
من خوارزمية إلى جريمة: لافندر وتحويل غزة إلى "معمل إبادة ذكي"
إيطاليا تلغراف
د. أميرة فؤاد النحال
كاتبة في الشأن السياسي
بينما يُخيَّل للعالم أنّ القتل في غزة يتم عبر الدبابات والطائرات، هناك غرفة عمليات خفية تدير إبادة من نوع مختلف، إبادة لا تُطلق فيها رصاصة واحدة قبل أن تمر على شاشة حاسوب بارد، هنا.. في زاوية معتمة من غرف الحرب الصهيونية، يتحول الإنسان إلى هدف رقمي، وتصبح خوارزمية 'لافندر' هي القاضي والجلاد.
ما يجري ليس مجرد استهدافٍ عشوائي، بل هندسة قتل مؤتمتة، حيث يتحول الفلسطيني إلى رقم مشبوه، والهامش المسموح به للقتل الجانبي يصبح خسارة محسوبة في جدول بيانات، فلم تعد المجازر تُرتكب فقط بصواريخ ودبابات، بل بخوارزميات تُبرمج الموت وتمنحه شرعية حسابية، لتصنع من غزة 'معمل إبادة ذكي' تحت سمع العالم وبصره.
في قلب غرف العمليات الباردة، يجلس جنديٌ صهيونيٌ شابٌ أمام شاشةٍ تلمع بأسماء وصور وأرقام، إنه الجندي العصري الذي لم يعد بحاجة إلى رؤية دم الضحية ليتأكد من موته؛ يكفيه أن يشير إليه النظام بعبارة: 'هدف مؤكد'، هنا.. يتحوّل 'لافندر' من مجرد خوارزمية إلى ذكاء القتل؛ حيث يختفي الفارق بين الإنسان والهدف الرقمي، ويُختزل الفلسطيني إلى نقطةٍ في شاشةٍ تحت تصنيف مستوى الشك.
هكذا تُصبح الحرب لعبة رقمية، تُدار بـ 'كود' بارد، وتُفرَض فيها الهندسة السكانية من خلال قوائم تصنيفية لا تعترف بالبشر كأحياء، بل كإشاراتٍ في خريطة استهداف، فـ 'لافندر' ليس مجرد أداة عسكرية، بل مشروع إبادة ذكية، يَمنح آلة الاحتلال غطاءً أخلاقياً زائفًا لتبرير استهداف كل من يظهر في قائمة الخوارزمية السوداء.
في زمن الحرب الذكية، لم يعد الجندي بحاجة إلى بصماتٍ حقيقيةٍ للقتل، بل إلى نموذجٍ تحليليٍ متطوّر يُحدّد له الأهداف بدقة جراحية، وهكذا.. تتحول الخوارزميات من أداة للمراقبة إلى 'هندسة إبادة' مكتملة الأركان، فتقوم خوارزميات الاحتلال بتركيب بيانات الأشخاص: مكالمات، تحركات، تفاعلات رقمية، لتُنشئ 'بروفايل إبادة' يُبرّر الضغط على الزر.
هنا تتحقق نبوءة القتل المؤتمت، حيث تُدمَج كل تلك المعلومات ضمن معادلة حسابية، ليخرج منها: الهدف بالإضافة للخسائر الجانبية المقبولة، وفي لحظةٍ واحدة يتحول بيتٌ كاملٌ إلى هدفٍ مشروعٍ لأن خوارزميةً ما رأت في حركة هاتف، أو في صديق افتراضي، خطراً محتملاً، إنها جريمة مركّبة ليست فقط في التنفيذ، بل في التخطيط، حيث تُبرمج الخسائر وتُبرمج التبريرات.
لم تعد سياسات الاحتلال تقتصر على القصف والرصاص؛ إذ دخلنا عصراً جديداً تتحوّل فيه أدوات المراقبة إلى سلاح إبادة جماعي، هنا في غزة تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى وحشٍ تكنولوجيٍ يراقب أنفاس الناس، يتحكم بحركتهم، يحدد من ينجو ومن يُقتل، ولم يعد الاحتلال بحاجةٍ إلى طائرات استطلاع وحدها؛ فقد استُخدم الذكاء الاصطناعي كأداة للهندسة الأمنية الإغاثية وهو مصطلحٌ يعني أن المساعدات، والكرتونة، وقسائم الطعام، صارت جزءً من خريطة الاستهداف.
