logo
رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية الفرنسية للعالمية

رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية الفرنسية للعالمية

الجزيرة١٩-٠٢-٢٠٢٥

توفيت الروائية والكاتبة المسرحية الكندية أنتونين ماييه عن عمر ناهز 95 عامًا، وفق ما أعلنت دار النشر المسؤولة عن أعمالها يوم الاثنين. وتُعد ماييه أول مؤلِّفة غير أوروبية تفوز بجائزة غونكور الأدبية الفرنسية العريقة، لتترك بصمة لا تُمحى في الأدب الفرنكفوني.
ولدت أنتونين ماييه عام 1929 في مقاطعة نيو برونزويك بشرق كندا، وهي منطقة تُعرف بتاريخها العريق كموطن للأكاديين، وهم السكان الناطقون بالفرنسية في أميركا الشمالية على ساحل المحيط الأطلسي. كرّست ماييه جزءًا كبيرًا من مسيرتها الأدبية لإبراز تاريخ وثقافة الأكاديين، مسلطة الضوء على نضالهم ومعاناتهم في وجه الاضطهاد والتهميش.
وفي عام 1979، دخلت ماييه التاريخ عندما أصبحت أول كاتبة من خارج أوروبا تفوز بجائزة غونكور، وذلك عن روايتها "بيلاجي لا شاريت" (Pélagie-la-Charrette)، التي تحكي قصة امرأة تقود رحلة عودة الأكاديين إلى موطنهم الأصلي بعد أن رحّلتهم القوات البريطانية قسرًا إلى جنوب الولايات المتحدة قبل 270 عامًا. ووصفت ماييه في أحد تصريحاتها ذلك التهجير القسري بأنه "من أولى عمليات التطهير العرقي في تاريخ الغرب".
لم تقتصر أعمال ماييه على سرد التاريخ الأكادي فحسب، بل برعت أيضًا في إحياء اللهجة المحلية لشعبها من خلال شخصيتها الأدبية الأشهر في كندا "لا ساغوين"، وهي عاملة تنظيف عفوية وجريئة تستخدم لهجة "شياك"، وهي مزيج من الفرنسية القديمة والإنجليزية. أصبحت هذه الشخصية رمزًا ثقافيًا في نيو برونزويك، حتى إنها ألهمت إنشاء متنزه ترفيهي يستقطب آلاف السياح سنويًا.
على مدار حياتها، أصدرت ماييه نحو 40 كتابًا تنوعت بين الرواية والمسرح، واستمرت في الدفاع عن الثقافة الفرنكفونية في كندا، مما جعلها صوتًا أدبيًا فريدًا في العالم الناطق بالفرنسية.
أكاديو أميركا
والأكاديون هم أحفاد المستوطنين الفرنسيين الذين استقروا في القرنين الـ17 والـ18 في منطقة أكاديا الواقعة في شمال شرق أميركا الشمالية، والتي تشمل اليوم مقاطعات نيو برونزويك، نوفا سكوشا، جزيرة الأمير إدوارد وأجزاء من كيبيك وولاية مين الأميركية.
ينحدر معظم الأكاديين من مناطق جنوب وغرب فرنسا، بينما يدّعي بعضهم أصولًا مختلطة مع الشعوب الأصلية للمنطقة. تأثر تاريخهم بشدة بالحروب الاستعمارية الفرنسية-البريطانية، والتي بلغت ذروتها في الحرب الفرنسية والهندية، مما أدى إلى ترحيلهم القسري على يد البريطانيين في منتصف القرن الـ18.
بعد الطرد، تفرّق الأكاديون في أنحاء مختلفة، إذ عاد بعضهم إلى أكاديا، بينما هاجر آخرون إلى فرنسا، أو إلى لويزيانا حيث عُرفوا لاحقًا باسم "الكاجون" نتيجة تحريف لفظ كلمة "أكاديون".
شهد القرن الـ19 نهضة أكادية عززتها القصيدة الشهيرة "إفانجيلاين"، التي أسهمت في إحياء هويتهم الثقافية. وفي القرن الـ20، ناضل الأكاديون لتحقيق المساواة اللغوية والثقافية في المقاطعات البحرية الكندية، حيث أصبحوا أقلية ذات حقوق معترف بها.
تكريم عالمي وحزن واسع
لقي رحيل ماييه صدى واسعًا في الأوساط الثقافية والسياسية، حيث نعاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في منشور عبر منصة "إكس"، مشيدًا بـ"نتاجها الضخم (…) وقوتها المتمردة، وحوارها الذي كان يسمو بالروح"، مضيفًا أن "الفرنكفونية تنعيها، من أكاديا إلى المحيط الهادي"، ومؤكدًا أن التزامها باللغة الفرنسية سيبقى حاضرًا.
من جانبها، شددت وزيرة الثقافة الكندية باسكال سانتونج على أن "إرث ماييه الأدبي سيظل خالدًا"، مشيرة إلى تأثيرها العميق في الأدب الكندي والفرنكفوني.
وفي اعتراف بمكانتها الأدبية العالمية، قُلِّدَت ماييه وسام جوقة الشرف الفرنسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وكانت تقيم في شارع بمدينة مونتريال يحمل اسمها، تكريمًا لإنجازاتها الثقافية.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مستقبل مجهول للقارئين البشريين في قطاع الكتب الصوتية
مستقبل مجهول للقارئين البشريين في قطاع الكتب الصوتية

