
«امرأة وطفل».. صلاة نازفة على مذبح الوجع
لا شيء في السينما الإيرانية يحدث صدفة. كل صورة تُلتقط وكأنها تُنتَزع من جدار الحياة، وكل سكوت يحمله مخرجها على ظهره كما يحمل عاملُ مناجمٍ ضوءه في العتمة.
بينما كانت أبواب الزنزانة تُفتح للمخرج جعفر بناهي، كانت تُغلق خلف المخرج الإيراني سعيد روستايي، الذي لم يُخفِ تمرّده على الأوامر، إذ أصرّ عام 2023 على إرسال فيلمه "إخوة ليلى" إلى مهرجان كان دون إذن وزارة الثقافة. قرار كلّفه تسعة أيام من السجن، لكنه لم يُخمد جمرة الإبداع في روحه، بل كانت تلك الجمرة هي من أضاءت فيلمه الجديد "امرأة وطفل"، والذي يُعرض الآن في مهرجان كان السينمائي 2025.
يعود إلى "كان" هذه المرّة، لا ليُعلن موقفًا، بل ليحكي عن امرأة وحيدة، تمرّ بلحظة تصدّع في حياتها، وتنظر إلى العالم من شرفة الأمومة، من نافذة الانكسار، ومن زوايا الحب المربك. في هذا الفيلم، لا توجد شعارات، بل غرف نوم مظلمة، خطوات مترددة، عيون تهرب من الحقيقة، وامرأة تحاول أن تكون كل شيء في وقتٍ لا يسمح بشيء.
امرأة تتشح بعباءة القدر
في ختام دورة سينمائية، يطل "امرأة وطفل" كأحد أكثر الأفلام ترشيحًا للجوائز، إذ يستقرّ في القلب بلا استئذان. يتكئ الفيلم على شخصية "مهناز" – أرملة أربعينية تؤدي دورها باقتدار باريناز إيزاديار – تعيش في طهران المعاصرة، وتكدّ في نوبات عمل مزدوجة كممرضة، لترعى طفلين وحيدين تحت سقفٍ تتقاسمه مع أمها وأختها الصغرى "مهري" (سها نياستي). أما الطفلة "ندى" (أرشيدا دروستكار) فتسكن البراءة، بينما يحمل "عليار" (سينان محبي) – المراهق المتمرّد – في عينيه جذوة عصيان لا تهدأ.
في بدايات الحكاية، نرى مهناز تسرق لحظات من الزمن لتواعد "حميد" (بيمان معادي)، سائق إسعاف، رجل يحمل في صوته وعدًا بالسكينة. علاقتهما المخفية تمتد لعامين، وفي لحظة ما، يضغط حميد للانتقال من السر إلى العلن. يريد الزواج، أن تشرق الشمس على حبّهما. غير أن مهناز، التي اعتادت أن تُخفي أكثر مما تُظهر، لم تخبر طفليها بشيء.
يتفقان على إقامة حفل خطوبة متواضع في شقتها. يضع حميد شرطاً غريباً: لا يعلم أهله بوجود الطفلين. "سيكتشفون عاجلاً أو آجلاً"، تقول مهناز، لكن الإصرار يُرغمها على إرسال الولدين إلى منزل جدهما من طرف الأب (حسن بورشيراوي)، فتبدأ حكاية من الانكسارات المتتالية.
نظرات مسروقة من طاولة الحب
لم تكد زهور الخطوبة تذبل، حتى بدأ الانهيار يُلقي بثقله. حميد الأربعيني لا يبدو كما كان، تسرق عيناه نظرات نحو "مهري"، الأخت الأصغر سناً، وكأن الدهشة التافهة قد صفعته وأفقدته اتزانه. ثم يختفي.. لا يرد على اتصالات، ولا يبعث برسالة. وحين تفكّر مهناز في أن تسأل، تأتي الإجابة من والدته كصفعة: حميد لم يعُد مقتنعاً، ويرغب في مهري بدلاً من مهناز.
تصبح الخيانة وجهاً آخر للفجيعة. تحاول مهري أن تُصلح ما انكسر، لكن الحب لا يقبل بالوساطة. يسحبها حميد إلى عالمه، وتقع في غرامه، كأنها تسير على جثّة الأخت. وهكذا، تتحوّل العائلة إلى مسرح لدوّامة لا ترحم.
حين تصبح الأرض أضيق بالحزن
وسط هذه الدوّامة، تسقط الكارثة من السماء: عليار يسقط من نافذة بيت الجد... وتغيب أنفاسه.
