logo
ذكريات مع صوت زياد الرحباني

ذكريات مع صوت زياد الرحباني

العربي الجديدمنذ 2 أيام
كان هناك مُسجِّل صغير وسط صالة الضيوف، حيث كنّا نسكن في حي وادي عدي بمسقط، في الثمانينيّات، ويتميّز هذا الحي (وادي عدي) بأن جميع بيوته صغيرة ومتشابهة ومصفوفة، تتكوّن من غرفتَين ومجلس وصالة، وسطح طبعاً. والسطح بالنسبة إلى عائلة كبيرة نسبياً كعائلتنا، بإخوتي السبعة وأبي وأمي وجدّتي، علاوة على من يزوروننا من القرى ويمكثون أياماً، هو متنفّس الأطفال ومسرح الركض واللعب والحركة والصعود والهبوط، والباب الخارجي يكون عادة مفتوحاً كبقية أبواب بيوت حارات وادي عدي. لذلك، يدخل أطفال الجيران ويتّجهون رأساً إلى السطح للمشاركة في اللعب، وبدورنا نخرج إلى بيوتهم وأعيننا على السطوح. وفي الشتاء، تكون هذه الأسطح أماكنَ للنوم.
المُسجِّل الذي في صالة الضيوف كثيراً ما يصدح بأغانٍ متفرّقة، أو يضبط على تردّد الإذاعة العُمانية الزاخرة بأغاني ذلك الزمان، ولكن حين صدر ألبوم زياد الرحباني "أنا مش كافر"، الذي لا أعرف كيف وصل إلي، ظلّ هذا الكاسيت يدور في هذا المُسجِّل الصغير طوال الوقت وبصوت مرتفع، حتى إن الأطفال كانوا يلتقطون الكلمات ويبدأون في ترويجها: "أنا مش كافر بس الجوع كافر.. أنا مش كافر بس المرض كافر.. أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر.. أنا مش كافر، لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي كل الإشيا الكافرين". يستغرب الكبار حين يسمعون هذه الأغنية التي بدأت بالانتشار في الشارع انطلاقاً من بيتنا، ولكن التسامح كان كبيراً مع الأغاني حينها، إلى أن راجت بعد ذلك خطب الداعية الكويتي أحمد القطّان بصوته المُزلزِل، وانتشرت خطبه بقوة النار في الهشيم، ما شكّل فاصلاً بين مرحلة متسامحة مع الفنون، وأخرى متّجهة نحو التجهّم والترهيب.
استُبدلت بأشرطة الأغاني مثل هذه الأشرطة الوعظية عالية الصوت، ومواضيع من قبيل "عذاب القبر"، و"مطالب أهل النار"، و"حال المؤمن والكافر يوم القيامة"، و"سهام إبليس"، و"انتبهوا أيها الغافلون"، وغيرها من مواضيع لا تبدي أدنى تسامح، حتى مع الطرب الأصيل الهادئ، بكلماته البليغة مثل صوت محمّد عبد الوهاب وفيروز وأم كلثوم، وطبعاً لن يكون هناك أدنى مساحة لصوت زياد الرحباني، الذي ينطلق من القاع، ومن مفارقات الحياة، ونقد الفساد بأنواعه، وخاصّة أغنية "أنا مش كافر" ببعدها الإنساني الساخر، وهي تخاطب المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، وكان ضمن كلماتها: "يللي بيصلّي الأحد ويللي بيصلي الجمعة.. وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة.. هوّ يللي ديّن قال وأنا يللي كافر عال.. راجعوا الكتب السماوية راجعوا كلام القادر".
نستمع الآن إلى صوت فيروز في السيارات أكثر، وفي الصباحات، وفي مختلف الإذاعات، دائماً ثمّة أغنية لفيروز، لا بدّ أن زياد بعبقريته الممزوجة بحسّ نقدي ساخر، كان يدرك أنه لا يمكن أن يضيف كثيراً لو ظلّ متتبعاً خطّ والدته وأعمامه، لأن سماءهم ملأت الوجود العربي بكلّ سلاسة ومحبّة، لذلك اختار أن ينطلق من الأرض، أي أن تكون شعبيته بعيدة عن تلك الصرامة والأناقة الفيروزية المميّزة والعظيمة، فشقّ طريقاً ممزوجاً بالجنون والسخرية. وإن كان وجد في المسرح مساحته الأكبر في الانتشار، إلا أن أغانيه كذلك لها ذواقها.
هناك من لا يتفق مع بعض قفشاته في مقابلاته الإذاعية، ولكن لا يمكن الاختلاف حول إنسانيته ونزاهته، وفي هذا يشترك أيضاً مع السيدة فيروز والدته، التي رفضت أن تغنّي للأفراد والأشخاص. زياد أيضاً ربّما كان في إمكانه أن يكسّب كثيراً من المال لو شقّ هذا الطريق، نظراً لإمكانياته الموسيقية الكبيرة.
مرّة سمعت لقاءً في برنامج طربيات بإذاعة صوت الخليج القطرية، وكان اللقاء مع الملحّن الكويتي المعروف أنور عبد الله، وحين ورد اسم زياد استغرق أنور في الحديث عن عبقريته، وأضاف بعض التفاصيل من قبيل أن زياد يعلّق في صالة منزله فقط صورة الشيخ زكريا أحمد، وأحياناً حين يدخل بعض الضيوف يظنونها صورة أحد أقاربه أو جدّه. وأذكر مرّة حين كنت طالباً التقيت الراحل كوكب حمزة في الرباط في التسعينيّات، وأجريت معه لقاءً في مقهى باليما (ضاع مني هذا اللقاء للأسف)، سألته عن رأيه بأغاني زياد، فأشاد أكثر بألحانه، وقال لي إن كثيراً من المغنّين يتمنّون أن يلحّن لهم زياد ولو أغنية واحدة، ولكن زياد يرفض أن يلحّن لأحد إن لم يكن مقتنعاً به.
برحيل زياد الرحباني تخسر سماء الذائقة العربية مدرسة موسيقية شعبية، انفتحت بهدوء على السخرية والجنون الخلّاق.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل
الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل

العربي الجديد

timeمنذ يوم واحد

  • العربي الجديد

الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل

حين رحل زياد الرحباني في 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، لم يكن موته مجرّد نهاية حياة فنّان، بل كان تجسيداً مكثّفاً لحالة أعمق نعيشها: الزمن المُعلَّق. موت الابن الذي كان يمثّل الحداثة والتمرّد، وبقاء الأمّ التي تجسّد الأصالة والذاكرة، يضعنا أمام مفارقة وجودية عميقة. كأنّ الزمن نفسه قد انقلب على قوانينه، فصار الماضي أكثر حياةً من المستقبل، والذاكرة أقوى من الأمل. لمحاولة فهم هذه المفارقة، نحتاج أن نستدعي تأمّلات مارتن هايدغر في كتابه "الوجود والزمان". الزمن فيها ليس مجرّد إطار خارجي نتحرّك فيه، بل هو النسيج الأساس لوجودنا. نحن كائنات زمانية في جوهرنا، ممتدّون بين الميلاد والموت، مُلقون (Geworfenheit) في عالم من الإمكانات. الماضي ليس شيئاً انتهى، بل ما يشكّل هُويَّتنا، والمستقبل ليس ما لم يأت بعد، بل أفق إمكاناتنا. لكن في زمننا المُعلَّق، انقطع هذا الامتداد. المستقبل صار مسدوداً والماضي عبئاً لا يُحتمل. يأتي هنري برغسون في "المادة والذاكرة" ليقدّم لنا مفتاحاً آخرَ لفهم حالتنا. حين يميّز بين الزمن الآلي، الذي تقيسه الساعات، والزمن الحيّ، الذي يسمّيه الديمومة (Duration). تدفّق مستمرّ من التجدّد، حيث كلّ لحظة فريدة. الوعي الإنساني يعيش في توتّر خلّاق بين الماضي المحفوظ في الذاكرة، والمستقبل الذي يستدعي الفعل. لكن الذاكرة تحوّلت، في زمننا المُعلَّق، من قوة محرّرة إلى ثقل مشلول، والمستقبل من دعوة إلى الإبداع إلى تكرار مملّ للحاضر. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً لعلّ موت زياد يجسّد هذا الانقطاع بشكل رمزي صارخ. الابن الذي سخر من كلّ شيء، حتى من إرث والديه، يرحل قبل الأمّ. الأيقونة فيروز، الصوت الذي غنّى للأمل والحرية، تجلس صامتةً في بيروت المُعلَّقة هي الأخرى بين أزمنة متناقضة. صمتها ليس صمت الحزن فقط، بل صمت زمن فقد قدرته على الكلام ذي المعنى. هذا الصمت المُطبق يقودنا إلى سؤال أعمق: هل يمكن لشيءٍ جديدٍ أن يحدث في زمنٍ توقَّف عن الحركة؟ آلان باديو في "الكينونة والحدث"، يُعرّف الحدث قطيعةً جذريةً مع النظام القائم، انبثاق للجديد من قلب المستحيل. الحدث عند باديو ليس مجرّد واقعة، بل لحظة تأسيس حقيقة جديدة. لكن زمننا المُعلَّق يبدو كأنه زمن موت الحدث بهذا المعنى. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً، تتكرّر الكوارث من دون أن تولّد وعياً مختلفاً. ربّما لهذا بالذات كان موت زياد مؤثّراً إلى هذا الحدّ. ليس لأنه حدث بالمعنى الباديوي، بل لأنه جاء ليؤكّد استحالة الحدث في زمننا. زياد الذي كانت مسرحياته ولحظات سخريته محاولات لإيجاد شقوق في جدار الواقع، يرحل من دون أن تنجح هذه الشقوق في أن تصبح فتحات نحو مستقبل مختلف. لكن فالتر بنيامين، الذي كتب أطروحات حول فلسفة التاريخ في ظروف مشابهة من اليأس التاريخي، يذكّرنا بأن التاريخ ليس خطّاً مستقيماً من التقدّم، بل مليء بلحظات كامنة يسمّيها "الزمن-الآن" أو "الزمن الآني" (Jetztzeit)، لحظات مشحونة بإمكانية ثورية، إذ يمكن للماضي أن يتفجرّ في الحاضر. ربّما كان زياد يحاول إيجاد مثل هذه اللحظات، وربّما يكون رحيله نفسه إحداها. في