الجزيرة

time١٨-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

مستقبل مجهول للقارئين البشريين في قطاع الكتب الصوتية

دفعت التكلفة العالية لجعل شخص يقرأ كتابا كاملا بعض منتجي النسخ الصوتية من المؤلفات إلى الاستثمار في استنساخ الأصوات والأصوات الاصطناعية، وهي ظاهرة يسلّط عليها الضوء مهرجان باريس للكتاب. خاض رؤساء دول سابقون هذا التحدي. على سبيل المثال، سجل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عام 2021 أكثر من 13 ساعة من مذكراته الرئاسية "لو تان دي تامبيت" Le Temps des tempetes، بينما سجّل الرئيس الأميركي باراك أوباما "ايه بروميسد لاند" A Promised Land في العام 2020 على مدى 29 ساعة. وثمة كتب أخرى قرأها ممثلون. في فرنسا، وضع الممثل دوني بوداليديس صوته على رواية "مارتن إيدن" للكاتب جاك لندن. أما رواية "الحوريات" التي نال كمال داود بفضلها جائزة غونكور الفرنسية، فقرأتها لولا نايمارك. لكن مستقبل إنتاجات من هذا النوع، سواء كانت مكلفة أم مكلفة جدا، غير واضح بين الكتب الصوتية التي باتت تعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي. وكان مهرجان باريس للكتاب الذي أقيم من 11 إلى 13 نيسان/أبريل، مناسبة لإعلانين في هذا الصدد. تقول "ليبرينوفا"، الشركة الفرنسية الأهم في مجال النشر الذاتي، إنها تستخدم "تكنولوجيا استنساخ الصوت التي توفّر جودة أعلى بكثير من جودة الأصوات الاصطناعية، التي غالبا ما تكون آلية جدا". وتقوم هذه التكنولوجيا على أن يسجّل المؤلف بصوته جزءا صغيرا فقط من كتابه ثم يتولى الذكاء الاصطناعي قراءة الجزء الآخر بالصوت نفسه. كتب بأصوات اصطناعية أعلنت منصة "سبوتيفاي" للبث التدفقي أنها تستثمر مليون يورو في "كتب ترويها أصوات اصطناعية"، أي آلة تحاكي الصوت البشري بدقة متزايدة. وأوضحت أنّ "تكاليف الإنتاج المرتفعة والاعتماد الذي لا يزال ناشئا على الكتب الصوتية له عواقب تتمثل في الحدّ من العرض والكتب المتوافرة بالفرنسية". وتذكر "سبوتيفاي" بوضوح لمستخدميها لمن يعود الصوت الذي يقرأ لهم، لكي يقرروا بأنفسهم ما إذا كانوا يوافقون أم لا على الصوت الاصطناعي. لا تتخلى المنصة السويدية عن الكتب التي يقرأها بشر. وفي حديث إلى وكالة فرانس برس، يقول الرئيس التنفيذي لدار نشر "أوغو" أرتور دو سان فنسان، "إنها تساعد الناشرين عن طريق تمويل جزء من الإنتاج. ولكي تتطوّر سوق وتنضج، يتطلب الأمر مختلف أنواع الدعم". وستوفر "أوغو" بالتعاون مع دار نشرها الأم "غلينا" 200 كتاب جديد في السنوات الثلاث المقبلة. ويقول رئيس دار "اوغو": "نحن في مرحلة تطوير تسمح لنا بالاستثمار في إنتاج عالي الجودة. لذا، نحرص على اختيار الأصوات، والعمل مع ممثلين، والتمسّك بمبادئنا في كل مرة". ليس لدى الجميع المال الكافي لمواكبة ذلك. في العام 2021 كتبت "أوديبل" Audible الاولى عالميا في الكتب الصوتية والتابعة لشركة "أمازون"، عبر موقعها الإلكتروني الفرنسي "في البداية، كانت الكتب الصوتية تستخدم الصوت الاصطناعي، أي الصوت المُنشأ بواسطة الكمبيوتر. أما اليوم، فيُفضَّل الصوت البشري لأنه يُتيح قربا أكبر من القارئ، ونبرة صوت أفضل". وبعد أربع سنوات، يؤدي البحث عن "الصوت الافتراضي" في لائحة كتبها باللغة الإنكليزية إلى "أكثر من 50 ألف نتيجة". والغالبية العظمى من الكتب هي من تأليف كتّاب غير معروفين. وتترك جودة هذه القراءة تقييمات متباينة، فمنها ما يحمل حماسة للتقدم السريع لهذه التكنولوجيا، بينما تظهر أخرى تشكيكا بشأن حدودها. تقول أليسانيا، وهي مؤلفة روايات بالإنكليزية نشرت أعمالها عبر "أمازون"، في منشور عبر منصة "اكس": "لا أعتقد أن السرد القصصي باستخدام الذكاء الاصطناعي جيّد في ما يتعلق بمشاعر الشخصيات". لا تتلعثم أصوات الكمبيوتر مطلقا وترتكب أخطاء أقل في نطق الأسماء بشكل صحيح. لكن مع الوقت يمكن أن تصبح رتيبة، فهي لا تعرف حتى الآن كيفية التسريع أو الإبطاء، أو إظهار تعبيرات ومشاعر كالانزعاج أو الاختناق أو فقدان القدرة على التنفس أو البكاء.

رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية الفرنسية للعالمية
رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية الفرنسية للعالمية

الجزيرة

time١٩-٠٢-٢٠٢٥

  • الجزيرة

رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية الفرنسية للعالمية

توفيت الروائية والكاتبة المسرحية الكندية أنتونين ماييه عن عمر ناهز 95 عامًا، وفق ما أعلنت دار النشر المسؤولة عن أعمالها يوم الاثنين. وتُعد ماييه أول مؤلِّفة غير أوروبية تفوز بجائزة غونكور الأدبية الفرنسية العريقة، لتترك بصمة لا تُمحى في الأدب الفرنكفوني. ولدت أنتونين ماييه عام 1929 في مقاطعة نيو برونزويك بشرق كندا، وهي منطقة تُعرف بتاريخها العريق كموطن للأكاديين، وهم السكان الناطقون بالفرنسية في أميركا الشمالية على ساحل المحيط الأطلسي. كرّست ماييه جزءًا كبيرًا من مسيرتها الأدبية لإبراز تاريخ وثقافة الأكاديين، مسلطة الضوء على نضالهم ومعاناتهم في وجه الاضطهاد والتهميش. وفي عام 1979، دخلت ماييه التاريخ عندما أصبحت أول كاتبة من خارج أوروبا تفوز بجائزة غونكور، وذلك عن روايتها "بيلاجي لا شاريت" (Pélagie-la-Charrette)، التي تحكي قصة امرأة تقود رحلة عودة الأكاديين إلى موطنهم الأصلي بعد أن رحّلتهم القوات البريطانية قسرًا إلى جنوب الولايات المتحدة قبل 270 عامًا. ووصفت ماييه في أحد تصريحاتها ذلك التهجير القسري بأنه "من أولى عمليات التطهير العرقي في تاريخ الغرب". لم تقتصر أعمال ماييه على سرد التاريخ الأكادي فحسب، بل برعت أيضًا في إحياء اللهجة المحلية لشعبها من خلال شخصيتها الأدبية الأشهر في كندا "لا ساغوين"، وهي عاملة تنظيف عفوية وجريئة تستخدم لهجة "شياك"، وهي مزيج من الفرنسية القديمة والإنجليزية. أصبحت هذه الشخصية رمزًا ثقافيًا في نيو برونزويك، حتى إنها ألهمت إنشاء متنزه ترفيهي يستقطب آلاف السياح سنويًا. على مدار حياتها، أصدرت ماييه نحو 40 كتابًا تنوعت بين الرواية والمسرح، واستمرت في الدفاع عن الثقافة الفرنكفونية في كندا، مما جعلها صوتًا أدبيًا فريدًا في العالم الناطق بالفرنسية. أكاديو أميركا والأكاديون هم أحفاد المستوطنين الفرنسيين الذين استقروا في القرنين الـ17 والـ18 في منطقة أكاديا الواقعة في شمال شرق أميركا الشمالية، والتي تشمل اليوم مقاطعات نيو برونزويك، نوفا سكوشا، جزيرة الأمير إدوارد وأجزاء من كيبيك وولاية مين الأميركية. ينحدر معظم الأكاديين من مناطق جنوب وغرب فرنسا، بينما يدّعي بعضهم أصولًا مختلطة مع الشعوب الأصلية للمنطقة. تأثر تاريخهم بشدة بالحروب الاستعمارية الفرنسية-البريطانية، والتي بلغت ذروتها في الحرب الفرنسية والهندية، مما أدى إلى ترحيلهم القسري على يد البريطانيين في منتصف القرن الـ18. بعد الطرد، تفرّق الأكاديون في أنحاء مختلفة، إذ عاد بعضهم إلى أكاديا، بينما هاجر آخرون إلى فرنسا، أو إلى لويزيانا حيث عُرفوا لاحقًا باسم "الكاجون" نتيجة تحريف لفظ كلمة "أكاديون". شهد القرن الـ19 نهضة أكادية عززتها القصيدة الشهيرة "إفانجيلاين"، التي أسهمت في إحياء هويتهم الثقافية. وفي القرن الـ20، ناضل الأكاديون لتحقيق المساواة اللغوية والثقافية في المقاطعات البحرية الكندية، حيث أصبحوا أقلية ذات حقوق معترف بها. تكريم عالمي وحزن واسع لقي رحيل ماييه صدى واسعًا في الأوساط الثقافية والسياسية، حيث نعاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في منشور عبر منصة "إكس"، مشيدًا بـ"نتاجها الضخم (…) وقوتها المتمردة، وحوارها الذي كان يسمو بالروح"، مضيفًا أن "الفرنكفونية تنعيها، من أكاديا إلى المحيط الهادي"، ومؤكدًا أن التزامها باللغة الفرنسية سيبقى حاضرًا. من جانبها، شددت وزيرة الثقافة الكندية باسكال سانتونج على أن "إرث ماييه الأدبي سيظل خالدًا"، مشيرة إلى تأثيرها العميق في الأدب الكندي والفرنكفوني. وفي اعتراف بمكانتها الأدبية العالمية، قُلِّدَت ماييه وسام جوقة الشرف الفرنسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وكانت تقيم في شارع بمدينة مونتريال يحمل اسمها، تكريمًا لإنجازاتها الثقافية.

استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بجائزة غونكور الفرنسية
استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بجائزة غونكور الفرنسية

