logo
تغييب العلوم الإنسانية من خطة الابتعاث الخارجي: إهمال للعقل وتجاهل لا يليق بعصر الذكاء الاصطناعي

تغييب العلوم الإنسانية من خطة الابتعاث الخارجي: إهمال للعقل وتجاهل لا يليق بعصر الذكاء الاصطناعي

أثارت قائمة التخصصات المدرجة ضمن خطة الابتعاث الخارجي التي أعلنتها وزارة التعليم العالي قلقاً بالغاً، ليس بسبب ما تضمنته، بل بسبب ما أغفلته. فقد خلت القائمة تماماً من تخصصات العلوم الإنسانية والآداب، مما يعكس سوء فهم عميقاً: وهو الاعتقاد بأن التكنولوجيا وحدها هي بوابة التنمية والمستقبل، وتجاهل عمق التغيرات التي يشهدها الإنسان والمجتمع في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي.
إن العلوم الإنسانية — كالفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والتاريخ، والأدب والفنون — هي ميادين تبحث في جوهر الإنسان — كيف يفكر، ويتفاعل، ويعبر، ويحكم، ويتطور. وهي لا تمنح فقط عمقاً ثقافياً، بل أدوات تحليلية ضرورية لفهم التغيير. وفي وقتٍ تُعيد فيه التكنولوجيا رسم معالم حياتنا الفردية والجماعية، تصبح هذه العلوم خط الدفاع الأول في ترشيد الاستخدام، وتوجيه الابتكار نحو ما يعزز القيم الإنسانية لا ما يفرغها من معناها.
إن الاقتصار على التخصصات العلمية والتكنولوجية في الابتعاث قد يُنتج أدوات متقدمة، لكنه لن يُنتج مجتمعات متوازنة. تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم تتسبب في تحولات عميقة على مستوى الهوية، والوظائف، والعلاقات، وحتى الإدراك. لذلك يصبح علم النفس ضرورياً لفهم التبعات النفسية للاستخدام المكثف للتكنولوجيا، كالإدمان الرقمي أو اضطرابات القلق الاجتماعي. وعلم الأعصاب يقدم رؤى مهمة حول كيفية تفاعل الدماغ البشري مع بيئات افتراضية تزداد تعقيداً. أما الفلسفة، فهي الحارس الذي يوقظ الضمير الأخلاقي، ويطرح أسئلة ضرورية عن حدود الاستخدام، العدالة، والمساءلة في عصر الآلة.
نحن لا نواجه فقط آلات جديدة، بل عالماً جديداً بالكامل. ولهذا تختلف ثورة الذكاء الاصطناعي عن الثورة الصناعية. فالمصانع غيّرت طريقة عملنا، بينما الذكاء الاصطناعي يغيّر طريقة تفكيرنا، ومشاعرنا، وقراراتنا، وحتى فهمنا لذواتنا. لم يعد مجرد أداة بجانبنا، بل نظام يعيش في داخلنا. ولهذا، لن تكفينا المهارات التقنية وحدها. نحن بحاجة إلى البصيرة الإنسانية — وهي بصيرة لا تمنحها سوى العلوم الإنسانية.
لذا، لن نستطيع التعامل مع ثورة الذكاء الإصطناعي بحكمة ما لم يكن لدينا، إلى جانب المهندسين والمبرمجين، مفكرون وفلاسفة ومؤرخون وعلماء نفس وفنانون. من دونهم، سنبني مجتمعاً فعالاً — لكنه قد يكون غير حكيم، غير عادل، وربما غير مستقر. إن المجتمعات التي تنهض بحق، هي تلك التي تُنمّي قدرات أبنائها على التحليل والربط والتفكير الأخلاقي. والعلوم الإنسانية هي البيئة التي تُصقل فيها هذه القدرات، وتُبنى فيها العقول القادرة على قيادة المستقبل، لا فقط التفاعل معه.
قد يرى البعض أن جامعة الكويت توفر تلك التخصصات، فلا حاجة لإدراجها ضمن خطة الابتعاث. لكن السؤال الحقيقي هو: ما مدى حداثة مناهجها؟ وما مدى ارتباطها بتحديات عصر الذكاء الاصطناعي؟ فالمعاصرة اليوم تعني التعليم البيني — حيث تلتقي الفلسفة مع علم البيانات، وعلم النفس مع سياسات التقنية، والتاريخ مع دراسات المستقبل— وإلا كانت غير ذات جدوى.
وعليه، فإن تغييب تلك التخصصات من خطة الابتعاث يعد مؤشراً على قصور في الرؤية الاستراتيجية. وإذا أردنا فعلاً أن نُعدّ أجيالاً قادرة على التعامل مع تحديات العصر الرقمي، فعلينا أن نُعيد الاعتبار للعلوم الإنسانية، لا بوصفها ماضياً ثقافياً، بل بوصفها ضرورة مستقبلية.
*استشاري في التعليم والسياسات العامة

