنه أخذ اليتيم لأن البر يبطئ عنه"، ومثله قال المفضل: "أصل اليتم الغفلة، وسمي اليتيم يتيما لأنه يتغافل عن بره". وذهب أبو عبيدة إلى أن كل امرأة تبقى يتيمة ما لم تتزوج، فإذا تزوجت زال وصف اليتم عنها وارتفع؛ وكان المفضل ينشد: أَفاطِمَ إِني هالكٌ فتثَبَّتي ولا تَجْزَعي، كلُّ النساء يَتيمُ وقد استعمل اللفظ في وصف بعض الأبيات الشعرية، إذ يُقال: هذا بيت يتيم؛ للدلالة على أنه مفرد مميز لا شبيه ولا نظير له، أو للدلالة على أن صاحبه لم ينشد سواه. ويقال مثل ذلك في وصف فرادة المرء وللدلالة على تميزه، كقولهم: فلان يتيم عصره أو دهره أو زمانه، فكل يتيم فرد منفرد عزّ نظيره بصفاته ومزاياه. ومنه سمى أبو منصور الثعالبي أحد كتبه وأشهرها "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر". كما وصفوا الحرب الضّروس بالميتمة المأيمة؛ لأنها تتسبب بموت الرجال فيتركون من ورائهم أيتاما وأيامى. لفظ اليتيم في القرآن الكريم والسنة ورد لفظ اليتيم بمعنى الفاقد والده قبل بلوغ الحُلُم في القرآن الكريم في 5 مواضع، وكلها تحث على الإحسان إليه، وتنهى عن ظلمه وأكل حقوقه؛ كقوله تعالى في سورة الأنعام/ 152: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾. وقوله في سورة الضحى/ 9: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾. وقد أُثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضه على رعاية الأيتام والإحسان إليهم، فوراء ذلك أجر عظيم، حتى جعل ذلك سببا من أسباب دخول الجنة، إذ جاء في صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وكافل اليتيم هكذا"، وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما شيئا. أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال فيما نُسِب إليه من الشعر: ليس اليتيم الذي قد مات والده فاليتيم حقا -برأيه- ليس من فقد أبا يعيله أو أما تحنو عليه، بل كل من فقد علما يهذب نفسه وأدبا يرفع قدره. كيف استعمل الشعراء لفظ اليتيم في الشعر العربي؟ وللشعراء العرب تفانين مختلفة في استعمال الألفاظ وابتكار المعاني وإعارتها وتضمينها والانزياح بها مجازا يفاجئ القارئ، ويثير دهشته من جمال اللغة ومرونتها وقدرتها على التحليق في سماء من معان لا تنضب. لا بد أنك -عزيزي القارئ- واجهت كثيرا من معاني اللغة التي صدمك استعمالها في سياقات مختلفة عن المعتاد. ذهب كثير من الشعراء إلى استعمال لفظ اليتيم بمعنى الفاقد لعزيز عليه، كما استعملوه للدلالة على الوحدة والبعد عن الأحباب كحال المغترب عن وطنه، والمشتاق إلى محبوبته والمحروم المبعد عن صديقه أو خليله، وكذلك المفتقد للتربية والرعاية والأخلاق والقيم وإن كان أبواه على قيد الحياة! وبذا انتقل اللفظ بين سياقات متعددة تجتمع كلها وتنطوي تحت الجذر اللغوي نفسه، وترسم معالم تطوره وانزياحه من مجال إلى آخر انتقالا بلاغيا فنيا يزيد من شعرية المعنى وجماله. ونلحظ أن بعضها يعتمد على المعنى الحسي المادي للفقد، وبعضها الآخر يتكئ على الفقد المعنوي، فالحسي إيجابي غالبا في سياقه ويستجلب الشعور بالحزن والتعاطف، والمعنوي إذا ما تعلق بفقد الأخلاق والتربية يغلب عليه أن يكون سلبيا في سياقه. كيف استعمل الشعراء لفظ اليتيم على مر العصور؟ من حضور لفظ اليتيم في العصر الجاهلي ما جاء على لسان الشاعر المهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليبا، الملك الذي كان يحسن للناس من حوله، وبقي الأيتام من بعده بدون معيل أو معين يكلؤهم، فيقول: وفي المعنى نفسه رثت الخنساء أخاها صخرا، ورقّت لحال من كان يحسن إليهم من الأيتام والأيامى، فقالت: يا عَينِ ما لَكِ لا تَبكينَ تَسكابا إِذ رابَ دَهرٌ وَكانَ الدَهرُ رَيّابا فَاِبكي أَخاكِ لِأَيتامٍ وَأَرمَلَةٍ وَاِبكي أَخاكِ إِذا جاوَرتِ أَجنابا وفي العصر الأموي نجد مجنون لبنى قيس بن ذريح يصف نفسه باليتيم بعد فقده محبوبته وزوجه لبنى التي اضطر إلى تطليقها كرها بأمر من أبيه، وبقي بعدها وحيدا حزينا يتيم القلب عليل الفؤاد، وراح يشكو أمره وحزنه وما حل به من ألم الفراق لله تعالى، فيقول: إلى اللهِ أشكو فَقدَ لُبنَى كما شَكَا إلى اللهِ فَقْدَ الوَالدَين يَتِيمُ يَتِيمٌ جَفَاهُ الأقربُونَ فجسمُهُ نَحِيلٌ وَعَهْدُ الوَالِدَيْنِ قديمُ وفي شعر جرير في مدحه للخليفة عمر بن عبد العزيز تحدث عن إحسانه لليتامى، ومدح فعاله معهم وعطفه عليهم فقال: كَم بِالمَواسِمِ من شَعثاءَ أَرمَلَةٍ ومِن يَتيمٍ ضَعيفِ الصَوتِ وَالنَظَرِ يَدعوكَ دَعوَةَ مَلهوفٍ كَأَنَّ بِهِ خَبلا مِنَ الجِنِّ أو مَسَّا مِنَ البَشَرِ مِمَّن يَعُدُّكَ تَكفي فَقدَ والِدِهِ كَالفَرخِ في العُشِّ لَم يَدرُج ولم يَطِرِ كما جاء لفظ اليتيم في شعر أحمد شوقي في قصيدة البردة صفة من صفات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي صفة ملازمة واقعة على وجه الحقيقة، فقد ولد عليه الصلاة والسلام يتيم الأب، وفقد أمه وهو في سن صغيرة، وقد قال أحمد شوقي قاصدا هذه الجزئية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم النبين والرسل، في قصيدة البردة المعروفة في العصر الحديث بالشطر الأول من مطلعها "ولد الهدى فالكائنات ضياء": نِعمَ اليَتيمُ بَدَت مَخايِلُ فَضلِهِ وَاليُتمُ رِزقٌ بَعضُهُ وَذَكاءُ وفي رحاب الشعر العربي الحديث نجد للفظ اليتيم حضورا واسعا، فها هو الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي يسطر قصيدة كاملة بعنوان (شكوى اليتيم)، ويقول فيها: فسرت وناديت: يا أم هيّا إليّ! فقد أضجرتني الحياة ولما ندبت ولم ينفع وناديت أمي ولم تسمع رجعت بحزني إلى وحدتي ورددت نوحي على مسمعي وعانقت في وحدتي لوعتي وقلت لنفسي: ألا فاسكتي! وكذلك الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي خطّ قصيدة عن اليتم وسماها (اليتيم)، تحدث فيها عن قسوة الحياة ونظرة المجتمع ومعاملته الناس للأيتام، وبيّن فيها كيف يمكن أن يتحول اليتم إلى قوى متفجرة في نفس الإنسان، تحرر مواهبه وتدفعه نحو إثبات ذاته وتحقيق ما لا يُتوقع منه، ويحدثنا فيها عن إيمانه المطلق برعاية الخالق ومعيّته لكل من ابتُلي باليتم، ويؤكد أهمية دور المجتمع والناس في رعاية الأيتام والحرص عليهم: اليتيم الذي يلوح زريّا ليس شيئا لو تعلمون زريّا إنّه غرسة ستطلع يوما ثمرا طيّبا وزهرا جنيّا ربّما كان أودع الله فيه فيلسوفا، أو شاعرا، أو نبيّا لم يكن كلّ عبقريّ يتيما إنّما كان اليتيم صبيّا ليس يدري لكنّه سوف يدري أنّ ربّ الأيتام ما زال حيّا إن يك الموت قد مضى بأبيه ما مضى بالشّعور فيك وفيّا وعن اليتم بسبب فقد الأب، وما يخلفه من شعور بالنقص وبحث عن إحساس مفقود طوال العمر، وكأن الروح في مأتم دائما؛ يقول الشاعر محمد حسن علوان: أنا يا أبي مذ أن فقدتك لم أزل أحيا على مرّ الزمان بمأتمِ تجتاحني تلك الرياح تطيح بي في مهمة قفر ودرب أقتَمِ ويذهب الشاعر أحمد شوقي في فلسفة اليتم مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ يرى أن اليتيم الحقيقي هو من فقد اهتمام الأبوين وحرصهما على تربيته وتهذيبه، فتركاه يتيم العلم والأدب وانشغلا عنه فاكتسب صفة اليتيم على الرغم من وجود أبويه معه؛ يقول: ليس اليتيمُ مَنِ انتهى أَبواهُ مِن هَمِّ الحياة وَخَلَّفاهُ ذَليلا فَأَصابَ بالدُنيا الحكيمَة منهما وبِحُسنِ تربيَة الزمانِ بَديلا إِنَّ اليَتيمَ هو الَّذي تَلقى لَه أُمّاً تَخَلَّت أو أَبا مشغولا أما شعور اليتم بسبب فقد الوطن فلا قياس يطوله، ولا ميزان يحمله، ويبقى في الروح جرحا عصيا على المداواة والتعافي، ويبقى سؤال اللقاء معلقا والشوق إليه نابضا بالجرح ما امتد الزمان، وقد عبر الشاعر العراقي أحمد مطر عن هذا الشعور تعبيرا قويا في قصيدته التي سماها (يسقط الوطن)، فقال: أبي الوطن أمي الوطن أنت يتيم أبشع اليتم إذن لا أمك احتوتك بالحضن ولا أبوك حن! وفي الأيام الحاضرة تطرق أسماعنا عبارة (أيتام الأسد) تعبيرا عن مؤيديه الذين فقدوا بسقوطه مزاياهم في التطاول على الخلق والعباد وسحقهم بقوة السلطة ودعمها! ويعد ذلك مجازا لغويا جديد الاستعمال دقيق الإفادة عظيم الوصف والتعبير.


الجزيرة
منذ 17 ساعات
- الجزيرة
حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة على الأزمنة
في دمشق ، لا تكتب الطرق أسماءها عبثًا، ولا تنحت الأزقة ملامحها على الحجر مصادفة؛ فكل اسم في هذه المدينة أشبه بجرح له حكاية، وكل زقاق فيها كتاب مفتوح على صفحات الغيب والحضور. هنا، حيث يتواطؤ الزمان والمكان على صياغة الأبدية في هيئة بشر وحجارة، تصبح أسماء الأحياء والأبواب مثل شيفرات سرية لا يفكها إلا من أخلص الولاء لذاكرة المكان. كل حارة هنا قصيدة لا تنفد أبياتها، وحكاية لا يخبو صداها، وكل حجر مرصوف في طرقاتها كان ذات يوم كتفًا لحلم، أو شاهدًا على دمعة، أو مسندًا لخطى عاشق مضى في ليله يتبع قلبه، وحتى الأشجار المتكئة على الجدران العتيقة ليست مجرد خضرة متعبة؛ إنها شهود عدل على عهد لم يكتبه مؤرخون، لكنها بقيت راسخة في الحجارة الموشومة، وفي حفيف الذاكرة، وفي رائحة الياسمين الذي لا يملّ أن يزهر رغم كل المحن. في قلب هذه المدينة، التي ما زالت تتنفس عبق الحضارات رغم ما رماها به الزمن من أوجاع، يقف حي باب سريجة مثل وشم على وجه الزمان، وليس وشمًا عابرًا كما في أيدي العابرين، بل نقش عميق محفور في قلب الجغرافيا والتاريخ والناس، إنه شاهد على ما كان، كأنه يعِد بما سيكون، ممتدًا كهمس بين تاريخ مهيب تتناسل منه الحكايات، وواقع يئنّ تحت خطى المحنة لكنه لا ينكسر. ليس حي باب سريجة بابًا وحسب؛ فالباب في اللغة بوابة ومرور، لكنه هنا عتبة إلى الروح