
لبنان لا يحتاج إلى ديون وهبات… بل قضاء على المافيا واستثمارات
لبنان ليس دولة فقيرة، هذه حقيقة يجب أن تُقال، فهذا البلد يمتلك ثروات طبيعية وإمكانات بشرية وعلمية وقدرات اقتصادية تؤهله ليكون دولة حديثة ومتقدمة، متصلاً بالعصر ومنفتحاً على العالم وقادراً على النهوض الذاتي، لكن المأساة أن لبنان ليس دولة مفلسة، بل دولة منهوبة. والنهب ليس جريمة فردية، بل منظومة متكاملة تتحكم بها مافيا سياسية متحالفة مع ميليشيا عسكرية، استولت على الدولة وأحكمت قبضتها على مقدراتها.
هذه الحقيقة يدركها كل لبناني من الشمال إلى الجنوب ومن الساحل إلى الجبل. ما يُعرف في القاموس الشعبي بتحالف "المافيا والميليشيا" هو الذي دمر المؤسسات، وصادر القرار الوطني ومنع ولادة الدولة الحديثة. واليوم، مع تراجع سطوة الميليشيا وتآكل هيبتها داخلياً وخارجياً تتسلل المافيا لتعيد تثبيت نفسها في مفاصل السلطة، وتسعى إلى حماية فلول الميليشيا لا حباً بها ولا تمسكاً بما يسمى "المقاومة"، بل خوفاً من أن تنكشف وحدها وتتحول إلى الهدف التالي للمحاسبة.
المفارقة الفجة أن هذه المافيا نفسها، التي حكمت لبنان منذ "اتفاق الطائف"، وشاركت في كل الحكومات من دون استثناء، تحاضر اليوم بالإصلاح وتدعي محاربة الفساد. هي التي تدفع البلاد نحو الاستدانة، وتلهث وراء المؤتمرات الدولية بحثاً عن قروض ومنح ومساعدات، تعلم جيداً أنها ستُنهب كما نُهبت قبلها عشرات المليارات، من باريس (1) إلى باريس (4) مروراً بمؤتمر "سيدر"، وكل ما قبله وما سيأتي بعده إذا استمر هذا النهج.
الاستقرار النقدي
الإنجاز الوحيد الذي يمكن الاعتراف به اليوم هو الاستقرار النقدي، فمنذ عامين بدأ لبنان يشهد نوعاً من التوازن في سعر الصرف بعد انهيار مالي كارثي. هذا الاستقرار، وإن كان هشاً، شكل بارقة أمل لإعادة تنظيم الاقتصاد وركيزة يمكن البناء عليها لتصحيح المسار.
لكن من المهم أن ندرك أن هذا الاستقرار لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة مسار دقيق اعتمده مصرف لبنان، الذي كسر معادلة الدعم العبثي، وأوقف تمويل الخزينة بطباعة الليرة، وربط الاستقرار النقدي بانتظام الجباية. هذه المعادلة رفعت من احتياطات المصرف المركزي ما بين 50 إلى 100 مليون دولار شهرياً، أي نحو 1.2 مليار دولار خلال عام ونصف العام فقط. وهي أرقام لم تُسجل حتى في أوج "الازدهار الوهمي" الذي عاشه لبنان عقوداً. والأهم أن هذا الاستقرار، لو ترافق مع استقرار سياسي وموسم سياحي ناجح، قادر على إدخال ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار إلى السوق اللبنانية خلال أشهر قليلة، وهذا وحده كفيل بخلق دورة اقتصادية نشطة، لا تحتاج إلى ديون مشروطة ولا إلى استجداء المساعدات.
تمويل للجلاد
كل تجربة الاستدانة والمساعدات الخارجية في لبنان منذ التسعينيات حتى اليوم أثبتت أمراً واحداً: هذه الأموال لا تبني دولة، بل تمول الجلاد الذي يسلخ جلد اللبنانيين. تأتي الأموال من الخارج، تمر عبر المصارف أو الوزارات أو المؤسسات العامة، فتمر من "مصافي الفساد"، وتخرج من الجهة الأخرى، وقد اقتطع منها المعلوم لكل زعيم، وارتُجلت صفقات وعمولات وتسويات على حساب الشعب.
