logo
الفتى الفيروزي وجداريات المدائح العقيمة

الفتى الفيروزي وجداريات المدائح العقيمة

القدس العربي منذ 3 أيام
ناسنا في لبنان، لم يتركوا كلاماً إلا ورَثوا به زياد الرحباني، الفنان المُبدع المُبتكر، الذي قارب واقعهم من رؤية فنية وجدتْ لها جمهورها الخاص، ولا يمكن تجاوزها أو إغفالها في التاريخين الفني والمسرحي اللبناني، لكن مراتب مراثيهم تخطت منطق المجاملات إلى المغالاة في المحاباة، فأنستنا المناسبة وأخذتنا إلى أمداء أخرى، هي في الواقع مفارقات غريبة من جمهور نعرفه ونتابعه أحيانا، لم يرفع معظمهم منشوراً افتراضياً واحداً منذ سنين لأغنية، أو لحن، أو موقف، أو مشهد مسرحي لزياد! نحن أمام جداريات البكاء العقيمة، تراجيديا الرثاء المزيفة، وثرثرات الكلمات المكررة.
قليل من الاهتمام مسيء لزياد الرحباني، وكذلك الكثير المُبالَغ فيه! فواحدة «تلعن الحياة» لأنه مات، وأخرى تلوم الله جل جلاله لأنه «رحل في الوقت الغلط»، وثالثة ترى أن دورة الكون توقفت، ثم هناك رابع يقول: «كسرتلي ظهري» وخامس قائل: «يا ريتني متت أنا ولا سمعت هالخبر، دخيلك يا الله ليش تحرمنا منو»، وقائل: « لمن تركتنا يا زياد ؟»!، ولا ننتهي عند إحداهن التي تقرر أن «زياد هو الذي قرّر الرحيل»! أما المضحك المبكي فأن تطلب إحداهن منه أن يفتش على والديها المتوفيَين ويسلم عليهما في العالم الآخر، ولو أتعبه التفتيش عنهما، وهكذا إلى ما لا نهاية من سرديات ما يفعله اللبنانيون دائماً وهم «يركبون الموجة»، متبارين في تدبيج الكلمات، قبل أن يناموا قريري العين في «الويك أند» بعدما أدوا واجبهم «الثقافي» و الاجتماعي.
قد يقول قائل، إن حملة الرثاء والتمجيد لزياد هي من حقوق كل أحد، لكن ذلك يجب أن لا يتعدى إلى خطاب إشهاري يهمّش حرمة الموت وكينونة الإبداع، لاسيما أن بعض هؤلاء وربما معظمهم، كانوا خارج حسابات الفقيد الفلسفية، كفنان إنساني، بل خارج مزاجه؛ فإذا كان كلُّ هذا الشعب راثياً باكياً لزياد، فمن هم الذين بقوا منه لينتقدهم «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»؟ وأين هم الذين لطالما هاجمهم وهو يقول: «في ناس بينهم وبين الفهم، سوء فهم»، أو يقول: «شعب بيشرب قهوة كتير، لازم يكون أوعى من هيك»، أو يقول: «الله خلقك إنسان، ليش مصرّ عالحيونة؟»