يتحوّل النصف الثاني من الفيلم إلى مرثية طويلة، حيث تتفتّح مشاعر مهناز كجرح مفتوح. تطالب بفصل المدرّس الذي عاقب عليار، رغم أن التبرير واضح. تذهب أبعد من ذلك، فتقدّم بلاغاً ضد الجد بتهمة القتل، بلا دليل سوى غضبها. تحاول أن تجد العدل بين أنقاض روحها، لكن العدل في هذه البلاد شجرة لا تنبت في يد النساء.
وكأن القدر لا يكتفي، تُعلن مهري أنها حامل بصبي، وتُقرر أن تسميه "عليار". اسم يقطر ألمًا على لسان مهناز، ويزيد من شروخها.
متى نرى النساء من زجاج معتم
رغم تركيزه على "مهناز"، لا يفصل الفيلم نفسه عن العالم الأكبر. ينهش بنية النظام بسخرية موجعة. قضاء يحابي الرجال، ومجتمع لا يغفر للنساء إلا صمتهن. السيناريو ينسج الخيوط بلطفٍ جارح، يفضح الأعراف دون أن يرفع صوته، ويترك للصورة أن تُكمل ما تعجز عنه الكلمات.
أداء باريناز إيزاديار ليس تمثيلاً، بل نَفَسٌ داخليٌّ يُحيل العيون إلى مرايا للألم. عيناها الواسعتان لا تحتاجان إلى جمل. أما بيمان معادي، فينقل ببراعة وجه الرجل الذي يتبدل، كما تتبدل الريح. سينان محبي، هو المفاجأة التي تمشي على حافة الطفولة والغضب، في حضور يذكرنا بأفلام "400 ضربة"، عندما كانت المدرسة زنزانة، والمراهقة بركاناً.
عدسة تصرخ، ثم تصمت
أسلوب روستايي في الإخراج لا يشبه إلا الغضب الجميل. الزووم المفاجئ، اللقطة التتبعية، اللغة البصرية التي تتنفّس بين الواقعية والأناقة. كل مشهد كأنه ضوء يخترق ظلّاً. لكنه لا ينسى الصمت.
في مشهد الختام، تتكرر عبارة "امرأة وطفل" ثلاث مرات، كأنها تعويذة، أو صلاة، أو نحيبٌ خافت لا يُريد أن يُفسَّر. يظهر حميد، متجمّداً كتمثال لخيبة الأمل، بينما يقف المتفرج أمام واحد من أقوى مشاهد مهرجان كان لهذا العام، لا ليستمتع، بل ليحزن كما لو أن الحكاية تخصّه.
aXA6IDEwNC4yNTIuMTk1LjE0MSA=
جزيرة ام اند امز
FR

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العين الإخبارية
منذ 4 ساعات
- العين الإخبارية
بسبب أمل علم الدين.. جورج كلوني يصبغ شعره باللون الرمادي
استعاد النجم الأمريكي جورج كلوني مظهره المميز بشعره الرمادي، بعد أن كشف أن زوجته، أمل علم الدين، لم تُعجب بتغيير لون شعره إلى البني. جاءت هذه الخطوة بالتزامن مع انتشار شائعات حول توتر في علاقتهما الزوجية، إثر ظهور أمل منفردة في مهرجان كان السينمائي لعام 2025. وكان جورج كلوني قد غيّر لون شعره إلى البني أوائل هذا العام لتجسيد دوره الأول على مسرح برودواي في مسرحية Good Night, and Good Luck. لكنه كان مترددًا بشأن رد فعل زوجته، إذ صرّح لصحيفة نيويورك تايمز بأن أمل قد لا تحب التغيير. وعلى الرغم من أنه استمر بالشعر البني لعدة أشهر، قرر كلوني العودة إلى اللون الرمادي الذي لطالما اشتهر به. وظهر بمظهره الجديد خلال حفل غداء مرشحي جوائز توني في نيويورك، معتمراً قبعة بيسبول أظهرت خصلات شعره الرمادية. وسبق لكلوني أن صرّح بأن أمل لا تحب الشعر البني، كما توقع أن طفليهما التوأم، ألكسندر وإيلا، سيجدان شكله الجديد طريفًا ويضحكان عليه. aXA6IDE1NC4xNy4yNDguODQg جزيرة ام اند امز ES


العين الإخبارية
منذ 5 ساعات
- العين الإخبارية
«امرأة وطفل».. صلاة نازفة على مذبح الوجع