الدمشقية نفسها، فكأنه الموضع الذي إن عبرته اكتشفت طينة المدينة التي صيغت منها دمشق القديمة؛ إنه باب مشرع بين أصالة تتشبث بتلابيب الذاكرة، وحداثة تتسلل إلى الأزقة فيستوحشها المكان ولا يألفها تمامًا، كأن الأزقة تصير مخيفة للحداثة، والحداثة تخجل من مواجهة الأزقة، هنا تتجلى المفارقة؛ حي يريد أن يحافظ على شكله القديم وروحه المتجددة في آن معًا. باب سريجة يتكئ على خاصرة سور دمشق الجنوبي، كأنما يستند إلى صدر أمه، أو كأنه جرح يسند المدينة بقدر ما يستند عليها، هو باب ونافذة معًا، وممر سري يفضي إلى حكايات صاغتها مئات الأعوام، وفي صمته أحيانًا سماع لهمسات أجيال مضت، وفي ضجيجه نبض حياة لا يريد أن يخبو. يعيد المؤرخون نشأة حي باب سريجة إلى العصر المملوكي، حين كانت هذه البقعة خارج سور المدينة، ضاحيةً راقية على خاصرة دمشق الجنوبية الغربية، تتنفس هواء البساتين وتطلّ على ميدان الفروسية، وتؤدي دورًا يفوق ما تحتمله أزقتها الضيقة اليوم، فقد سكنها أحد ولاتها في ذلك العصر، المعروف بـ"التيروزي"، فأنشأ فيها جامعًا وحمّامًا ما زالا قائمين حتى الآن، شاهدين على عصر جعل من هذا الحي مركزًا نابضًا للفرسان والحرفيين. أما الباب التاريخي الذي حمل اسمها، فكان واحدًا من الأبواب الأربعة المضافة إلى سور دمشق في القرون اللاحقة، إلى جانب باب الصالحية، وباب مصلى، وباب الميدان، مكملةً السبع بوابات القديمة التي حفظت المدينة في حضنها قرونًا طويلة. في الحكاية الشعبية، التي لا تخلو من خيال شاعري، يقولون إن اسمه (سريجة) جاء من معنى السرج الصغير أو المصباح الخافت، كأن الحي كان دائمًا مصباحًا صغيرًا ينير ليالي دمشق الحالكة، يهدي الغريب إلى قلب المدينة حين تضل خطواته؛ فكان كأنه يقول للعابرين: هنا دمشق. هنا الدفء ولو في أقصى العتمة، هنا الباب الذي إن دخلته عرفت معنى الانتماء. وقال آخرون إن الاسم مشتق من "السريجية"، وهم صانعو السروج وأرباب الخيل الذين اتخذوا الحي مركزًا لصناعتهم قبل قرون، فكأن الاسم يخبّئ بين حروفه بريق الخيول حين كانت دمشق تفتح أبوابها على قوافل المجد، كأن كل حجر في الحي قد صيغ من حوافر الخيل وهي تطرق دروب الشام إلى الأسواق والحروب معًا. وأيًّا يكن الأصل، فإن الاسم أضحى أكثر من مجرد لفظ، لقد صار رمزًا لذاكرة مشعّة ولو منطفئة الأطراف، كجمرة تختبئ في الرماد لكنها لا تزال تحمل في أحشائها وهجًا يكفي لإشعال المدينة من جديد لو شاءت يد أن تنبشها. باب سريجة، إذن، ليس اسم حي فقط، بل اسم لدرس في الذاكرة الجماعية، درس عن قدرة المكان أن يحتفظ بصورته في القلب مهما تغير شكله في الواقع، ودرس عن الإنسان الذي يعيش في الحي، والحي الذي يعيش في الإنسان؛ فهنا في باب سريجة، تتلاشى الحدود بين الحجر والبشر، بين الماضي والحاضر، بين الحكاية والواقع. كانت القرى والعشائر البدوية تأتي من الشام والعراق ونجد والحجاز، فتربط خيولها في خانات السوق، تستحم في حماماته القديمة، تركع وتصلي في مساجده الملاصقة، وتأخذ راحتها قبل أن تعود إلى أسواق المدينة، وفي هذه الحجرات المتداعية المتعانقة، التي ما زالت جدرانها تفوح برائحة التاريخ، جلس مئات الصنّاع يطرقون الحديد ويغزلون