
أوساط خليجية: لن نكرّر تجارب الهدر وسيادة الدولة هي المفتاح
تاريخ لبنان بعد الطائف هو في جانب منه تاريخ مشين في الفساد والسرقة والهدر والصفقات والتشبيح، فقد فرض النظام السوري فور هيمنته على الدولة اللبنانية نتيجة الحروب العبثية للعماد ميشال عون وصولًا إلى إسقاط الخطوط الحمر حول المناطق الحرّة آنذاك، واقعًا مزريًا جعل الدولة ومؤسّساتها وصناديقها مزرعة متفلّتة من أي رقابة ومساءلة ومحاسبة، وغلب عليها منطق تبادل المصالح والغنائم بين نظام الأسد ممثلًا بمخابراته وقادتها في لبنان، وبين الأتباع والأزلام ومن كانوا يُعتبرون حلفاء أو متعاونين ضمن شروط الوصاية.
وقد استغلّ النظام السوري أيّما استغلال هذا الواقع، وكانت معروفة النسب المحسومة له مسبقًا من كل مشروع وتعهّد والتزام، بل إن الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يأتِ إلى رئاسة الحكومة إلّا بعد تسوية لم يكن في إمكانه إلّا التسليم بشروطها، وهي أنّ السياسة والأمن للنظام الأمني المشترك، بينما الاقتصاد والمال للرئيس الحريري وللنظام في آن واحد.
ومع ذلك، حاول الرئيس الحريري التملّص ما أمكن من هذه المعادلة، لكنه لم ينجح إلّا بشكل جزئيّ جدًا، لأنّ الدولة باتت شيئًا فشيئًا أقرب إلى فدرالية مافيات، والحكومات المتعاقبة إلى مجالس محاصصة، 'تتناتش' أطرافها ما بقي لها بعد الحصة الثابتة للنظام السوري والحصص المقطوعة لكبار المسؤولين. وتدريجيًا، وقعت الخزينة تحت دين عام متفاقم، وبات الخلاف و 'النقار' على المكاسب المتراجعة أكثر منه على السياسة. ولذلك، قال الرئيس الياس الهراوي ذات مرة إن 'الدولة باتت كبقرة حلوب جفّ ضرعها'. أما الخيار البديل لمواجهة التآكل، بعد معاناة الرئيس رفيق الحريري ورفضه الاستمرار في تجيير المال والقرار للنظام السوري وصولًا إلى استبعاده من الحكم ثمّ اغتياله، فكان باللجوء إلى المؤتمرات الدولية والمساعدات الغربية والعربية ولا سيّما الخليجية، فعقدت مؤتمرات باريس 1 و 2 و 3 والتي أقرّت على التوالي مساعدات وهبات وقروضًا للبنان بمليارات الدولارات، ولكن لم تكن نتائجها ملموسة بقدر الآمال، لأنّ قسمًا كبيرًا من أموالها ذهب هدرًا وتشبيحًا. فقد ضجّت الدول والصناديق المانحة بين مؤتمري باريس 2 وباريس 3 لجهة التعبير عن الانزعاج والغضب، وصولًا إلى فرض شروط قاسية ترافق تقديم أي هبة أو قرض، لا سيّما لجهة رقابة لصيقة على مسار الأموال وكيفية صرفها وتنفيذ المشاريع المخصصة لها، علمًا أنّ ما تمّ لحظه من مبالغ في المؤتمر الأخير لم يتعدّ الـ 700 مليون دولار.
وحيال هذا الواقع، حوّل الرئيس سعد الحريري التركيز على الدول العربية ولا سيّما الخليجية التي كانت في الأساس من المساهمين في المؤتمرات الثلاثة، لكنه فضّل التعاطي الثنائي، واستطاع استجلاب بعض الهبات والمساعدات والودائع، على أنه لم يتمكّن في السياسة من التصدّي الفاعل للأمر الواقع الذي كان يقوده 'حزب اللّه' بدعم من النظامين الإيراني والسوري، وكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير هي إعلان المملكة العربية السعودية تخصيص أربعة مليارات دولار بالتعاون مع دول خليجية أخرى بموجب مؤتمر 'سيدر'، وتمّ رصد هذه المبالغ بشكل خاص للجيش اللبناني والأجهزة الأمنية.