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تغييب العلوم الإنسانية من خطة الابتعاث الخارجي: إهمال للعقل وتجاهل لا يليق بعصر الذكاء الاصطناعي
تغييب العلوم الإنسانية من خطة الابتعاث الخارجي: إهمال للعقل وتجاهل لا يليق بعصر الذكاء الاصطناعي

الجريدة

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • الجريدة

تغييب العلوم الإنسانية من خطة الابتعاث الخارجي: إهمال للعقل وتجاهل لا يليق بعصر الذكاء الاصطناعي

أثارت قائمة التخصصات المدرجة ضمن خطة الابتعاث الخارجي التي أعلنتها وزارة التعليم العالي قلقاً بالغاً، ليس بسبب ما تضمنته، بل بسبب ما أغفلته. فقد خلت القائمة تماماً من تخصصات العلوم الإنسانية والآداب، مما يعكس سوء فهم عميقاً: وهو الاعتقاد بأن التكنولوجيا وحدها هي بوابة التنمية والمستقبل، وتجاهل عمق التغيرات التي يشهدها الإنسان والمجتمع في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي. إن العلوم الإنسانية — كالفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والتاريخ، والأدب والفنون — هي ميادين تبحث في جوهر الإنسان — كيف يفكر، ويتفاعل، ويعبر، ويحكم، ويتطور. وهي لا تمنح فقط عمقاً ثقافياً، بل أدوات تحليلية ضرورية لفهم التغيير. وفي وقتٍ تُعيد فيه التكنولوجيا رسم معالم حياتنا الفردية والجماعية، تصبح هذه العلوم خط الدفاع الأول في ترشيد الاستخدام، وتوجيه الابتكار نحو ما يعزز القيم الإنسانية لا ما يفرغها من معناها. إن الاقتصار على التخصصات العلمية والتكنولوجية في الابتعاث قد يُنتج أدوات متقدمة، لكنه لن يُنتج مجتمعات متوازنة. تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم تتسبب في تحولات عميقة على مستوى الهوية، والوظائف، والعلاقات، وحتى الإدراك. لذلك يصبح علم النفس ضرورياً لفهم التبعات النفسية للاستخدام المكثف للتكنولوجيا، كالإدمان الرقمي أو اضطرابات القلق الاجتماعي. وعلم الأعصاب يقدم رؤى مهمة حول كيفية تفاعل الدماغ البشري مع بيئات افتراضية تزداد تعقيداً. أما الفلسفة، فهي الحارس الذي يوقظ الضمير الأخلاقي، ويطرح أسئلة ضرورية عن حدود الاستخدام، العدالة، والمساءلة في عصر الآلة. نحن لا نواجه فقط آلات جديدة، بل عالماً جديداً بالكامل. ولهذا تختلف ثورة الذكاء الاصطناعي عن الثورة الصناعية. فالمصانع غيّرت طريقة عملنا، بينما الذكاء الاصطناعي يغيّر طريقة تفكيرنا، ومشاعرنا، وقراراتنا، وحتى فهمنا لذواتنا. لم يعد مجرد أداة بجانبنا، بل نظام يعيش في داخلنا. ولهذا، لن تكفينا المهارات التقنية وحدها. نحن بحاجة إلى البصيرة الإنسانية — وهي بصيرة لا تمنحها سوى العلوم الإنسانية. لذا، لن نستطيع التعامل مع ثورة الذكاء الإصطناعي بحكمة ما لم يكن لدينا، إلى جانب المهندسين والمبرمجين، مفكرون وفلاسفة ومؤرخون وعلماء نفس وفنانون. من دونهم، سنبني مجتمعاً فعالاً — لكنه قد يكون غير حكيم، غير عادل، وربما غير مستقر. إن المجتمعات التي تنهض بحق، هي تلك التي تُنمّي قدرات أبنائها على التحليل والربط والتفكير الأخلاقي. والعلوم الإنسانية هي البيئة التي تُصقل فيها هذه القدرات، وتُبنى فيها العقول القادرة على قيادة المستقبل، لا فقط التفاعل معه. قد يرى البعض أن جامعة الكويت توفر تلك التخصصات، فلا حاجة لإدراجها ضمن خطة الابتعاث. لكن السؤال الحقيقي هو: ما مدى حداثة مناهجها؟ وما مدى ارتباطها بتحديات عصر الذكاء الاصطناعي؟ فالمعاصرة اليوم تعني التعليم البيني — حيث تلتقي الفلسفة مع علم البيانات، وعلم النفس مع سياسات التقنية، والتاريخ مع دراسات المستقبل— وإلا كانت غير ذات جدوى. وعليه، فإن تغييب تلك التخصصات من خطة الابتعاث يعد مؤشراً على قصور في الرؤية الاستراتيجية. وإذا أردنا فعلاً أن نُعدّ أجيالاً قادرة على التعامل مع تحديات العصر الرقمي، فعلينا أن نُعيد الاعتبار للعلوم الإنسانية، لا بوصفها ماضياً ثقافياً، بل بوصفها ضرورة مستقبلية. *استشاري في التعليم والسياسات العامة