الحبال ويهيئون زينة الخيل والركائب، وفي هذه الأزقة طرق آلاف الفرسان بخيولهم استعدادًا لمعارك الغد. أما اليوم، وقد انقضى عهد الفروسية وحلّت الآلة محل الدابّة، فقد تحولت الحجرات القديمة إلى دكاكين للأطعمة والمأكولات، فهنا تنتظم عشرات محلات الألبان ومشتقاتها بنكهات شامية عريقة، وتتجاور مع عشرات محلات المخللات واللحوم، والمعلبات والمكسرات التي يتربع الجوز على عروشها بأكوام شاهقة من كل أصقاع آسيا. وعلى مشارف السوق، يتفرع الزقاق يسارًا نحو شارع خالد بن الوليد، حيث تزاحمك محلات الخضار والفواكه حتى تكاد لا تخرج إلا بشق الأنفس؛ تلمح العنب والدراق والرمان والشمام والموز والصبار، القادم في معظمه من بساتين المزة وحوران الخصبة، ويتخلل هذه الأكداس دكاكين الملابن والمخللات والمحمصات والبهارات، فتفوح روائح الشام على امتداد الطريق. وكعادة حارات دمشق العتيقة، ما إن تخطو خطوات قليلة حتى تصادفك أبواب المساجد، على اليمين وعلى اليسار، فلا عناء في البحث عن محراب؛ المساجد هنا تصطدم بك وتدلّك على أبوابها، أما حمامات السوق الدمشقية التي استحم فيها من سبقنا فما زالت قائمة لمن أراد أن يترك جلده بين أيد شامية خبيرة تعرف كيف تمحو عنه غبار الأيام. الموقع.. حيث يقاوم القلب النابض الغياب يقع حي باب سريجة في موضع يشبه القلب حقًّا، لا في جغرافيته فحسب، بل في رمزيته أيضًا؛ إلى الجنوب الغربي من الجامع الأموي الكبير، في حضن سور دمشق القديمة الذي تناثرت حوله الحكايات كأوراق الخريف، يقف هذا الحي على تماس دائم مع كل ما يكتنز من تاريخ، ومع كل ما يرشح من صراع يومي على البقاء؛ فمن جهة، هو قريب من قلب الأسواق العريقة؛ سوق الحميدية، سوق مدحت باشا، سوق البزورية، ومن جهة أخرى يجاور حي ساروجة وأزقته الغارقة في الأسرار، ومن ناحية ثالثة ينفتح على شارع النصر الذي ينقل إليه أنفاس المدينة الحديثة بزحامها ولهاثها. هنا، عند تقاطع القديم بالجديد، يصبح الحي مثل خيط رفيع يشدّ أطراف المدينة بعضها إلى بعض، أزقته المتلوية كأنها خيوط سحرية، ترسم على الأرض ما يشبه نقشًا غامضًا أو خارطة روح، ليس فيها استقامة زائفة ولا انتظام بارد، بل فيها ذاك العبث الجميل الذي يجعل كل زاوية مفاجأة، وكل ممر دعوة للتيه الجميل. في الصباحات الدمشقية، حين تبدأ الشمس بالتسلل إلى أفنية البيوت الحجرية، تصحو البيوت القديمة على وقع النداءات الصباحية للباعة؛ كأن الحي يفتح عينيه على أصوات: "عنب، تين، تفضلوا يا ناس…"، وعلى رائحة الخبز الطازج المتدفق من أفران الطين، تصحو جدران البيوت ككائن حي؛ تتثاءب الشرفات، وتبتسم النوافذ، وتتنهد السطوح، هذا الحي ليس مجرد مكان يسكنه الناس، بل هو مكان يسكن الناس في أرواحهم. في باب سريجة تتشابك الأزمنة كما تتشابك الأزقة، ترى فيه حكايات الأيوبيين وقد حفرتها المعارك وأحلام التحرير على جدرانه، وتشهد فيه ظلال المماليك الذين أحاطوا دمشق بحضارتهم وأسواقهم وأرواحهم، وفي طيات زواياه يختبئ عبق العثمانيين في أسلوب بناء البيوت، وتنام أحلام الصالحين والفقراء في الحارات المتواضعة التي غدت مع الزمن عناوين لصبر طويل. تحسبه حيًّا صغيرًا حين تنظر إليه بعين الجغرافيا؛ فهو ليس واسع