الجزيرة

time١٧-١١-٢٠٢٤

  • الجزيرة

استحقاق أدبي أم حسابات سياسية؟.. جدل فوز كمال داوود بجائزة غونكور الفرنسية

ملوحا بها من شرفة مطعمٍ في باريس، أطل الكاتب الجزائري الفرنسي كمال داود على الصحافيين مع روايته الحورِيات (Houris) بعد إعلان فوزها بجائزة غونكور التي تُمنح سنويا لأفضل عمل أدبي مكتوب بالفرنسية. وتعد الرواية الصادرة عن دار غاليمار الثالثة لهذا الكاتب البالغ 54 سنة، وفيها يستعيد أحداث "العشرية السوداء في الجزائر" بين سنتي 1992 و2002. وفاز داود بالجائزة بعد حصوله على 6 أصوات من أصل 10 من المحكمين، وعاد منها صوتان للفرنسية إيلين غودي، وصوت واحد لكل من الفرنسية ساندرين كوليت والرواندي غاييل فاي الذي يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الثقافية الفرنسية، بعد أن بيعت 173 ألف نسخة من روايته "جاكارندا" التي تتناول تفاصيل مجازر الإبادة الجماعية التي وقعت في بلاده. وأثار تتويج داود جدلا واسعا بالجزائر حيث قسّم المتابعين إلى طرفين، أحدهما يعتبره "مكافأة على الجمالية والمتانة الفنية لروايات كمال وتكريما أدبيا للرواية الجزائرية" والآخر يتهم داود بتبني النظرة الفرنسية وترويج أطروحات نمطية ذات طابع استشراقي تدغدغ الكليشيهات الغربية عن العرب والمسلمين، خاصة بعد مقالاته التي تبنى فيها السردية الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتصريحه السابق بأنه فرنسي أكثر من الفرنسيين. وقد اعتبرت أكاديمية غونكور التي تمنح الجائزة أنها بتتويج "الحوريات" فإنها تتوج كتابا تتنافس فيه القصائد الغنائية مع المأساة، ويعطي صوتا للمعاناة المرتبطة بفترة مظلمة في الجزائر، وخاصة النساء. ولا يبدو مفاجئا تتويج داود الذي عايش حقبة التسعينيات في الجزائر وتعامل معها وقتئذ كصحفي، خاصة لدى بعض المتابعين الذين استبقوا الحدث وتنبؤوا بذلك معتبرين أن هناك عوامل سياسية تصب في مصلحة صاحب "ميرسو، تحقيق مضاد"، التي استلهمت رواية "الغريب" للروائي الفرنسي ألبير كامو الذي قتل فيها بطله شخصا جزائريا لم يزد على وصفه بـ"العربي"، ليسرد "التحقيق المضاد" حكاية القتل على لسان أخ الضحية. تكريس النظرة النمطية تجاه الأفارقة في كتابه " اختلاق الساحل" (L'invention du Sahel) الصادر سنة 2022، يخصص الكاتب الفرنسي جان-لو أمسيل حيزا لكشف العلاقة بين المثقفين المنحدرين من أفريقيا وبين النخب الثقافية الفرنسية. فعبر قراءة أعمال الأفارقة التي توجت سابقا بالجوائز الأدبية الفرنسية، وأبرزها غونكور، يحاول أمسيل كشف الخيط