
هل يصبح الذكاء الاصطناعي واعياً يوماً ما؟
دخلتُ المقصورة بخوف. كنتُ على وشك التعرض لضوء ستروب بينما كانت الموسيقى تعزف- كجزء من مشروع بحثي يحاول فهم ما يجعلنا بشراً حقيقيين.
إنها تجربة تُذكرني باختبار فيلم الخيال العلمي "بليد رانر"، المُصمم للتمييز بين البشر والكائنات الاصطناعية التي تتخذ شكل بشر.
هل يُمكنني أن أكون روبوتاً من المستقبل دون أن أعرف؟ وإذا ما حصل، فهل سأنجح في الاختبار؟
أكد لي الباحثون أن هذا ليس جوهر هذه التجربة. فالجهاز الذي يُطلقون عليه اسم "دريماشين" وهو مايعني باللغة الإيرلندية "آلة الأحلام" مُصمم لدراسة كيفية توليد الدماغ البشري لتجاربنا الواعية للعالم.
مع بدء الضوء الوامض، ورغم أن عينيّ مغمضتان، رأيتُ أنماطاً هندسية ثنائية الأبعاد تدور. كان الأمر أشبه بالقفز في منظار متغير باستمرار، مع مثلثات وخماسيات ومثمنات تتحرك باستمرار. الألوان زاهية، مكثفة، ومتغيرة باستمرار، وردي، أرجواني، وفيروزي، جميعها تتوهج كأضواء النيون.
يُبرز جهاز "دريماشين" النشاط الداخلي للدماغ من خلال أضواء وامضة، بهدف استكشاف آلية عمل عمليات التفكير لدينا.
BBC
الصور التي أراها فريدة من نوعها بالنسبة لعالمي الداخلي، وفريدة من نوعها بالنسبة لي، وفقاً للباحثين. يعتقدون أن هذه الأنماط قادرة على تسليط الضوء على الوعي نفسه.
يسمعونني أهمس "إنه رائع، رائع للغاية. إنه أشبه بالتحليق داخل ذهني!".
تُعدّ "آلة الأحلام"، في مركز علوم الوعي بجامعة ساسكس البريطانية، واحدة من مشاريع بحثية جديدة عديدة حول العالم تدرس الوعي البشري: ذلك الجزء من عقولنا الذي يُمكّننا من الوعي بذاتنا، والتفكير والشعور، واتخاذ قرارات مستقلة بشأن العالم.
من خلال دراسة طبيعة الوعي، يأمل الباحثون في فهم ما يحدث داخل أدمغة السيليكون التابعة للذكاء الاصطناعي بشكل أفضل. ويعتقد البعض أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستُصبح قريباً واعية بشكل مستقل، إن لم تكن قد فعلت ذلك بالفعل.
ولكن ما هو الوعي حقاً، وما مدى قرب الذكاء الاصطناعي من اكتسابه؟ وهل يُمكن للاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي قد يكون واعياً بحد ذاته أن يُغير البشر جذرياً في العقود القليلة القادمة؟
من الخيال العلمي إلى الواقع
لطالما استُكشفت فكرة الآلات ذات العقول المستقلة في الخيال العلمي. وتعود المخاوف بشأن الذكاء الاصطناعي إلى ما يقرب من مئة عام، وتحديداً إلى فيلم "متروبوليس"، حيث يُجسّد روبوت امرأة حقيقية.
الخوف من أن تُصبح الآلات واعية وتُشكّل تهديداً للبشر كان واضحاً في فيلم "2001 ملحمة الفضاء" الذي عرض عام 1968، ويحكي قصة حاسوب يدعى "هال 9000" يُهاجم رواد الفضاء على متن مركبته الفضائية. وفي الفيلم الأخير من سلسلة أفلام "المهمة المستحيلة"، الذي عُرض مؤخراً، يُهدد العالم ذكاء اصطناعي قويّ مارق، وصفه أحد الشخصيات بأنه "طفيلي رقمي واعي، يتعلم ذاتياً، ويلتهم الحقيقة".
لكن في الآونة الأخيرة، شهد العالم الحقيقي تحولاً سريعاً في التفكير في وعي الآلة، حيث أعربت أصوات موثوقة في هذا المجال عن قلقها من أن هذا لم يعد ضرباً من الخيال العلمي.
وقد حفز هذا التحول المفاجئ نجاح ما يُسمى بنماذج اللغة الكبيرة (LLMs)- نوع من الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم التعلم العميق لفهم اللغة البشرية وتوليدها-، أو برامج الذكاء الاصطناعي، والتي يمكن الوصول إليها عبر تطبيقات على هواتفنا مثل جيميناي وتشات جي بي تي. وقد فاجأت قدرة أحدث جيل من نماذج اللغة الكبيرة على إجراء محادثات منطقية وسلسة حتى مصمميها وبعض الخبراء الرائدين في هذا المجال.
وهناك رأي متزايد بين بعض المفكرين بأنه مع ازدياد ذكاء الذكاء الاصطناعي، ستُضاء الأضواء فجأة داخل الآلات وستصبح واعية.
ويختلف آخرون، مثل البروفيسور أنيل سيث، قائد فريق جامعة ساسكس، مع هذا الرأي، واصفين هذا الرأي بأنه "متفائل بشكل أعمى ومدفوع بالاستثنائية البشرية".
يقول أنيل "نربط الوعي بالذكاء واللغة لأنهما مرتبطان بالبشر. ولكن مجرد ارتباطهما بنا لا يعني بالضرورة ارتباطهما بشكل عام، على سبيل المثال بالحيوانات".
إذن، ما هو الوعي حقاً؟
الإجابة المختصرة هي أن لا أحد يعلم. ويتضح ذلك من خلال الحجج الرصينة والقوية التي يتبادلها فريق البروفيسور سيث، من متخصصين شباب في الذكاء الاصطناعي، وخبراء في الحوسبة، وعلماء أعصاب، وفلاسفة، والذين يحاولون الإجابة عن أحد أهم الأسئلة في العلوم والفلسفة.