الرقعة ولا متباهيًا بساحات رحبة، ولكنه حين تنظر إليه بعين القلب تدرك أنه مدينة كاملة في روحه، وطن في ذاكرته؛ لا لأنه يحوي حجارة كثيرة أو أسواقًا طويلة، بل لأنه يحتوي على ما لا تراه العين؛ المهاجرين الذين وجدوا فيه ملاذهم، الحرفيين الذين أورثوه حِرفهم جيلًا بعد جيل، والدمشقيين الذين أوقدوا فيه نار محبتهم حتى صارت كل حارة فيه شمعةً صغيرة تضيء المدينة الكبيرة. باب سريجة يقاوم الغياب بهذا كله، ويقاوم أن يكون طيّ النسيان، ويصرّ أن يبقى بابًا مفتوحًا لذكريات لا تقبل أن تموت، ففي زمن تهجر فيه الأرواح أحياءها، ما زال هو حيًّا؛ لا لأن الحجر صامد، بل لأن الذاكرة فيه لا تزال حية. باب يشتهر بالسوق والروح لم يكن باب سريجة يومًا مجرد باب في سور المدينة، بل كان منذ أزمان بعيدة بوابةً مفتوحة على صخب الحياة الدمشقية وهدوئها في آن معًا. فهو السوق الذي تشهد أزقته الضيقة كيف ينسج الحرفيون خيوط نهارهم الطويلة، وكيف تبرع أصابعهم في ترويض النحاس والحبال والغزل، حتى يصير لكل شيء فيه روح دمشقية تلمع بين اليدين. في سوق باب سريجة، الذي ما زال يحمل الاسم نفسه، تتوزع الدكاكين كحبات عنقود مكتمل، فهنا باعة الغزل الذين تتدلى من دكاكينهم لفائف الصوف بألوان كأنها ألوان قوس قزح المعتق، وهنا صانعو النحاس الذين تنبض مطارقهم على صحون ودِلال وفوانيس فتملأ الفضاء رنينًا معدنيًّا شجيًّا، وهناك باعة الفواكه المجففة الذين يرصّون تينهم ومشمشهم وزبيبهم في صناديق خشبية فواحة، حتى لكأن الروح تمتلئ دفئًا وطمأنينة لمجرد العبور بينهم. وكانت مقاهي السوق الشهيرة أيضًا جزءًا من الحكاية؛ إنها مقاه شعبية بأبوابها الخشبية العريضة، وطاولاتها الرخامية، وكراسيها الخيزرانية المائلة، تنضح رائحة القهوة بالهيل فيها كأنها بخور العابرين إلى الماضي، وعلى جدرانها صور باهتة لزمن جميل، وفي زواياها رجال يتبادلون الحكايا والنوادر، بين دخان الأراكيل وقصائد يتداولونها بصوت رخيم، هنا تتعانق المرويات القديمة مع ضحك الأطفال المارّين، فيصير السوق ذاكرةً حية تنبض بالروح. لم يكن السوق وحده ما يميز باب سريجة؛ بل إن الحي كله كان وما زال متحفًا مفتوحًا للبيوت الدمشقية العتيقة، تلك البيوت ذات الأحواش الداخلية، التي تتوسطها أشجار النارنج والليمون والياسمين، فيعلو منها عبير يسكر المارّين، لقد كانت أحواش البيوت بآبارها وسواقيها الصغيرة حدائق سحرية يستظل بها القلب، بينما تنتشر مقاعد الخيزران عند الأطراف كأنها دعوة دائمة للجلوس في كنف السكينة. وفي هذا الحي، كان الناس يعرفون بعضهم بالاسم والكنية، فتسمع في الطرقات صباحًا نداء: أبو حسن! أم وليد! كأنهم عائلة واحدة كبيرة، لا يجمعها إلا حب الجيرة وماء المحبة الجاري في العروق، فلم يكن أحد يغلق بابه على جاره في الأفراح أو الأتراح، بل كانت الأبواب، كما الأرواح، مشرعة على الآخر، وفي الأعياد كانت الشرفات تزيَّن بالورود، وتفتح السفرة للجميع، فتمتد الموائد من بيت إلى بيت بلا استئذان، وفي المواسم كان الحي كله يحتفل كأنه بيت واحد يضجّ بالفرح. كان باب سريجة سوقًا، لكنه لم يكن سوقًا للسلع فقط؛ بل سوقًا للود، وساحةً لتبادل الذكريات، وحلبةً لتدافع