الذكاء الاصطناعي والتعليم: من القلق إلى الألق
الذكاء الاصطناعي والتعليم: من القلق إلى الألق

الجريدة

time٠١-٠٤-٢٠٢٥

  • الجريدة

الذكاء الاصطناعي والتعليم: من القلق إلى الألق

يشهد التاريخ البعيد والقريب أنه كلما ظهر ابتكار جديد تباينت ردود أفعال البشر بين الحذر والترحيب، فحين ظهرت الآلة الحاسبة مثلاً، ساد الاعتقاد بأنها ستعطل القدرات الذهنية للإنسان، مما أثار قلقاً واسعاً بشأن مستقبل التعليم والمهارات الحسابية لدى الطلاب والبشر بشكل عام. لكن الواقع أثبت عكس ذلك، فقد ساعدت هذه الأداة في تسهيل العمليات الحسابية الروتينية، مما سمح للعقل البشري بالتركيز على حل المشكلات المعقدة الأخرى، والتفكير الإبداعي في كل المجالات. يتكرر المشهد اليوم مع ظهور وانتشار الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في المجال التعليمي الذي ساد فيه برامج كتابة البحوث وتحليل البيانات والتعلم التكيفي والترجمة، وغيرها من التطبيقات والمواقع المبهرة... وهنا بدأت التساؤلات المستحقة تتكرر لدى المعلمين وأولياء الأمور ولدى المعنيين بالعملية التعليمية: فهل سيقضي هذا الابتكار على القدرات العقلية للطلاب ويجعلهم معتمدين كلياً على هذه الأدوات، مما يؤدي إلى تراجع قدراتهم في التفكير النقدي والبحث الذاتي، أم سيمنحهم فرصة لتطوير مهارات جديدة أكثر عمقاً وابتكاراً؟ إضافة إلى هذه المخاوف، انبرت الخشية من وجود تباين فيما يسمى «العدالة الرقمية» المتصلّة بحق الوصول إلى التقنية، إذ ليست كل المدارس والجامعات على نفس المستوى من حيث الإرادة والإمكانات لتوفير هذه الأدوات لجميع الطلاب وتمكينهم من استخدامها، مما قد يؤدي إلى فجوة تعليمية بين الطلاب المنتمين إلى فئات اجتماعية مختلفة، وينعكس سلباً على عدالة القدرة على تطوير مهارات البحث والإبداع والتفاعل مع متطلبات سوق العمل. ورغم المخاوف المستحقة، والتي ليس أقلها وصول البشر والشباب تحديداً إلى نوع من «العفن الدماغي»، الأمر الذي سلطت عليه الضوء في مقال سابق نشر بتاريخ 30 ديسمبر من العام الفائت بعنوان «تعفن الدماغ... كلمة عام 2024»، لابد من الاستسلام والتكيّف مع حقيقة أن الذكاء الاصطناعي يقدم فرصاً هائلة لتحسين جودة التعليم وتطوير العملية التعليمية على مستويات متعددة، وبطرق مختلفة، نذكر منها: - تحسين كفاءة المعلمين، من خلال تسهيل أداء المهام الروتينية والإدارية المملة التي يقوم بها المعلّمون مثل إدخال درجات الامتحانات، وتحليل الأداء الأكاديمي، وكتابة التقارير، مما يتيح للهيئة التعليمية وقتا أكبر للتركيز على تطوير المناهج والتفاعل مع الطلاب. - التعليم المخصّص (Personalized Learning)، اذ يتمتع الذكاء الآلي بقدرة على تحليل أداء الطلاب وتحديد نقاط القوة والضعف لكل طالب على حدة، وهنا يمكن للأنظمة التكيفية تقديم محتوى تعليمي يتناسب مع إيقاع تعلم الطالب، مما يساعد على تعزيز قدراته بشكل أفضل. - تعزيز مهارات التفكير الإبداعي، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفتح آفاقاً واسعة للطلاب في مجالات متعددة داخل البيئة التعليمية، حيث من الخطأ والمعيب اقتصار دوره على البحث عن المعلومات