
مشاهير «تيك توك» في قبضة الأمن.. كيف تواجه مصر الانفلات الرقمي؟ (خاص)
وضم النقاش 3 من أبرز المتخصصين في القانون المصري وهم المستشار ياسر أبو عميرة، خبير القانون في محكمة النقض، والمستشار سيف الطحاوي، خبير القانون الجنائي، ومحمد رشيدي، خبير القانون المدني.
ناقش المشاركون تأثير المنصات الرقمية على النسيج الاجتماعي ودور المحتوى التفاعلي في ترسيخ المبادئ الأخلاقية والتواصل بين الأجيال.
كان واضحًا أن النقاش لن يقتصر على "تيك توك" كمنصة، بل سيمتد إلى جذور الظاهرة التي تهدد القيم الأسرية، وآليات المواجهة التي تتبناها الدولة المصرية، وصولًا إلى أحدث الحملات الأمنية التي نقلت المواجهة من التنظير إلى التطبيق.
مصر بين معركة القيم وموجة الانفلات الرقمي
يرى ياسر أبو عميرة أن ما يجري على "تيك توك" تجاوز فكرة الترفيه العابر، ليتحول إلى ما وصفه بـ"سباق البذاءة والانحدار"، قائلاً:
"مصر التي أنجبت طه حسين، والعقاد، وزويل، ونجيب محفوظ، ترفض أن يُختزل تاريخها وثقافتها في فيديوهات هابطة لمجموعة من العابثين الباحثين عن المال السريع. نحن أمام أزمة أخلاقية ومعرفية، وليست فقط قانونية. ما يحدث عبر التيك توك محاولة منظمة لقتل الطموح المشروع لدى الشباب، حتى أصبح البعض يعتقد أن العلم لا طائل منه مقارنة بما يمكن جنيه من المال مقابل بث محتوى تافه".
ويضيف أن المواجهة لم تعد خطابًا تحذيريًا، بل صارت خطوات تنفيذية على الأرض. ويستشهد بالحملة الأمنية الأخيرة التي أطلقتها وزارة الداخلية مطلع أغسطس/آب 2025، والتي استهدفت 7 من أبرز صناع المحتوى على "تيك توك"، من بينهم أسماء اشتهرت بمقاطع مثيرة للجدل مثل "شاكر محظور"، و"مداهم"، و"أم مكة"، و"أم سجدة"، و"سوزي الأردنية".
هذه الحملة – كما يوضح – لم تقتصر على توقيف الأشخاص، بل شملت تحقيقات موسعة حول مصادر الدخل، وأدوات إنتاج المحتوى، وارتباط بعض المقاطع بممارسات محرمة قانونيًا مثل حيازة مخدرات أو أسلحة غير مرخصة.
ويقول أبو عميرة: "هذه الحملة إعلان واضح أن الدولة لن تسمح بتقويض بنيتها القيمية، وأن النصوص القانونية لم تعد حبرًا على ورق، بل تُطبق كجزء من استراتيجية أوسع لضبط الفضاء الرقمي".
تصريحات وزارة الداخلية.. رسائل واضحة للمجتمع
وزارة الداخلية نفسها أكدت هذا التوجه في بيان رسمي صدر عقب الحملة الأخيرة، جاء فيه: "لن نسمح بأن تتحول المنصات الإلكترونية إلى أدوات لنشر الفوضى الأخلاقية، وسيتم التعامل بحزم مع كل من يسيء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بما يهدد القيم والمبادئ الراسخة للمجتمع المصري".
وتأتي الحملات ضمن "خطة وطنية متكاملة تشمل الرصد الإلكتروني، وتلقي البلاغات من المواطنين، وتنسيق الجهود بين قطاعات الأمن العام ومباحث الإنترنت".
آليات الرصد والتتبع.. كيف تعمل الدولة؟
يؤكد أبو عميرة أن هذه التصريحات تعكس طبيعة العمل الأمني الجديد، الذي لم يعد يعتمد على الرصد التقليدي، بل يستند إلى أدوات تكنولوجية متقدمة منها؛ التحليل الآلي للمحتوى وهو عبارة عن برامج ذكاء اصطناعي تمسح آلاف المقاطع يوميًا لرصد الكلمات المفتاحية والسلوكيات المجرّمة، والتعاون مع شركات الاتصالات لمتابعة الحسابات المشبوهة وتحديد مواقع البث والبلاغات الشعبية: التي وصفها أبو عميرة بأنها "عين المجتمع"، إذ يتم استقبال بلاغات من المواطنين عبر الخطوط الساخنة ومنصات إلكترونية، وتتحول هذه البلاغات إلى محاضر رسمية يتم التحقيق فيها.
