logo
استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بجائزة غونكور الفرنسية

استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بجائزة غونكور الفرنسية

الجزيرة١٧-١١-٢٠٢٤

ملوحا بها من شرفة مطعمٍ في باريس، أطل الكاتب الجزائري الفرنسي كمال داود على الصحافيين مع روايته الحورِيات (Houris) بعد إعلان فوزها بجائزة غونكور التي تُمنح سنويا لأفضل عمل أدبي مكتوب بالفرنسية.
وتعد الرواية الصادرة عن دار غاليمار الثالثة لهذا الكاتب البالغ 54 سنة، وفيها يستعيد أحداث "العشرية السوداء في الجزائر" بين سنتي 1992 و2002.
وفاز داود بالجائزة بعد حصوله على 6 أصوات من أصل 10 من المحكمين، وعاد منها صوتان للفرنسية إيلين غودي، وصوت واحد لكل من الفرنسية ساندرين كوليت والرواندي غاييل فاي الذي يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الثقافية الفرنسية، بعد أن بيعت 173 ألف نسخة من روايته "جاكارندا" التي تتناول تفاصيل مجازر الإبادة الجماعية التي وقعت في بلاده.
وأثار تتويج داود جدلا واسعا بالجزائر حيث قسّم المتابعين إلى طرفين، أحدهما يعتبره "مكافأة على الجمالية والمتانة الفنية لروايات كمال وتكريما أدبيا للرواية الجزائرية" والآخر يتهم داود بتبني النظرة الفرنسية وترويج أطروحات نمطية ذات طابع استشراقي تدغدغ الكليشيهات الغربية عن العرب والمسلمين، خاصة بعد مقالاته التي تبنى فيها السردية الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتصريحه السابق بأنه فرنسي أكثر من الفرنسيين.
وقد اعتبرت أكاديمية غونكور التي تمنح الجائزة أنها بتتويج "الحوريات" فإنها تتوج كتابا تتنافس فيه القصائد الغنائية مع المأساة، ويعطي صوتا للمعاناة المرتبطة بفترة مظلمة في الجزائر، وخاصة النساء.
ولا يبدو مفاجئا تتويج داود الذي عايش حقبة التسعينيات في الجزائر وتعامل معها وقتئذ كصحفي، خاصة لدى بعض المتابعين الذين استبقوا الحدث وتنبؤوا بذلك معتبرين أن هناك عوامل سياسية تصب في مصلحة صاحب "ميرسو، تحقيق مضاد"، التي استلهمت رواية "الغريب" للروائي الفرنسي ألبير كامو الذي قتل فيها بطله شخصا جزائريا لم يزد على وصفه بـ"العربي"، ليسرد "التحقيق المضاد" حكاية القتل على لسان أخ الضحية.
تكريس النظرة النمطية تجاه الأفارقة
في كتابه " اختلاق الساحل" (L'invention du Sahel) الصادر سنة 2022، يخصص الكاتب الفرنسي جان-لو أمسيل حيزا لكشف العلاقة بين المثقفين المنحدرين من أفريقيا وبين النخب الثقافية الفرنسية. فعبر قراءة أعمال الأفارقة التي توجت سابقا بالجوائز الأدبية الفرنسية، وأبرزها غونكور، يحاول أمسيل كشف الخيط الناظم بينها.
ويرى الكاتب الفرنسي أن النجاح الذي لاقاه المشهد الفني لدول الساحل في فرنسا يرجع بالأساس إلى تنسيق أعمال أبرز ممثليه مع المفاهيم والقيم الغربية. ولعل العلاقة بين هؤلاء الكُتاب وبين النخب الثقافية والإعلامية الفرنسية الراغبة في إظهار مناهضتها للعنصرية -عبر الانفتاح على أشكال التعبير الغربية- ضبطت إيقاع إنتاجهم الأدبي ضمن قوالب معدة مسبقا من قبل فرنسا حددت مسار أعمالهم وما تتناوله من قضايا.
ولا ينفي أمسيل جودة هذه الأعمال ومهارة أصحابها، إلا أنها بالنسبة له تتبنى النظرة الفرنسية عن الأزمات السياسية والاجتماعية، وتكرس النظرة النمطية تجاه شعوب أفريقيا، في انسجام تام مع الإطار الفكري للدوائر الغربية والقضايا التي تدافع عنها، ارتباطا بمساعي تجميل باريس لماضيها وغض النظر عن الجرائم المرتكبة في مستعمراتها.
هل القيمة الأدبية تكفي؟
وقد كان الطاهر بن جلون عضو أكاديمية الجائزة قد أكد -في تصريح لقناة فرانس 24 عقب إعلان فوز "الحوريات" بجائزة غونكور- أن اختيار هذه الرواية نابع من دوافع أدبية، مضيفا أن قرار اللجنة اتخذ بعد نقاش كبير عن قيمتها الأدبية، في حين ظلت المعايير السياسية هامشية.