فحسب، والمساعدة في حلّ الواجبات المنزلية واعداد المشاريع الأكاديمية والتطبيقية، بل أصبح شريكا في الإبداع والابتكار. فعلى سبيل المثال، يمكن للطلاب في مجالات العلوم والرياضيات استخدام التقنيات الذكية لتحليل كميات هائلة من المعلومات والمعطيات البيانية والتجريبية بسرعة ودقة تفوق القدرات البشرية، مما يساعدهم في الكشف عن أنماط معقدة وصياغة فرضيات جديدة لم تكن لتتبلور بالطرق التقليدية. وفي مجالات العلوم الإنسانية والكتابة الإبداعية، يتيح الذكاء الاصطناعي أدوات تفاعلية تساعد الطلاب على صياغة النصوص وتحريرها، مع تقديم اقتراحات لتحسين الأسلوب وتعزيز الحبكة السردية. - تهيئة الطلاب لسوق العمل: يعتمد سوق العمل في المستقبل بشكل كبير على مهارات التعامل مع الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، ولاشك في أن إدماج هذه الأدوات في التعليم يمنح الطلاب فرصة مبكرة للتعرف على التكنولوجيا المستخدمة في بيئات العمل الحديثة. فعلى سبيل المثال يمكن للطلاب في مجالات التصميم والهندسة الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في توليد تصاميم معمارية أو نماذج أولية مبتكرة، مع محاكاة آليات العمل واختبار الكفاءة الافتراضية قبل التنفيذ الفعلي. *** وتبقى المهمّة الرئيسية لدى جميع المعنيين هي البحث عن كيفية التفاعل الإيجابي مع الذكاء الاصطناعي في التعليم والاستفادة منه دون الإضرار بالمهارات التقليدية؟ الإجابة عن هذا الأمر لن تكون بالطبع سهلة، إذ لابد من اتباع منهج متوازن يجمع بين صلابة الآلة وتسارع التقنيات من جهة، وهشاشة التركيبة الإنسانية بشقيها الفكري والوجداني، من جهة أخرى، وهنا تنبري بعض الأفكار ذات الصلة: - على المعلمين أن يسلمّوا بإيجابية لفكرة استخدام الطلاب أدوات التكنولوجيا الحديثة، مما يدفعهم الى تشجيع العمل المشترك والتيقن من مساهمة الذكاء الاصطناعي في زيادة المدارك والمعارف والمقدرات لدى الطلاب، مع التركيز على قدرتهم على تحليل الإجابات وتقييم مصداقيتها. - وهنا يأتي المجال ثانياً لدمج التكنولوجيا مع الإبداع من خلال تصميم مشاريع تعليمية تستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة بدلاً من أن تكون الوسيلة الوحيدة للإنجاز. على سبيل المثال، يمكن تكليف طلاب كلية الحقوق بإعداد أبحاث قانونية حول قضايا معاصرة، مثل الجرائم الإلكترونية أو الذكاء الاصطناعي والمسؤولية المدنية، مع استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في تحليل السوابق القضائية والتشريعات ذات الصلة. - وفي جميع الأحوال، ينبغي تعليم الطلاب على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي، مع احترام حقوق الملكية الفكرية وتجنب الغش الأكاديمي. *** كما حدث مع الآلة الحاسبة والإنترنت وجميع الابتكارات التي سبقت، سيثبت الذكاء الاصطناعي بمرور الوقت أنه ليس عدواً للتعليم، بل حليفاً يمكنه تعزيز قدرات الطلاب، وتمكينهم من مواجهة تحديات المستقبل. المفتاح يكمن في كيفية استخدامنا لهذه التكنولوجيا دون أن لها بأن تحل محل عقولنا، بل بجعلها وسيلة لتوسيع آفاقنا ومعارفنا وزيادة إبداعنا وتحسين طرائق تفكيرنا. * كاتب ومستشار قانوني