، أو يقول: « في ناس مش بس بيمثلو علينا، بيمثلو علينا وبيصدقو حالن»، أو غير ذلك من مقولات موجهة لبقايا هذا الشعب العنيد، من دون إنكار أن البعض يرى في كلامه «بُعد نظر»، وهذا طبعا حقهم الطبيعي، وإن كان يمكن رصده كخطاب مزدوج تحت سلطة المجاملة، والسير مع التيار مهما كان متطرفا في المحاباة، مع العلم الذي لا يجهله أحد، أن جملة هؤلاء لم يتذكروا زياد إلا عند وفاته، تماما كما فعل أفيخاي أدرعي، اللعين، الذي تذكره ورثاه بكلام جميل! إلى ما رشح من دوافع بكائيات البعض، كي يخبرنا أنه التقاه مرة، أو يعلمنا بصداقته الحميمة، ولو من خلال صورة يتيمة شاركه بها بالصدفة في مناسبة ما، أو يقول لنا أنه رآه ذات يوم وسأله عن آخر أعماله، إلى البعض الآخر الذي يؤكد دائماً أنه «أم الصبي» كرافعة للإعجاب والاهتمام بالتجربة الرحبانية على مستوى البلد، وهؤلاء كُثُر.
نعم كان زياد فنانا مناضلا، غير متملق، لكن علاقتنا به مهما كانت ضعيفة وبعيدة، فهي لا تشترط منا أن نحبه ونقدسه، فهناك أمور أخرى تغنينا عن كل ذلك، كاحترام نتاجاته والثقة بها، والإحساس المشترك بحاجتنا للوطن الصحيح الذي نريده. نحن نطمئن إلى حظنا الجيد بأنّ لدينا قامات إبداعية كزياد، لكنه إنسان يصيب ويخطئ، يضحك ويحزن ويغضب، ويغدو ويروح كغيره من بني البشر، وهو كان يأكل ويشرب، ويمرض ويصح، وهو أيضاً يقاطع والدته فيروز لعامين ثم يصالحها. يمكن مثلا فهمه كشخصية فنية أرادت التحرر من إرث عاصي وفيروز، إلا أنه لم ينجح في ذلك بعدما وقع في فخّ العودة إلى التركة الإرث التي تدر مالا، مانعا وشقيقته ريما أي أحد وتحديدا أبناء عمهما منصور وورثته من التصرف بأي أعمال فنية شارك بها الوالد عاصي من دون موافقتهما، الأمر الذي كسر الصورة المثالية للرحابنة، وكتاريخ فني ثقافي متاح للجميع ممارسته، والتأثر به كمدرسة للمحبة والتسامح والوطنية والإخاء. زياد لم يكن فقيرا معدماً، ولا جائعا، ولا محروما، ولا كان صاحب معاناة بالمباشر وغير المباشر مع السلطة الفاسدة، وهو وإن كان تحدث عن واقع كل ذلك في مسرحه، إلا أنّ كثيرين أيضاً حملوا الرسالة نفسها بين مسرح وتلفزيون وآداب ونضالات ثقافية، وأنا أسارع للقول، إنني لا أقلّل هنا من شأن زياد، فمسرحه، بالمناسبة، من النماذج التي اعتمدتها في أطروحتي للدكتوراه، وأنا أستشكل علاقة المسرح بالحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة. رحل زياد، رحل الفتى الفيروزي وعوده الرنان يصدح حولنا، لكن، وفي كل حال وحين، ومهما قلنا وكتبنا، فإنّ كل أمانينا سخيفة حتماً في مواجهة الموت.
كاتب لبناني
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"إنّا باقون": رسالة أوركسترا رام الله إلى العالم
"إنّا باقون": رسالة أوركسترا رام الله إلى العالم

