
الفردانية ودروس التاريخ
المشروع الصهيوني في فلسطين قبل 1948 كان يتقدم وفق تخطيط طويل المدى. ففي العقود التي سبقت إعلان الدولة، بنى اليهود في فلسطين الكيبوتسات كمجتمعات إنتاجية وزراعية وصناعية حديثة، وكانت هذه الكيبوتسات بمثابة مختبرات لبناء القوة، إذ وفرت تدريباً عملياً على الزراعة الحديثة، والتنظيم المجتمعي، والعمل التعاوني، وساهمت في إعداد كوادر عسكرية وفكرية قادرة على إدارة الدولة الوليدة. بهذه الطريقة، تهيأت الحركة الصهيونية لامتلاك اقتصاد متين، وبنية تحتية، وجهاز تعليمي وإعلامي، ومنظمات عسكرية سرية، حتى أصبح لديهم قبل إعلان الدولة فعلياً مؤسسات جاهزة لدولة كاملة. وعندما جاء 14 مايو 1948، كانت إسرائيل تمتلك جيشاً منظماً، واقتصاداً فاعلاً، وقيادة سياسية متفقة على هدف واحد.
في المقابل، دخل العرب حرب 1948 بلا قيادة موحدة أو خطة مشتركة، وكل دولة عربية اتخذت قرارها، وفق حسابات تخصها، دون أن يكون هناك مشروع عربي متكامل لمواجهة المشروع الصهيوني. هذا النمط تكرر في حرب 1967 حين اتخذ القرار العربي بالمواجهة من دون مؤسسات حقيقية تراجعه أو توازن القرار. وفي غزو الكويت عام 1990، قرر صدام حسين منفرداً إدخال المنطقة في كارثة تاريخية. وأخيراً، في 7 أكتوبر 2023، كررت حماس النمط ذاته، بقرار عسكري وسياسي اتخذته قيادة ضيقة بعيداً عن أي مؤسسات فلسطينية أو تشاور عربي، لتتحمل غزة وأهلها كلفة هائلة من الدمار والحصار والتجويع.
لسنا مضطرين للدفاع عن خيارات فردية أرهقتنا لعقود، ومنعت مجتمعاتنا من النهوض، وتسببت في خسارات اقتصادية وتنموية متراكمة، وأغرقتنا في سلسلة انكسارات نفسية وعسكرية. النقد الموضوعي لهذه الخيارات ليس انحيازاً لإسرائيل ولا تغطية على جرائمها، بل هو ضرورة أخلاقية وسياسية لحماية مستقبل شعوبنا من تكرار الأخطاء نفسها، أو في أقل تقدير محاولة وقف الخسارات عند نقطة محددة، قبل أن نفكر بالنهوض من جديد، ودعكم من محنطة «من لم يكن مع المقاومة فهو مع إسرائيل» فهذا الشعار يراد منه إجهاض كل محاولة للفهم بعيداً عن الشعبويات.
وحتى لا أكون صيداً لسهام المتأهبين في منصات التواصل الاجتماعي للانقضاض على أي رأي آخر، فأؤكد أن موقفي الشخصي واضح، وهو أن إسرائيل كيان مجرم مارس ولا يزال يمارس القتل الممنهج بحق الأطفال والنساء، وتجاوز كل الخطوط الحمراء الأخلاقية والإنسانية في حربه على غزة. لن أكون يوماً مروّجاً للتطبيع مع هذا الكيان ما دامت رموز المرحلة الحالية في الحكم – من نتنياهو إلى سموتريتش وبن غفير – تمثل وجهه الأكثر تطرفاً، وما دامت البيئة الأيدولوجية والسياسية والاجتماعية التي أنتجت هؤلاء قائمة. لكن رفض التطبيع لا يعني تبني منطق المغامرة الفردية أو تبرير القرارات غير المحسوبة التي تعيدنا دائماً إلى مربع الهزيمة.
دروس التاريخ واضحة، ولن تحجبها موجات الصخب والحماس الداعية إلى مواجهات جديدة ستنتهي بالفشل حتماً، فالنجاح يحتاج إلى بناء القوة الاقتصادية والتعليمية والسياسية والمؤسسية قبل أي مواجهة. تجربة الكيبوتسات مثال حي على أن المجتمعات المنظمة، التي تستثمر في التعليم والإنتاج والعمل الجماعي، تستطيع أن تبني دولة قوية قبل أي معركة. في المقابل، انشغل العرب بخطابات حماسية وقرارات مرتجلة، فكانت النتيجة أن خسروا المعركة قبل أن تبدأ، وأدمنوا الفشل.
اليوم، إذا أردنا مستقبلاً مختلفاً، علينا أن ندرك أن النصر لن يتحقق بالمغامرة الفردية، بل عبر بناء مؤسسات قوية، واقتصاد منتج، وتعليم متين، وقرارات مدروسة، ورؤية سياسية متكاملة. حينها فقط نستطيع أن نمتلك القرار، ونحقق التوازن بين الشجاعة والحكمة، بين المبدأ والمصلحة، وبين التضحية والمكسب، فأعدل القضايا قد نخسرها حين لا نأبه بالعلم والتخطيط والإعداد.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العرب اليوم
منذ 43 دقائق
- العرب اليوم
الوجه السادس للحرب: المجاعة!