وقد تبيّن بعد حين أنّ الدفعة الأولى التي أرسلت إلى لبنان بمئات ملايين الدولارات قد ذهبت بنسبة كبيرة هدرًا لا سيّما أنّ قسمًا منها صبّ لمصلحة 'حزب اللّه' والمؤسسات والصناديق المرتبطة به والنفقات المخصّصة لبيئته من دون أي رقابة أو محاسبة، في وقت كان 'الحزب' لا يتورّع عن مهاجمة المملكة وتهديدها. فكان ما كان من وقف فوري وحاسم لأي مساعدات على أشكالها، وهو وقف ما زال ساريًا حتى اليوم.
وتلفت أوساط خليجية عليمة إلى أن على اللبنانيين ألّا يحلموا بأي مساعدات أيًّا كان نوعها وتحت أي ظرف كان، طالما أنّ السلطات اللبنانية لم تستعد سيادتها الكاملة على قرارها وأراضيها ومؤسّساتها، ولم تقرن ذلك بإصلاحات جذرية وجدية تعطل الفساد والهدر والسرقة، وحينها يمكن للمملكة ودول الخليج أن تفكّر في كيفية تقديم ما ينبغي تقديمه ليس لمجرّد المساعدة على الطريقة القديمة، بل من خلال برامج دقيقة وموضوعية وضمن معايير رقابية محددة ومشدّدة، على أن يكون جانب من تلك المساعدات للاستثمار.
وتضيف: لقد علمتنا التجربة اللبنانية أنه لا يمكن الاعتماد على الأشخاص فحسب مهما كانوا قريبين منا، بل ينبغي التركيز على الأداء والبرامج والخطط، بعد التأكّد من سلامة الإدارة المالية في الدولة اللبنانية من خلال التعاون مع المؤسسات الدولية المختصة. ولذلك لن نكرر أبدًا التجارب المرّة، علمًا أننا ندعم توجهات العهد الحالي مبدئيًّا وننتظر خطوات عملية فاعلة كي نطمئن إلى عودة السيادة الكاملة للدولة اللبنانية ونقتنع بالإجراءات الإصلاحية العتيدة. أما في ما خصّ المساعدات المالية للضرورات الإنسانية الملحّة، فلن تكون أبدًا مباشرة أقلّه حتى إشعار آخر، بل من خلال المؤسسات الدولية المعنية، بل ومن خلال مؤسسات معيّنة تملك الصدقية الكافية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الديار
منذ 40 دقائق
- الديار
عرض من ترامب لأوروبا؟
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب ذكرت 'بوليتيكو' أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عرض على الاتحاد الأوروبي شراء النفط والغاز الأميركيين بقيمة تريليون دولار حتى نهاية رئاسته، مقابل تخفيض الرسوم الجمركية الأميركية. ونقلت الصحيفة عن مسؤول رفيع المستوى في البيت الأبيض قوله: 'في البداية كانت الأرقام واقعية إلى حد ما، ثم قال الرئيس: 'أعتقد أنه يجب عليكم شراء (موارد الطاقة) بقيمة 1 تريليون دولار خلال فترة (رئاستي)'. في النهاية استقروا على 750 مليار دولار، على الرغم من أن هذا المبلغ قد يبدو ضخما بالنسبة لكم'. وذكرت الصحيفة في الوقت ذاته أن الاتحاد الأوروبي يحاول تخفيف الانتقادات تجاه التزاماته بشراء موارد الطاقة الأميركية بقيمة 750 مليار دولار خلال 3 سنوات، حيث أن حتى هذا المبلغ المخفض أثار قلق المحللين السوقيين وأنصار أجندة 'الطاقة الخضراء'. كما ورد في مذكرة تفسيرية وزعها مسؤولو المفوضية الأوروبية، فإن المبلغ النهائي تم تحديده بناء على 'تقييم دقيق ومدروس'، وشمل أيضا استثمارات في تكنولوجيا الطاقة والطاقة النووية وقطاع الخدمات في هذا المجال.