العربي الجديد

timeمنذ 6 ساعات

  • العربي الجديد

"إنّا باقون": رسالة أوركسترا رام الله إلى العالم

" كيف كانت الطريق؟"، بهذا السؤال تحاول رزان ثيودوري، المشرفة الأكاديمية في جمعية الكمنجاتي، الاطمئنان على أحوال عازفي وعازفات أوركسترا رام الله القادمين من مدن الضفة الغربية المحتلة لحضور تدريبات الأوركسترا في بلدة بيرزيت ، شمال رام الله، تحضيراً لعرض "إنّا باقون". يبدو السؤال روتينياً للفلسطينيين أينما كانوا في ظل الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في الضفة الغربية واستمرار عزل المدن والقرى الفلسطينية بعضها عن بعض من خلال حواجز عسكرية وبوابات حديدية وتضييقات على الطرقات التي يفرض المستوطنون الإسرائيليون وجودهم فيها على مدار الساعة، فتضاف أحوال الطرق للعديد من التحديات الأخرى التي تواجهها المؤسسات الثقافية والفنانون الفلسطينيون. لكن رغم هذه المخاطر استطاع 70 فناناً فلسطينياً وخمسة متطوعين أجانب تقديم عرض مميز على خشبة مسرح قصر رام الله الثقافي أمس الثلاثاء. وأحيت أوركسترا رام الله الأمسية بقيادة المايسترو البريطاني-الأميركي بيتر سلسكي وقدّمت سيمفونية موزارت 38 في افتتاحية العرض، تبعتها أغنيات وقصائد وطنية، بعضها من كلمات الراحل محمود درويش وألحان مارسيل خليفة ، مثل "فكّر بغيرك" و"في البال أغنية" وقصيدة "تُنسى"، من ألحان سميح شقير. كما أدت الأوركسترا قصائد من كلمات وألحان لفنانين فلسطينيين معاصرين بهدف تقديم أعمالهم للجمهور، مثل قصائد من كلمات ثائر ثابت وعلاء عبد العزيز ورائد صلاح وألحان محمد كحلة وخالد صدوق. وفي حديثها مع "العربي الجديد"، أكدت رزان ثيودوري أن اختيار جمعية الكمنجاتي تقديم هذا العرض في مدينة رام الله يهدف إلى تقديم عمل موسيقي بطابع شرقي ليحاكي أذواق الفلسطينيين بشكل عام ويحاكي همومهم اليومية بشكل خاص. وخصصت الأوركسترا، التي تأسست عام 2008، ريع تذاكر العرض بسعرها الرمزي لدعم صندوق طلبة الموسيقى في جمعية الكمنجاتي التي تستهدف حالياً من خلال عملها غير الربحي مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة. وتقدم "الكمنجاتي" برامج التعليم النظامي وورش العمل والمخيمات الصيفية الموسيقية والعروض وغيرها من الخدمات التي تهدف، كما يشير موقع الجمعية، إلى جعل الموسيقى في متناول المجتمع الفلسطيني بأكمله وتعزيز الثقافة والهوية الفلسطينية والعربية وللتعرف إلى الثقافات الدولية. سينما ودراما التحديثات الحية غزة حاضرة في مهرجان لوكارنو السينمائي السويسري وأشارت ثيودوري إلى أن اختيار "إنّا باقون" عنواناً عريضاً لعرض أوركسترا رام الله يأتي لتحقيق الأهداف المذكورة آنفاً، فيعتبر الفنانون أنفسهم مسؤولين عن البقاء في أرضهم ومقاومة انتهاكات الاحتلال التي تدفع الفلسطيني للرحيل في ظل التطهير العرقي والتجويع المستمر في قطاع غزة والظروف القاسية في الضفة الغربية والقدس المحتلة. كما تؤمن ثيودوري بأن الموسيقى ليست مجرد فن بالنسبة للفلسطينيين، بل تحولت لصوت مقاومة ووجود وثبات وجسر يجمع الناس، على حد تعبيرها. على مدار العامين المنصرمين تضاعفت التضييقات على الأفراد والمؤسسات العاملة في الحقل الثقافي في الضفة الغربية في ظل استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية وشح الموارد، إذ يعاني الفنانون من ركود في الحراك الثقافي، ما يجعلهم متعطشين لهذا النوع من المبادرات التي تشق طرقاً وعرة لتتحقق وتصل إلى خشبة المسرح. فرغم عدد ساعات التدريب المحدودة التي قضتها الأوركسترا، استطاعت تقديم عرض نال إعجاب الجمهور وتفاعله رغم حالة الإحباط السياسي التي تلمسها من خلال الأحاديث الجانبية مع الحضور. إذ عبّر أحد الحاضرين في حديث لـ"العربي الجديد" عن إعجابه بالمواهب الجديدة التي تعرّف إليها لأول مرة من خلال هذا العرض، وخاصة المغنيين والمغنيات المنفردين، مضيفاً أنه يأسف لمدى محدودية الفرص المتاحة للفنانين للوصول إلى جماهير أكبر، ومعبراً عن الأسى والضعف الذي يشعر به الفلسطينيون مع استمرار الاحتلال بتجويع ومحاصرة قطاع غزة. يذكر أن جمعية الكمنجاتي التي تأسست عام 2002، استطاعت بناء شبكة عالمية للتعاون والدعم الذي يشمل العديد من التبادلات الفنية والتعليمية مع مؤسسات موسيقية هامّة وفنانين مستقلين، ما سهّل استقطاب متطوعين مناصرين للقضية الفلسطينية للمشاركة في الأوركسترا وغيرها من خدمات الجمعية.

الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل
الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل

العربي الجديد

timeمنذ 2 أيام

  • العربي الجديد

الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل

حين رحل زياد الرحباني في 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، لم يكن موته مجرّد نهاية حياة فنّان، بل كان تجسيداً مكثّفاً لحالة أعمق نعيشها: الزمن المُعلَّق. موت الابن الذي كان يمثّل الحداثة والتمرّد، وبقاء الأمّ التي تجسّد الأصالة والذاكرة، يضعنا أمام مفارقة وجودية عميقة. كأنّ الزمن نفسه قد انقلب على قوانينه، فصار الماضي أكثر حياةً من المستقبل، والذاكرة أقوى من الأمل. لمحاولة فهم هذه المفارقة، نحتاج أن نستدعي تأمّلات مارتن هايدغر في كتابه "الوجود والزمان". الزمن فيها ليس مجرّد إطار خارجي نتحرّك فيه، بل هو النسيج الأساس لوجودنا. نحن كائنات زمانية في جوهرنا، ممتدّون بين الميلاد والموت، مُلقون (Geworfenheit) في عالم من الإمكانات. الماضي ليس شيئاً انتهى، بل ما يشكّل هُويَّتنا، والمستقبل ليس ما لم يأت بعد، بل أفق إمكاناتنا. لكن في زمننا المُعلَّق، انقطع هذا الامتداد. المستقبل صار مسدوداً والماضي عبئاً لا يُحتمل. يأتي هنري برغسون في "المادة والذاكرة" ليقدّم لنا مفتاحاً آخرَ لفهم حالتنا. حين يميّز بين الزمن الآلي، الذي تقيسه الساعات، والزمن الحيّ، الذي يسمّيه الديمومة (Duration). تدفّق مستمرّ من التجدّد، حيث كلّ لحظة فريدة. الوعي الإنساني يعيش في توتّر خلّاق بين الماضي المحفوظ في الذاكرة، والمستقبل الذي يستدعي الفعل. لكن الذاكرة تحوّلت، في زمننا المُعلَّق، من قوة محرّرة إلى ثقل مشلول، والمستقبل من دعوة إلى الإبداع إلى تكرار مملّ للحاضر. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً لعلّ موت زياد يجسّد هذا الانقطاع بشكل رمزي صارخ. الابن الذي سخر من كلّ شيء، حتى من إرث والديه، يرحل قبل الأمّ. الأيقونة فيروز، الصوت الذي غنّى للأمل والحرية، تجلس صامتةً في بيروت المُعلَّقة هي الأخرى بين أزمنة متناقضة. صمتها ليس صمت الحزن فقط، بل صمت زمن فقد قدرته على الكلام ذي المعنى. هذا الصمت المُطبق يقودنا إلى سؤال أعمق: هل يمكن لشيءٍ جديدٍ أن يحدث في زمنٍ توقَّف عن الحركة؟ آلان باديو في "الكينونة والحدث"، يُعرّف الحدث قطيعةً جذريةً مع النظام القائم، انبثاق للجديد من قلب المستحيل. الحدث عند باديو ليس مجرّد واقعة، بل لحظة تأسيس حقيقة جديدة. لكن زمننا المُعلَّق يبدو كأنه زمن موت الحدث بهذا المعنى. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً، تتكرّر الكوارث من دون أن تولّد وعياً مختلفاً. ربّما لهذا بالذات كان موت زياد مؤثّراً إلى هذا الحدّ. ليس لأنه حدث بالمعنى الباديوي، بل لأنه جاء ليؤكّد استحالة الحدث في زمننا. زياد الذي كانت مسرحياته ولحظات سخريته محاولات لإيجاد شقوق في جدار الواقع، يرحل من دون أن تنجح هذه الشقوق في أن تصبح فتحات نحو مستقبل مختلف. لكن فالتر بنيامين، الذي كتب أطروحات حول فلسفة التاريخ في ظروف مشابهة من اليأس التاريخي، يذكّرنا بأن التاريخ ليس خطّاً مستقيماً من التقدّم، بل مليء بلحظات كامنة يسمّيها "الزمن-الآن" أو "الزمن الآني" (Jetztzeit)، لحظات مشحونة بإمكانية ثورية، إذ يمكن للماضي أن يتفجرّ في الحاضر. ربّما كان زياد يحاول