الموت الآخر الذي نحياه، نشهد فيه أطفالاً يموتون قبل أن يعرفوا طعم الحليب. أجساد تتآكل من الداخل، جائعة ليس للخبز فقط، بل للمعنى نفسه. أرض تستحيل ذاكرةً عوض حضارة. يتحدّث موريس بلانشو في كتابة "الفاجعة" عن الكتابة محاولةً مستحيلةً للاقتراب ممّا لا يُقترَب منه، لتسمية ما يهرب من كلّ تسمية. يكتب قائلاً: "الفاجعة هي ما يحرمنا من ذلك الملجأ الأخير الذي هو الفكر في الموت". نحن الآن في قلب هذه الفاجعة، حيث حتى الموت فقد معناه نهايةً، وصار مجرّد استمرار آخر للعدم. في هذا الموت البطيء، الزمن نفسه يتحلّل. كلّ لحظة تصبح أبدية من العذاب، وكلّ أبدية تنضغط في لحظة. نحاول أن نحيا "بلا ولا شي" عوض أن نحبّ... لا ماضٍ نستند إليه، لا مستقبل ننتظره، لا حاضر نملكه. مجرّد ديمومة فارغة، زمن بلا محتوى، حياة بلا حياة. وهل عشنا حقّاً إذا صرنا نحيا هكذا، معلّقين في العدم، نتنفّس لكن لا نحيا، نشهد لكن لا نفعل، نعرف لكن لا نستطيع؟ هنا بلانشو نفسه يذكّرنا أن الكتابة عن الفاجعة ليست بحثاً عن حلول، بل محاولة للبقاء شهوداً. ليس الأمل التقليدي ما نحتاجه، بل شيء أكثر صلابةً وواقعية. يتحدّث جاك دريدا في البقايا عن تلك الآثار التي تنجو من المحو وتحمل في طيّاتها بذرة المعنى. زياد كان سيّد هذا الفن، فنّ العثور على الحياة في الموت، على الضحك في البكاء. في موسيقاه، النشاز ليس خطأً، بل لغة أخرى للانسجام، والصمت ليس فراغاً بل نوتة امتلاء. علّمنا أن البقاء ليس مجرّد استمرار بيولوجي، بل فعل إبداعي يومي، مقاومة بالفنّ ضدّ العدم. علنا ابن فيروز، الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، نستحضر في لحن عابر ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي غنّى زياد عن الإيمان بطريقة الكافر، وعن الكفر بقلب المؤمن، في "أنا مش كافر". هذا التناقض الخلّاق هو جوهر فنّه، وربّما جوهر ما نحتاجه للنجاة. ليس الإيمان الساذج ولا الكفر المطلق، بل تلك المنطقة الرمادية حيث يمكن للمعنى أن ينبثق من العبث. سارتر كان يتحدّث عن الغثيان إدراكاً للعبثية المطلقة للوجود، لكنّ زياد علّمنا أن نرقص على إيقاع هذا الغثيان، أن نحوّله موسيقى... موسيقاه التي مزجت المتناقضات، مسرحياته التي حوّلت المأساة ضحكاً أسودَ، كانت دروساً في البقاء وسط الانهيار. ابن فيروز الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، جعلنا نستحضر في سطر واحد (أو في لحن عابر) ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي. في "كيفك انت" أو "بلا ولا شي" نستعيد لحظاتٍ من زمن آخر، لكن نعيشها بشكل جديد. هذه معجزة الفنّ، قدرته على جعلنا نحيا حتى ونحن نموت. السؤال ليس كيف نموت ونحن أحياء، بل كيف نحيا حتى ونحن نموت، كيف نجد في الموت بذرة حياة، في الصمت صوتاً، في اليأس أملاً. في زمنٍ يموت فيه كلّ شيء، نتعلّم من زياد أن البقاء ليس مجرّد استمرار، بل فعلٌ وجودي. أن نخلق المعنى وسط اللامعنى، أن نقيم في الزمن المعلّق لا خضوعاً، بل وعياً، لأن سؤال: كيف نكون في زمن لا يتحرّك؟ لا يُجاب عليه بالخروج منه، بل بالإقامة فيه وتقبّله حتى نفهمه، حتى نخلخل صمته. لتجاوزه. زياد لم يدلّنا على باب، بل على نغمة؛ لم يعطنا مخرجاً، بل جعلنا نصغي للتيه. وهناك، فقط هناك، بلحن زياد، يمكن أن نقول: "إيه... في أمل".