خذوا مثلاً قطاع النفط، الدولة تشتري النفط عبر شركات وسيطة يملكها سياسيون نافذون، وتدفع سعراً يزيد بنسبة 20 في المئة على السعر الحقيقي، فقط لأن جهة سياسية ما قررت أن تكون وسيطاً بين الدولة والأسواق العالمية، هذه الزيادة وحدها تمول جزءاً من الماكينات السياسية والحزبية.
مثال آخر: التهرب الجمركي، مئات ملايين الدولارات تضيع كل عام، لأن البضائع تدخل تحت غطاء "الجمعيات المدنية والخيرية"، فتعفى من الرسوم. هذه الجمعيات ليست سوى غطاء قانوني لحيتان السوق والسياسة. أضف إلى ذلك الكارثة المزمنة، ملف النفايات، إذ تدفع مليارات الدولارات لشركات لا ترفع النفايات ولا تطمرها، بل تكدسها على الطرقات، والمردود؟ أرباح خيالية لجيوب السياسيين. هذا من دون الحديث عن الأملاك البحرية المصادَرة، وصفقات الاتصالات المشبوهة، والمحاصصة في المناقصات والوظائف العامة التي تُمنح كجوائز ترضية لا كمواقع لخدمة الناس.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استثمارات وإصلاحات
من هنا، لا معنى لأي قرض يُمنح للبنان في ظل هذه المنظومة، بل هو جريمة موصوفة بحق الشعب. كل قرض هو تمويل إضافي للمافيا، كل منحة هي رشوة مغطاة لأمراء الطوائف.
الحل؟ ليس في الضخ المالي، بل في فتح أبواب الاستثمار. لبنان بحاجة إلى إصلاحات جذرية تعيد بناء الثقة: قضاء مستقل، إدارة نزيهة، عدالة شفافة، شفافية مطلقة، بيئة قانونية مشجعة، لكن هذه البيئة لن تُبنى ما دام هناك سلاح غير شرعي. الميليشيا المسلحة، ولو لم تعد تحكم كما في السابق، لا تزال تفرض مناخاً طارداً لأي مستثمر حقيقي. لا أحد يستثمر في بلد يخاف فيه من أن يصادَر مشروعه بقرار حزبي أو أن يُمنع من العمل بتهديد مبطن، كذلك فإن غياب العدالة وانهيار القضاء يدفعان المستثمرين إلى الخارج، من سيأتي ليضع أمواله في بلد لا يستطيع أن يضمن فيه استرداد حقه في حال نشب خلاف بسيط؟
الاستثمارات تُبنى على الثقة، والثقة تُبنى على الإصلاح لا على المساعدات.
لا تسهموا في سرقتنا
الرسالة التي يجب أن تصل إلى المجتمع الدولي واضحة وصريحة: لا نريد منكم قروضاً ولا هبات ولا منحاً، نريد منكم موقفاً سياسياً وأخلاقياً حازماً: اضغطوا على السلطة اللبنانية لتفكيك المافيا والميليشيا، ساعدوا لبنان بفرض الإصلاح لا بتمويل الفساد.
ساعدونا بأن تمنعوا عنهم المال، لا أن تغذوهم به، فكل دولار يأتي إلى هذه السلطة هو رصاصة في صدر الشعب. أما المستثمرون فهم وحدهم القادرون على بناء اقتصاد فعلي، شرط أن تكون البيئة آمنة والقوانين عادلة والسلطة خاضعة للمحاسبة.
لبنان لا يحتاج إلى شفقة، بل إلى عدالة، لا يحتاج إلى صدقات، بل إلى شراكات حقيقية، لا يحتاج إلى تسول، بل إلى كسر المافيا وتفكيك اقتصاد الريع والفساد.