أما على صعيد مصادر التمويل، فيشير إلى أن فرق التحقيق المالي تتبعت التحويلات البنكية والمحافظ الإلكترونية المرتبطة ببعض الحسابات، وكشفت أن جزءًا من الأرباح يأتي من هدايا افتراضية مدفوعة عبر التطبيق، إضافة إلى إعلانات غير موثقة تروج لمنتجات مجهولة المصدر.
"هذه التفاصيل"، كما يضيف أبو عميرة، "أثبتت أن بعض صناع المحتوى لا يكتفون بإنتاج مواد هابطة، بل يستغلون المنصة كأداة لتحقيق أرباح خارج الرقابة الاقتصادية، وهو ما يجعل العقوبات مضاعفة بموجب قوانين غسل الأموال والضرائب".
القانون من النص إلى التطبيق
ويشرح سيف الطحاوي أن مثل هذه الحملات لم تكن ممكنة قبل صدور قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات عام 2018، إذ كان التعامل مع الانتهاكات الرقمية يعتمد فقط على مواد تقليدية في قانون العقوبات لم تعد كافية لمواجهة تعقيدات الواقع الجديد.
يقول: "قبل صدور القانون، كان اقتحام الحياة الخاصة عبر الإنترنت يتم بدون رادع حقيقي. أصبح من السهل أن تخترق هاتف شخص أو جهازه الشخصي، وتقتحم تفاصيل حياته عبر 'الهارد ديسك' أو البريد الإلكتروني أو صفحات التواصل الاجتماعي. هنا كان لا بد من تدخل تشريعي عاجل لمواكبة التطور التكنولوجي".
ويضيف أن الحملة الأخيرة اعتمدت أساسًا على المادتين 25 و26 من القانون. المادة 25 تجرم الاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية، وانتهاك الخصوصية، وإرسال الرسائل الإلكترونية المزعجة، ونشر الصور أو المعلومات دون إذن. أما المادة 26 فوسعت نطاق التجريم لتشمل استخدام البرامج المعلوماتية لمعالجة البيانات الشخصية وربطها بمحتوى منافٍ للآداب العامة.
"الاتهامات التي وُجهت للمقبوض عليهم"، كما يوضح، "لم تقتصر على الإخلال بالقيم، بل شملت أيضًا تحقيق أرباح مالية عبر بث مباشر لمحتوى صادم، وهو ما يضاعف العقوبات وفقًا للقانون لتصل في بعض الحالات إلى 15 عامًا من السجن".
الأسرة بين الضغوط الرقمية وتحديات الحماية
ويربط محمد رشيدي هذه الحملات بسياق اجتماعي أوسع، معتبرًا أن المشكلة ليست فقط في المحتوى، بل في التأثير العميق لهذه المنصات على منظومة القيم: "الأسرة لطالما كانت الركيزة الأساسية في تكوين الأخلاق وتوجيه الأبناء. لكن التأثير المتنامي لمنصات مثل تيك توك يقوض هذه القاعدة ويخلق فجوة بين الأجيال. نسمع اليوم عبارات مثل 'الزمن اتغير' لتبرير سلوكيات مرفوضة مجتمعيًا، بينما يكتسبها المراهقون من متابعة نماذج تحرض على التمرد ونبذ رقابة الأهل".
ويضيف أن قضايا "فتيات التيك توك" منذ 2020 وحتى الحملة الأخيرة تظهر أن الدولة لا تتحرك إلا عندما يصبح الفضاء الرقمي تهديدًا مباشرًا لتماسك المجتمع.
ويتابع: "لكن في الوقت نفسه، كل حملة ضبط تعيد طرح السؤال: كيف نوازن بين حماية القيم وضمان حرية التعبير؟ وهل يكفي الردع القانوني وحده دون بدائل ثقافية وإعلامية جاذبة؟".
إشكالية التفسير والجدل القانوني
يعيد سيف الطحاوي النقاش إلى النصوص، مشيرًا إلى أن عبارة "الاعتداء على القيم الأسرية" تظل مثار جدل: "كان المقصود الأساسي من النص حماية الخصوصية، لكن إدخال عبارة القيم الأسرية جعلها تُستخدم لتجريم أفعال طالت المجتمع في الفترة الأخيرة لتعد خطرا على تماسك الأسرة. على سبيل المثال، النيابة العامة وبعض المحاكم فسرت العبارة على أنها الخروج عن مقتضيات الآداب العامة، بينما المشرع لم يذكرها صراحة كما فعل في المادة 26".