زياد الرحباني... آثار على رمال الأخوين
زياد الرحباني... آثار على رمال الأخوين

العربي الجديد

timeمنذ 2 أيام

  • العربي الجديد

زياد الرحباني... آثار على رمال الأخوين

يمثّل زياد الرحباني في نشأته الفنية ومراحل تطوره، موهبةً بزغت في بيئة ملائمة ضمن مسار نموّ طبيعي. تبقى في جيناتها بصمات وراثية من المنبع، ولا تلبث في جوهرها ومظهرها أن تكتسب هوية خاصة. كتب الكلمات، ولحّن، ووزّع الموسيقي، وألّف المسرحيات. زياد أخرج مسرحياته، أما تلك التي كتبها الأخوان رحباني، فكان إخراجها بتوقيع صبري الشريف، ثم برج فازليان. وفي الحالين، لم يكفّ عاصي عن التدخل الفني. لم يتولَّ زياد قيادة الأوركسترا لانشغاله بالتمثيل، وفي الحفلات الموسيقية تولّى مهمة العزف على البيانو. في البدايات، دخل هذه الفضاءات الموسيقية الغنائية والمسرحية من باب الأخوين رحباني ، ثم ما لبث أن صنع أبوابه، وأصبح يدخل ويخرج منها. لم يكن إنجاز الأخوين رحباني رجعياً، لينكره زياد حين أصبح الفنان الملتزم بالتوجّهات التقدمية، أو ليعلن الحرب عليه. حتماً لم يكن لديه موقف معادٍ لمجموعات روائع الأخوين عن فلسطين، ولم يستنكر الأغاني التي صاغاها عن الفلاحين والمعاول ومواسم الحصاد وجبهة العامل السمراء، والمواطن - الجندي الذي "راح مع العسكر" وأصبح برجاً مسوّراً (وسيرجع بأصوات البلابل وأغاني الحصادين وكتب المدارس). لم يستهجن النبرة المرحة في أغاني الشاويش، أو "بويا بويا" أو "جدي يا بو ديب". لم يرفض أغاني الحب من لون "طريق النحل". الخلاف كان واضحاً بشأن الأغاني التي اتُّفق على تسميتها "الوطنية"، ومردّه إلى أسلوب النظم. لم يستسغ زياد المبالغة في التغنّي بجمال لبنان إلى حد الطوباوية، خصوصاً عندما ترسّخت لديه نظرة واقعية تجاه المجتمع، يوم بدأ لبنان يفقد جماله مع اندلاع الحرب سنة 1975 وحدوث الانهيارات السياسية والاجتماعية والثقافية. في مقابلة صحافية أجرتها منى غندور (سنة 1980) قال بالحرف الواحد: "بعد الحرب بدأ الخط الرحباني "يعصّبني" وأتعب من سماعه. أحبّه في بعض الأحيان، لكنه حين يزيد أختنق. لا أفهم أن يقال بعد الحرب حكايات عن الغيمة الزرقاء والعصفور والسمّاعة التي تبكي. يجب أن يجرب الرحابنة نوعاً آخر". وفي جلسة معه في مطلع التسعينيات، أتينا على ذكر هذا النمط، فاستعاد ختام مغناة "موسم العز" وتساءل بسخرية: "معقول نغني اليوم: بعد الله اعبدوا لبنان؟ الناس مش عم يعبدوا الله بدك ياهم يعبدوا لبنان؟ معقول نرندح: القوي لبنان، الغني لبنان، الهَنا والجنى بسما لبنان. أي قوي؟ ما عاد عنده رجلين يمشي، وأي غني والفقر عم ينهش الناس؟ وأي هَنا بالسما وما في غير رصاص وقذايف وطائفية عم تكبر متل غول متوحش؟". صحيح أن الأخوين رحباني في البدايات بمهرجانات بعلبك، نظرا إلى لبنان بمثالية، وتغنّيا بصورة له كما يتمنّيانه، ليس كما هو عليه. والصحيح أيضاً أن هذه النظرة لم تقتصر عليهما، في مرحلة أنشد فيها وديع الصافي "لبنان يا قطعة سما"، وغنّت صباح "يسلم لنا لبنان جنة أمانينا" (الأغنيتان للشاعر يونس الابن) وصدح صوت نجاح سلام بقصيدة أمين تقي الدين "الله يا لبنان ما أجملك". وبدءاً من "بياع الخواتم"، وصولاً إلى "بترا"، لم تكن مسرحيات الأخوين رحباني تحمل سمات لبنان المثالي الوهمي، بل لم تخلُ من نقد ومن غمز ولمز، كما هو الحال في "هالة والملك" و"الشخص" و"يعيش يعيش" و"ناطورة المفاتيح" وسواها. وفي "جبال الصوان"، هناك موقف صريح مؤيد للمقاومة ضد الاحتلال. تغنّى الأخوان عاصي ومنصور بلبنان الوطن وليس بلبنان النظام. وفي الإطار نفسه، أبدع زياد لاحقاً لحناً جميلاً، زاد من جماله صوت فيروز وهي تغني كلمات جوزف حرب "من يوم