غير أن بن جلون، الفائز سابقا بنفس الجائزة، لم يتناول الجوانب الفنية للرواية بقدر ما تحدث عن موقف الجزائر الرسمي تجاه تلك الحقبة الدامية من تاريخ البلاد، معتبرا داود معارضا سياسيا ومطالبا بحرية التعبير في بلده، على حد تعبيره.
غير أن البروفيسور الجزائري واسيني الأعرج لا يذهب بعيدا عن أطروحة أمسيل، متسائلا "هل القيمة الفنية هي المحدد الوحيد للجائزة أم موقف كمال داود من القضية الفلسطينية، اللغة العربية، ومما يحدث في بلده؟".
ويعدد الأعرج -في منشور له على فيسبوك- الكُتاب الجزائريين الفرانكفونيين الذين قضوا زمنا طويلا يجتهدون في الحصول على هذه الجائزة دون جدوى، بينهم الحاج حمو الذي يعد حسب الأعرج من مؤسسي الأدب المكتوب بالفرنسية بهوية وطنية وصاحب أول رواية فرانكفونية (زهرة زوجة المنجمي) ولم ينجح في الظفر بها، مثله مثل محمد ديب الذي يعتبره صاحب شرفات بحر الشمال "الأب الروحي الذي منح الأدب الفرانكفوني حق التمايز الوطني، ولا حتى كاتب ياسين الذي يقول واسيني إنه طور الرواية العالمية وليس فقط المغاربية، وكذلك آسيا جبار التي "بقيت في خلفية مشهد هذه الجائزة على الرغم من احتلالها كرسي الخالدين في الأكاديمية الفرنسية".
للنجاح ثمن باهظ
من جهته اعتبر الأكاديمي والناقد الجزائري لونيس بن علي أن للنجاح -في سياقنا العربي- ثمنا باهظا، إما من جهة سيادة ثقافة عدم الاعتراف بالناجح، أو من ناحية الكتابة لإرضاء لوبيات ثقافية أو إعلامية.
وفي حديثه للجزيرة نت، قال بن علي "أعتقد أن داود ضحية لنجاح روايته الأولى (ميرسو.. تحقيق مضاد، أو معارضة الغريب كما تمت ترجمتها إلى العربية) لكنه أيضا ضحية مواقفه من قضايا حساسة، يصعب طرحها في بيئة لا تقبل بالرأي المختلف، وترفض ممارسة التقويض الشامل للقناعات الراسخة حول الدين أو التاريخ".
ويضيف بن علي -أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن بجامعة بجاية- "فنيا، داود روائي تتمتع رواياته بقدر عال من الجمالية والمتانة الفنية والذكاء في مقاربة موضوعاته، سواء في روايته الأولى (ميرسو.. تحقيق مضاد) أو في روايته (فنان يلتهم امرأة) أو في رواية (زبور أو المزامير) ثم أنه لم يشذ عن أسلوبه في روايته الأخيرة (الحوريات/حور العين) التي فاز من خلالها بجائزة غونكور".
وتابع الناقد الجزائري "ما يكتبه داود يقف فوق أرض متحركة، لأنه يمارس خلخلة القناعات، ويتمرد على العقائد السياسية، لكن يتهمه الكثيرون بأنه يكتب تحت أجندة سياسية تخدم الغرب، خاصة موقفه من القضية الفلسطينية، أو من الدين، أو حرية المرأة، او العشرية السوداء في الجزائر".
وقبل أن ينهي حديثه يقول "لكن، لا يجب على البعض أن ينسى أنّ الكثير من مقالاته جلبت له العداء حتى في أوروبا نفسها، مما يعني أنه كاتب لا يعترف بالحدود، ويكتب بروح نقدية".
تتويج لواحد من أسئلة الكتابة
أما فتحية دبش الكاتبة والناقدة التونسية المقيمة في فرنسا، فقد أكدت -في حديث للجزيرة نت- أن ما يلفت انتباهها بشكل شخصي هو "هشاشة الكاتب العربي في المنفى بلسان غير عربي، وعدم قدرته على الاستفادة من موقعه في الخارطة الأدبية والفكرية -كما هو شأن داود في فرنسا- وعجزه على تعميم رفضه لكل أيديولوجيات القتل شرقا وغربا".
وأضافت صاحبة رواية "ميلانين" أن فوز "الحوريات" سيراه البعض مكافأة لداود على سقوطه في أحضان الآلة الأيديولوجية الاستعمارية، بينما سيراه آخرون على أنه استحقاق لمن يكتب بالفرنسية ويجاهر بمواقفه من عشرية القتل باسم الدين في الجزائر". وتضيف "لكنه يظل -مهما كان موقفنا من موقف داود- فوزا لواحد من أسئلة الكتابة" وتسليطا للضوء عليها.
جدير بالذكر أن القيمة المالية لجائزة غونكور لا تتجاوز 10 يوروهات رمزية، لكنها تؤمن للحاصلين عليها شهرة كبيرة وتضمن بيع مئات الآلاف من النسخ، فضلا عن ترجمة أعمالهم إلى لغات أخرى.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مستقبل مجهول للقارئين البشريين في قطاع الكتب الصوتية
مستقبل مجهول للقارئين البشريين في قطاع الكتب الصوتية

الجزيرة

time١٨-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

مستقبل مجهول للقارئين البشريين في قطاع الكتب الصوتية

دفعت التكلفة العالية لجعل شخص يقرأ كتابا كاملا بعض منتجي النسخ الصوتية من المؤلفات إلى الاستثمار في استنساخ الأصوات والأصوات الاصطناعية، وهي ظاهرة يسلّط عليها الضوء مهرجان باريس للكتاب. خاض رؤساء دول سابقون هذا التحدي. على سبيل المثال، سجل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عام 2021 أكثر من 13 ساعة من مذكراته الرئاسية "لو تان دي تامبيت" Le Temps des tempetes، بينما سجّل الرئيس الأميركي باراك أوباما "ايه بروميسد لاند" A Promised Land في العام 2020 على مدى 29 ساعة. وثمة كتب أخرى قرأها ممثلون. في فرنسا، وضع الممثل دوني بوداليديس صوته على رواية "مارتن إيدن" للكاتب جاك لندن. أما رواية "الحوريات" التي نال كمال داود بفضلها جائزة غونكور الفرنسية، فقرأتها لولا نايمارك. لكن مستقبل إنتاجات من هذا النوع، سواء كانت مكلفة أم مكلفة جدا، غير واضح بين الكتب الصوتية التي باتت تعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي. وكان مهرجان باريس للكتاب الذي أقيم من 11 إلى 13 نيسان/أبريل، مناسبة لإعلانين في هذا الصدد. تقول "ليبرينوفا"، الشركة الفرنسية الأهم في مجال النشر الذاتي، إنها تستخدم "تكنولوجيا استنساخ الصوت التي توفّر جودة أعلى بكثير من جودة الأصوات الاصطناعية، التي غالبا ما تكون آلية جدا". وتقوم هذه التكنولوجيا على أن يسجّل المؤلف بصوته جزءا صغيرا فقط من كتابه ثم يتولى الذكاء الاصطناعي قراءة الجزء الآخر بالصوت نفسه. كتب بأصوات اصطناعية أعلنت منصة "سبوتيفاي" للبث التدفقي أنها تستثمر مليون يورو في "كتب ترويها أصوات اصطناعية"، أي آلة تحاكي الصوت البشري بدقة متزايدة. وأوضحت أنّ "تكاليف الإنتاج المرتفعة والاعتماد الذي لا يزال ناشئا على الكتب الصوتية له عواقب تتمثل في الحدّ من العرض والكتب المتوافرة بالفرنسية". وتذكر "سبوتيفاي" بوضوح لمستخدميها لمن يعود الصوت الذي يقرأ لهم، لكي يقرروا بأنفسهم ما إذا كانوا يوافقون أم لا على الصوت الاصطناعي. لا تتخلى المنصة السويدية عن الكتب التي يقرأها بشر. وفي حديث إلى وكالة فرانس برس، يقول الرئيس التنفيذي لدار نشر "أوغو" أرتور دو سان فنسان، "إنها تساعد الناشرين عن طريق تمويل جزء من الإنتاج. ولكي تتطوّر سوق وتنضج، يتطلب الأمر مختلف أنواع الدعم". وستوفر "أوغو" بالتعاون مع دار نشرها الأم "غلينا" 200 كتاب جديد في السنوات الثلاث المقبلة. ويقول رئيس دار "اوغو": "نحن في مرحلة تطوير تسمح لنا بالاستثمار في إنتاج عالي الجودة. لذا، نحرص على اختيار الأصوات، والعمل مع ممثلين، والتمسّك بمبادئنا في كل مرة". ليس لدى الجميع المال الكافي لمواكبة ذلك. في العام 2021 كتبت "أوديبل" Audible الاولى عالميا في الكتب الصوتية والتابعة لشركة "أمازون"، عبر موقعها الإلكتروني الفرنسي "في البداية، كانت الكتب الصوتية تستخدم الصوت الاصطناعي، أي الصوت المُنشأ بواسطة الكمبيوتر. أما اليوم، فيُفضَّل الصوت البشري لأنه يُتيح قربا أكبر من القارئ، ونبرة صوت أفضل". وبعد أربع سنوات، يؤدي البحث عن "الصوت الافتراضي" في لائحة كتبها باللغة الإنكليزية إلى "أكثر من 50 ألف نتيجة". والغالبية العظمى من الكتب هي من تأليف كتّاب غير معروفين. وتترك جودة هذه القراءة تقييمات متباينة، فمنها ما يحمل حماسة للتقدم السريع لهذه التكنولوجيا، بينما تظهر أخرى تشكيكا بشأن حدودها. تقول أليسانيا، وهي مؤلفة روايات بالإنكليزية نشرت أعمالها عبر "أمازون"، في منشور عبر منصة "اكس": "لا أعتقد أن السرد القصصي باستخدام الذكاء الاصطناعي جيّد في ما يتعلق بمشاعر الشخصيات". لا تتلعثم أصوات الكمبيوتر مطلقا وترتكب أخطاء أقل في نطق الأسماء بشكل صحيح. لكن مع الوقت يمكن أن تصبح رتيبة، فهي لا تعرف حتى الآن كيفية التسريع أو الإبطاء، أو إظهار تعبيرات ومشاعر كالانزعاج أو الاختناق أو فقدان القدرة على التنفس أو البكاء.

رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية الفرنسية للعالمية
رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية الفرنسية للعالمية