ليبانون ديبايت
منذ 40 دقائق
- ليبانون ديبايت
نفط وغاز بتريليون دولار... ترامب يعرض على أوروبا "صفقة القرن"
ذكرت صحيفة بوليتيكو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عرض على الاتحاد الأوروبي شراء النفط والغاز الأمريكيين بقيمة تريليون دولار حتى نهاية ولايته، مقابل تخفيض الرسوم الجمركية الأمريكية على السلع الأوروبية. ونقلت الصحيفة عن مسؤول رفيع في البيت الأبيض أن النقاش بدأ بأرقام واقعية نسبيًا، قبل أن يقترح ترامب: "أعتقد أنه يجب عليكم شراء موارد الطاقة بقيمة تريليون دولار خلال فترة رئاستي". وفي النهاية، استقر الطرفان على اتفاق بقيمة 750 مليار دولار، رغم أن هذا الرقم ما زال ضخمًا ويثير الجدل. وبحسب بوليتيكو، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تخفيف الانتقادات الموجهة له بشأن التزامه بشراء موارد الطاقة الأمريكية بهذا الحجم خلال 3 سنوات، إذ يرى محللون وأنصار "الطاقة الخضراء" أن المبلغ حتى بعد تخفيضه لا يزال مبالغًا فيه. ووفق مذكرة تفسيرية وزعها مسؤولو المفوضية الأوروبية، فإن المبلغ النهائي جرى تحديده بعد "تقييم دقيق ومدروس"، ويشمل أيضًا استثمارات في تكنولوجيا الطاقة، والطاقة النووية، وقطاع الخدمات المرتبط بها. وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد توصلت مع ترامب، في 27 تموز الماضي، إلى اتفاق يقضي بأن تفرض واشنطن اعتبارًا من 1 آب رسوما جمركية بنسبة 15% على نحو 75% من الواردات الأوروبية، بدلًا من الرسوم البالغة 30% على كامل الواردات من أوروبا التي كان البيت الأبيض يهدد بفرضها سابقًا. وبموجب الاتفاق، تعهدت المفوضية الأوروبية بحظر جميع واردات الطاقة الروسية إلى الاتحاد الأوروبي، وشراء النفط والغاز والمعدات النووية والوقود الأمريكي بقيمة 750 مليار دولار، إضافة إلى استثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي. ووصفت بوليتيكو هذا التعهد الأوروبي بأنه "خيالي"، مشيرة إلى أن تنفيذه يبدو شبه مستحيل في ظل الظروف الحالية.

القناة الثالثة والعشرون
منذ 2 ساعات
- القناة الثالثة والعشرون
لماذا فعلها رئيس الجمهورية؟
في بلد تتشابك فيه الحسابات الداخلية بالتوازنات الإقليمية، يبقى سلاح حزب الله ملفًا شديد الحساسية لا ينفصل عن الصراع مع إسرائيل ولا عن شبكة التحالفات التي تربطه بإيران. هذا السلاح الذي يرى فيه الحزب 'درعًا للمقاومة'، وتعتبره أطراف أخرى 'عقبة أمام سيادة الدولة'، ظل لسنوات محورًا للجدل السياسي والضغط الدولي. ومع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية واستمرار تحليق الطائرات فوق الأجواء اللبنانية رغم اتفاق وقف إطلاق النار، يعود الملف اليوم إلى الواجهة من جديد، لكن هذه المرة عبر مقاربة مختلفة حملها خطاب رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون في عيد الجيش، واضعًا هذا السلاح ضمن معادلة أوسع تسعى لطمأنة الداخل واستشراف حلول تبدو حتى الآن بعيدة المنال. فقد جاء خطاب رئيس الجمهورية محمّلًا برسائل متعددة الاتجاهات، وخصوصًا في ما يتعلق بملف سلاح حزب الله