اللي تكوّن يا وطني الموج". ليس الخلاف هنا بين زياد وأهله على حبّ لبنان، بل على طريقة حبّه، كأنما لهم لبنانهم وله لبنانه. نشأ زياد رحباني في بيت مفعم بالشعر والأنغام. وتعلم العزف ونظم قصائد وهو في عمر المراهقة، ثم خاض تجربة التلحين بأغان لخالته هدى حداد ولمروان محفوظ، إلى أن ظهر بقوة في المشهد الغنائي عندما أُعلن أن فيروز ستغني لحنه "سألوني الناس" في مسرحية "المحطة". كان زياد قد كتب ولحن أغنية لينشدها مروان محفوظ مطلعها "أخدوا الحلوين قلبي وعينيي/ أخدوا الليالي العشناها سوا"، لكن فيروز ومنصور طلبا اللحن، وعلى نغماته كتب منصور كلمات "سألوني الناس". ونجح اللحن نجاحاً كبيراً، واعتُمد زياد رحباني ملحناً أصيلاً يساهم في مسرحيات الأخوين رحباني وفيروز. لم تغنّ فيروز ألحان زياد مجاملة لابنها، بل اعترافاً منها بموهبته الأكيدة. آنذاك، غنّت فيروز في ما غنّت: "قديش كان في ناس" و"ع مفرق دارينا" و"حبّو بعضن" و"يا جبل الشيخ"، وكانت تحمل بصمات زياد الرحباني الجميلة وتعبّر عن ذائقته الخاصة، لكنها في إطار الإبداع الرحباني العام. كذلك الحال وزياد لمّا يزل في الفريق الرحباني الكبير، فبقيت ألحانه لغير فيروز ضمن تقاليد الغناء الرحبانية مع احتفاظها بأسلوبه الخاص، مثل "خايف كون عشقتك" (مروان محفوظ) و"دلوني على عيون السود" (جورجيت صايغ) و"الحالة تعبانة يا ليلى" و"قلتي لي تاركتك ماشي الحال" و"أنا اللي عليك مشتاق" (جوزف صقر). شهد عام 1975 خروج زياد التدريجي من الانتداب الرحباني بقيادة عاصي ومنصور، إلى الاستقلال الذاتي. كان في عمر التاسعة عشرة، في مرحلة الرفض التي يعيشها الشباب (صراع الأجيال) وما ينجم عنه من شعور فطري غريزي لديهم بضرورة الثورة على تقاليد الآباء وعلى الأعراف التي مشت بوحيها الأجيال الماضية، مع عدم إغفال الظروف السائدة في المجتمع اللبناني، من تفاقم حدة الطائفية، والتشظي السياسي، ودويّ قذائف المدافع. في هذا الإطار، بدأ زياد الرحباني بتكوين قناعاته الفكرية والسياسية التي قادته إلى موقع مختلف. وبعد انفصال فيروز الفني عن الأخوين رحباني سنة 1979، تعاونت مع الملحنين: فيلمون وهبي وزكي ناصيف ومحمد محسن (بعض الموشحات). وتبنّت آنذاك ألحان زياد بإعجاب أكيد، وقالت عنها: "أحب فيها الجديد في التعبير الموسيقي والأدائي. للماضي أغنياته وذكرياته ومجده. المرحلة الرحبانية كانت ذهبية، أنا اليوم أجدد مع زياد". حملت أغاني تلك المرحلة بصمات زياد في "وحدن" (شعر طلال حيدر) و"حبيتك تا نسيت النوم" و"زعلي طوّل أنا ويّاك" (شعر جوزف حرب) و"أغنية الوداع" (شعر زياد)، لكنها لم تقطع الصلة بتقاليد الأخوين رحباني، ربما لتجنّب المخاطرة وصدم مَنْ اعتاد خلال عقود لوناً فيروزياً معيّناً. تدريجياً، بدأ الجمهور يتذوق التوليفة الجديدة: فيروز بثوب غنائي "زيادي" مبتكر. من أولى الأغاني التي تُنسب ألحانها إليه وحده وليس لسواه: "عودك رنان" و"اشتقت لك" وتنويعات "يا ليل". ويدرك المستمع ألحانه من النوتة الأولى تقريباً. 80% منها من روحه ومزاجه، وبها شيء من النغم المصري ومن الجاز. كان يحب سيد درويش وزكريا أحمد وتشعر بأطيافهما تحوم حول "بعتت لك" و"سلّم لي عليه". وتشعر بحب زياد لأغاني نجم-إمام في أغان من إبداعه التام، تسلك درباً مشابهة، مثل: "شو ها الإيام اللي وصلنا لها" و"بهاليومين" (رح ينقطع البنزين والماء والحليب، إلخ) و"الله يساعد الله يعين" و"أنا مش كافر" و"أمريكا مين". تقبّل الجمهور أغنية "البوسطة" لجمال لحنها، وطرافة فكرتها وصياغتها، وفيها فيروز تصف آخرين "واحد عم ياكل خس، ولوه شو بشعة مرته". هذه كلها تعابير واقعية من الحياة اليومية، لا صلة فنيّة تربطها بكلمات شعرية