في حين تتباين الآراء في مركز أبحاث الوعي، إلا أن العلماء متفقون على منهجهم: تقسيم هذه المشكلة الكبيرة إلى مشاكل أصغر في سلسلة من المشاريع البحثية، والتي تشمل آلة الأحلام (دريماشين).
وكما تم التخلي، في السابق، عن البحث عن "سر أو شرارة الحياة" التي تُعيد الحياة إلى الجمادات في القرن التاسع عشر، لصالح تحديد كيفية عمل أجزاء من الأنظمة الحية، يتبنى فريق جامعة ساسكس الآن النهج نفسه تجاه الوعي.
ويأمل الباحثون في تحديد أنماط نشاط الدماغ التي تفسر مختلف خصائص التجارب الواعية، مثل التغيرات في الإشارات الكهربائية أو تدفق الدم إلى مناطق مختلفة. والهدف هو تجاوز مجرد البحث عن الارتباطات بين نشاط الدماغ والوعي، ومحاولة إيجاد تفسيرات لمكوناته الفردية.
لكن البروفيسور سيث، مؤلف كتاب "Being You" عن الوعي، يخشى من أننا قد نندفع بسرعة نحو مجتمع يُعاد تشكيله بسرعة بفعل الوتيرة الهائلة للتغير التكنولوجي دون معرفة كافية بالعلم، أو التفكير في عواقبه.
ويقول "ونتعامل مع الأمر وكأن المستقبل مكتوباً بالفعل، وكأن هناك مسيرة حتمية نحو بديل خارق".
ويضيف "لم نناقش هذه الأمور بشكل كافٍ مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، ما أضرّ بنا جميعاً. لكن مع الذكاء الاصطناعي، لم يفت الأوان بعد. يمكننا أن نقرر ما نريد".
هل أصبح لدى الذكاء الاصطناعي وعي بالفعل؟
لكن هناك من يعتقد في قطاع التكنولوجيا أن الذكاء الاصطناعي في أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية قد يكون واعياً بالفعل، ويجب أن نتعامل معه على هذا الأساس.
أوقفت جوجل مهندس البرمجيات بليك ليموين عن العمل عام 2022، بعد أن جادل بأن روبوتات الدردشة الذكية قادرة على الشعور بالأشياء، وربما المعاناة.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، شارك كايل فيش، مسؤول رعاية الذكاء الاصطناعي في أنثروبيك، في تأليف تقرير يُشير إلى أن وعي الذكاء الاصطناعي احتمال واقعي في المستقبل القريب. وصرح مؤخراً لصحيفة نيويورك تايمز بأنه يعتقد أيضاً أن هناك احتمالاً ضئيلاً بنسبة 15 في المئة أن تكون روبوتات الدردشة واعية بالفعل.
وأحد أسباب اعتقاده بإمكانية ذلك هو أن لا أحد، ولا حتى مطوري هذه الأنظمة، يعرف بالضبط كيفية عملها. يقول البروفيسور موراي شاناهان، كبير العلماء في جوجل ديب مايند وأستاذ فخري في الذكاء الاصطناعي في إمبريال كوليدج بلندن، إن هذا أمر مقلق.
ويقول لبي بي سي "نحن في الواقع لا نفهم جيداً الطريقة التي تعمل بها برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي داخلياً، وهذا أمر يدعو للقلق".
ووفقاً للبروفيسور شاناهان، فإنه من المهم لشركات التكنولوجيا أن تتوصل إلى فهم سليم للأنظمة التي تبنيها، وينظر الباحثون إلى ذلك كمسألة ملحة.
ويضيف "نحن في وضع غريب في بناء هذه الأشياء شديدة التعقيد، حيث لا نملك نظرية واضحة حول كيفية تحقيقها للنتائج المذهلة التي تحققها. لذا، فإن فهماً أفضل لكيفية عملها سيمكننا من توجيهها في الاتجاه الذي نريده وضمان سلامتها".
"المرحلة التالية في تطور البشرية"
يسود اعتقاد في قطاع التكنولوجيا بأن برامج تطبيقات الذكاء الاصطناعي ليست واعية حالياً بالطريقة التي نختبر بها العالم، وربما ليسوا واعين على الإطلاق. لكن هذا أمر يعتقد الزوجان البروفيسوران لينور ومانويل بلوم، وكلاهما أستاذان فخريان في جامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرغ، بنسلفانيا، أنه سيتغير، وربما قريباً جداً.
ووفقاً للزوجين بلوم، قد يحدث ذلك مع ازدياد المدخلات الحسية المباشرة من العالم الحقيقي، مثل الرؤية واللمس، في أنظمة الذكاء الاصطناعي ونماذج اللغة الكبيرة، وذلك من خلال ربط الكاميرات وأجهزة الاستشعار اللمسية (المتعلقة باللمس). ويعملان على تطوير نموذج حاسوبي يُنشئ لغة داخلية خاصة به تُسمى "براينيش" لتمكين معالجة هذه البيانات الحسية الإضافية، في محاولة لمحاكاة العمليات التي تجري في الدماغ.
قالت البروفيسورة لينور في تصريخ لبي بي سي "نعتقد أن "براينيش" قادر على حل مشكلة الوعي كما نعرفه. فوعي الذكاء الاصطناعي أمر لا مفر منه".
وأضاف البروفيسورمانويل بحماسة وابتسامة مرحة، قائلاً إن الأنظمة الجديدة التي يعتقد هو الآخر أنها ستظهر ستكون "المرحلة التالية في تطور البشرية".
ويعتقد مانويل أن الروبوتات الواعية "هي ذريتنا"، مضيفاً "في المستقبل، ستكون آلات كهذه كيانات موجودة على الأرض، وربما على كواكب أخرى عندما نرحل".
وعرّف ديفيد تشالمرز، أستاذ الفلسفة وعلوم الأعصاب بجامعة نيويورك، الفرق بين الوعي الحقيقي والظاهري في مؤتمر عُقد في توسان، أريزونا، عام 1994. وطرح "المشكلة الصعبة" المتمثلة في فهم كيفية وسبب نشوء أي من العمليات المعقدة للدماغ لتجربة واعية، مثل استجابتنا العاطفية عند سماعنا غناء العندليب.