الناظم بينها. ويرى الكاتب الفرنسي أن النجاح الذي لاقاه المشهد الفني لدول الساحل في فرنسا يرجع بالأساس إلى تنسيق أعمال أبرز ممثليه مع المفاهيم والقيم الغربية. ولعل العلاقة بين هؤلاء الكُتاب وبين النخب الثقافية والإعلامية الفرنسية الراغبة في إظهار مناهضتها للعنصرية -عبر الانفتاح على أشكال التعبير الغربية- ضبطت إيقاع إنتاجهم الأدبي ضمن قوالب معدة مسبقا من قبل فرنسا حددت مسار أعمالهم وما تتناوله من قضايا. ولا ينفي أمسيل جودة هذه الأعمال ومهارة أصحابها، إلا أنها بالنسبة له تتبنى النظرة الفرنسية عن الأزمات السياسية والاجتماعية، وتكرس النظرة النمطية تجاه شعوب أفريقيا، في انسجام تام مع الإطار الفكري للدوائر الغربية والقضايا التي تدافع عنها، ارتباطا بمساعي تجميل باريس لماضيها وغض النظر عن الجرائم المرتكبة في مستعمراتها. هل القيمة الأدبية تكفي؟ وقد كان الطاهر بن جلون عضو أكاديمية الجائزة قد أكد -في تصريح لقناة فرانس 24 عقب إعلان فوز "الحوريات" بجائزة غونكور- أن اختيار هذه الرواية نابع من دوافع أدبية، مضيفا أن قرار اللجنة اتخذ بعد نقاش كبير عن قيمتها الأدبية، في حين ظلت المعايير السياسية هامشية. غير أن بن جلون، الفائز سابقا بنفس الجائزة، لم يتناول الجوانب الفنية للرواية بقدر ما تحدث عن موقف الجزائر الرسمي تجاه تلك الحقبة الدامية من تاريخ البلاد، معتبرا داود معارضا سياسيا ومطالبا بحرية التعبير في بلده، على حد تعبيره. غير أن البروفيسور الجزائري واسيني الأعرج لا يذهب بعيدا عن أطروحة أمسيل، متسائلا "هل القيمة الفنية هي المحدد الوحيد للجائزة أم موقف كمال داود من القضية الفلسطينية، اللغة العربية، ومما يحدث في بلده؟". ويعدد الأعرج -في منشور له على فيسبوك- الكُتاب الجزائريين الفرانكفونيين الذين قضوا زمنا طويلا يجتهدون في الحصول على هذه الجائزة دون جدوى، بينهم الحاج حمو الذي يعد حسب الأعرج من مؤسسي الأدب المكتوب بالفرنسية بهوية وطنية وصاحب أول رواية فرانكفونية (زهرة زوجة المنجمي) ولم ينجح في الظفر بها، مثله مثل محمد ديب الذي يعتبره صاحب شرفات بحر الشمال "الأب الروحي الذي منح الأدب الفرانكفوني حق التمايز الوطني، ولا حتى كاتب ياسين الذي يقول واسيني إنه طور الرواية العالمية وليس فقط المغاربية، وكذلك آسيا جبار التي "بقيت في خلفية مشهد هذه الجائزة على الرغم من احتلالها كرسي الخالدين في الأكاديمية الفرنسية". للنجاح ثمن باهظ من جهته اعتبر الأكاديمي والناقد الجزائري لونيس بن علي أن للنجاح -في سياقنا العربي- ثمنا