الحكايات، وحتى الأشياء الجامدة فيه كانت تتحرك على إيقاع قلب المدينة، كأن في النحاس حياة، وفي التين حكمة، وفي الياسمين قصيدة لم تكتمل. هنا، بين الدكاكين وأفنية البيوت، كانت دمشق تتجلى بكامل بهائها؛ مدينة لا تُقاس بجدرانها وحدها، بل بقلوب ناسها التي تعرف كيف تُبقي الباب مفتوحًا لكل روح تبحث عن الدفء والانتماء. الواقع الآن.. ذاكرة تنزف ببطء اليوم، كأنّ باب سريجة ينزف خفية، كما ينزف قلب عجوز يخجل من أن يُظهر ألمه، فإن أزقته لم تعد كما كانت، والروح التي كانت تملأ حجارته انسحبت إلى زوايا مظلمة، تراقب ما يجري بحزن صامت، فلم يعد السوق كما عرفه الكبار؛ فالألوان خبت، والأصوات خفتت، والوجوه التي كانت تضيء المكان غابت إلى غير رجعة، حقبة الاستبداد والحرب الطاحنة بين النظام وشعبه كانت ثقيلة جدًّا؛ حملت على كتفي الحي أوزانًا فوق طاقته، وأطفأت كثيرًا من مصابيحه التي كانت، ولو خافتة، تبث الدفء في عتمة الأزمنة. غادره كثيرون إلى ضواحي دمشق البعيدة، أو إلى المجهول، لا شيء سوى حقائب متعبة وقلوب مكسورة يتركونها وراءهم معلقة على الأبواب الخشبية، أما الدكاكين العتيقة التي كانت تشعّ حياة فقد أُقفلت واحدًا تلو الآخر، كأن السوق غفا على وجعه، مكتفيًا بهمهمة الذكريات، والحِرَف التي ورثتها الأجيال لم تعد تسمع وقع مطارقها ولا حفيف أنوالها، بل انكفأت على نفسها تنتظر يدًا رحيمة توقظها من سباتها الطويل. ترهلت البنية التحتية مثل جسد أصابه الوهن، وتقطعت الكهرباء حتى صارت "اللمبات" في الدكاكين تلمع لمعة الكسالى، والماء صار شحيحًا حتى باتت الجرار البلاستيكية تصطف أمام الأبواب كطوابير الصبر الطويل، والأسعار ارتفعت حتى صار الخبز يثقل الجيوب أكثر من الذهب، والناس تعيش في معادلة قاسية؛ البقاء مقابل كل شيء. الأطفال ما زالوا يلعبون، لكن ألعابهم لم تعد ألعابًا؛ صاروا يركضون بين ركام البيوت المتهالكة كأنهم يركضون على أشواك، ضحكاتهم ممزوجة بصوت الحجر المتكسر تحت أقدامهم، وكبار السن يجلسون على أبواب دكاكين نصف فارغة، يحدقون في الزمن كأنهم يحاولون أن يسترجعوا من الذاكرة ما فقدته المدينة من حياة، فعيونهم حائرة، وملامحهم غائرة، وأيديهم مستكينة في حضنهم كأوراق خريف ترفض أن تسقط. بين كل جدار وآخر، قصة تهجير، وفقدان، وصمود رغم كل شيء، وحكايات مكتوبة بدمع ناشف وصبر متعب، لكنها لم تُروَ بعد، كأن الحي كله دفتر مفتوح على صفحات بيضاء تنتظر من يكتبها من جديد. باب سريجة اليوم كجسد نُزِع منه نصف الروح، لكنه ما زال يتنفس، وما زال يصرّ على أن يبقى واقفًا، شاهقًا ولو متهالكًا، مثل سنديانة عجوز تعاند الريح لأنها تؤمن أن جذورها في الأرض أعمق من كل العواصف. المعاناة.. وجع يوشك أن يغدو اعتيادًا كأنّ باب سريجة اليوم يعيش وجعه بصمت وحياء، حتى صار الألم فيه أشبه بعادة قديمة، يوشك الناس أن يألفوها كما يألفون برد الشتاء أو غبار الصيف، فمشكلاته لم تعد مجرد طارئ عابر، بل صارت طبقة كثيفة تغلف روحه وتثقل أزقته، فالإهمال لا يبدو إهمالًا عابرًا من بلدية غافلة، بل أشبه بنسيان مقصود، كأن المكان طُوي من دفتر المدينة وترك يشيخ على رصيفه وحيدًا. اندثار الحِرف التي كانت سر بقاء الحي ليس مجرد