تأملات في العلاقة بين العقل والمجتمع
تأملات في العلاقة بين العقل والمجتمع

اليوم الثامن

time٠٩-٠١-٢٠٢٥

  • اليوم الثامن

تأملات في العلاقة بين العقل والمجتمع

في إطار المشروع الفكري الفلسفي، يأتي اهتمامي بجدلية العلاقة بين الفلسفة والحضارة، المقدم للهيئة الليبية للبحث العلمي بمناسبة اليوم الوطني الليبي للفلسفة. ربما تكون ليبيا الأطلسية هي الدولة العربية الوحيدة التي كرست يوماً وطنياً للاحتفاء بأمّ العلوم وأميرة المعرفة؛ الفلسفة، وهي بذلك تستحق التقدير والاحترام. وعلى مدى الأعوام المنصرمة من حياتي وخبرتي المتواضعة في دراسة الفلسفة وتدريسها، تبين لي بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الفلسفة هي روح الحضارة، وعلاقتهما أشبه بعلاقة الجسد بالعقل؛ فالعقل السليم بالجسم السليم، والحضارة المتعافية والمستقرة تنتج فلسفة ناضجة وجديرة بالقيمة والأهمية. فعلاقة الحضارة والفلسفة هي علاقة تبادلية التأثير والتأثر، فكما أنّ الفلسفة لا تنبت ولا تزدهر إلّا إذا تهيأت لها شروط حضارية وعوامل محددة، فكذلك هي الحضارة لا يمكن لها أن تنمو وتتطور وتزدهر بدون منظومة فلسفية متكاملة في الوجود والقيم والمعرفة. وبهذا المعنى شهدت الحضارة اليونانية لحظة ازدهار الفلسفة الباكر، وأثمرت المؤسسات المفاهيم التي ما زالت تعتمدها الحضارة البشرية حتى اليوم ومنها (الديمقراطية والسياسة والمدينة والجمهورية والعدالة والحرية والمنطق والمقولات والفضيلة والحكمة والتاريخ والتحضر... إلخ)، وبالمثل لم تزدهر الفلسفة العربية الإسلامية إلّا في أوج حضارتها العباسية، وذلك ما بين القرن التاسع الميلادي حتى القرن الثالث عشر الميلادي. إذ جاءت تلبية لتحدٍّ حضاري ثقافي عالمي، في خضم الاحتكاك والتمازج بين الثقافات والحضارات المتجاورة (الرومانية والفارسية والهندية والسريانية)، فالفلسفة بوصفها حواراً بين الإنسان والواقع، وبين الشعوب والثقافات والحضارات، كانت، وما زالت، أهم سبل وأدوات التفاعل والتواصل الثقافي الحضاري بين البشر. وقد شكلت الفلسفة اليونانية محطة تجمع انطلاق الفكر الفلسفي العقلاني منذ القرن السادس قبل الميلاد، بالاستناد إلى الإرهاصات الفكرية الفلسفية التي تضمنها الفكر الشرقي القديم في مصر وبلاد الرافدين، التي أثرت بالفلسفة اليونانية ومدتها بالأفكار الميتافيزيقية، وملاحم أسطورية حافزة للتفكير والتأمل. أمّا الحضارة الحديثة والمعاصرة، فهي بنت الفلسفة