إيجاد مثل هذه اللحظات، وربّما يكون رحيله نفسه إحداها. في الموت الآخر الذي نحياه، نشهد فيه أطفالاً يموتون قبل أن يعرفوا طعم الحليب. أجساد تتآكل من الداخل، جائعة ليس للخبز فقط، بل للمعنى نفسه. أرض تستحيل ذاكرةً عوض حضارة. يتحدّث موريس بلانشو في كتابة "الفاجعة" عن الكتابة محاولةً مستحيلةً للاقتراب ممّا لا يُقترَب منه، لتسمية ما يهرب من كلّ تسمية. يكتب قائلاً: "الفاجعة هي ما يحرمنا من ذلك الملجأ الأخير الذي هو الفكر في الموت". نحن الآن في قلب هذه الفاجعة، حيث حتى الموت فقد معناه نهايةً، وصار مجرّد استمرار آخر للعدم. في هذا الموت البطيء، الزمن نفسه يتحلّل. كلّ لحظة تصبح أبدية من العذاب، وكلّ أبدية تنضغط في لحظة. نحاول أن نحيا "بلا ولا شي" عوض أن نحبّ... لا ماضٍ نستند إليه، لا مستقبل ننتظره، لا حاضر نملكه. مجرّد ديمومة فارغة، زمن بلا محتوى، حياة بلا حياة. وهل عشنا حقّاً إذا صرنا نحيا هكذا، معلّقين في العدم، نتنفّس لكن لا نحيا، نشهد لكن لا نفعل، نعرف لكن لا نستطيع؟ هنا بلانشو نفسه يذكّرنا أن الكتابة عن الفاجعة ليست بحثاً عن حلول، بل محاولة للبقاء شهوداً. ليس الأمل التقليدي ما نحتاجه، بل شيء أكثر صلابةً وواقعية. يتحدّث جاك دريدا في البقايا عن تلك الآثار التي تنجو من المحو وتحمل في طيّاتها بذرة المعنى. زياد كان سيّد هذا الفن، فنّ العثور على الحياة في الموت، على الضحك في البكاء. في موسيقاه، النشاز ليس خطأً، بل لغة أخرى للانسجام، والصمت ليس فراغاً بل نوتة امتلاء. علّمنا أن البقاء ليس مجرّد استمرار بيولوجي، بل فعل إبداعي يومي، مقاومة بالفنّ ضدّ العدم. علنا ابن فيروز، الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، نستحضر في لحن عابر ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي غنّى زياد عن الإيمان بطريقة الكافر، وعن الكفر بقلب المؤمن، في "أنا مش كافر". هذا التناقض الخلّاق هو جوهر فنّه، وربّما جوهر ما نحتاجه للنجاة. ليس الإيمان الساذج ولا الكفر المطلق، بل تلك المنطقة الرمادية حيث يمكن للمعنى أن ينبثق من العبث. سارتر كان يتحدّث عن الغثيان إدراكاً للعبثية المطلقة للوجود، لكنّ زياد علّمنا أن نرقص على إيقاع هذا الغثيان، أن نحوّله موسيقى... موسيقاه التي مزجت المتناقضات، مسرحياته التي حوّلت المأساة ضحكاً أسودَ، كانت دروساً في البقاء وسط الانهيار. ابن فيروز الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، جعلنا نستحضر في سطر واحد (أو في لحن عابر) ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي. في "كيفك انت" أو "بلا ولا شي" نستعيد لحظاتٍ من زمن آخر، لكن نعيشها بشكل جديد. هذه معجزة الفنّ، قدرته على جعلنا نحيا حتى ونحن نموت. السؤال ليس كيف نموت ونحن أحياء، بل كيف نحيا حتى ونحن نموت، كيف نجد في الموت بذرة حياة، في الصمت صوتاً، في اليأس أملاً. في زمنٍ يموت فيه كلّ شيء، نتعلّم من زياد أن البقاء ليس مجرّد استمرار، بل فعلٌ وجودي. أن نخلق المعنى وسط اللامعنى، أن نقيم في الزمن المعلّق لا خضوعاً، بل وعياً، لأن سؤال: كيف نكون في زمن لا يتحرّك؟ لا يُجاب عليه بالخروج منه، بل بالإقامة فيه وتقبّله حتى نفهمه، حتى نخلخل صمته. لتجاوزه. زياد لم يدلّنا على باب، بل على نغمة؛ لم يعطنا مخرجاً، بل جعلنا نصغي للتيه. وهناك، فقط هناك، بلحن زياد، يمكن أن نقول: "إيه... في أمل".