لا شيء في السينما الإيرانية يحدث صدفة. كل صورة تُلتقط وكأنها تُنتَزع من جدار الحياة، وكل سكوت يحمله مخرجها على ظهره كما يحمل عاملُ مناجمٍ ضوءه في العتمة. بينما كانت أبواب الزنزانة تُفتح للمخرج جعفر بناهي، كانت تُغلق خلف المخرج الإيراني سعيد روستايي، الذي لم يُخفِ تمرّده على الأوامر، إذ أصرّ عام 2023 على إرسال فيلمه "إخوة ليلى" إلى مهرجان كان دون إذن وزارة الثقافة. قرار كلّفه تسعة أيام من السجن، لكنه لم يُخمد جمرة الإبداع في روحه، بل كانت تلك الجمرة هي من أضاءت فيلمه الجديد "امرأة وطفل"، والذي يُعرض الآن في مهرجان كان السينمائي 2025. يعود إلى "كان" هذه المرّة، لا ليُعلن موقفًا، بل ليحكي عن امرأة وحيدة، تمرّ بلحظة تصدّع في حياتها، وتنظر إلى العالم من شرفة الأمومة، من نافذة الانكسار، ومن زوايا الحب المربك. في هذا الفيلم، لا توجد شعارات، بل غرف نوم مظلمة، خطوات مترددة، عيون تهرب من الحقيقة، وامرأة تحاول أن تكون كل شيء في وقتٍ لا يسمح بشيء. امرأة تتشح بعباءة القدر في ختام دورة سينمائية، يطل "امرأة وطفل" كأحد أكثر الأفلام ترشيحًا للجوائز، إذ يستقرّ في القلب بلا استئذان. يتكئ الفيلم على شخصية "مهناز" – أرملة أربعينية تؤدي دورها باقتدار باريناز إيزاديار – تعيش في طهران المعاصرة، وتكدّ في نوبات عمل مزدوجة كممرضة، لترعى طفلين وحيدين تحت سقفٍ تتقاسمه مع أمها وأختها الصغرى "مهري" (سها نياستي). أما الطفلة "ندى" (أرشيدا دروستكار) فتسكن البراءة، بينما يحمل "عليار" (سينان محبي) – المراهق المتمرّد – في عينيه جذوة عصيان لا تهدأ. في بدايات الحكاية، نرى مهناز تسرق لحظات من الزمن لتواعد "حميد" (بيمان معادي)، سائق إسعاف، رجل يحمل في صوته وعدًا بالسكينة. علاقتهما المخفية تمتد لعامين، وفي لحظة ما، يضغط حميد للانتقال من السر إلى العلن. يريد الزواج، أن تشرق الشمس على حبّهما. غير أن مهناز، التي اعتادت أن تُخفي أكثر مما تُظهر، لم تخبر طفليها بشيء. يتفقان على إقامة حفل خطوبة متواضع في شقتها. يضع حميد شرطاً غريباً: لا يعلم أهله بوجود الطفلين. "سيكتشفون عاجلاً أو آجلاً"، تقول مهناز، لكن الإصرار يُرغمها على إرسال الولدين إلى منزل جدهما من طرف الأب (حسن بورشيراوي)، فتبدأ حكاية من الانكسارات المتتالية. نظرات مسروقة من طاولة الحب لم تكد زهور الخطوبة تذبل، حتى بدأ الانهيار يُلقي بثقله. حميد الأربعيني لا يبدو كما كان، تسرق عيناه نظرات نحو "مهري"، الأخت الأصغر سناً، وكأن الدهشة التافهة قد صفعته وأفقدته اتزانه. ثم يختفي.. لا يرد على اتصالات، ولا يبعث برسالة. وحين تفكّر مهناز في أن تسأل، تأتي الإجابة من والدته كصفعة: حميد لم يعُد مقتنعاً، ويرغب في مهري بدلاً من مهناز. تصبح الخيانة وجهاً آخر للفجيعة. تحاول مهري أن تُصلح ما انكسر، لكن الحب لا يقبل بالوساطة. يسحبها حميد إلى عالمه، وتقع في غرامه، كأنها تسير على جثّة الأخت. وهكذا، تتحوّل العائلة إلى مسرح لدوّامة لا ترحم. حين تصبح الأرض أضيق بالحزن وسط هذه الدوّامة، تسقط الكارثة من السماء: عليار يسقط من نافذة بيت الجد... وتغيب أنفاسه. يتحوّل النصف الثاني من الفيلم إلى مرثية طويلة، حيث تتفتّح مشاعر مهناز كجرح مفتوح. تطالب بفصل المدرّس الذي عاقب عليار، رغم أن التبرير واضح. تذهب أبعد من ذلك، فتقدّم بلاغاً ضد الجد بتهمة القتل، بلا دليل سوى غضبها. تحاول أن تجد العدل بين أنقاض روحها، لكن العدل في هذه البلاد شجرة لا تنبت في يد النساء. وكأن القدر لا يكتفي، تُعلن مهري أنها حامل بصبي، وتُقرر أن تسميه "عليار". اسم يقطر ألمًا على لسان مهناز، ويزيد من شروخها. متى نرى