من أخمص قدميها حتى رأسها، بمفاهيمها ومؤسساتها، أو كما وصف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر مشروع النهضة الأوروبية، وغايتها في نزع السحر عن التاريخ، وتأكيد قدرة الإنسان على صناعته بعقله وحواسه ونشاطه. وربما كانت المرحلة الثالثة هي مرحلة نزع السحر عن الإنسان، وتلك هي الثورة الأخيرة التي جاءت حصيلة تضافر علم الفلك وعلم الأحياء وعلم النفس والفلسفة. إذ أنّ فكرة داروين عن صيرورة الحياة وارتقائها، وصراع الأنواع، قد وجدت هوى في نفس نيتشه، عندما انطلق من اعتبار الكائن الانساني أرقى ما وصلت إليه الحياة في صيرورتها، ومن ثم فالحياة أو الإنسان "هو إرادة اقتدار" في تجاوز اللحظة الراهنة باتجاه الأعلى المستقبل، وهذا الأخير هو "عود أبدي للذات". لقد أراد نيتشه أن يجيب عن السؤال: ما هو الإنسان؟ ما هي كينونة الكائن؟ وكان جوابه: إنّه "إرادة اقتدار" وعود أبدي لذات النفس"...، وتتعلق فكرة إرادة الاقتدار في قدرة الموجود على تجاوز وجوده، في حين تتعلق فكرة العود الأبدي بالكائن في كلية القبول الأعلى للحياة وللكائن، فالفكرة تلك لا يمكن أن تفكر إلا إذا توصل الإنسان إلى تخطي آخر الرجال، إذا توصل إلى الإنسان الأعلى. إذا كان ماركس قد سار بفكرة هيجل الجدلية الكلية إلى نهاية الشوط، ملحاً على الإنسان الاجتماعي الكلي ـ الإنسان؛ كمجموع علاقات اجتماعية- وتلك العلاقة والتفاعلات هي التي تصنع التاريخ، فإنّ صرخة نيتشه قد انطلقت ممّا انتهى إليه فيورباخ الذي كان أول من بسط الله كجوهر للإنسان، استخلص هذا الأخير من دراسته الأنثروبولوجية للدين التأكيد على أنّ الله لم يكن في حقيقة الأمر إلّا المضمون الجوهري للذات الإنسانية المستلبة - الله هنا بالمعنى المسيحي طبعاً- ويرى البنيوي ميشيل فوكو أنّ فيورباخ، وليس نيتشه، هو الذي أمات الله في حين لم يكن هذا الأخير ـ نيتشه ـ إلّا نذيراً وناقلاً لهذا النبأ المشؤوم لأهل عصره وزمانه، عندما قال: "لقد تحسست قلبي وقلوب أهل زماني، فوجدت أنّ الله قد مات"، يقصد إله المسيحيين طبعاً. نزع السحر عن العالم مع نيتشه غدا الإنسان وحده في هذا العالم، بعد التحرر من الإله ومن المعبودات الأخلاقية. إنّ مسئولية هذا العالم، خيره وشره، تقع الآن على عاتق الإنسان المهجور وحده، دون أيّ بادرة أمل في عون، لا من السماء ولا من الأرض. ويردّ نيتشه عن هذا التساؤل المفزع: ولكن هل يستطيع الإنسان أن يعيش دون أمل؟ دون أن يؤمن بشيء؟ تلك هي المعضلة؛ معضلة نزع السحر عن العالم، وترك الإنسان مغترباً في عالم خالٍ من الأمل والمعنى والعزاء والسلوى. إذ بات الإنسان بعد نزع الغيب يعيش عالماً يفتقد إلى السحر، ويتراجع فيه الشغف، ويكاد يخلو من المعنى بحسب صلاح سالم، في كتاب تأملات في الوضع البشري. إذ أنّ مسيرة التقدم البشري تكاد تتوازى مع صيرورة نزع السحر عن العالم، ونفي العنصر الغيبي في تفسير الطبيعة والمجتمع والتاريخ. لقد جرى التخلص أوّلاً من سحر الخرافة الذي أفضى إلى أشكال من الوصاية كانت عبئاً على الوضع البشري. لا ريب أنّ التقدم التكنولوجي أفضى إلى زيادة رفاه الإنسان، ولكنّه زاد في تعاسته وضعف شغفه بالحياة ومباهجها. كتب صلاح سالم: "يدّعي علم "البيوتكنولوجي" أنّه يعمل لأجل الإنسان، لإطالة عمره وتحسين صحته أو لزيادة جماله وذكائه، فيما يفضي جوهرياً حال اكتمال الفتوحات والتوجهات التي يجري الحديث عنها الآن، إلى اغتيال جوهره المتفرد، سر نوعه الضعيف بيولوجياً، لكنّ القادر على التسامي روحياً، المدرك لمحدودية عمره وحقيقة موته، ولكنّ المتعايش معهما، حتى إنّه يبدع على حافتهما جلّ فلسفاته، محاولاً تفسير مغزى وجوده ومعنى غيابه. إنّه السر الذي يمنحه القدرة على أن يفكر ويتألم، يبحث عن إلهه فيؤمن به طلباً لعنايته أو يلحد فيه متحدياً مشيئته. السر الذي يتيح له أن يخطئ ويندم، أن يحلم ويسعى لتحقيق مآربه، أن ينجح ويخفق، ففي تلك النزعات المتفردة للروح يكمن سر تساميه على المخلوقات الأخرى، وفي غيابها يفقد جلّ ملكاته الخلاقة كالعقل الحر والروح المتمردة، وليستحيل صاحب الضمير المتوثب إلى كائن مسطح كالجماد، أو كائن غريزي كالحيوان جسده الظاهر أهم شيء لديه، ولا معنى خلفه، ولا شيء يلبي حاجته إلى مصدر للطاقة النفسية، والشعور بالانتماء المشترك والتضامن الفعال مع المجتمع"، فكيف تكون حياة الإنسان بدون حلم ولا أمل ولا تطلع ولا خيال في عالم الأدواتية والاستهلاك كما وصفه هربرت ماركوزه عالم البعد الواحد؟ وبهذا المعنى يمكن أن نفهم قلق شعوب الحضارة الحديثة والمعاصرة في البحث عن المعنى، قلق المعنى هو شعورٌ وجودي يتولد لدى الإنسان عندما يواجه أسئلةً كبرى حول ماهية وجوده والغرض منه. يظهر هذا القلق بوضوح في المجتمعات التي تتسم بالفردية المفرطة، أو التي تفقد فيها القيم التقليدية مكانتها المركزية، مثل المجتمعات الحديثة التي تشهد تغيرات اجتماعية وثقافية عميقة. يرتبط هذا القلق، كما أوضح