يقول البروفيسور تشالمرز إنه منفتح على إمكانية حل هذه المشكلة الصعبة.
ويضيف في لقاء مع بي بي سي "النتيجة المثالية هي أن تشارك البشرية في هذا الثراء المعرفي الجديد. ربما تُعزّز أنظمة الذكاء الاصطناعي أدمغتنا".
وفيما يتعلق بتداعيات الخيال العلمي على ذلك، يُلاحظ البروفيسور ذلك بسخرية ويقول "في مهنتي، هناك خيط رفيع بين الخيال العلمي والفلسفة".
"حواسيب مبنية من اللحوم"
ومع ذلك، يستكشف البروفيسور سيث، فكرة أن الوعي الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال الأنظمة الحية.
ويقول "يمكن القول بقوة إن الحوسبة ليست كافية للوعي، لكن الحياة بحد ذاتها كافية".
ويضيف "في الأدمغة، على عكس الحواسيب، يصعب فصل ما تفعله عنها وعما هي عليه". ويجادل بأنه بدون هذا الفصل، يصعب تصديق أن الأدمغة "مجرد حواسيب مبنية من اللحوم".
وإذا كان حدس البروفيسور سيث حول أهمية الحياة صحيحاً، فمن المرجح أن هذه التقنية لن تكون مصنوعة من السيليكون الذي يعمل على برمجة حاسوبية، بل ستتكون من مجموعات صغيرة من الخلايا العصبية بحجم حبات العدس، تُزرع حالياً في المختبرات.
وتُسمى هذه الأدمغة "أدمغة مصغّرة" في التقارير الإعلامية، ويُطلق عليها المجتمع العلمي اسم "العضيات الدماغية"، ويستخدمها لبحث آلية عمل الدماغ، ولاختبار الأدوية.
حتى أن شركة "كورتيكال لابس" الأسترالية، ومقرها ملبورن، طورت نظاماً من الخلايا العصبية في طبق يمكنه تشغيل لعبة الفيديو الرياضية "بونغ" التي صدرت عام 1972. ورغم أنه بعيد كل البعد عن نظام الوعي، إلا أن ما يُسمى "الدماغ في طبق" يبدو مخيفاً وهو يحرك مضرباً على الشاشة ليضرب كرة مُكعبة.
ويرى بعض الخبراء أنه إذا كان للوعي أن ينشأ، فمن المرجح أن يكون ذلك من نسخ أكبر وأكثر تطوراً من أنظمة الأنسجة الحية هذه.
وتراقب "كورتيكال لابس" نشاطها الكهربائي بحثاً عن أي إشارات قد تُشبه ظهور الوعي.
ويُدرك الدكتور بريت كاغان، كبير مسؤولي العلوم والعمليات في الشركة، أن أي ذكاء ناشئ لا يمكن السيطرة عليه قد تكون له أولويات "لا تتوافق مع أولوياتنا".
ويضيف أن التهديد الصغير والواضح للوعي الاصطناعي أمر يود أن يركز عليه كبار اللاعبين في هذا المجال بشكل أكبر كجزء من محاولات جادة لتعزيز فهمنا العلمي- لكنه يقول: "للأسف، لا نرى أي جهود جادة في هذا المجال".
Reuters
المشكلة الأكثر إلحاحاً قد تكمن في كيفية تأثير وهم وعي الآلات علينا.
في غضون بضع سنوات فقط، قد نعيش في عالم مليء بالروبوتات الشبيهة بالبشر والتزييفات العميقة التي تبدو واعية، وفقاً للبروفيسور سيث. ويخشى من أننا لن نتمكن من مقاومة تصديق أن الذكاء الاصطناعي لديه مشاعر وتعاطف، ما قد يؤدي إلى مخاطر جديدة.
ويضيف "هذا يعني أننا سنثق بهذه الأشياء أكثر، وسنشاركها المزيد من البيانات، وسنكون أكثر انفتاحاً على الإقناع".
لكن الخطر الأكبر من وهم الوعي هو "التآكل الأخلاقي"، كما يقول.
ويمضي البروفيسور سيث "ستُشوّه أولوياتنا الأخلاقية بدفعنا إلى تخصيص المزيد من مواردنا لرعاية هذه الأنظمة على حساب الجوانب الحقيقية في حياتنا- ما يعني أننا قد نتعاطف مع الروبوتات، لكننا نهتم أقل أو قد لا نهتم بالبشر الآخرين إطلاقاً".
وهذا قد يُغيّرنا جذرياً، وفقاً للبروفيسور شاناهان.