وتسعى هذه الهندسة إلى احتواء السكان وتحويلهم إلى خيوطٍ في شبكة مراقبة؛ كل هاتف، كل حركة، كل تجمع يصبح مصدراً لتغذية قواعد البيانات، ومن هناك.. تتحول قواعد البيانات إلى أوامر قتل مؤتمتة، وفي لحظةٍ واحدة قد يجد الفلسطيني نفسه من 'مستفيدٍ من كرتونة' إلى 'هدفٍ مشروع' لأن خوارزمية الذكاء الاصطناعي أشارت إليه بشبهةٍ ما، وهكذا.. يُعيد الاحتلال تعريف الإغاثة لتصبح بوابةً للإبادة؛ فالمساعدات ليست فقط كرتونة غذائية، بل أداةٌ لجمع المعلومات، وتوجيه السكان، وإجبارهم على الخضوع، وفي هذا السياق يصبح كل فلسطيني تحت الرقابة، وكل بيتٍ خاضعٌ لمعادلة الاستهداف.
التحقيقات الاستقصائية التي أجرتها +972 Magazine وLocal Call، والتي استقتها مصادر في الجيش الصهيوني، أكدت أن أنظمة الذكاء الاصطناعي -خاصة 'لافندر'- لعبت دوراً أساسياً في تحديد مواقع القائد العسكري الشهيد أيمن نوفل -قائد لواء الوسطى في كتائب القسام- وخوارزمية 'لافندر' صنّفته هدفاً شخصياً، ولم تحترم وجوده في قلب الأحياء المدنية، مما أدى إلى قصف مخيم البريج بتاريخ 17 أكتوبر 2023، حيث تم توجيه ضربة عسكرية استهدفت نوفل والمنطقة المحيطة، مع التوقع السماح بقتل ما يصل إلى 300 مدني ضمن ما سمّوه 'الخسائر الجانبية المقبولة'، هنا لا تُحاكم الضحية على فعل، بل على شبكة علاقات خوارزمية، وهذه هي 'قائمة الموت المؤتمتة' وهو ملف يُقتل صاحبه لم يثبت إدانته يوماً، سوى بخوارزمية فرضتها المؤامرة الرقمية.
مثال آخر في رفح -مذبحة تحت راية الإغاثة- ارتكبها الاحتلال في 3 يونيو، ارتقى خلالها 27 فلسطينياً حسب ما ورد عن رويترز، وأصيب العشرات قرب نقطة توزيع مساعدات في رفح، عندما فتحت القوات الصهيونية النار على المتجمّعين، هؤلاء الأبرياء لم يسقطوا لانقطاع عناء، بل لأنهم دخلوا ضمن 'قائمة الموت المؤتمتة' عبر بيانات تحدد مواقع تحركاتهم، وتجمّعاتهم، وتفاعلاتهم الرقمية مع 'مشتبه بهم'.
وهنا تتجلى 'الهندسة الرقمية للإبادة' حيث تُجمّع البيانات من التواصل، الهاتف، الوجه، الحركة.. لخاطف حياة كاملة، ليصدر قرار القتل من غرفة عمليات يقف فيها الكود مكان الجندي، هذا هو الوجه الجديد للاحتلال -ديمقراطي، آلي، لا يطلب إذناً-.
كل هذه الطعون تثبت أن 'لافندر' لا يقتل فقط المقصودين، بل كل من انحنى نحوهم في سلالم التواصل اليومي، ويتحول القتل إلى قتل حسابي: ليس لحظة سهم أو صاروخ، بل عملية حسابية منهجية، تُخصم وتُضيف في قاعدة بيانات الموت.
ما كشفت عنه العديد من الحالات أن 'لافندر' تحول إلى قاتل رقمّي رسمي، وليس أداة مساعدة في الحرب، إنه يُصدر أحكام قتل برمجية على وجوه لم تُرّ على أرض الواقع، ولا تعرفها حتى، وهذا يمثل:
القتل البرمجي المصادق: أي صفحة قتل يُبرمها الكمبيوتر، ولا تُراجعها ذراع قانونية حقيقية.
التطبيع الرقمي للإبادة: حين يُزال الحدّ الأخلاقي ما بين البشر على مستوى القرار، ويُحل محله الحدّ الأدنى من الدقة التقنية، وهو
يعني تحويل فكرة القتل (أو الإبادة) من قرار إنساني خطير يتطلّب نقاشاً أخلاقياً وقانونياً إلى عملية رقمية باردة يُديرها برنامج حاسوب.
هذه أمثلة محددة تكشف عن قوائم الموت المؤتمتة التي خرجت من غرف تشغيل باردة، لتنفّذ جريمة إبادة مكتملة الأركان، وهذا النموذج الرقمي الجديد ليس فقط تهديداً للفلسطينيين، بل تحذيراً خطيراً للبشرية بأكملها إذا لم تُطالب بالتحقق والمحاسبة.
في مشهدٍ يعيد كتابة فصول التواطؤ، وقف المجتمع الدولي عاجزاً أمام جريمة رقمية متقنة تُنفَّذ في غزة باسم الأمن، فلم تعد المجازر بحاجة إلى دبابات أو طائرات فحسب؛ صارت خوارزميات قاتلة تُصدر أحكاماً بالإعدام بضغطة زر، بينما تقف العواصم الكبرى صامتة، تُبارك أو تُدين بخجل لا يردع القاتل.