النساء من زجاج معتم رغم تركيزه على "مهناز"، لا يفصل الفيلم نفسه عن العالم الأكبر. ينهش بنية النظام بسخرية موجعة. قضاء يحابي الرجال، ومجتمع لا يغفر للنساء إلا صمتهن. السيناريو ينسج الخيوط بلطفٍ جارح، يفضح الأعراف دون أن يرفع صوته، ويترك للصورة أن تُكمل ما تعجز عنه الكلمات. أداء باريناز إيزاديار ليس تمثيلاً، بل نَفَسٌ داخليٌّ يُحيل العيون إلى مرايا للألم. عيناها الواسعتان لا تحتاجان إلى جمل. أما بيمان معادي، فينقل ببراعة وجه الرجل الذي يتبدل، كما تتبدل الريح. سينان محبي، هو المفاجأة التي تمشي على حافة الطفولة والغضب، في حضور يذكرنا بأفلام "400 ضربة"، عندما كانت المدرسة زنزانة، والمراهقة بركاناً. عدسة تصرخ، ثم تصمت أسلوب روستايي في الإخراج لا يشبه إلا الغضب الجميل. الزووم المفاجئ، اللقطة التتبعية، اللغة البصرية التي تتنفّس بين الواقعية والأناقة. كل مشهد كأنه ضوء يخترق ظلّاً. لكنه لا ينسى الصمت. في مشهد الختام، تتكرر عبارة "امرأة وطفل" ثلاث مرات، كأنها تعويذة، أو صلاة، أو نحيبٌ خافت لا يُريد أن يُفسَّر. يظهر حميد، متجمّداً كتمثال لخيبة الأمل، بينما يقف المتفرج أمام واحد من أقوى مشاهد مهرجان كان لهذا العام، لا ليستمتع، بل ليحزن كما لو أن الحكاية تخصّه. aXA6IDEwNC4yNTIuMTk1LjE0MSA= جزيرة ام اند امز FR


البوابة
منذ 9 ساعات
- البوابة
استمرار عرض فيلمي "أثر الأشباح" و"سودان يا غالي" للأسبوع الثاني بسينما زاوية
يستمر عرض فيلمي أثر الأشباح للمخرج جوناثان ميليت وسودان يا غالي للمخرجة هند المدب بسينما زاوية بالقاهرة لأسبوع آخر، حيث تم مد عروضهما للأسبوع الثاني على التوالي تلبيةً لتزاحم الجمهور على مشاهدتهما. مواعيد العرض بدأت عروض الأسبوع الثاني للفيلمين من أمس الأربعاء 21 مايو يمتد أثر الأشباح إلى الثلاثاء 27 مايو الجاري، بينما يستأنف سودان يا غالي عروضه من الجمعة 23 مايو وحتى الإثنين 26 مايو. أثر الأشباح أثر الأشباح فيلم مطاردة مستوحى من أحداث حقيقية، تدور أحداثه حول حميد المنضم إلى منظمة سرية تلاحق مسؤولين بالنظام السوري لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية. تأخذه مهمته إلى فرنسا، حيث يتبع أثر جلاده الذي لم ير وجهه من قبل وعليه مواجهته. شهد الفيلم عرضه العالمي الأول بمهرجان كان السينمائي الدولي، وهو إنتاج فرنسي، من إخراج جوناثان ميليت ويشاركه التأليف فلورنس روشات وبطولة الممثل التونسي الفرنسي آدم بيسا والممثل الفلسطيني توفيق برهوم وجوليا فرانز ريختر، ومدير التصوير أوليفييه بونجينج وألحان وسام حجيج وإنتاج بولين سيجلاند وليونيل ماسول (أفلام غراند هويت). سودان يا غالي سودان يا غالي سيناريو وإخراج هند المدب ويقدم صورة جماعية لجيل يناضل من أجل الحرية بكلماته وقصائده وهتافاته. يتتبع الفيلم الوثائقي خمسة ناشطين سياسيين سودانيين شباب وهم يكافحون للإطاحة بالنظام العسكري في البلاد في السنوات المضطربة التي سبقت الحرب الأهلية السودانية ونفيهم اللاحق. شهد الفيلم عرضه العالمي الأول بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، وهو إنتاج فرنسي تونسي مشترك، من إنتاج آبل نحمياس من إيكو فيلمز، وتاو غيغا من ماي واي، وميشيل زانا وأليس أورميير من بلو ترين فيلمز. قامت بمونتاج الفيلم غلاديس جوجو، المعروفة بعملها في مشاريع مشهورة مثل The Man in The Iron Mask وAlexander وBye Bye Tiberias.