الجزيرة

time١٩-٠٢-٢٠٢٥

  • الجزيرة

رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية الفرنسية للعالمية

توفيت الروائية والكاتبة المسرحية الكندية أنتونين ماييه عن عمر ناهز 95 عامًا، وفق ما أعلنت دار النشر المسؤولة عن أعمالها يوم الاثنين. وتُعد ماييه أول مؤلِّفة غير أوروبية تفوز بجائزة غونكور الأدبية الفرنسية العريقة، لتترك بصمة لا تُمحى في الأدب الفرنكفوني. ولدت أنتونين ماييه عام 1929 في مقاطعة نيو برونزويك بشرق كندا، وهي منطقة تُعرف بتاريخها العريق كموطن للأكاديين، وهم السكان الناطقون بالفرنسية في أميركا الشمالية على ساحل المحيط الأطلسي. كرّست ماييه جزءًا كبيرًا من مسيرتها الأدبية لإبراز تاريخ وثقافة الأكاديين، مسلطة الضوء على نضالهم ومعاناتهم في وجه الاضطهاد والتهميش. وفي عام 1979، دخلت ماييه التاريخ عندما أصبحت أول كاتبة من خارج أوروبا تفوز بجائزة غونكور، وذلك عن روايتها "بيلاجي لا شاريت" (Pélagie-la-Charrette)، التي تحكي قصة امرأة تقود رحلة عودة الأكاديين إلى موطنهم الأصلي بعد أن رحّلتهم القوات البريطانية قسرًا إلى جنوب الولايات المتحدة قبل 270 عامًا. ووصفت ماييه في أحد تصريحاتها ذلك التهجير القسري بأنه "من أولى عمليات التطهير العرقي في تاريخ الغرب". لم تقتصر أعمال ماييه على سرد التاريخ الأكادي فحسب، بل برعت أيضًا في إحياء اللهجة المحلية لشعبها من خلال شخصيتها الأدبية الأشهر في كندا "لا ساغوين"، وهي عاملة تنظيف عفوية وجريئة تستخدم لهجة "شياك"، وهي مزيج من الفرنسية القديمة والإنجليزية. أصبحت هذه الشخصية رمزًا ثقافيًا في نيو برونزويك، حتى إنها ألهمت إنشاء متنزه ترفيهي يستقطب آلاف السياح سنويًا. على مدار حياتها، أصدرت ماييه نحو 40 كتابًا تنوعت بين الرواية والمسرح، واستمرت في الدفاع عن الثقافة الفرنكفونية في كندا، مما جعلها صوتًا أدبيًا فريدًا في العالم الناطق بالفرنسية. أكاديو أميركا والأكاديون هم أحفاد المستوطنين الفرنسيين الذين استقروا في القرنين الـ17 والـ18 في منطقة أكاديا الواقعة في شمال شرق أميركا الشمالية، والتي تشمل اليوم مقاطعات نيو برونزويك، نوفا سكوشا، جزيرة الأمير إدوارد وأجزاء من كيبيك وولاية مين الأميركية. ينحدر معظم الأكاديين من مناطق جنوب وغرب فرنسا، بينما يدّعي بعضهم أصولًا مختلطة مع الشعوب الأصلية للمنطقة. تأثر تاريخهم بشدة بالحروب الاستعمارية الفرنسية-البريطانية، والتي بلغت ذروتها في الحرب الفرنسية والهندية، مما أدى إلى ترحيلهم القسري على يد البريطانيين في منتصف القرن الـ18. بعد الطرد، تفرّق الأكاديون في أنحاء مختلفة، إذ عاد بعضهم إلى أكاديا، بينما هاجر آخرون إلى فرنسا، أو إلى لويزيانا حيث عُرفوا لاحقًا باسم "الكاجون" نتيجة تحريف لفظ كلمة "أكاديون". شهد القرن الـ19 نهضة أكادية عززتها القصيدة الشهيرة "إفانجيلاين"، التي أسهمت في إحياء هويتهم الثقافية. وفي القرن الـ20، ناضل الأكاديون لتحقيق المساواة اللغوية والثقافية في المقاطعات البحرية الكندية، حيث أصبحوا أقلية ذات حقوق معترف بها. تكريم عالمي وحزن واسع لقي رحيل ماييه صدى واسعًا في الأوساط الثقافية والسياسية، حيث نعاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في منشور عبر منصة "إكس"، مشيدًا بـ"نتاجها الضخم (…) وقوتها المتمردة، وحوارها الذي كان يسمو بالروح"، مضيفًا أن "الفرنكفونية تنعيها، من أكاديا إلى المحيط الهادي"، ومؤكدًا أن التزامها باللغة الفرنسية سيبقى حاضرًا. من جانبها، شددت وزيرة الثقافة الكندية باسكال سانتونج على أن "إرث ماييه الأدبي سيظل خالدًا"، مشيرة إلى تأثيرها العميق في الأدب الكندي والفرنكفوني. وفي اعتراف بمكانتها الأدبية العالمية، قُلِّدَت ماييه وسام جوقة الشرف الفرنسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وكانت تقيم في شارع بمدينة مونتريال يحمل اسمها، تكريمًا لإنجازاتها الثقافية.

كيان في طريقه للفناء.. نظرة السينما الوثائقية الإسرائيلية لمستقبل على حافة الهاوية
كيان في طريقه للفناء.. نظرة السينما الوثائقية الإسرائيلية لمستقبل على حافة الهاوية

الجزيرة

time١٢-٠٢-٢٠٢٥

  • الجزيرة

كيان في طريقه للفناء.. نظرة السينما الوثائقية الإسرائيلية لمستقبل على حافة الهاوية