الفيلسوف النمساوي فيكتور فرانكل، بفقدان "الإرادة للمعنى". فعندما لا يجد الإنسان سبباً يقوده لمواصلة حياته أو معنى لما يفعله، يتحول الوجود إلى عبء نفسي كبير. الفلسفة كوسيلة للعلاج لطالما كانت الفلسفة مجالاً للتأمل العميق حول القضايا الوجودية الكبرى. ويمكن أن تكون أداة علاجية فعالة لقلق المعنى من خلال ما يلي: 1. البحث عن المعنى الفردي يرى فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى (Logotherapy)، أنّ لكل إنسان معنى خاصاً عليه اكتشافه بنفسه. ويؤكد أنّ المعنى يمكن أن يوجد حتى في أحلك الظروف. بالنسبة إلى فرانكل، فإنّ الإنسان لا يحتاج إلى إجابة كونية مطلقة، بل إلى معنى شخصي يتلاءم مع تجاربه وقيمه. 2. التساؤل الفلسفي بوصفه علاجاً التساؤل الفلسفي يساعد الفرد على التفكير بعمق حول الحياة والوجود، ممّا يمنحه شعوراً بالسيطرة على أفكاره ومخاوفه. الفلاسفة مثل سقراط ونيتشه دعوا إلى استجواب الذات واختبار القيم والمعتقدات الراسخة، وهي عملية تُعيد للفرد علاقته بالحياة ومعناها. 3. القيم العليا والأخلاق اقترح الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أنّ معنى الحياة يكمن في تحقيق الواجب الأخلاقي والسعي نحو الخير. ويمكن أن يوفر الالتزام بمبادئ أخلاقية متينة شعوراً بالهدف والانتماء. 4. التأمل في الموت كحافز للمعنى تناول الفلاسفة مثل هايدغر فكرة الموت كشرط أساسي لفهم الحياة. التفكير في الموت لا يعني الهروب منه، بل استيعابه كحافز للعيش بوعي أكبر وتحقيق الذات. خطوات فلسفية للتعامل مع قلق المعنى • التأمل الذاتي: طرح أسئلة جوهرية حول الغايات الشخصية والقيم التي يعتنقها الفرد. • تقبل الغموض: الاعتراف بأنّ الحياة لا تقدم إجابات جاهزة، وأنّ الغموض جزء من التجربة الإنسانية. • الارتباط بالمجتمع: إيجاد المعنى من خلال العلاقات الإنسانية والمساهمة في تحسين حياة الآخرين. • العيش في الحاضر: الفلسفة الرواقية، على سبيل المثال، تدعو إلى التركيز على اللحظة الراهنة بدلاً من القلق بشأن الماضي أو المستقبل. هل فهمتم الآن قصدي بأنّ الفلسفة ليست مجرد ترف فكري، بل هي وسيلة عملية تساعد الإنسان على مواجهة قلق المعنى عبر توفير أدوات للتأمل، والبحث، والعيش بوعي أكبر؟ ومن خلال الاستفادة من رؤى الفلاسفة الكبار، يمكن لكل فرد أن يسعى لفهم أعمق لوجوده وتحقيق غايته في هذا العالم المضطرب.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store