ويضيف "ستُحاكي العلاقات الإنسانية بشكل متزايد علاقات الذكاء الاصطناعي، وسيُستخدمون كمعلمين وأصدقاء وخصوم في ألعاب الكمبيوتر، وحتى شركاء عاطفيين. لا أعلم إن كان ذلك جيداً أم سيئاً، ولكنه سيحدث، ولن نتمكن من منعه".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شفق نيوز
منذ 2 أيام
- شفق نيوز
هل يصبح الذكاء الاصطناعي واعياً يوماً ما؟
دخلتُ المقصورة بخوف. كنتُ على وشك التعرض لضوء ستروب بينما كانت الموسيقى تعزف- كجزء من مشروع بحثي يحاول فهم ما يجعلنا بشراً حقيقيين. إنها تجربة تُذكرني باختبار فيلم الخيال العلمي "بليد رانر"، المُصمم للتمييز بين البشر والكائنات الاصطناعية التي تتخذ شكل بشر. هل يُمكنني أن أكون روبوتاً من المستقبل دون أن أعرف؟ وإذا ما حصل، فهل سأنجح في الاختبار؟ أكد لي الباحثون أن هذا ليس جوهر هذه التجربة. فالجهاز الذي يُطلقون عليه اسم "دريماشين" وهو مايعني باللغة الإيرلندية "آلة الأحلام" مُصمم لدراسة كيفية توليد الدماغ البشري لتجاربنا الواعية للعالم. مع بدء الضوء الوامض، ورغم أن عينيّ مغمضتان، رأيتُ أنماطاً هندسية ثنائية الأبعاد تدور. كان الأمر أشبه بالقفز في منظار متغير باستمرار، مع مثلثات وخماسيات ومثمنات تتحرك باستمرار. الألوان زاهية، مكثفة، ومتغيرة باستمرار، وردي، أرجواني، وفيروزي، جميعها تتوهج كأضواء النيون. يُبرز جهاز "دريماشين" النشاط الداخلي للدماغ من خلال أضواء وامضة، بهدف استكشاف آلية عمل عمليات التفكير لدينا. BBC الصور التي أراها فريدة من نوعها بالنسبة لعالمي الداخلي، وفريدة من نوعها بالنسبة لي، وفقاً للباحثين. يعتقدون أن هذه الأنماط قادرة على تسليط الضوء على الوعي نفسه. يسمعونني أهمس "إنه رائع، رائع للغاية. إنه أشبه بالتحليق داخل ذهني!". تُعدّ "آلة الأحلام"، في مركز علوم الوعي بجامعة ساسكس البريطانية، واحدة من مشاريع بحثية جديدة عديدة حول العالم تدرس الوعي البشري: ذلك الجزء من عقولنا الذي يُمكّننا من الوعي بذاتنا، والتفكير والشعور، واتخاذ قرارات مستقلة بشأن العالم. من خلال دراسة طبيعة الوعي، يأمل الباحثون في فهم ما يحدث داخل أدمغة السيليكون التابعة للذكاء الاصطناعي بشكل أفضل. ويعتقد البعض أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستُصبح قريباً واعية بشكل مستقل، إن لم تكن قد فعلت ذلك بالفعل. ولكن ما هو الوعي حقاً، وما مدى قرب الذكاء الاصطناعي من اكتسابه؟ وهل يُمكن للاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي قد يكون واعياً بحد ذاته أن يُغير البشر جذرياً في العقود القليلة القادمة؟ من الخيال العلمي إلى الواقع لطالما استُكشفت فكرة الآلات ذات العقول المستقلة في الخيال العلمي. وتعود المخاوف بشأن الذكاء الاصطناعي إلى ما يقرب من مئة عام، وتحديداً إلى فيلم "متروبوليس"، حيث يُجسّد روبوت امرأة حقيقية. الخوف من أن تُصبح الآلات واعية وتُشكّل تهديداً للبشر كان واضحاً في فيلم "2001 ملحمة الفضاء" الذي عرض عام 1968، ويحكي قصة حاسوب يدعى "هال 9000" يُهاجم رواد الفضاء على متن مركبته الفضائية. وفي الفيلم الأخير من سلسلة أفلام "المهمة المستحيلة"، الذي عُرض مؤخراً، يُهدد العالم ذكاء اصطناعي قويّ مارق، وصفه أحد الشخصيات بأنه "طفيلي رقمي واعي، يتعلم ذاتياً، ويلتهم الحقيقة". لكن في الآونة الأخيرة، شهد العالم الحقيقي تحولاً سريعاً في التفكير في وعي الآلة، حيث أعربت أصوات موثوقة في هذا المجال عن قلقها من أن هذا لم يعد ضرباً من الخيال العلمي. وقد حفز هذا التحول المفاجئ نجاح ما يُسمى بنماذج اللغة الكبيرة (LLMs)- نوع من الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم التعلم العميق لفهم اللغة البشرية وتوليدها-، أو برامج الذكاء الاصطناعي، والتي يمكن الوصول إليها عبر تطبيقات على هواتفنا مثل جيميناي وتشات جي بي تي. وقد فاجأت قدرة أحدث جيل من نماذج اللغة الكبيرة على إجراء محادثات منطقية وسلسة حتى مصمميها وبعض الخبراء الرائدين في هذا المجال. وهناك رأي متزايد بين بعض المفكرين بأنه مع ازدياد ذكاء الذكاء الاصطناعي، ستُضاء الأضواء فجأة داخل الآلات وستصبح واعية. ويختلف آخرون، مثل البروفيسور أنيل سيث، قائد فريق جامعة ساسكس، مع هذا الرأي، واصفين هذا الرأي بأنه "متفائل بشكل أعمى ومدفوع بالاستثنائية البشرية". يقول أنيل "نربط الوعي بالذكاء واللغة لأنهما مرتبطان بالبشر. ولكن مجرد ارتباطهما بنا لا يعني بالضرورة ارتباطهما بشكل عام، على سبيل المثال بالحيوانات". إذن، ما هو الوعي حقاً؟ الإجابة المختصرة هي أن لا أحد يعلم. ويتضح ذلك من خلال الحجج الرصينة والقوية التي يتبادلها فريق البروفيسور سيث، من متخصصين شباب في الذكاء الاصطناعي، وخبراء في الحوسبة، وعلماء أعصاب، وفلاسفة، والذين يحاولون الإجابة عن أحد أهم الأسئلة في العلوم والفلسفة. في حين تتباين الآراء في مركز أبحاث الوعي، إلا أن العلماء متفقون على منهجهم: تقسيم هذه المشكلة الكبيرة إلى مشاكل أصغر في سلسلة من المشاريع البحثية، والتي تشمل آلة الأحلام (دريماشين). وكما تم التخلي، في السابق، عن البحث عن "سر أو شرارة الحياة" التي تُعيد الحياة إلى الجمادات في القرن التاسع عشر، لصالح تحديد كيفية عمل أجزاء من الأنظمة الحية، يتبنى فريق جامعة ساسكس الآن النهج نفسه تجاه الوعي. ويأمل الباحثون في تحديد أنماط نشاط الدماغ التي تفسر مختلف خصائص التجارب الواعية، مثل التغيرات في الإشارات الكهربائية أو تدفق الدم إلى مناطق مختلفة. والهدف هو تجاوز مجرد البحث عن الارتباطات بين نشاط الدماغ والوعي، ومحاولة إيجاد تفسيرات لمكوناته الفردية. لكن البروفيسور سيث، مؤلف كتاب "Being You" عن الوعي، يخشى من أننا قد نندفع بسرعة نحو مجتمع يُعاد تشكيله بسرعة بفعل الوتيرة الهائلة للتغير التكنولوجي دون معرفة كافية بالعلم، أو التفكير في عواقبه. ويقول "ونتعامل مع الأمر وكأن المستقبل مكتوباً بالفعل، وكأن هناك مسيرة حتمية نحو بديل خارق". ويضيف "لم نناقش هذه الأمور بشكل كافٍ مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، ما أضرّ بنا جميعاً. لكن مع الذكاء الاصطناعي، لم يفت الأوان بعد. يمكننا أن نقرر ما نريد". هل أصبح لدى الذكاء الاصطناعي وعي بالفعل؟ لكن هناك من يعتقد في قطاع التكنولوجيا أن الذكاء الاصطناعي في أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية قد يكون واعياً بالفعل، ويجب أن نتعامل معه على هذا الأساس. أوقفت جوجل مهندس البرمجيات بليك ليموين عن العمل عام 2022، بعد أن جادل بأن روبوتات الدردشة الذكية قادرة على الشعور بالأشياء، وربما المعاناة. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، شارك كايل فيش، مسؤول رعاية الذكاء الاصطناعي في أنثروبيك، في تأليف تقرير يُشير إلى أن وعي الذكاء الاصطناعي احتمال واقعي في المستقبل القريب. وصرح مؤخراً لصحيفة نيويورك تايمز بأنه يعتقد أيضاً أن هناك احتمالاً ضئيلاً بنسبة 15 في المئة أن تكون روبوتات الدردشة واعية بالفعل. وأحد أسباب اعتقاده بإمكانية ذلك هو أن لا أحد، ولا حتى مطوري هذه الأنظمة، يعرف بالضبط كيفية عملها. يقول البروفيسور موراي شاناهان، كبير العلماء في جوجل ديب مايند وأستاذ فخري في الذكاء الاصطناعي في إمبريال كوليدج بلندن، إن هذا أمر مقلق. ويقول لبي بي سي "نحن في الواقع لا نفهم جيداً الطريقة التي تعمل بها برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي داخلياً، وهذا أمر يدعو للقلق". ووفقاً للبروفيسور شاناهان، فإنه من المهم لشركات التكنولوجيا أن تتوصل إلى فهم سليم للأنظمة التي تبنيها، وينظر الباحثون إلى ذلك كمسألة ملحة. ويضيف "نحن في وضع غريب في بناء هذه الأشياء شديدة التعقيد، حيث لا نملك نظرية واضحة حول كيفية تحقيقها للنتائج المذهلة التي تحققها. لذا، فإن فهماً أفضل لكيفية عملها سيمكننا من توجيهها في الاتجاه الذي نريده وضمان سلامتها". "المرحلة التالية في تطور البشرية" يسود اعتقاد في قطاع التكنولوجيا بأن برامج تطبيقات الذكاء الاصطناعي ليست واعية حالياً بالطريقة التي نختبر بها العالم، وربما ليسوا واعين على الإطلاق. لكن هذا أمر يعتقد الزوجان البروفيسوران لينور ومانويل بلوم، وكلاهما أستاذان فخريان في جامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرغ، بنسلفانيا، أنه سيتغير، وربما قريباً جداً. ووفقاً للزوجين بلوم، قد يحدث ذلك مع ازدياد المدخلات الحسية المباشرة من العالم الحقيقي، مثل الرؤية واللمس، في أنظمة الذكاء الاصطناعي ونماذج اللغة الكبيرة، وذلك من خلال ربط الكاميرات وأجهزة الاستشعار اللمسية (المتعلقة باللمس). ويعملان على تطوير نموذج حاسوبي يُنشئ لغة داخلية خاصة به تُسمى "براينيش" لتمكين معالجة هذه البيانات الحسية الإضافية، في محاولة لمحاكاة العمليات التي تجري في الدماغ. قالت البروفيسورة لينور في تصريخ لبي بي سي "نعتقد أن "براينيش" قادر على حل مشكلة الوعي كما نعرفه. فوعي الذكاء الاصطناعي أمر لا مفر منه". وأضاف البروفيسورمانويل بحماسة وابتسامة مرحة، قائلاً إن الأنظمة الجديدة التي يعتقد هو الآخر أنها ستظهر ستكون "المرحلة التالية في تطور البشرية". ويعتقد مانويل أن الروبوتات الواعية "هي ذريتنا"، مضيفاً "في المستقبل، ستكون آلات كهذه كيانات موجودة على الأرض، وربما على كواكب أخرى عندما نرحل". وعرّف ديفيد تشالمرز، أستاذ الفلسفة وعلوم الأعصاب بجامعة نيويورك، الفرق بين الوعي الحقيقي والظاهري في مؤتمر عُقد في توسان، أريزونا، عام 1994. وطرح "المشكلة الصعبة" المتمثلة في فهم كيفية وسبب نشوء أي من العمليات المعقدة للدماغ لتجربة واعية، مثل استجابتنا العاطفية عند سماعنا غناء العندليب. يقول البروفيسور تشالمرز إنه منفتح على إمكانية حل هذه المشكلة الصعبة. ويضيف في لقاء مع بي بي سي "النتيجة المثالية هي أن تشارك البشرية في هذا الثراء المعرفي الجديد. ربما تُعزّز أنظمة الذكاء الاصطناعي أدمغتنا". وفيما يتعلق بتداعيات الخيال العلمي على