في مقالته 'الجدار: حوار من طرف واحد'، يروي الكاتب المسرحي البريطاني 'ديفيد هير' محادثة مع صديق إسرائيلي في جلسة شاي بالقدس. فقد قال صديقه: إسرائيل قوية وعدوانية أمام العالم، لكنها هشة من الداخل، ليست لديها ثقة حقيقية في بقائها، والشعب الإسرائيلي يفتقر إلى الإحساس بالاستقرار في المستقبل. ما من إسرائيلي يخطط لزمن طويل من غير أن يتساءل: هل سنظل موجودين؟ هذا الشعور الذي يشبه حالة الشتات، يعكس إحساسنا أننا بلا جذور؛ قادرون على التكيف، لكن غير قادرين على الاستقرار. بعد ستين عاما، لا تزال إسرائيل وطنا غير مكتمل. يُنبئ هذا الكلام عن شعور دائم بالتهديد، ووجهة نظر تشاؤمية بشأن المستقبل الإسرائيلي، ونحن نرى دائما أن لذلك الشعور صدى، حتى في خطاب الحكومات الإسرائيلية، فهي تلجأ منذ نشأتها لتبرير جرائمها بالدفاع عن نفسها، بترويج الخطاب المتعلق بعيش اليهود في بيئة عدائية، ترغب أن تُعمل فيهم محرقة أخرى. وفور انتهاء حملات الردع الإسرائيلية بنجاح، يتحول خطاب الحكومة من المحرقة إلى داود الذي صرع جالوت بحجر. ولكن يبقى شعور الفناء والهلاك لدى قطاع من المجتمع الإسرائيلي. نستطيع أن نرى صدى ذلك الشعور معكوسا في تمظهرات عدة، منها الأدب الروائي والشعر والمسرح، وكذلك النقاشات الأكاديمية بالجامعات، والبرامج التلفزيونية اليومية، ناهيك عن السينما، روائية كانت أو وثائقية. يمكن للسينما الوثائقية بالتحديد أن تخبرنا كثيرا عن تلك الحالة في البنية النفسية الإسرائيلية، ذلك لكون الوثائقيات وسيطا يمكن الوصول إليه أسرع، من دون عوائق لغوية تتعلق ببطء حركة الترجمة للأدب العبري. كما أن للسينما الوثائقية ميزة أخرى في صلب سماتها، فهي تتعامل بأدوات البحث التاريخي والاجتماعي والإنساني، ويقل فيها -أو يكاد ينعدم- التخييل الروائي، الذي يفرغ الواقع من دلالاته المرجعية الحقيقية، ويلجأ لدلالات متخيلة على نحو أكثر جمالا وتشويقا، وذلك ما قد يحضر في الفيلم الروائي العادي عند مناقشة قضية معينة. لذلك يبدو الفيلم السينمائي الوثائقي وثيقة تاريخية اجتماعية مرئية لا مكتوبة، حين يقدم تقديما جيدا وموضوعيا. قراءة الواقع الإسرائيلي من السينما الوثائقية شهدت السينما الوثائقية الإسرائيلية في السنوات الماضية نهضة جعلتها كثيرة الحضور في المشهد العالمي خارج إسرائيل، لا سيما من خلال الاعتماد على سمات النقد الذاتي لأفعال الجيش الإسرائيلي المشينة. يقول موقع 'قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت' (IMDb) إن السنوات العشر الماضية شهدت إطلاق 302 من الأفلام الوثائقية الإسرائيلية، وإذا افترضنا وجود هامش خطأ في التصنيف، فسيظل العدد ضخما، مقارنة بحجم الكيان الصغير. لقد رأينا عدة أفلام رُشحت لجائزة الأوسكار، عن أفضل فيلم أجنبي، وأفضل فيلم وثائقي، منها فيلم الدراما الوثائقية 'رقصة فالس مع بشير' (Waltz with Bashir)، للمخرج 'آري فولمان' (2008). ومنها فيلم 'حراس البوابة' (The Gate Keepers)، للمخرج 'درور موريه' (2012). ولكن أفلاما من هذه النوعية لا تزيد عن كونها نوعا من أموات القتل ثم التباكي، تعتمد على منهج المؤرخين الصهاينة الجدد من أمثال 'بيني موريس' في التعامل مع الأرشيف الإسرائيلي، بنوع من أنواع تصحيح السردية الصهيونية الأسطورية التي لا تصمد في وجه التمحيص والنقد، واستبدالها بسردية أكاديمية أخرى، تتعامل مع التاريخ كما كان، لا تاريخا مليئا بالأبطال الإيجابيين والرؤى المثالية. وبالتوازي مع أفلام تلك النوعية، توجد أفلام أخرى قدمها مخرجون من أطياف اليسار ومعسكر السلام، تساعد الناظر فيها على استخلاص انطباع عام عن الشعور بالمستقبل المشؤوم الآتي حتما، بوصفه نتيجة لمشكلات الحاضر، التي تتركز مواضيعها على كون إسرائيل مجتمعا غربيا أبيض، يواجه مشكلات خطيرة في العلاقة مع الآخر الفلسطيني. وهناك مجتمع آخر يهودي شرقي (المزراحي)، وهو مجتمع زادت حالة الاستقطاب فيه، تحت وطأة تيار في حكومة يمينية صهيونية متطرفة، تحكم البلاد منذ أكثر من عقد، وقد قادت الكيان لأكبر أزمة دستورية منذ تأسيسه، وطرحت سيناريو الخوف من الفناء والهلاك بجدية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، سنحاول أن نناقش عددا من الأفلام التي تنبئ عن مصير مشؤوم، مرده إلى تلك القضايا بالتحديد. 