مثل "تعا ولا تجي". لكن ذلك الجمهور تفاجأ بصوت فيروز تغني "معرفتي فيك، إجِت عَ زعل، ما كانت طبيعية من بعد ملل"، وتختم الأغنية بقولها "حبيبي، مش إنت حبيبي". فضلاً عن التجديد اللفظي، ثمة تغيّر تمثّل بجرأة المرأة على قول رأيها الصريح، هي التي كانت كلمات العتاب الرصين أقصى تعابير التمرّد لديها. كانت المفاجأة الثانية في قول فيروز: "كيفك إنت، ملّا إنت". أثارت سجالات لدى الجمهور، الذي ما لبث أن اقتنع، لأن هذا الكلام مقتلع من منطق التخاطب الحقيقي، وليس منتمياً إلى الخيال الأدبي. في إطار الأغاني المعبّرة عن صور الحياة الواقعية تُصَنَّف "كان غير شكل الزيتون" و"إن شالله ما به شي" و"شو بخاف دقّ عليك". وفي إطار أغنية المرأة الحرّة، أضع مجموعة مثل "ضاق خلقي"، و"عندي ثقة فيك"، و"في شي عم بيصير". أسلوب زياد في كتابة الأغاني يهتم بالواقعية وبالتأثير المباشر لدى الجمهور. وينطبق القول تماماً على أغانيه السياسية، وما أجملها، وهي من فرط صدقها أصبحت كلماتها على كل الشفاه. كانت مسرحية "سهرية" بألحانها الجميلة وحواراتها الطريفة، من النمط الإبداعي الرحباني التقليدي. وفي "نزل السرور" ظهرت إرهاصات التحول. والمسرحيتان من صنعه قبل 1975. بعد ذلك ولد مسرحه المختلف عن مسرح الأخوين في الشكل والمضمون. إبداعهما في باب المسرح الغنائي، وإنجازه مسرحيات درامية واقعية وإنْ تخلّلها بعض أغان. مسرحياته أقرب إلى مسرح بريشت التحريضي، الذي يجعل المتفرج في مواجهة الإشكالية ويدفعه إلى مناقشتها. في مسرحه، كما في أغانيه السياسية، كان ابن عصره. تناول مواضيع المجتمع الذي يعيشها المتفرج - المواطن ويعاني من آثارها. من "بالنسبه لبكره شو؟" إلى "لولا فسحة الأمل" وبينهما "فيلم أميركي طويل" و"شي فاشل" و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد". تشريح بالكلام الصريح لا يلجأ إلى التلميح. بالكلام الساخر المرير، المضحك الموجع في آن واحد. هي الكوميديا السوداء. لم ينس زياد الرحباني التأليف الموسيقي البحت، مثل افتتاحية "ميس الريم" ومقطوعات مثل "ضيعانُه" و"تل الزعتر"، وموسيقى تصويرية مثل "آثار على الرمال". وكانت مناسبة أعتز بها شخصياً، لأنني كاتب سيناريو هذا المسلسل. وقتها (1973) عرفته من كثب. هي موسيقى تصويرية فعلاً، وجمالية مرهفة، من إبداع فتى كان في السابعة عشرة من عمره! وهي رائدة في التلفزيون اللبناني، إذ لأول مرة يُلجأ إلى موسيقى مؤلّفة خصيصاً لمسلسل تمثيلي. سخر زياد من مسرح الأخوين رحباني في "شي فاشل"، ومن تغنّيهما بالريف الجميل، المنقرض في زمن الحرب وما تلاها. هجاء للون غنائي "كلنا أخوة، بالمحبة والإيمان، رح نرجع نبني لبنان". وواصل الوخز في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، بدءاً بعنوانها، في زمن أخذ فيه المجتمع يفقد كرامته، والشعب يصبّ عناده في مستنقع الطائفية. ومع ذلك، ظلّ زياد رحباني معجباً بإبداع أبيه وعمه الفني. زرته سنة 1994 فأسمعني شريطاً جديداً عنوانه "إلى عاصي". أعاد فيه توزيع ألحان مجموعة من أغاني الأخوين، ومنها "بحبك ما بعرف" فقال لي: "انتبه. هذا لحن ليس به مذهب وكوبليهات. هو سحبة واحدة". لولا شغفه بألحانهما لما أعاد توزيعها. فضلاً عما أنجزه لاحقاً بتوزيعات جديدة: "تراب عينطورة"، و"حبيتك بالصيف" وفي إعادة إبداع "بكتب اسمك يا حبيبي" إذ بلغ الإعجاب والوفاء الذروة: "بتِرْجَع ذكرى يا حبيبي، عن عاصي ومنصور/ ع انطلياس العتيقة، وكل شي حولها جسور/ وبكره بتشتّي الدنيي، والطرقات مزيَّحَه/ بيبقى إسمُنْ قدّ الساحة/ ما عاد ينمحى". إنجاز الأخوين جميل، وكذلك إنجاز زياد، وسيبقى كلاهما خالداً. وإزاء إبداع الكبار، لا مجال للمفاضلة.