ذلك، يُلاحظ البروفيسور ذلك بسخرية ويقول "في مهنتي، هناك خيط رفيع بين الخيال العلمي والفلسفة". "حواسيب مبنية من اللحوم" ومع ذلك، يستكشف البروفيسور سيث، فكرة أن الوعي الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال الأنظمة الحية. ويقول "يمكن القول بقوة إن الحوسبة ليست كافية للوعي، لكن الحياة بحد ذاتها كافية". ويضيف "في الأدمغة، على عكس الحواسيب، يصعب فصل ما تفعله عنها وعما هي عليه". ويجادل بأنه بدون هذا الفصل، يصعب تصديق أن الأدمغة "مجرد حواسيب مبنية من اللحوم". وإذا كان حدس البروفيسور سيث حول أهمية الحياة صحيحاً، فمن المرجح أن هذه التقنية لن تكون مصنوعة من السيليكون الذي يعمل على برمجة حاسوبية، بل ستتكون من مجموعات صغيرة من الخلايا العصبية بحجم حبات العدس، تُزرع حالياً في المختبرات. وتُسمى هذه الأدمغة "أدمغة مصغّرة" في التقارير الإعلامية، ويُطلق عليها المجتمع العلمي اسم "العضيات الدماغية"، ويستخدمها لبحث آلية عمل الدماغ، ولاختبار الأدوية. حتى أن شركة "كورتيكال لابس" الأسترالية، ومقرها ملبورن، طورت نظاماً من الخلايا العصبية في طبق يمكنه تشغيل لعبة الفيديو الرياضية "بونغ" التي صدرت عام 1972. ورغم أنه بعيد كل البعد عن نظام الوعي، إلا أن ما يُسمى "الدماغ في طبق" يبدو مخيفاً وهو يحرك مضرباً على الشاشة ليضرب كرة مُكعبة. ويرى بعض الخبراء أنه إذا كان للوعي أن ينشأ، فمن المرجح أن يكون ذلك من نسخ أكبر وأكثر تطوراً من أنظمة الأنسجة الحية هذه. وتراقب "كورتيكال لابس" نشاطها الكهربائي بحثاً عن أي إشارات قد تُشبه ظهور الوعي. ويُدرك الدكتور بريت كاغان، كبير مسؤولي العلوم والعمليات في الشركة، أن أي ذكاء ناشئ لا يمكن السيطرة عليه قد تكون له أولويات "لا تتوافق مع أولوياتنا". ويضيف أن التهديد الصغير والواضح للوعي الاصطناعي أمر يود أن يركز عليه كبار اللاعبين في هذا المجال بشكل أكبر كجزء من محاولات جادة لتعزيز فهمنا العلمي- لكنه يقول: "للأسف، لا نرى أي جهود جادة في هذا المجال". Reuters المشكلة الأكثر إلحاحاً قد تكمن في كيفية تأثير وهم وعي الآلات علينا. في غضون بضع سنوات فقط، قد نعيش في عالم مليء بالروبوتات الشبيهة بالبشر والتزييفات العميقة التي تبدو واعية، وفقاً للبروفيسور سيث. ويخشى من أننا لن نتمكن من مقاومة تصديق أن الذكاء الاصطناعي لديه مشاعر وتعاطف، ما قد يؤدي إلى مخاطر جديدة. ويضيف "هذا يعني أننا سنثق بهذه الأشياء أكثر، وسنشاركها المزيد من البيانات، وسنكون أكثر انفتاحاً على الإقناع". لكن الخطر الأكبر من وهم الوعي هو "التآكل الأخلاقي"، كما يقول. ويمضي البروفيسور سيث "ستُشوّه أولوياتنا الأخلاقية بدفعنا إلى تخصيص المزيد من مواردنا لرعاية هذه الأنظمة على حساب الجوانب الحقيقية في حياتنا- ما يعني أننا قد نتعاطف مع الروبوتات، لكننا نهتم أقل أو قد لا نهتم بالبشر الآخرين إطلاقاً". وهذا قد يُغيّرنا جذرياً، وفقاً للبروفيسور شاناهان. ويضيف "ستُحاكي العلاقات الإنسانية بشكل متزايد علاقات الذكاء الاصطناعي، وسيُستخدمون كمعلمين وأصدقاء وخصوم في ألعاب الكمبيوتر، وحتى شركاء عاطفيين. لا أعلم إن كان ذلك جيداً أم سيئاً، ولكنه سيحدث، ولن نتمكن من منعه".


شفق نيوز
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- شفق نيوز
هل يجعلنا الذكاء الاصطناعي "أكثر غباء"؟
تطبيقات الذكاء الاصطناعي ستحسن من حياة البشر من خلال تأدية مهام مملة أو شاقة تتطلب الكثير من الوقت والجهد، ومن ثم تمنحنا فرصة أكبر للاستمتاع بالحياة أو التفرغ لأشياء أخرى أكثر أهمية. هذه هي وجهة نظر المتحمسين لما يعرف بتقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) التي انتشرت بشكل مهول في الأعوام القليلة الماضية، ولا سيما وسط الشعبية الهائلة التي حظي بها روبوت الدردشة "تشات جي. بي. تي" الذي بلغ العدد الأسبوعي لمستخدميه النشطين في فبراير/شباط الماضي مليون مستخدم، وفق شركة "أوبن. إيه. آي" التي أطلقته في عام 2022. على سبيل المثال، مهام مثل تلخيص الوثائق الطويلة أو صياغة رسائل إلكترونية روتينية أو ترجمة نصوص بسيطة أو كتابة سيرتك الذاتية بطريقة مهنية – كلها أشياء يستطيع الذكاء الاصطناعي التوليدي القيام بها في ثوان معدودات. لكن هناك من يحذر من أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدلا من أن يطلق العنان لأدمغتنا للانخراط في أشياء أهم وأعمق، قد يجعلنا "أكثر غباء". فكيف يمكن أن يحدث ذلك؟ وهل نستطيع الاستفادة من إمكانياته الهائلة من دون أن يؤدي ذلك إلى أن نصبح أقل ذكاء وإبداعا؟ إضعاف مهارات التفكير النقدي من بين أحدث الدراسات التي ربطت بين الاعتماد على الذكاء الاصطناعي التوليدي وانخفاض القدرات المعرفية والإدراكية للبشر دراسة أجرتها شركة مايكروسوفت بالتعاون مع باحثين من جامعة كارنيغي ميلون في وقت سابق من العام الحالي. الدراسة، التي شملت 319 شخصا يعملون في مهن تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي على الأقل مرة واحدة في الأسبوع، وجدت أن هذه التقنية تغير طريقة التفكير النقدي لدى هؤلاء الأشخاص. فهي تقلل المجهود الذهني المطلوب لتنفيذ المهام، فيفرط المستخدمون في اعتمادهم على مخرجات الذكاء الاصطناعي، خصوصا عندما يثقون بها أكثر من اللازم. ويتحول المستخدمون من جامعين للمعلومات إلى متحققين من صحتها، من منفذين نشطين للمهام إلى مشرفين على مخرجات الذكاء الاصطناعي. وحددت الدراسة عدة أشياء قالت إنها تعرقل التفكير النقدي في المهام التي يساعد الذكاء الاصطناعي في تنفيذها، من بينها انخفاض الدافع للتفاعل بعمق مع المحتوى، وعدم امتلاك القدرة أو المعرفة الكافية لتقييم مخرجات الذكاء الاصطناعي بشكل فعال. وهناك دراسة أخرى أجراها الدكتور مايكل غرليتش مدير معهد الاستشراف الاستراتيجي والاستدامة المؤسساتية بكلية التجارة السويسرية (إس.بي.إس) على 666 شخصا، وجدت أن ثمة صلة بين الاستخدام المستمر للذكاء الاصطناعي التوليدي وانخفاض القدرة على التفكير النقدي. يقول البروفيسور غرليتش لـ"بي. بي. سي. عربي" إن البحث الذي أجراه أظهر أن أدوات الذكاء الاصطناعي "تشجع على التفريغ الإدراكي، أو بعبارة أخرى الاستعانة بمصدر خارجي هو الآلات للتفكير نيابة عنا. هذا ليس سلبيا في حد ذاته، ولكن إذا اعتدنا عليه، فإنه قد يقوض من قدرتنا على القيام بالتفكير المنطقي المعقد أو حل المشكلات أو التفكير النقدي". التفكير النقدي لا يعني مجرد اكتشاف الأخطاء، بل هو عملية ذهنية معقدة تمكن الشخص من الحكم على معلومة ما بشكل منطقي وموضوعي من خلال فهم وتفسير الأدلة التي يجمعها عن طريق الملاحظة والقراءة والتجربة والنظر بعين الشك إلى الافتراضات القائمة وأخذ وجهات النظر المختلفة بعين الاعتبار. وللتفكير النقدي أهمية كبيرة في تعزيز اتخاذ القرارات وتحسين مهارات حل المشكلات وتقييم المعلومات وبناء الحجج القوية وزيادة الوعي بالذات والإبداع وتحسين مهارات اللغة والتعبير عن الأفكار. يضيف غرليتش أن "عضلاتنا الذهنية، كتلك التي تستخدم في التفكير التحليلي، من الممكن أن يصيبها الوهن إذا لم تُدَرب بانتظام. ومع مرور الوقت، قد يؤدي اعتمادنا على الذكاء الاصطناعي إلى تقويض قدرتنا على التفكير النقدي، ولا سيما في المواقف المصيرية أو الغامضة التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التعامل معها. لقد أظهرت دراستي أن الشباب والأشخاص محدودي التعليم بوجه خاص يميلون إلى الاستعانة بتلك التقنية للقيام بعملية التفكير، وهو ما أدى إلى انخفاض مهارات التفكير النقدي لديهم". هل تحارب أدمغتنا على عدة جبهات؟ التحذير من الإفراط في استخدام روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي لما قد يكون له من تأثير سلبي محتمل على وظائفنا المعرفية والإدراكية يضاف إلى تحذيرات مماثلة من الإفراط في استخدام التقنيات الرقمية الحديثة خلال العقد الأخير. على سبيل المثال، هناك دراسات تربط بين قضاء فترات طويلة أمام شاشات الهواتف الذكية وانخفاض الانتباه وضعف نمو الدماغ. وفي نهاية عام 2024، اختار قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية مصطلح "brain rot" أو "تعفن الدماغ" ليكون مصطلح العام. يشير المصطلح إلى "التدهور المفترض لحالة الشخص العقلية والفكرية، ولا سيما عندما يُنظر إليه على أنه نتيجة للاستهلاك المفرط للمواد (خاصة محتويات الإنترنت) التي تعد تافهة أو لا تشكل تحدياً للعقل"، وفق تعريف القاموس. ربما يتساءل البعض عما إذا كان اعتمادنا على الذكاء الاصطناعي التوليدي أسوأ من اعتمادنا على محركات البحث على الإنترنت، أو الإفراط في مشاهدة المحتوى "التافه" على وسائل التواصل الاجتماعي. يرى البروفيسور غرليتش أن "ما تفعله وسائل التواصل ومحركات البحث بالأساس هو تشتيت انتباهنا أو توجيهه، وعادة ما يؤدي ذلك إلى تفتيت تفكيرنا وإغراقنا بالمعلومات الضحلة. أما الذكاء الاصطناعي التوليدي فينتج لنا محتوى، ومن ثم يخطو خطوة إضافية، إذ يفكر بالنيابة عنا. إنه اختلاف صغير ولكن مهم للغاية. عندما نتوقف عن صياغة حججنا أو التحقق من صحة المعلومات بشكل مستقل، فإننا نخاطر ليس فقط بفقدان تركيزنا، ولكن أيضا باستقلالنا المعرفي". ويضيف: "لذا، فإنه رغم أن الاتجاهين مثيران للقلق، فإن قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة الفكر البشري قد تشكل تحدياً أعمق وأطول أمدا لكيفية بنائنا للمعرفة واتخاذنا للقرارات". الوجه الآخر قد يبدو الأمر بسيطا: اعتمادنا الزائد على الذكاء الاصطناعي وجعله يفكر بدلا من أن نفكر نحن ونستخدم وظائفنا الإدراكية والمعرفية سيؤدي إلى تقويض قدرتنا على التفكير المنطقي أو النقدي، ومن ثم يجعلنا أقل ذكاء أو "أكثر غباء" كما يحلو لبعضهم أن يقول. لكنّ للصورة أبعادا أخرى. فالذكاء البشري مفهوم معقد يتأثر سلبيا أو إيجابيا بعوامل عديدة، منها الجينات الوراثية والتغذية والصحة البدنية والتعليم والتربية والتلوث، وهو ما يجعل من الصعب برأي بعض الخبراء النظر إلى تأثير