باهظا، إما من جهة سيادة ثقافة عدم الاعتراف بالناجح، أو من ناحية الكتابة لإرضاء لوبيات ثقافية أو إعلامية. وفي حديثه للجزيرة نت، قال بن علي "أعتقد أن داود ضحية لنجاح روايته الأولى (ميرسو.. تحقيق مضاد، أو معارضة الغريب كما تمت ترجمتها إلى العربية) لكنه أيضا ضحية مواقفه من قضايا حساسة، يصعب طرحها في بيئة لا تقبل بالرأي المختلف، وترفض ممارسة التقويض الشامل للقناعات الراسخة حول الدين أو التاريخ". ويضيف بن علي -أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن بجامعة بجاية- "فنيا، داود روائي تتمتع رواياته بقدر عال من الجمالية والمتانة الفنية والذكاء في مقاربة موضوعاته، سواء في روايته الأولى (ميرسو.. تحقيق مضاد) أو في روايته (فنان يلتهم امرأة) أو في رواية (زبور أو المزامير) ثم أنه لم يشذ عن أسلوبه في روايته الأخيرة (الحوريات/حور العين) التي فاز من خلالها بجائزة غونكور". وتابع الناقد الجزائري "ما يكتبه داود يقف فوق أرض متحركة، لأنه يمارس خلخلة القناعات، ويتمرد على العقائد السياسية، لكن يتهمه الكثيرون بأنه يكتب تحت أجندة سياسية تخدم الغرب، خاصة موقفه من القضية الفلسطينية، أو من الدين، أو حرية المرأة، او العشرية السوداء في الجزائر". وقبل أن ينهي حديثه يقول "لكن، لا يجب على البعض أن ينسى أنّ الكثير من مقالاته جلبت له العداء حتى في أوروبا نفسها، مما يعني أنه كاتب لا يعترف بالحدود، ويكتب بروح نقدية". تتويج لواحد من أسئلة الكتابة أما فتحية دبش الكاتبة والناقدة التونسية المقيمة في فرنسا، فقد أكدت -في حديث للجزيرة نت- أن ما يلفت انتباهها بشكل شخصي هو "هشاشة الكاتب العربي في المنفى بلسان غير عربي، وعدم قدرته على الاستفادة من موقعه في الخارطة الأدبية والفكرية -كما هو شأن داود في فرنسا- وعجزه على تعميم رفضه لكل أيديولوجيات القتل شرقا وغربا". وأضافت صاحبة رواية "ميلانين" أن فوز "الحوريات" سيراه البعض مكافأة لداود على سقوطه في أحضان الآلة الأيديولوجية الاستعمارية، بينما سيراه آخرون على أنه استحقاق لمن يكتب بالفرنسية ويجاهر بمواقفه من عشرية القتل باسم الدين في الجزائر". وتضيف "لكنه يظل -مهما كان موقفنا من موقف داود- فوزا لواحد من أسئلة الكتابة" وتسليطا للضوء عليها. جدير بالذكر أن القيمة المالية لجائزة غونكور لا تتجاوز 10 يوروهات رمزية، لكنها تؤمن للحاصلين عليها شهرة كبيرة وتضمن بيع مئات الآلاف من النسخ، فضلا عن ترجمة أعمالهم إلى لغات أخرى.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store