هذه هي المعركة المقبلة: ليست معركة المال، بل معركة الدولة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 5 ساعات
- Independent عربية
عراك بالأيدي بين ماسك ووزير الخزانة الأميركي داخل البيت الأبيض
ذكر تقرير لصحيفة واشنطن بوست Washington Post الأميركية نقلاً عن ستيف بانون المدون اليميني المؤثر والمستشار السياسي السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب أن وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت ورجل الأعمال إيلون ماسك الذي كان حتى وقت قريب مسؤولاً عن إدارة الكفاءة الحكومية الأميركية، تبادلا اللكمات في البيت الأبيض في أبريل (نيسان) الماضي. خطط مختلفة وجاء في الصحيفة أن الشجار اندلع بعدما عرض الرجلان على ترمب خططاً مختلفة تتعلق بدائرة الإيرادات الداخلية، حيث أيد الرئيس في النهاية خيار بيسنت، وأن الرجلين غادرا الاجتماع وهما يتبادلان الشتائم والإهانات، حيث انتقد بيسنت محاولة ماسك خفض الإنفاق الفيدرالي بقيمة تريليون دولار، قائلاً له: أنت محتال. ووفق التقرير فقد تحولت المشادة الكلامية إلى عراك جسدي عندما دفع ماسك كتفه في صدر بيسنت "كما يفعل لاعبو الرغبي"، مما دفع وزير الخزانة للرد بلكمه. وتدخل الموجودون لفض العراك قبل أن يطرد ماسك بسرعة من المكان. وعندما علم ترمب بما حصل قال "هذا كثير جداً". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) قانون خفض الضرائب وتزامنت هذه الحادثة مع تصاعد التوتر بين ترمب وماسك، بعدما انتقد ماسك مشروع قانون ترمب الشامل لخفض الضرائب والإنفاق، ووصفه بأنه "عمل بغيض، ومثير للاشمئزاز". وأمس السبت أعلن الرئيس الأميركي انتهاء علاقته مع ماسك، وتوعد بأنه ستكون هناك "عواقب وخيمة" إذا مول الملياردير الأميركي الديمقراطيين في مواجهة الجمهوريين الذين سيصوتون لمصلحة قانون ترمب.


Independent عربية
منذ 7 ساعات
- Independent عربية
بعد خلافه مع ترمب... ماسك "تاريخ طويل" من الانفصالات المريرة
توترت العلاقة هذا الأسبوع بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والملياردير إيلون ماسك الذي يصف نفسه بـ"الصديق الأول"، بعدما تبادل الطرفان الإهانات والتهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعكس قطيعة بين الحليفين السابقين، وهذه ليست المرة الأولى التي يدخل فيها ماسك في خلاف علني مع شركائه أو حلفائه السابقين وفقاً لصحيفة "واشنطن بوست". سام ألتمان، المؤسس المشارك لشركة (أوبن أي آي) كان إيلون ماسك من المؤسسين الأوائل لشركة "أوبن أي آي"، التي طورت برنامج "تشات جي بي تي"، وكان من أكبر ممولي المشروع في بداياته، لكنه انفصل عن مؤسسي الشركة الآخرين عام 2018، ولاحقاً رفع دعوى قضائية لمنع إعادة هيكلة "أوبن أي آي"، متهماً إدارتها بالتخلي عن مهمتها غير الربحية. واليوم يمتلك ماسك شركة ناشئة منافسة في مجال الذكاء الاصطناعي تدعى "إكس أي آي "في المقابل، رفعت "أوبن أي آي" دعوى مضادة ضد ماسك تتهمه فيها بالمضايقة وبـ"نشر معلومات كاذبة" عنها. وامتد الخلاف إلى تبادل الإهانات الشخصية بين إيلون ماسك والرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أي آي" سام ألتمان، ففي هذا العام، قدم ماسك مع مجموعة من المستثمرين عرضاً لشراء أصول "أوبن أي آي" مقابل 97.4 مليار دولار، وهو رقم أدنى بكثير من تقييم الشركة البالغ 157 مليار دولار، ورد ألتمان برفض