عامل واحد بمعزل عن باقي العوامل. كما أن هناك من يرى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يغير الطريقة التي نفكر بها، ولكن ليس بالضرورة إلى الأسوأ. يقول دكتور كارلوس زدنيك مدير مركز فلسفة الذكاء الاصطناعي بجامعة إيندهوفين في هولندا لـ بي. بي. سي. عربي إن من بين الآثار التي قد تترتب على ذلك هو "أن تفكيرنا، أو الطريقة التي نعبر بها عن تفكيرنا، على الأرجح سوف تتغير. ففي حين كنا في السابق نعبر عما نفكر فيه بالكلام أو الكتابة أو الرسم أو عزف الموسيقى مثلا، في المستقبل قد نعبر عنه بطرق تعتمد على التفاعل مع أدوات الذكاء الاصطناعي أو استخدامها لمساعدتنا على القيام بكافة تلك الأنشطة وغيرها. وبالطبع هذه ليست ظاهرة جديدة، ففان غوخ أظهر عبقريته بالطريقة التي كان يستخدم بها فرشاة الرسم، وروجر فيدرر بطريقة استخدامه لمضرب التنس...الجيل القادم من المفكرين ربما سيظهر مواهبه بالطريقة التي يستخدم بها الذكاء الاصطناعي". كيف نستفيد من دون أن نصبح "أكثر غباء"؟ الدراسة التي أجرتها مايكروسوفت أظهرت أن الأشخاص الذين لديهم ثقة بالنفس كانوا أكثر نزوعا لاستخدام التفكير النقدي للتحقق من مخرجات الذكاء الاصطناعي. وخلصت إلى أن ثمة حاجة إلى أن تكون أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مصممة بحيث تعزز التفكير النقدي لدى العاملين في مجالات تتطلب استخدام المعلومات. وإلى أن يتحقق ذلك، يتعين على المستخدم التعاطي مع الذكاء الاصطناعي بطريقة تجعله يتفادى خطر أن يؤدي ذلك إلى إضعاف قدراته على اتخاذ القرارات وعلى مهاراته الإدراكية والمعرفية. يقول البروفيسور غرليتش: "كلما تعاملنا مع الذكاء الاصطناعي التوليدي على أنه مساعد قائد الطائرة وليس طيارا آليا، كلما حافظنا على قدراتنا الإدراكية والمعرفية بل وعززناها". ويضيف أنه ينبغي أن "نتعامل مع الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس بوصفه بديلا للتفكير، ولكن كشريك نتناقش معه، كشيء يتحدانا وينقح أفكارنا ويساعدنا على استكشاف وجهات نظر مختلفة. ولتفادي البلادة الفكرية، يجب أن نتفاعل بشكل واعٍ مع مخرجات الذكاء الاصطناعي، ونطرح أسئلة وننتقد الافتراضات ونتحقق من صحة المزاعم". أما الدكتور زدنيك فيشدد على أهمية "محو الأمية" في مجال الذكاء الاصطناعي، ويشمل ذلك التعريف بما تعنيه تلك التقنية، وكيف تعمل، وما تستطيع وما لا تستطيع تحقيقه، ومتى ينبغي استخدامها، ومتى لا ينبغي استخدامها. ويضيف: "أتوقع أن تنتشر تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد، ولذا من المهم أن يتم هذا النوع من محو الأمية مبكرا وعلى نطاق موسع. الأطفال ينبغي أن يتعلموه، والمعلمون ينبغي أن يدرسّوه. لا يجب أن نحظر على الأطفال استخدام الذكاء الاصطناعي، ولكن يجب أن نعلمهم كيف يستخدمونه بحكمة". ويشير زدنيك كذلك إلى أهمية تحمل الحكومات مسؤولية إدارة تقنية الذكاء الاصطناعي "بما يحقق توازنا بين سلامة المجتمع من جهة، والنمو الاقتصادي والابتكار من جهة أخرى". خلاصة القول: الذكاء الاصطناعي التوليدي مثله مثل أي تقنية أخرى يمكن أن تكون له منافع هائلة للأفراد والمجتمعات، ويمكن أن يعود علينا بالضرر، والأمر يتوقف إلى حد كبير على طريقة استخدامنا له. ومن خلال التوعية بإمكانياته وطريقة عمله ومواطن ضعفه، والتشجيع على التفاعل معه بشكل لا يلغي تفكيرنا، يمكننا استثمار إمكاناته الهائلة من دون أن نصبح أقل ذكاء.


اذاعة طهران العربية
١١-٠٤-٢٠٢٥
- اذاعة طهران العربية
مواد مركبة تتوافق مع الاستدامة البيئية
يهدف موسوي من خلال مشروعه إلى تصنيع وتقييم أداء المحفزات الكهربائية الكربونية النانوية ثلاثية الأبعاد، المشتقة من الأطر المعدنية العضوية القائمة على اللانثانيدات، لتطبيقات مثل تفاعل اختزال الأكسجين والمكثف الفائق. وأكد على أهمية تحديد النوع والنسبة المناسبة من الأيونات المعدنية واللانثانيدات والربيطات العضوية وقاعدة الكربون لتحقيق الأهداف المرجوة. كما أشار موسوي إلى أن استخدام طلاء السيليكون يعد خطوة مهمة لمنع التجميع الذاتي والاندماج غير القابل للعكس وأكسدة سطح الجسيمات النانوية المعدنية أثناء التسخين. وأكد على ضرورة إيجاد القيم المثلى لتركيز أيونات المعادن ودرجة حرارة التشغيل ونسبة كتلة اللانثانيدات إلى المعادن الأخرى. وفي سياق متصل، اعتبر موسوي أن استخدام الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والرياح والحرارية الأرضية، يعد حلاً فعالاً للتغلب على التحديات المرتبطة بالمشروع. وأوضح أن البروتوكول الأمثل لتصنيع كل محفز كهربائي يعتمد على المعرفة الفنية للفريق التنفيذي والتجارب المختبرية. ومع ذلك، أشار موسوي إلى التحديات التي تواجه المشروع، بما في ذلك التكلفة العالية لبعض المواد الخام، وعدم نقاء بعض المواد، بالإضافة إلى التكاليف المرتفعة أو عدم توفر اختبارات التوصيف. كما نبه إلى أن التأخير في إصلاح وصيانة المعدات المختبرية قد يؤثر سلباً على تقدم المشروع.