الموسيقار السوفييتي آرام خاتشادوريان في دمشق
الموسيقار السوفييتي آرام خاتشادوريان في دمشق

العربي الجديد

timeمنذ 3 أيام

  • العربي الجديد

الموسيقار السوفييتي آرام خاتشادوريان في دمشق

في الأول من مايو/أيار عام 1978، رحل الموسيقار الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، وفي ذلك الصيف كنتُ مصادفةً في مدينة دمشق ، قادماً من إدلب لحضور معرض دمشق الدولي، وقد حللتُ ضيفاً عند أخي الكبير الذي كان يدرس الصيدلة في جامعة دمشق. كانت دمشق آنذاك شامة على خد الزمان. سبحان الله الذي جعل فيها زرعاً أجناساً يُسقى بماء واحد، فجعل قطوف عنبها دانيةً لأحبّائه، والعنب في غوطة دمشق صنوف كثيرة. وذكر المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع محمد البدري في كتابه المؤلَّف قبل خمسة قرون نزهة الأنام في محاسن الشام، أن في غوطة دمشق أكثر من خمسين صنفاً من العنب. رحم الله جدّي عثمان بن محمد دحنون، حين زار الشام في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وكنتُ معه. لا يزال صدى "سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ/ ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُ"، ونسمات الغوطة، وخيراتها تعبق في الذاكرة. في تلك الزيارة القصيرة، أصرّ جدي أن نشتري له يومياً صنفاً من عنب الشام، وكان أوان العنب يومها. كم أسعده عنب الشام! فأثنى عليه، وهو الفلاح المجتهد الذي ظل مرابعاً بلا أرض، لأنه رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين، مدّعياً أن الأرض مَكْس (أي مغتصبة)، وقال: في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنة". أعجبه عنب الشام إعجاباً كبيراً، رغم أن براري إدلب أيضاً غنية بأصناف الأعناب. كانت الشام، ولا تزال، شاماً لكل زمان. وقد حباها الله بمحاسن كثيرة لا تُعدّ. نهر بردى ينساب متدفّقاً، والماء يرقص مع الضوء في نوافير بديعة عند مدخل معرض دمشق الدولي. وفيروز تصدح بصوتها الملائكي: "يا شام عاد الصيف متّئداً وعاد بيَ الجناحُ صرخ الحنين إليك بيْ أقلعْ ونادتني الرياحُ فأنا هنا جُرح الهوى وهناك في وطني جراح وعليك عيني يا دمشق، فمنك ينهمر الصباح أهلي وأهلك والحضارة وحّدتنا والسماح يا شام يا بوابة التاريخ تحرسكِ الرماحُ". في ذلك المساء، والنسيم العليل يعبق برائحة الياسمين الدمشقي، رافقتُ أخي الصيدلاني إلى صالة المسرح في المركز الثقافي السوفييتي، حيث كانت تُقام محاضرة عن الموسيقي الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، تليها مقاطع حيّة على البيانو لعازف سوفييتي من باليه " سبارتاكوس "، التي ألّف موسيقاها عام 1954. دخل المحاضر إلى الصالة، فصفّق له الحضور بحرارة. جلس على كرسي من الخيزران في وسط