الذي يشكّل محورًا حساسًا في المعادلة اللبنانية والإقليمية. الرئيس اعتمد لغة سياسية هادئة قائمة على مبدأ اللا استفزاز واللا استهداف، واضعًا هذا الملف ضمن سياق أوسع يتناول القضايا الأمنية والسيادية في لبنان. ولم يأتِ على ذكر تسليم السلاح بمعزل عن القضايا الأخرى، بل أحاط هذا البند بجملة نقاط تشكّل ضمانات تطمئن الحزب وبيئته، وكذلك اللبنانيين كافة. فقد تحدث عن وقف الاعتداءات الإسرائيلية برًا وبحرًا وجوًا كأولوية وطنية، وشدد على انسحاب إسرائيل إلى ما وراء الحدود المعترف بها دوليًا، كما تطرق إلى ضرورة ترسيم الحدود مع سوريا في ضوء الأحداث الأخيرة في السويداء وما تشكّله من مخاطر أمنية. وفي موازاة ذلك، أعلن عن دعم الجيش اللبناني عبر مساعدات مالية بقيمة مليار دولار سنويًا، ودعا إلى عقد مؤتمر دولي مع الدول المانحة لتأمين أموال إعادة الإعمار. وبهذه المقاربة، جاء بند تسليم سلاح حزب الله للجيش اللبناني محاطًا بضمانات مطمئنة تعكس محاولة دفع الحزب إلى النقاش من دون استفزاز أو فرض شروط أحادية. إلا أن الملف بطبيعته يتجاوز القرار اللبناني الداخلي، إذ إن تسليم السلاح يبقى بيد قيادة حزب الله بالتنسيق الكامل مع الجمهورية الإسلامية في إيران، الراعي الأول لهذا السلاح. لذلك، كان من الطبيعي أن يتناول الرئيس الموضوع بهذه الصيغة المدروسة التي تجنبت أي لغة تصعيدية قد تؤدي إلى توتير الساحة الداخلية أو إلى صدام سياسي. ومع اقتراب مناقشة الورقة التي أعلن عنها الرئيس في مجلس الوزراء الثلاثاء المقبل، تطرح عدة تساؤلات: هل سيتحدث جميع الوزراء بالصوت المطمئن ذاته الذي استخدمه الرئيس، أم سيبرز من يستخدم لغة استفزازية قد تدفع وزراء الثنائي الشيعي إلى التصعيد أو الانسحاب من الجلسة؟ هل وزراء حزب الله وحركة أمل سيملكون الإجابة المباشرة، أم سيضطرون للرجوع إلى قياداتهم قبل اتخاذ أي موقف؟ وهل ستكون هناك تباينات في المواقف بين حزب الله وحركة أمل، أم سيكون الموقف موحدًا مع محاولة الرئيس نبيه بري لعب دور في إقناع الحزب بهذه الورقة؟ وتبقى المعضلة الأهم مرتبطة بالتوقيت، فلماذا اختار رئيس الجمهورية هذه اللحظة بالذات ليكشف عن هذه التفاصيل؟ فهي المرة الأولى التي يعتمد فيها هذا الأسلوب الواضح والحازم في مقاربة ملف السلاح. هل يملك الرئيس معلومات أو تحذيرات دفعته إلى الظهور بهذا الخطاب في هذا الوقت؟ ولماذا تحويل ملف السلاح إلى مجلس الوزراء الآن، والحكومة مضى على تشكيلها أشهر؟ هل عجز رئيس الجمهورية عن التوصل إلى حل عبر الحوار المباشر مع حزب الله فاختار اللجوء إلى مجلس الوزراء للضغط على الحزب وحشره سياسيًا؟ أم أن هذه الخطوة تأتي استجابة لمطلب خارجي في ظل الضغوط الدولية المتزايدة؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها ولا أجوبة واضحة بعد، والأيام المقبلة وحدها ستكشف حقيقة ما يجري خلف الكواليس، في وقت يتعرض فيه لبنان يوميًا لاعتداءات إسرائيلية بالجملة تزيد من خطورة المرحلة وتعقيداتها. ليبانون ديبايت - محمد مدني انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News