العرض علناً عبر منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، مقترحاً من جانبه دفع 9.74 مليار دولار لشراء منصة "إكس" (تويتر سابقاً) التي استحوذ عليها ماسك عام 2022 مقابل 44 مليار دولار، وجاء رد ماسك بكلمة واحدة، "محتال". جاك دورسي المؤسس المشارك لشركة "تويتر" استحوذ إيلون ماسك على منصة "تويتر" عام 2022، معلناً أن هدفه هو تعزيز حرية التعبير، واستخدم مزيجاً من ثروته الشخصية، وقروضاً مصرفية، إلى جانب قائمة طويلة من المستثمرين لإتمام الصفقة التي تعطلت لأشهر بسبب معركة قانونية بعدما حاول التراجع عنها، مما دفع مجلس إدارة "تويتر" إلى مقاضاته، وبعد إبرام الاستحواذ، أجرى ماسك تخفيضات كبيرة في القوى العاملة، وأعاد تصميم تجربة المستخدم على المنصة. وعلى رغم أن الرئيس التنفيذي السابق جاك دورسي، أيد الصفقة في البداية، فإنه تراجع لاحقاً عن موقفه وأعلن أن ماسك ليس الشخص المناسب لقيادة المنصة. مارتن إيبرهارد المؤسس المشارك لشركة "تيسلا" أسس مارتن إيبرهارد ومارك تاربنينغ شركة "تيسلا" عام 2003، لكن إيلون ماسك وموظفين آخرين يعدون أيضاً من المؤسسين، بموجب تسوية قانونية لاحقة، وكان ماسك من أوائل المستثمرين في شركة السيارات الكهربائية، وتولى رئاسة مجلس إدارتها عام 2004، أي قبل أعوام من بيع الشركة أول سيارة لها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وكان مارتن إيبرهارد أول رئيس تنفيذي لشركة "تيسلا"، لكن مجلس الإدارة بقيادة إيلون ماسك أجبره على التنحي عام 2007، وغادر الشركة نهائياً عام 2008. وقال إيلون ماسك، إن مارتن إيبرهارد روج "لقصة زائفة" مفادها أن ماسك استثمر في "تيسلا" عندما كانت شركة قائمة بالفعل، واصفاً إيبرهارد بأنه "أسوأ شخص عملت معه على الإطلاق طوال مسيرتي المهنية". وكان إيبرهارد رفع دعوى قضائية ضد ماسك بتهم التشهير والقذف والإخلال بالعقد، وانتهت القضية بتسوية أقرت باعتبار ماسك أحد مؤسسي الشركة. بيتر ثيل المؤسس المشارك لشركة "باي بال" أسس ماسك شركة مدفوعات اندمجت لاحقاً مع شركة البرمجيات "كونفينيتي" لتشكيل "باي بال" عام 2000، لكن زملاءه المؤسسين في "باي بال" دبروا انقلاباً ضده في وقت لاحق من ذلك العام، فأطاحوا به من منصب الرئيس التنفيذي بينما كان في شهر العسل، واستبدلوه ببيتر ثيل، بحسب سير ذاتية تناولت حياة ماسك. من أبرز نقاط الخلاف بين الطرفين آنذاك أن ماسك كان يسعى لتوسيع طموحات الشركة وجعل حرفX" " أكثر بروزاً في هويتها التجارية، وفقاً لسيرة ثيل. وعلى رغم هذه الخلافات في "باي بال"، استثمر ثيل لاحقاً في "سبيس إكس"، وأصبح الاثنان أكثر تقارباً سياسياً بمرور الوقت. الرئيس التنفيذي السابق لشركة "Zip2" ريتشارد سوركين أسس ماسك في تسعينيات القرن الماضي شركةZip2" "، المتخصصة في إنشاء أدلة المدن على الإنترنت، إلى جانب شقيقه وصديق له. لكن دخول ريتشارد سوركين كرئيس تنفيذي أدى إلى سلسلة من الصراعات الشخصية، كادت تتسبب في إغلاق الشركة، وفقاً لمقال نشر في موقع "Salon" آنذاك، وفي نهاية المطاف، بيعت الشركة إلى شركة "كومباك" للحواسيب عام 1999. أما شركات "أوبن أي آي"، و"تيسلا" و"X"، و"جوبيتر إنتليجينس" (التي يترأسها سوركين)، و"بلانتير" (التي يترأس مجلس إدارتها بيتر ثيل)، و"بلوك" (التي يقودها جاك دورسي)، فلم ترد فوراً على طلبات التعليق من الصحيفة أو رفضت التعليق. كما تعذر الوصول إلى إيبرهارد.