'الصندوق الأزرق'.. تبرعات يهود العالم لدعم هندسة التهجير يعد فيلم 'الصندوق الأزرق' (Blue Box) الذي أخرجته 'ميشال فايتز' (2021) من الأفلام التي تساعد على فهم حاضر العلاقة ومستقبلها مع الآخر الفلسطيني، من خلال فتح بطن التاريخ. للفيلم بطلان؛ أولهما مؤسسة 'الصندوق القومي اليهودي'، الذي أُسس عام 1901 لدعم المجهود الصهيوني للاستحواذ على الأراضي الفلسطينية بالتبرعات، وقد كان يطلب من الأطفال والكبار اليهود والمتحمسين للمشروع الصهيوني حول العالم أن يتبرعوا ولو بدرهم يوضع في الصندوق الأزرق المعدني الصغير. ونرى في أحد المشاهد الأرشيفية دعاية تقول: حين ترفع يدك لتضع قطعا نقدية في الصندوق، ترفع يدا أخرى في أرض إسرائيل، لتطهير فدان آخر وحرثه وزراعة شجرة أخرى. أما ثاني الأبطال فهو 'جوزيف فايتز'، وهو جد مخرجة الفيلم، وشهرته في إسرائيل 'أبو الغابات الإسرائيلية'، وهو وعائلته ذوو مكانة رفيعة لدى الشعب الإسرائيلي حتى الآن، لكونه صاحب مشروع تشجير إسرائيل، وملء 'صحاريها' بالغابات الشجرية. ولكن المخرجة خلال بحثها في الأرشيف وجدت أن لجدها لقبا آخر ممحوا من السجلات الرسمية، ألا وهو 'مهندس التهجير'. كان 'جوزيف فايتز' مهاجرا روسيا، جاء وهو ابن 18 عاما إلى فلسطين مطلع القرن العشرين، في موجات الهجرة المبكرة حتى قبل وعد بلفور، وحين تفتش المخرجة مذكراته تجدها تشهد أن تلك الأرض لم تكن 'أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض' كما تروج الأسطورة الصهيونية الوطنية، بل تحفل مذكراته بأوصاف عن أرض خصبة، يدأب الفلاحون العرب على زراعتها موسما بعد آخر. ويقدم الفيلم رسومات بيانية بناء على المعلومات الواردة في المذكرات، فتشرح الفرق العددي الكبير جدا بين العرب واليهود، الذي أخذ يتضاءل سنة بعد أخرى حتى النكبة، ففي عام 1910 كان عدد العرب 650 ألفا، ولم يتخط اليهود ثمانين ألفا. 'لقد آلمني الأمر، لكن مصلحة شعبي تأتي أولا' يضرب فيلم 'الصندوق الأزرق' سردية أخرى تتعلق بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم وقبضوا الثمن، من خلال حملة الاستملاك الصهيونية، ففي عام 1932 كلف 'فايتز' بمنصب رفيع في الصندوق القومي اليهودي، للتفاوض على الأراضي وامتلاكها باسم الصندوق، ويتضح أن كثيرين ممن باعوا أراضيهم للصندوق كانوا من الطبقة البرجوازية، التي تقيم خارج فلسطين، وتتوزع بين دمشق وحلب والقاهرة وبيروت. وقد سهلت بيع الأراضي تلك الرأسمالية الزراعية التي سادت في تلك الحقبة، وهي تقوم على ما يسمى الملكية الغائبة، التي تفوق النمط الإقطاعي سوءا، فالملاك يعيشون في العواصم والمدن الكبرى، ولا يربطهم بأرضهم إلا الدخل الذي يعود عليهم منها. ولم تكن لحارث الأرض أي حقوق واضحة إزاء مالكها، ولم يكن هناك نوع من العقد المكتوب أو غير المكتوب، لذلك استطاع 'فايتز' طرد المزارعين من أراضيهم بالقوة أو باللين، ولقد دوّن مشاعره تجاه ذلك قائلا: لقد آلمني الأمر، لكن مصلحة شعبي تأتي أولا. 'بعد نقل العرب تُفتح البلاد على مصراعيها لنا' يحتوي الفيلم مادة أرشيفية مهمة ونادرة التقطتها كاميرا 'فايتز'، من قرى فلسطينية خاوية على عروشها، نكبت في عام 1948، واضطر 750 ألفا من أهاليها للهجرة واللجوء مؤقتا إلى أن تنتهي الحرب. ولكن الحرب انتهت بخرق 'ديفيد بن غوريون' قرار الأمم المتحدة 194 الخاص باللاجئين الفلسطينيين، فعيّن الحكومة الإسرائيلية وصية على تلك الأراضي الفارغة، ثم باع 250 ألف فدانا للصندوق القومي اليهودي، الذي أوكل مشروع طمس معالم القرى بتشجيرها إلى 'جوزيف فايتز'. ومن هنا اكتسب لقب 'مهندس التهجير'، وحقق حلمه الذي كتبه في مذكراته عام 1940: بعد نقل العرب، ستفتح البلاد على مصراعيها لنا، لا يجب ترك قرية أو عشيرة، لا يوجد حل آخر. 'وهبنا الصندوق الأزرق ومفتاحا لصندوق أسود' تعتمد المخرجة على لقاءات مع أفراد عائلتها؛ الجيل الثاني من أبيها وأعمامها، والجيل الثالث من أحفاد 'فايتز'، فتواجههم بتلك الحقائق التي تتكشف لها عن جدهم، وترصد ردود أفعالهم بالكاميرا. إن تلك المواجهة تضعنا أمام صورتين للمجتمع الإسرائيلي المعاصر، فتبدو المخرجة 'ميشال فايتز' مناصرة للحقيقة ولحقوق الفلسطينيين، مع أنها غيبت الصوت العربي في الفيلم، فلم ينعكس إلا من مذكرات جدها، وفي المقابل أبوها الذي يخبرها في نهاية الفيلم أنه لا يريد أن يشترك في هذا العار الذي تفعله بحق جدها، فلو أنها كانت موجودة في زمانه، لما استطاعت أن تراه إلا بطلا. لقد وجدت المخرجة -وهي تقرأ المذكرات صفحة بعد أخرى- أن جدها ترك لهم معضلة أخلاقية كبرى، ولكنها همت بالعمل على كشف الحقائق، لأنها رأت أنها ستساعد كثيرا في تحديد مستقبل إسرائيل مع الآخر الفلسطيني، إما بالتعايش أو استكمال المعادلات الصفرية، التي تعني فناء أحد الأطراف. وهكذا تذيل فيلمها بقولها: لقد كان جدي أبا الغابات، وكان مهندس التهجير أيضا، لقد وهبنا الصندوق الأزرق، لكنه وهبنا كذلك مفتاحا لصندوق أسود. 