خشبة المسرح، ثم راح يتأمل هذا الجمع الغفير، فيهم الكبير والصغير، بل وحتى المقمّط في السرير. لاقط الصوت أمامه، لكن لا صوت. تنحنح، فسمعنا نحنحته. مدّ يده اليمنى إلى جيب سترته ناحية القلب، أخرجها على مهل، لكنها كانت فارغة. تنحنح مرة أخرى، ثم اقترب من لاقط الصوت وقال: "الظاهر من عجقتي نسيت أوراق المحاضرة في حمص" – طلع الأخ "حمصي"! – ثم استدرك مبتسماً: "ماذا نفعل الآن؟ على كل حال، سأحكي لكم ما تجود به القريحة. مساء الخير أولاً". كان آرام خاتشادوريان في الرابعة عشرة من عمره عند قيام العهد السوفييتي. درس الموسيقى في روسيا السوفييتية، وكان مُخلصاً للثورة البلشفية، يُنتج موسيقى تشرف على صياغتها المؤسسة الحزبية الرسمية. وبالنسبة لكثير من هواة الموسيقى غير المتعمقين، لم يكن خاتشادوريان سوى مؤلف لقطعة واحدة شهيرة هي "رقصة السيف"، لكن الحقيقة أوسع من ذلك بكثير. فقد ألّف طيلة حياته عدداً كبيراً من الأعمال الموسيقية المتنوعة، من سيمفونيات، وكونشرتوهات، وأعمال للباليه. "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه" واللافت أن "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه"، وتروي قصة فلاحة تعمل في تعاونية زراعية (كولخوز)، تعاني مأساة خيانة زوجها للوطن السوفييتي أثناء الحرب العالمية الثانية بتعاونه مع المحتل النازي. درس خاتشادوريان في البداية البيولوجيا في جامعة موسكو، قبل أن ينتقل إلى المعهد التربوي، وهناك سطع نجم شغفه الحقيقي بالموسيقى. وكان اللقاء المفصلي في حياته عندما التقى نيكولاي مياسكوفسكي في كونسرفاتوار موسكو، الذي اكتشف موهبته ودفعه نحو التخصص الجدي. من مجرد عازف على آلة التشيلو، أصبح خاتشادوريان لاحقاً مؤلف كونشرتو للتشيلو يُعد من أروع إنتاجاته، وتحوّل تدريجياً إلى واحد من أكثر المواهب الموسيقية وعداً في الاتحاد السوفييتي. ولعلّ النجاح الهائل الذي حققته باليه "سبارتاكوس" يعود في جوهره إلى تميّزها الفني، وقوة تعبيرها الموسيقي، حيث استطاع خاتشادوريان أن يدمج في هذا العمل كل ما اختزنته ذاكرته من موسيقى شعبية، وخصوصاً من الفولكلور الأرميني الثري والملون. لكن لا يمكن إنكار أن البُعد الأيديولوجي والبطولي للعمل، وهو تمرد العبيد بقيادة سبارتاكوس ضد الاستعباد والطغيان، شكّل عنصر جذب إضافي للجمهور، وأضفى على العمل مسحة ثورية تتماشى مع روح العصر السوفييتي. آرام خاتشادوريان لم يكن مجرد مؤلف "رقصة السيف"، بل موسيقياً شاملاً، ابن مرحلة، عايش تحولات القرن العشرين، وعبّر عنها بأدوات الفن. ومساء دمشق ذاك، تحت ياسمينها، كان تحية صادقة لهذا الفنان، وتذكيراً بأن الموسيقى، مثل دمشق، لا تنسى من مرّ بها وأحبها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store