مضى أكثر من عام بعد نشر مقالى فى هذا المقام تحت عنوان «خمسة وجوه لحرب غزة الخامسة» فى 7 مايو 2024. كان واضحًا أن الحرب لم تكن مثل الحروب السابقة لها والتى لا تطول كثيرًا ولا تزيد على بضعة أسابيع وبعدها تأتى الحملة الدبلوماسية لوضع وقف لإطلاق النار يضع نهاية للحرب الجارية ويوضع جميع الأطراف فى انتظار حرب أخرى. ورغم هذا السكون المعروف بأنه مؤقت يجرى الحديث بقوة عن إعمار غزة، وتدفع مصر بأدواتها لكى تعبد طريق صلاح الدين، وتخلق شارعًا على بحر غزة. .الحرب الجارية يقترب زمنها من عامين وعندما كتبت المقال كان للتعقيد خمسة وجوه: الأول منها دول سقفها نووى وتقع بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وبجانبها إسرائيل؛ ولم يكن معلومًا وقتها أن الحرب سوف تقع بعد عام بالشكل الذى عرفناه الآن. الثانى كان من نتاج ما سمى «الربيع العربى» الذى أنتج إلى السطح شكلا من أشكال «الإسلام السياسى» الذى مثلته حماس التى أطلقت «طوفان الأقصى» وفى جبهتها كان حزب الله اللبنانى والحشد الشعبى العراقى والحوثيون فى اليمن ومن ورائهم جميعا تقف إيران فى وجهها الإقليمى. الثالث أن الحرب لم تبق فى الحدود الفلسطينية الإسرائيلية وإنما اتسعت إلى البحرين الأحمر والأبيض؛ طائرة فوق لبنان وتعم على الضفة الغربية وسوريا والعراق ثم تصل إلى أصفهان. الرابع أن الحرب باتت ثقيلة فى ضحاياها، ورغم أن غزة دخلت فى التاريخ منافسًا لدريسدن وهيروشيما وناجازاكى فإن إسرائيل لم تخل من جروح أصابت حيفا وتل أبيب وبئر سبع؛ ولأول مرة عرفت إسرائيل ظاهرة النازحين من الشمال والجنوب والوسط. والخامس ما عرفته الحروب السابقة من تفاوض شمل هدنة وتبادل الأسرى والمحتجزين؛ مع عجز دبلوماسى عن وقف الحرب. الآن أصبح هناك وجه سادس للحرب لا يمكن إغفاله عن ذاكرة الحرب والتاريخ يدور حول المدى الذى وصلته إسرائيل فى عنف الإبادة والتدمير، والأخطر من ذلك كله «المجاعة». المفارقة التاريخية جمعت بين ظاهرتين: المجاعة الإفريقية التى ذاعت خلال العقود الأخيرة فى الصومال وإثيوبيا وبلدان الحروب الأهلية؛ والمجاعة التى حفظها التاريخ لما جرى فى المحرقة «الهولوكوست» التى جرت لليهود والروس وغيرهم فى معسكرات الاعتقال النازية. كان التدريب الإسرائيلى على نسق «أوشفيتز» وغيرها قد بدأ منذ بدأت إسرائيل البحث عن الأنفاق، وعندما دفعت سكان شمال غزة ووسطها وجنوبها على الانتقال من شمال القطاع إلى جنوبه فى تدريبات تحضر «النكبة الفلسطينية» إلى القرن الواحد والعشرين. وجه المجاعة البشع أضاف وجهًا جديدًا لحرب غزة لأنه كان الوجه الذى أيقظ «المجتمع الدولى» وحتى الرأى العام الأمريكى والإسرائيلى وأحضر القانون الدولى إلى ساحة الحرب وترجمته تحركات شباب وطلاب العالم فى ضغوط على حكوماتها من أجل فتح الأبواب للإغاثة. هل يكون الوجه السادس للحرب فاتحا لسبيل وقف لإطلاق النار، ومن يعلم بدء محادثات سلام تشمل كل القضايا؟


الرأي
منذ 43 دقائق
- الرأي
استشهاد احد طواقم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في خانيونس
استشهد أحد طواقم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وأصيب آخرون، فجر اليوم، جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مبنى الجمعية غربي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. وقالت مصادر فلسطينية ان الاحتلال استهدف مقر الهلال الأحمر الفلسطيني في مدينة الأمل بخانيونس مما أدى الى استشهاد احد طواقم الجمعية واشتعال النيران في الطابق الأول.


رؤيا نيوز
منذ 43 دقائق
- رؤيا نيوز
استشهاد احد طواقم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في خانيونس
استشهد أحد طواقم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وأصيب آخرون، فجر اليوم، جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مبنى الجمعية غربي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. وقالت مصادر فلسطينية ان الاحتلال استهدف مقر الهلال الأحمر الفلسطيني في مدينة الأمل بخانيونس مما أدى الى استشهاد احد طواقم الجمعية واشتعال النيران في الطابق الأول.