'المزراحيم.. المنسيون في أرض الميعاد' إن السردية التي فككتها المخرجة 'ميشال فايتز' في فيلمها هي السردية التاريخية التي يضعها الجهاز الأكاديمي، وتلك سردية عرّفها المؤرخ 'إيلان بابيه' في كتاب 'فكرة إسرائيل.. تاريخ السلطة والمعرفة'، بأنها 'سردية تاريخية يضعها الجهاز الأكاديمي، وتصبح الأداة الأساسية لبناء الذاكرة القومية الجمعية وترسيخها'. يقول 'بابيه': وقد ولى المؤرخون وجوههم قبل السجلات الأرشيفية السياسية، واتخذوها قبلة مقدسة للحقيقة، ورأوا أنفسهم أئمة هذه الحقيقة وسدنتها. ولكن نظرا إلى زمانية هذه الحقيقة، فإن الواجب لا يتمثل في حمايتها وحسب، بل في إثباتها كذلك، وهو إثبات يتحقق بالتكرار لا بالفحص والتحليل. بينما تواجه 'ميشال فايتز' مشكلة مع الآخر، ما زالت عصية على الحل تهدد مستقبل الدولة، تريد المخرجة 'ميشال بوغانم' أن تعيد إلى الضوء قضية أوهمت الحكومة نفسها بأنها قد حلت، وهي قضية اليهود الشرقيين (المزراحيم)، وذلك بفيلمها 'المزراحيم.. المنسيون في أرض الميعاد' (Mizrahim, les oubliés de la Terre Promise)، الذي أخرجته عام 2021. اليهود العرب.. صدمة المعاناة والتمييز في أرض الأحلام تنطلق 'ميشال بوغانم' من إطار العائلة أيضا، فتبدأ بقصة أبيها ذي الأصل المغربي، وقد قدم من الدار البيضاء، فاصطدم بدوائر الهجرة الصهيونية، التي رشّته ومرافقيه بمواد مطهرة، حتى لا يدخلوا بأوبائهم المجلوبة معهم من العرب. وقد ألقى هذا التمييز بظلاله منذ اللحظة الأولى عليه، وأصبح ذا دور فاعل في حركة 'الفهود السوداء'، التي أنشأها مجتمع المزراحيم على نمط نظيرتها في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد نشأت حركة الفهود السود في إسرائيل في حاضنة استشعرت القهر والمواطنة من الدرجة الثانية، بعد أن كانوا وُعدوا بالحلم الإسرائيلي. فحين قدم اليهود المزراحيم أول مرة إلى إسرائيل، كانوا في مرحلة متأخرة من الهجرات الصهيونية، ولم يكونوا جزءا من المشروع الصهيوني الأساس، وبسبب حروب إسرائيل مع العرب، أغري اليهود الشرقيون بسبب الظروف الضاغطة في مجتمعهم العربي بالهجرة إلى إسرائيل. ويجادل عباس شبلاق في كتابه 'يهود العراق: هجرة أم تهجير؟' بأن الحركة الصهيونية قد اقترفت تفجيرات في مدن العراق ضد اليهود العراقيين، لتجبرهم على الهجرة بسبب الشعور بالرفض من محيطهم العربي. وسعيا وراء 'الحلم الإسرائيلي'، وأرض اللبن والعسل، وبيوت شاطئ البحر التي تحدثت عنها 'لوسيت لنيادو' في مذكراتها 'الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين: وقائع خروج أسرة يهودية من مصر'، وجد اليهود القادمون من بلاد العرب أنفسهم في خدمة اليهودي الأشكنازي الأبيض، وبدلا من الأرض الموعودة وجدوا أنفسهم في معسكرات العبور المتربة، أو الثكنات الصحراوية الباردة. أجيال المزراحيم.. تحيز عرقي تكذبه الدعاية الحكومية تلتقي مخرجة 'المنسيون في أرض الميعاد' مع 3 أجيال من اليهود المزراحيم، لتعرض من خلال قصصهم وضع المزراحيم في المجتمع الإسرائيلي، وفي تتابع زمني، تحاول أن تعرض القضايا ومساراتها منذ البداية إلى اللحظة الراهنة، لتؤكد أن التحيز ضد مجتمع اليهود الشرقيين لم ينتهِ، وإن روجت الحكومات لعكس ذلك. إن ما حدث كما يظهر في السردية التي تقدمها المخرجة، هو أن الجيل الأول من المهاجرين قد لقي معاملة عنصرية من السلطات الصهيونية. فمنذ اللحظة الأولى في عام 1960 فُصل بين العرب والأشكناز في الفصول المدرسية، ووُطن أغلبهم مع عائلاتهم في مدن حدودية نائية متاخمة لمناطق الاشتباك مع فلسطين والأردن وسوريا ومصر، وقد اتخذوا مضخة للمصانع في المدن الحضرية للعمالة الرخيصة، التي يمكن الاستغناء عنها في أي وقت، بلا غطاء قانوني ولا حماية للحقوق. اختطاف أطفال اليمنيات.. جريمة الدولة بحق أبنائها أشد مظاهر قصة المزراحيم قتامة هي قصة اختطاف الأطفال اليمنيين من أمهاتهم، على أيدي ممرضات المستشفى، كما يذكر في الفيلم، فإن طفلا من كل ثمانية قد اختطف من أمه، وهي قصة غطتها إحدى حلقات برنامج 'المتحري' تحت عنوان بساط الريح. تقابل المخرجة أمهات يروين أنهن خُدعن وقيل لهن إن أطفالهن ماتوا فجأة، أثناء وجودهم في الحضانة بالمستشفى، واضطر المستشفى لدفنهم بسرعة، والحق أن المستشفى أعطاهم لوكالات تبنٍّ، تسهل للأسر الأشكنازية العقيمة وجود أطفال للتبني من دون بحث مضن. لذلك لم يكن مستغربا أن يكون مجتمع المزراحيم وقود الطبقة العاملة الرثة، لذلك تأسس حزب الفهود عام 1971، ودافع عن حقوق المزراحيم بناء على أسس ماركسية، ولقد حاول التصدي لمحاولة سلخ المزراحيم عن أصولهم العربية وعلاقتهم بالعرب، لذلك اتخذ موقفا مسالما من العرب الفلسطينيين، ودعا لعلاقات ودية مع الدول العربية، لكن الانشقاق والانقسام سرعان ما فكك الحزب، وشتت نضال المزراحيم. ومع أنهم حسبوا أن مشاركتهم في حرب 1973، ودخول ممثليهم إلى الكنيست، كان بداية ستدمجهم في المجتمع الإسرائيلي، وتجعلهم مواطنين من الدرجة الأولى، فإن ذلك لم يحدث. فنهاية الفيلم تبدو مشبعة بالإحباط والتشاؤم، وتقارن الكاميرا عمران مدن الأشكناز بمدن المزراحيم، ناهيك عن الوظائف ومواقع الدولة التي يحتلها الأشكناز، في مقابل تمييز ما زال يناله المزراحيم في التوظيف والتعليم، وحتى في الجيش الإسرائيلي ذاته. يشارك فيلم 'خطيئة الأجداد' (The Ancestral sin) للمخرج 'ديفيد ديري' (2017) نفس النظرة