ويربط هذه الإشكالية بالبُعد الاجتماعي: "بعض الحملات المجتمعية مثل وسم (بعد إذن الأسرة المصرية) تطالب بتعديل النصوص لتصبح أكثر وضوحًا، بينما يرى آخرون أن التشدد في تطبيقها هو السبيل الوحيد لكبح الانفلات الأخلاقي".
معركة وعي وبناء مجتمع
ويختتم ياسر أبوعميرة النقاش برؤية أوسع، موضحًا أن الحملات الأمنية والتشريعات وحدها لا تكفي، قائلاً: "الجمهورية الجديدة لا تبني المدن فقط، بل تبني الإنسان. لذلك رأينا تعديلات على قانون الطفل في 2021 لضمان المساواة وعدم التمييز وحق الطفل في تكوين رأيه، ومشروعات لتعديل قانون الأحوال الشخصية، ومشروع قانون حظر زواج الأطفال، وحتى مقترحات لتغليظ عقوبة ضرب الزوجات بعدما أثبتت الإحصاءات أن 86% من الزوجات يتعرضن للعنف الأسري".
ويتفق الخبراء الثلاثة على أن المواجهة تحتاج إلى ثلاثية متكاملة: تشريعات صارمة، توعية مجتمعية، وإعلام بديل يعزز القيم. كما يلخص فوزي المشهد:
"محاربة المحتوى الهدام على الإنترنت لا تقل أهمية عن بناء المدن والبنية التحتية. نحن نخوض معركة وعي، والمعركة لا تُكسب إلا إذا وقف المجتمع كله صفًا واحدًا".
FR

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العين الإخبارية
منذ 10 دقائق
- العين الإخبارية
اتهامات جديدة لموسكو: زيلينسكي يتحدث عن «حرب مرتزقة»
من جديد، طرح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اليوم الإثنين قضية وجود مرتزقة في صفوف القوات الروسية. وقال زيلينسكي اليوم الإثنين إن القوات الأوكرانية في شمال شرق البلاد تقاتل "مرتزقة" أجانب من بلدان مختلفة، وتوعد بالرد. واتهم زيلينسكي في وقت سابق روسيا بتجنيد مقاتلين صينيين في حربها ضد أوكرانيا، وهي اتهامات نفتها بكين. ونشرت كوريا الشمالية أيضا الآلاف من جنودها في منطقة كورسك الروسية. وقال زيلينسكي على منصة "إكس" للتواصل الاجتماعي بعد زيارة منطقة على خط المواجهة في خاركيف بشمال شرق البلاد "تحدثنا مع القادة عن وضع الجبهة الأمامية والدفاع عن فوفتشانسك وديناميكيات المعارك". وأضاف "يبلغ محاربونا في هذا القطاع عن مشاركة مرتزقة من الصين وطاجيكستان وأوزبكستان وباكستان ودول أفريقية في الحرب. وسنرد على ذلك". واتصلت رويترز بسفارات طاجيكستان وأوزبكستان وباكستان في كييف طلبا للتعليق. ولم تعلق روسيا بعد على تصريحات زيلينسكي. GB


العين الإخبارية
منذ 10 دقائق
- العين الإخبارية
تيموشينكو تنتقد الغرب: خانوا أوكرانيا وفرضوا علينا الاستقلال المشروط
وجهت رئيسة الوزراء الأوكرانية السابقة، يوليا تيموشينكو، انتقادات غير مسبوقة إلى الدول الغربية، متهمة إياها بارتكاب "خطأ قاتل" في حق أوكرانيا. وفي مقابلة مع صحيفة "ذا تايمز" البريطانية، أُجريت داخل مقر حزبها "باتكيفشينا" (الوطن) في العاصمة كييف، قالت تيموشينكو إن الغرب أخطأ في حق كييف بتقاعسه عن ضم كييف إلى الناتو في وقت مبكر، وفرض رقابة غير مباشرة على مؤسسات الدولة خلال الحرب الجارية مع روسيا. كما عبّرت تيموشينكو عن غضبها مما وصفته بـ"الوصاية الغربية"، التي قالت إنها تقوض السيادة الوطنية في وقت تخوض فيه البلاد حربا شرسة على أراضيها. وقالت: "منذ بداية الحرب، فرض الغرب رقابة قاسية على مؤسسات الدولة الأوكرانية تحت تهديد حجب القروض.. لقد أضعفوا سيادتنا، وهذا أمر غير عادل تجاه أمة تقاتل بالنيابة عن أوروبا." وجهت زعيمة المعارضة سهام نقدها لنظام اللجان المشتركة مع الخبراء الغربيين، واصفة إياه