ذكريات مع صوت زياد الرحباني
ذكريات مع صوت زياد الرحباني

العربي الجديد

timeمنذ 2 أيام

  • العربي الجديد

ذكريات مع صوت زياد الرحباني

كان هناك مُسجِّل صغير وسط صالة الضيوف، حيث كنّا نسكن في حي وادي عدي بمسقط، في الثمانينيّات، ويتميّز هذا الحي (وادي عدي) بأن جميع بيوته صغيرة ومتشابهة ومصفوفة، تتكوّن من غرفتَين ومجلس وصالة، وسطح طبعاً. والسطح بالنسبة إلى عائلة كبيرة نسبياً كعائلتنا، بإخوتي السبعة وأبي وأمي وجدّتي، علاوة على من يزوروننا من القرى ويمكثون أياماً، هو متنفّس الأطفال ومسرح الركض واللعب والحركة والصعود والهبوط، والباب الخارجي يكون عادة مفتوحاً كبقية أبواب بيوت حارات وادي عدي. لذلك، يدخل أطفال الجيران ويتّجهون رأساً إلى السطح للمشاركة في اللعب، وبدورنا نخرج إلى بيوتهم وأعيننا على السطوح. وفي الشتاء، تكون هذه الأسطح أماكنَ للنوم. المُسجِّل الذي في صالة الضيوف كثيراً ما يصدح بأغانٍ متفرّقة، أو يضبط على تردّد الإذاعة العُمانية الزاخرة بأغاني ذلك الزمان، ولكن حين صدر ألبوم زياد الرحباني "أنا مش كافر"، الذي لا أعرف كيف وصل إلي، ظلّ هذا الكاسيت يدور في هذا المُسجِّل الصغير طوال الوقت وبصوت مرتفع، حتى إن الأطفال كانوا يلتقطون الكلمات ويبدأون في ترويجها: "أنا مش كافر بس الجوع كافر.. أنا مش كافر بس المرض كافر.. أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر.. أنا مش كافر، لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي كل الإشيا الكافرين". يستغرب الكبار حين يسمعون هذه الأغنية التي بدأت بالانتشار في الشارع انطلاقاً من بيتنا، ولكن التسامح كان كبيراً مع الأغاني حينها، إلى أن راجت بعد ذلك خطب الداعية الكويتي أحمد القطّان بصوته المُزلزِل، وانتشرت خطبه بقوة النار في الهشيم، ما شكّل فاصلاً بين مرحلة متسامحة مع الفنون، وأخرى متّجهة نحو التجهّم والترهيب. استُبدلت بأشرطة الأغاني مثل هذه الأشرطة الوعظية عالية الصوت، ومواضيع من قبيل "عذاب القبر"، و"مطالب أهل النار"، و"حال المؤمن والكافر يوم القيامة"، و"سهام إبليس"، و"انتبهوا أيها الغافلون"، وغيرها من مواضيع لا تبدي أدنى تسامح، حتى مع الطرب الأصيل الهادئ، بكلماته البليغة مثل صوت محمّد عبد الوهاب وفيروز وأم كلثوم، وطبعاً لن يكون هناك أدنى مساحة لصوت زياد الرحباني، الذي