فقدان مهنة، بل انطفاء روح كاملة، فحرفة الغزل التي كانت تغزل معها صبر الناس، وحرفة النحاس التي كانت تُطرق معها كرامتهم، وحرفة السروج التي حملت معها حكايات الخيل والرجال؛ كلها تتلاشى كأغنية قديمة لا أحد يحفظ كلماتها بعد اليوم، ومع كل باب دكان موصد، ومع كل ورشة صامتة، يزداد قلب الحي ثقلًا وينكمش صوته أكثر. أما البطالة ، فهي أيضًا لم تعد رقمًا في تقرير، بل صارت وجوهًا شاحبة لشباب يجلسون على العتبات، بأيد مرتجفة وأحلام تتفتت تحت وقع الفقر والخذلان، شباب وُلدوا في الحي، وكبروا بين جدرانه، لكنهم اليوم غرباء فيه، يبحثون عن فرصة للبقاء فلا يجدون سوى الحيرة، أو يبحثون عن طريق للخروج فلا يجدون سوى ضياع أكبر. البيوت القديمة التي كانت تحضن أهلها صارت بدورها بحاجة إلى من يحضنها، فجدرانها تتصدع، وأبوابها تئنّ، وأحواشها اليابسة تصرخ للعابرين أن أنقذوني من السقوط، ولم تعد الأحواش معطرة بالنارنج والياسمين، بل مريرة برائحة الرطوبة والانكسار، وكل بيت هنا يشبه شيخًا طاعنًا في السن، ينتظر من يمدّ إليه يد العون لينهض. والأشد إيلامًا من كل ذلك، أن الروح الاجتماعية التي كانت تجعل الحي بيتًا كبيرًا للجميع بدأت تتفكك في صمت مرير؛ تلك الروح التي كانت تجمع الناس في الأعياد والمواسم والجنازات، أخذت تتلاشى مع الهجرات والفقدان، والأبواب التي كانت مشرعة للجيرة أُغلقت، والطرقات التي كانت صاخبة بالسلامات والنداءات غدت خرساء، وغدت أزقته أزقةً صامتة، وأرصفته مكلومة، كأن كل حجر فيها يبكي وحده. ولكن الأكثر ألمًا من كل هذا أن الحي يعيش خطر أن يفقد ذاكرته، أن يمحى من سجل الذاكرة الجماعية كما تمحى الكلمات القديمة من الورق الأصفر، فالتاريخ لا يموت فجأة، بل يتفكك شيئًا فشيئًا، كما يتفكك نسيج هذا الحي الاجتماعي والإنساني، ذات يوم قد يصحو الناس ليجدوا أن باب سريجة لم يعد سوى اسم على لافتة باهتة، حي آخر في مدينة لم تعد كما كانت؛ بلا روح وبلا حكايات، وبلا ناس يعرفون بعضهم، وبلا أمل يشدّ الأزقة إلى قلب المدينة. ولعل هذا هو الوجع الأكبر؛ أن يصبح الألم مألوفًا، والنسيان عادة، والانهيار قدرًا لا يفكر أحد في مقاومته، وأن يستيقظ الناس ذات صباح فيجدوا أن كل شيء صار عاديًّا حتى الموت البطيء. ومع ذلك، ما يزال باب سريجة حيًّا، وما زالت فيه نساء يرششن الماء أمام أبوابهن كل صباح، وما زال بعض الحرفيين يفتحون دكاكينهم كل يوم كمن يوقد شمعة في وجه الظلام، ما زالت فيه أصوات أطفال تضحك، وشيوخ يرفعون أيديهم بالدعاء كل فجر أن تعود دمشق كما كانت بعد أنعم الله عليها بالتحرير من الاستبداد والطغيان. باب سريجة ليس حيًّا فحسب، إنه إرث إنساني مقاوم، كأنه يقول لنا: إن المدينة، مهما انطفأت مصابيحها، سيبقى فيها دائمًا من يحمل الضياء ويقاوم الصمت.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
ارتياح على المنصات مع قرب إخماد حرائق اللاذقية
شبكات بعد الحرائق التي التهمت أكثر من 15 ألف هكتار من الغابات، نجحت فرق الدفاع المدني في وقف امتداد نيران حرائق اللاذقية، فساد ارتياح بين المتضررين وأهل سوريا عموما، وهو ما ظهر في تعليقات على مواقع التواصل. اقرأ المزيد المصدر: الجزيرة