بـ"النموذج الاستعماري غير المقبول"، معتبرةً أن "مثل هذه الآليات قد تُبرر في دول منهارة كأفغانستان، لا في أوكرانيا التي تُضحّي من أجل القيم الأوروبية ذاتها". وأشادت بخطوات الرئيس زيلينسكي لإصلاح وكالتي "نابو" و"سابو" لمكافحة الفساد المدعومتين غربياً، رغم امتناع حزبها عن التصويت على استقلالهما بعد احتجاجات شعبية طالبت بالحفاظ على دورهما الرقابي. ورغم تبرير زيلينسكي بأن الإجراءات تهدف لمنع الاختراق الروسي، ترى تيموشينكو فيها تصحيحا ضروريا لـ"النفوذ الأجنبي المفرط"، الذي - بحسب تعبيرها - "يحوّل أوكرانيا تدريجيا إلى مستعمرة بلا حقوق حقيقية". جذور الأزمة: بوخارست 2008 امتد نقد تيموشينكو إلى الجذور التاريخية للأزمة، معتبرة أن تردد الناتو في الإعلان عن خطة عضوية واضحة خلال قمة بوخارست 2008 "شجّع موسكو على العدوان". وأكدت: "من صوتوا ضد انضمامنا حينها يتحملون جزءاً من مسؤولية المأساة اليوم"، في إشارة واضحة لموقف ألمانيا وفرنسا المعارض آنذاك رغم الدعم الأمريكي. وأثارت التصريحات غضباً في الأوساط الحكومية، حيث وصفها النائب أولكسندر ميريجكو من الحزب الحاكم بـ"العبثية"، مؤكداً أن الخبراء الأجانب موجودون "بموافقة طوعية لضمان الشفافية". لكن تيموشينكو ردت بحدة: "لا يجوز للغرب أن يطلب منا الموت لأجله ثم يستعمر مؤسساتنا". بينما حذرت مؤسسة "ديجور" القضائية من تقاطع خطابها مع سردية الكرملين الداعية لتصوير أوكرانيا كـ"دمية غربية". وكانت تقارير قد كشفت عن لقاءات سرية جمعت تيموشينكو وممثلي الرئيس السابق بوروشينكو مع وفد من معسكر ترامب، ناقشت - وفق مصادر إعلامية - إمكانية إجراء انتخابات وقت الحرب. ونفت تيموشينكو ذلك، مؤكدة أن المباحثات ركزت على "المساعدات العسكرية وشروط إنهاء الحرب"، مع التشديد على "الخطوط الحمراء" المتمثلة في عدم التنازل عن الأراضي أو الاعتراف بسيادة روسيا على القرم. ورغم تراجع شعبيتها (5 % في استطلاعات الرأي)، لم تستبعد زعيمة "باتكيفشينا" طموحاتها الرئاسية قائلة: "المستقبل يُحدد بعد الحرب.. جلّ اهتمامنا الآن هو الصمود". aXA6IDE3Mi4xMDIuMjEwLjExIA== جزيرة ام اند امز NL


الاتحاد
منذ 10 دقائق
- الاتحاد
مهرجانات الرطب وحفاوتنا بالنخيل
مهرجانات الرطب وحفاوتنا بالنخيل مع إكمال مهرجان ليوا للرطب دورتَه الـ21 وتنظيم 3 مهرجانات أخرى في دبي والذيد وعجمان، خلال الصيف الجاري، لم أستغرب هذه الحفاوة الإماراتية بالشجرة المباركة وثمارها الطيبة، فلقد شكلت النخلة رمزاً للخير في وجداننا وركناً من أركان الهوية، وركيزةً للأمن الغذائي. ومثل هذه المهرجانات تجسّد نهجَ الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، بترسيخ الهوية الوطنية وغرس القيم التراثية الأصيلة في نفوس أبناء المجتمع، كما تعكس المكانة التاريخية للنخيل وتؤكد ضرورة المحافظة عليه، وتعزز رؤية الإمارات في دعم الموروث كمصدر إلهام مجتمعي. لا شك في أن النخلة لها شأن عظيم، فقد ذُكرت في القرآن الكريم وفي السنّة النبوية وتناولها الشعراء في أشعارهم، وارتبطت بالحضارات الأولى قبل نحو 5000 سنة، والتمر يشكل أهم مصدر غذائي في المناطق الصحراوية. والنخلة يؤكل ثمرها رطباً ويابساً، ويستخدم جذعها وأوراقها كمواد للبناء، وتستعمل أوراقها في صناعة السلال والحصير، وألياف النخلة تستخدم في صنع الحبال، ونواتها تستخدم كطعام للبهائم ويمكن أن تستخدم كوقود. فهي إذن مصدر للغذاء والكساء ومواد البناء، عاش عليها