ينطلق من القاع، ومن مفارقات الحياة، ونقد الفساد بأنواعه، وخاصّة أغنية "أنا مش كافر" ببعدها الإنساني الساخر، وهي تخاطب المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، وكان ضمن كلماتها: "يللي بيصلّي الأحد ويللي بيصلي الجمعة.. وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة.. هوّ يللي ديّن قال وأنا يللي كافر عال.. راجعوا الكتب السماوية راجعوا كلام القادر". نستمع الآن إلى صوت فيروز في السيارات أكثر، وفي الصباحات، وفي مختلف الإذاعات، دائماً ثمّة أغنية لفيروز، لا بدّ أن زياد بعبقريته الممزوجة بحسّ نقدي ساخر، كان يدرك أنه لا يمكن أن يضيف كثيراً لو ظلّ متتبعاً خطّ والدته وأعمامه، لأن سماءهم ملأت الوجود العربي بكلّ سلاسة ومحبّة، لذلك اختار أن ينطلق من الأرض، أي أن تكون شعبيته بعيدة عن تلك الصرامة والأناقة الفيروزية المميّزة والعظيمة، فشقّ طريقاً ممزوجاً بالجنون والسخرية. وإن كان وجد في المسرح مساحته الأكبر في الانتشار، إلا أن أغانيه كذلك لها ذواقها. هناك من لا يتفق مع بعض قفشاته في مقابلاته الإذاعية، ولكن لا يمكن الاختلاف حول إنسانيته ونزاهته، وفي هذا يشترك أيضاً مع السيدة فيروز والدته، التي رفضت أن تغنّي للأفراد والأشخاص. زياد أيضاً ربّما كان في إمكانه أن يكسّب كثيراً من المال لو شقّ هذا الطريق، نظراً لإمكانياته الموسيقية الكبيرة. مرّة سمعت لقاءً في برنامج طربيات بإذاعة صوت الخليج القطرية، وكان اللقاء مع الملحّن الكويتي المعروف أنور عبد الله، وحين ورد اسم زياد استغرق أنور في الحديث عن عبقريته، وأضاف بعض التفاصيل من قبيل أن زياد يعلّق في صالة منزله فقط صورة الشيخ زكريا أحمد، وأحياناً حين يدخل بعض الضيوف يظنونها صورة أحد أقاربه أو جدّه. وأذكر مرّة حين كنت طالباً التقيت الراحل كوكب حمزة في الرباط في التسعينيّات، وأجريت معه لقاءً في مقهى باليما (ضاع مني هذا اللقاء للأسف)، سألته عن رأيه بأغاني زياد، فأشاد أكثر بألحانه، وقال لي إن كثيراً من المغنّين يتمنّون أن يلحّن لهم زياد ولو أغنية واحدة، ولكن زياد يرفض أن يلحّن لأحد إن لم يكن مقتنعاً به. برحيل زياد الرحباني تخسر سماء الذائقة العربية مدرسة موسيقية شعبية، انفتحت بهدوء على السخرية والجنون الخلّاق.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store