هكذا يتجلّى التطبيع التكنولوجي للإبادة: أن تتحوّل الخوارزميات إلى سلطة تتفوق على القانون، وأن يصبح الإنسان هدفاً رقمياً في ملف صهيوني، بينما يُغلف المجتمع الدولي تواطؤه بورق إدانة هشّ، وهنا تُغتال العدالة في صمت وتُمنح التقنية الشرعية لتقود محرقة صامتة.
غزة ليست مجرد ساحة حرب، بل هي مختبر مفتوح لاختبار أسلحة الغد: القتل البرمجي، ففي لحظة قاتمة انتقلت الحرب من الطائرات والصواريخ إلى برامج الذكاء الاصطناعي، لتتحوّل حياة البشر إلى مجرد أرقام في لوحة تحكم، واليوم.. يشكّل نظام 'لافندر' رأس حربة في 'عولمة القتل البرمجي'؛ ذلك الخطر الداهم الذي يهدد بتصدير هذه التقنية إلى كل ساحة صراع عالمي، حينها لا يحتاج القاتل إلى مبرر، ولا تحتاج العدالة إلى محكمة؛ إذ يصبح القتل خياراً رقمياً مُبرمجاً مسبقاً، وتُختزل حياة الإنسان إلى خوارزمية.
هنا تتجلّى الحقيقة التي يحاول الاحتلال إخفاءها: لا خوارزمية في العالم قادرة على محو الوعي الشعبي الفلسطيني أو تحويله إلى رقمٍ في قاعدة بيانات، فآلة الإبادة التي صنعوها بعقول باردة وشاشات زرقاء اصطدمت بجدار الصمود، حين خرج الناس من تحت الركام يعلنون: نحن هنا، ولسنا مجرد ملفات رقمية.
إنها معركة لم تعد تُخاض فقط بالسلاح، بل أيضاً بالوعي، وإنها معركة فضح الجريمة في كل منبر، وفضح كل متواطئ يصمت على الدم الفلسطيني، لذلك تصبح مسؤولية المجتمع الدولي أكبر من مجرد إدانة باردة؛ بل تصبح واجباً أخلاقياً وقانونياً في فتح تحقيق مستقل، ومحاسبة كل يدٍ ضغطت على زر القتل.
هكذا تتكامل المقاومة: حجراً في يد طفلٍ، وكلمةً في فم صحفي، وحقيقةً في وجه كذب إعلامي، وصموداً في وجه خوارزمية قتل عابرة للقارات، ومهما بلغت آلة الإبادة من تطور، ستظل غزة تكتب دروس العزّة والكرامة، لأن من يزرع الوعي لا يهزمه برنامج، ومن يتمسك بأرضه لن يهزمه رقم.
هكذا، سيبقى الشعب الفلسطيني سدًّا منيعًا أمام 'التطبيع الرقمي للإبادة'، وسيكتب التاريخ: هنا وقف شعبٌ في وجه خوارزميات الموت، وانتصر -بإذن الله-.
إيطاليا تلغراف
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الراية
منذ 19 دقائق
- الراية
استقرار أسهم أوروبا
استقرار أسهم أوروبا عواصم - رويترز استقرَّتِ الأسهم الأوروبية أمس بعد أن أنهت الأسبوع السابق على ارتفاع، بينما تترقب الأسواق جولة أخرى من المحادثات التِجارية الصينية الأمريكية في وقت لاحق. وبقي المؤشر ستوكس 600 مستقرًا عند 553.72 نقطة بحلول الساعة 0708 بتوقيت جرينتش، بعد سلسلة مكاسب استمرّت لأربع جلسات.


DW
منذ 20 دقائق
- DW
روسيا والصين... تحالف يتصدّع؟ – DW – 2025/6/11
2025/6/11 ١١ يونيو ٢٠٢٥ وثيقة استخباراتية روسية تكشف قلقا متزايدا داخل أروقة الكرملين تجاه نشاطات الجواسيس الصينيين على الأراضي الروسية. فما تداعيات هذا الكشف على مستقبل العلاقات بين روسيا والصين. وهل سيؤدي هذا التوتر الخفي إلى تصدع جدران التحالف الاستراتيجي؟


DW
منذ 20 دقائق
- DW
حماية الشرع... مصلحة أمريكية؟ – DW – 2025/6/11
2025/6/11 ١١ يونيو ٢٠٢٥ مبعوث ترامب إلى سوريا، توم باراك، يحذر من محاولة اغتيال الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع ويكشف عن خطة أمريكية لحمايته. فما طبيعة المخاطر التي تهدد حياة الشرع؟ وما تفاصيل الخطة الأمريكية ؟