آباؤنا وأجدادنا وما زلنا نعيش نحن على رطبها في الصيف وتمرها في الشتاء. ومنذ عصور قديمة اعتبر العربي النخلةَ صديقتَه التي وقفت إلى جانبه على مر العصور، في مواجهة صعوبات الحياة وقسوة المناخ، فكانت مصدر الخير له، ووسيلته للحصول على الطعام والمواد التي كان يستخدمها في حياته. ويقول المؤرخ و. بارفيلد: «لو لم يوجد نخيل البلح، لكان تمدد الجنس البشري وتوسعه نحو المناطق القاحلة والحارة من العالم أكثر صعوبة، فالبلح لم يؤمّن الغذاء والطاقة بشكل يسهل تخزينه وحمله ونقله خلال رحلات طويلة في الصحراء فحسب، بل خلق موطناً للناس للعيش، عبر تأمين الظل والحماية من رياح الصحراء. كل أجزاء النخلة لها فائدة معينة». والإمارات من أكثر دول العالم اهتماماً بزراعة النخيل، حيث دخلت موسوعة «غينيس» في عام 2009 بأكثر من 40 مليون نخلة، كما حلّت في المرتبة الثالثة عالمياً في تصدير التمور عام 2021، بإجمالي صادرات بلغ 261.42 ألف طن، بقيمة تقارب المليار درهم. والأرقام في تصاعد، فالرطب والتمور الإماراتية تشهد إقبالاً متزايداً في الأسواق العالمية، وقد أصبحت من المنتجات الزراعية الوطنية التي يتم تصديرها إلى العديد من الدول حول العالم. ووفق مصادر الأمم المتحدة، يوفر امتلاك 10 أشجار من نخيل التمر دخلاً حده الأدنى 500 دولار أميركي للزيادة المطّردة في استهلاك التمور حول العالم، ومن ثمّ أصبح التمر محصولاً مدرّاً للمال الوفير في مناطق إنتاجه. ما سبق يؤكد أن زراعة النخيل لم تعد مجرد موروث ثقافي أو تراثي انتقل إلينا من الأجيال السابقة، بل أصبحت اليوم من الأعمدة الاقتصادية الحيوية التي تسهم بشكل مباشر في دعم صادرات الدولة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. ويمثل الرطب عنصراً مهماً وفق رؤية الدولة وخططها المستقبلية، إذ يُصنف التمر من بين 18 صنفاً غذائياً أساسياً حددتها الإستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي 2051، بناءً على معايير تشمل القدرة على الإنتاج والتغذية والحاجة المحلية. واللافت أن المهرجانات لا تحتفي بالرطب فقط، بل تدعم المزارعين اقتصادياً، وتوفر منصات مهمة لتصريف الإنتاج وإبرام الصفقات، إلى جانب الجوائز المجزية والمسابقات التي تحفّز التنافس والإبداع الزراعي، كما تُعد ملتقيات علمية تسهم في تطوير المعرفة والخبرة في مجال زراعة النخيل من خلال ورش العمل والبرامج التثقيفية. لا شك في أن الحدثَ يشكل رسالةً اجتماعيةً ووطنيةً، تهدف إلى ترسيخ ارتباط الإنسان بأرضه، وبالموروث الذي هو جزء كبير من هويته، ويسهم في إرساء قيم التعاون والانتماء من خلال أنشطته التي تهدف لصون التراث ونقله للأجيال الجديدة. ولأن النخلة تُعد رمزاً للهوية، وضعت الإمارات صورتها على إحدى عملاتها النقدية واختارتها بعض الدول العربية كشعار لها، مثل السعودية وموريتانيا، كما تسعى العديد من دول المنطقة إلى ضم النخيل إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو. النخلة إذن ليست مجرد شجرة، بل رمز للكرم والجذور والارتباط بين الأجيال، وهي حاضرة دائماً في منازلنا، وخلف كل نخلة شامخة، وكل ثمرة رطب طيبة، حكايةٌ تُروى عن وطن آمن بأن الزراعة حضارة، وأن الحفاظ على التراث هو استثمار في الهوية. إن مهرجانات الرطب لم تعد مجرد فعاليات موسمية، بل أصبحت أعياداً وطنية لتمجيد النخلة، وتكريم مَن يغرسها، والاحتفاء بمن يرعاها، وتمكين مَن يبني بها مستقبل الغذاء والاقتصاد في بلادنا.