التي تحملها 'ميشال بوغانم' تجاه شقاق المجتمع الإسرائيلي وتصدعه، فهو يرى أن دمج الشرقيين في المجتمع شكلي، فمثلا لم يرأس الحكومة حتى الآن يهودي شرقي، كما أن عدد السجناء الشرقيين أضعاف نظرائهم من الأشكناز. التمسك باللغة والثقافة العربية.. أوجه الاحتجاج يظهر الاحتجاج على 'الحلم الإسرائيلي' من المزراحيم الغاضبين في فيلم 'المزراحيم.. المنسيون في أرض الميعاد'، من خلال التمسك باللغة العربية والفرنسية، والتخلي عن التحدث بالعبرية، كما أن هناك مظاهر من الاحتجاج تظهر في ثقافة الطهي والملبس والغناء كذلك. ونرى اليوم كثيرا من الصهاينة ذوي الأصل العربي، ممثلين في الحكومات الإسرائيلية وقيادة الجيش والشرطة الإسرائيلية المغتصبة لحقوق الفلسطينيين، ولكن يفيد الفيلم في كشف النقاب عن الصوت المتشائم والمقموع في السردية، عن المزراحيم الذين يُتوهم أنه أذيبوا تماما. ويمكن القول هنا إن الطبقة تتكلم بأصوات كثيرة، مع مقدار كبير من التنافر، لكن ذلك ليس من شأنه أن يضعف الأهمية الطاغية للانقسامات الطبقية السائدة، في فهم معاناة مسحوقي مجتمع ما ومهمشيه، فذلك يهدد أمن المجتمع كله، فجنبا إلى جنب من أشكال الترابط، علينا أن نرى جملة التمايزات والفروق كذلك. 'إسرائيل.. حرب القبائل'.. صراع مجتمع على حافة الهاوية بينما تنطلق الأفلام الآنفة الذكر من التفتيش في جذور الماضي محاولة قرع جرس إنذار قبل بلوغ حافة الهاوية، يخالفها فيلم 'إسرائيل.. حرب القبائل' (Irael: Clash of the Tribes)، للمخرج 'دوكي درور' (2023)، فينطلق من حافة الهاوية، التي بدأت المسيرة الطويلة إليها منذ اغتيال 'إسحاق رابين' عام 1995. وقد جاء طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر في أحرج لحظة من تاريخ إسرائيل، فلم يكن المجتمع منقسما قط كما كان منقسما يومئذ، فقبل الهجوم بعدة أشهر وقعت تظاهرات مليونية في شوارع إسرائيل، احتجاجا على حكومة 'بنيامين نتنياهو'، ومسعاها الذي هدد مبدأ الفصل بين السلطات. عنوان فيلم 'حرب القبائل' مستوحى من الأسباط الاثني عشرة في اليهودية، ويطرح فرضية أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع قبلي، وقد اختير هكذا لأن المخرج يرى في المشهد السياسي قبائل متعارضة لا يمكن التوفيق بينها. يغوص الفيلم في تاريخ 30 سنة من الانقسام، بدأت من معاهدة أوسلو، وشهدت سيطرة تيار اليمين، وتغول المستوطنين والمتدينين، فأصبحوا فاعلين في المشهد السياسي، وقد تطرق الفيلم لكل ذلك لإجابة سؤال التمزق الاجتماعي. 'إيغال عامير'.. اغتيال يجسد عنف الصراع القبلي يفترض مخرج فيلم 'حرب القبائل' أن قبيلة الأشكناز هي قبيلة الآباء المؤسسين التي جاءت من أوروبا، وتلك القبيلة قد فقدت ثقتها بمشروعها السياسي اليساري، في لحظة اغتيال رئيس الوزراء 'إسحاق رابين' بسبب اتفاقية أوسلو، على يد شاب من المزراحيم المتطرفين يدعى 'إيغال عامير'، وقد برر الاغتيال في محاكمته قائلا: أنت تؤمن بالسلام، وأنا أؤمن بالله. لقد كان 'إيغال' ابن قبيلة المزراحيم التي لا تغفر للأشكناز عقودا من التمييز والتهميش ومعاملتهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. أما الحريدية المتشددة فهي القبيلة الثالثة، وهي لا تريد دولة ليبرالية حديثة ولا أداء الخدمة العسكرية، ومع ذلك يؤدون دورا سياسيا فعالا يبارك اليمين السياسي. وأما العرب، فهم القبيلة الرابعة المحشورون بين قبائل إسرائيل، وهم ضحاياها في ذات الوقت. الانهيار الداخلي.. فكرة مغرية تدعمها الوقائع تعد فكرة زوال إسرائيل من تلقاء نفسها مغرية جدا للمزاج العربي، فهي تزيح عبء الدخول في حرب شاملة، قد تفني في مرحلة من مراحلها عددا كبيرا من العرب أنفسهم. إن تلك الرؤية يعززها كثيرا التفكير التفاؤلي والديني، الذي يقرن بين علامات قيام الساعة وتحرير الأقصى وزوال إسرائيل، ثم إن الشعور بأن إسرائيل ستزول من داخلها باحتمال شمشوني توراتي يهد المعبد على سكانه، قد وجد صداه في التفاعل على مقولات لمفكرين، منهم الراحل عبد الوهاب المسيري. فمقولات المسيري عن زوال إسرائيل بسبب مشكلات داخلية، سرعان ما عادت إلى الرواج بشدة في أعقاب عملية 'طوفان الأقصى'، ويتبين أن ذلك يستند إلى حقائق حادثة ومشكلات تستمر في التفاقم. مع أن التاريخ لا يسير وفقا للحتميات، فإن الأقرب للواقع هو أن ننتهي إلى ما انتهى إليه فيلم 'حرب القبائل'، ويخبرنا المخرج أن الانقسام في المجتمعات قد يطول عقودا، ولكن لن يرسم مصيرها بنهاية مفتوحة. والحرب التي تخوضها إسرائيل في قطاع غزة حاليا، وتتوحد فيها 3 قبائل ضد القبيلة الرابعة، ليست إلا مرحلة التقاط أنفاس لمجتمع ممزق، سرعان ما سيعود بعد الحرب ليقتتل مرة أخرى، وتلك المعركة إن لم تنته بعقد اجتماعي جديد يشمل العرب والفلسطينيين، فستنتهي بتحقق نبوءة الفناء، وهلاك إسرائيل.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store