Independent عربية
منذ 7 ساعات
- Independent عربية
لبنان لا يحتاج إلى ديون وهبات… بل قضاء على المافيا واستثمارات
لبنان ليس دولة فقيرة، هذه حقيقة يجب أن تُقال، فهذا البلد يمتلك ثروات طبيعية وإمكانات بشرية وعلمية وقدرات اقتصادية تؤهله ليكون دولة حديثة ومتقدمة، متصلاً بالعصر ومنفتحاً على العالم وقادراً على النهوض الذاتي، لكن المأساة أن لبنان ليس دولة مفلسة، بل دولة منهوبة. والنهب ليس جريمة فردية، بل منظومة متكاملة تتحكم بها مافيا سياسية متحالفة مع ميليشيا عسكرية، استولت على الدولة وأحكمت قبضتها على مقدراتها. هذه الحقيقة يدركها كل لبناني من الشمال إلى الجنوب ومن الساحل إلى الجبل. ما يُعرف في القاموس الشعبي بتحالف "المافيا والميليشيا" هو الذي دمر المؤسسات، وصادر القرار الوطني ومنع ولادة الدولة الحديثة. واليوم، مع تراجع سطوة الميليشيا وتآكل هيبتها داخلياً وخارجياً تتسلل المافيا لتعيد تثبيت نفسها في مفاصل السلطة، وتسعى إلى حماية فلول الميليشيا لا حباً بها ولا تمسكاً بما يسمى "المقاومة"، بل خوفاً من أن تنكشف وحدها وتتحول إلى الهدف التالي للمحاسبة. المفارقة الفجة أن هذه المافيا نفسها، التي حكمت لبنان منذ "اتفاق الطائف"، وشاركت في كل الحكومات من دون استثناء، تحاضر اليوم بالإصلاح وتدعي محاربة الفساد. هي التي تدفع البلاد نحو الاستدانة، وتلهث وراء المؤتمرات الدولية بحثاً عن قروض ومنح ومساعدات، تعلم جيداً أنها ستُنهب كما نُهبت قبلها عشرات المليارات، من باريس (1) إلى باريس (4) مروراً بمؤتمر "سيدر"، وكل ما قبله وما سيأتي بعده إذا استمر هذا النهج. الاستقرار النقدي الإنجاز الوحيد الذي يمكن الاعتراف به اليوم هو الاستقرار النقدي، فمنذ عامين بدأ لبنان يشهد نوعاً من التوازن في سعر الصرف بعد انهيار مالي كارثي. هذا الاستقرار، وإن كان هشاً، شكل بارقة أمل لإعادة تنظيم الاقتصاد وركيزة يمكن البناء عليها لتصحيح المسار. لكن من المهم أن ندرك أن هذا الاستقرار لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة مسار دقيق اعتمده مصرف لبنان، الذي كسر معادلة الدعم العبثي، وأوقف تمويل الخزينة بطباعة الليرة، وربط الاستقرار النقدي بانتظام الجباية. هذه المعادلة رفعت من احتياطات المصرف المركزي ما بين 50 إلى 100 مليون دولار شهرياً، أي نحو 1.2 مليار دولار خلال عام ونصف العام فقط. وهي أرقام لم تُسجل حتى في أوج "الازدهار الوهمي" الذي عاشه لبنان عقوداً. والأهم أن هذا الاستقرار، لو ترافق مع استقرار سياسي وموسم سياحي ناجح، قادر على إدخال ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار إلى السوق اللبنانية خلال أشهر قليلة، وهذا وحده كفيل بخلق دورة اقتصادية نشطة، لا تحتاج إلى ديون مشروطة ولا إلى استجداء المساعدات. تمويل للجلاد كل تجربة الاستدانة والمساعدات الخارجية في لبنان منذ التسعينيات حتى اليوم أثبتت أمراً واحداً: هذه الأموال لا تبني دولة، بل تمول الجلاد الذي يسلخ جلد اللبنانيين. تأتي الأموال من الخارج، تمر عبر المصارف أو الوزارات أو المؤسسات العامة، فتمر من "مصافي الفساد"، وتخرج من الجهة الأخرى، وقد اقتطع منها المعلوم لكل زعيم، وارتُجلت صفقات وعمولات وتسويات على حساب الشعب. خذوا مثلاً قطاع النفط، الدولة تشتري النفط عبر شركات وسيطة يملكها سياسيون نافذون، وتدفع سعراً يزيد بنسبة 20 في المئة على السعر الحقيقي، فقط لأن جهة سياسية ما قررت أن تكون وسيطاً بين الدولة والأسواق العالمية، هذه الزيادة وحدها تمول جزءاً من الماكينات السياسية والحزبية. مثال آخر: التهرب الجمركي، مئات ملايين الدولارات تضيع كل عام، لأن البضائع تدخل تحت غطاء "الجمعيات المدنية والخيرية"، فتعفى من الرسوم. هذه الجمعيات ليست سوى غطاء قانوني لحيتان السوق والسياسة. أضف إلى ذلك الكارثة المزمنة، ملف النفايات، إذ تدفع مليارات الدولارات لشركات لا ترفع النفايات ولا تطمرها، بل تكدسها على الطرقات، والمردود؟ أرباح خيالية لجيوب السياسيين. هذا من دون الحديث عن الأملاك البحرية المصادَرة، وصفقات الاتصالات المشبوهة، والمحاصصة في المناقصات والوظائف العامة التي تُمنح كجوائز ترضية لا كمواقع لخدمة الناس. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) استثمارات وإصلاحات من هنا، لا معنى لأي قرض يُمنح للبنان في ظل هذه المنظومة، بل هو جريمة موصوفة بحق الشعب. كل قرض هو تمويل إضافي للمافيا، كل منحة هي رشوة مغطاة لأمراء الطوائف. الحل؟ ليس في الضخ المالي، بل في فتح أبواب الاستثمار. لبنان بحاجة إلى إصلاحات جذرية تعيد بناء الثقة: قضاء مستقل، إدارة نزيهة، عدالة شفافة، شفافية مطلقة، بيئة قانونية مشجعة، لكن هذه البيئة لن تُبنى ما دام هناك سلاح غير شرعي. الميليشيا المسلحة، ولو لم تعد تحكم كما في السابق، لا تزال تفرض مناخاً طارداً لأي مستثمر حقيقي. لا أحد يستثمر في بلد يخاف فيه من أن يصادَر مشروعه بقرار حزبي أو أن يُمنع من العمل بتهديد مبطن، كذلك فإن غياب العدالة وانهيار القضاء يدفعان المستثمرين إلى الخارج، من سيأتي ليضع أمواله في بلد لا يستطيع أن يضمن فيه استرداد حقه في حال نشب خلاف بسيط؟ الاستثمارات تُبنى على الثقة، والثقة تُبنى على الإصلاح لا على المساعدات. لا تسهموا في سرقتنا الرسالة التي يجب أن تصل إلى المجتمع الدولي واضحة وصريحة: لا نريد منكم قروضاً ولا هبات ولا منحاً، نريد منكم موقفاً سياسياً وأخلاقياً حازماً: اضغطوا على السلطة اللبنانية لتفكيك المافيا والميليشيا، ساعدوا لبنان بفرض الإصلاح لا بتمويل الفساد. ساعدونا بأن تمنعوا عنهم المال، لا أن تغذوهم به، فكل دولار يأتي إلى هذه السلطة هو رصاصة في صدر الشعب. أما المستثمرون فهم وحدهم القادرون على بناء اقتصاد فعلي، شرط أن تكون البيئة آمنة والقوانين عادلة والسلطة خاضعة للمحاسبة. لبنان لا يحتاج إلى شفقة، بل إلى عدالة، لا يحتاج إلى صدقات، بل إلى شراكات حقيقية، لا يحتاج إلى تسول، بل إلى كسر المافيا وتفكيك اقتصاد الريع والفساد. هذه هي المعركة المقبلة: ليست معركة المال، بل معركة الدولة.