
"إنّا باقون": رسالة أوركسترا رام الله إلى العالم
كيف كانت الطريق؟"، بهذا السؤال تحاول رزان ثيودوري، المشرفة الأكاديمية في جمعية الكمنجاتي، الاطمئنان على أحوال عازفي وعازفات أوركسترا رام الله القادمين من مدن الضفة الغربية المحتلة لحضور تدريبات الأوركسترا في بلدة
بيرزيت
، شمال رام الله، تحضيراً لعرض "إنّا باقون".
يبدو السؤال روتينياً للفلسطينيين أينما كانوا في ظل الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في الضفة الغربية واستمرار عزل المدن والقرى الفلسطينية بعضها عن بعض من خلال حواجز عسكرية وبوابات حديدية وتضييقات على الطرقات التي يفرض المستوطنون الإسرائيليون وجودهم فيها على مدار الساعة، فتضاف أحوال الطرق للعديد من التحديات الأخرى التي تواجهها المؤسسات الثقافية والفنانون الفلسطينيون. لكن رغم هذه المخاطر استطاع 70 فناناً فلسطينياً وخمسة متطوعين أجانب تقديم عرض مميز على خشبة مسرح قصر رام الله الثقافي أمس الثلاثاء.
وأحيت أوركسترا رام الله الأمسية بقيادة المايسترو البريطاني-الأميركي بيتر سلسكي وقدّمت سيمفونية موزارت 38 في افتتاحية العرض، تبعتها أغنيات وقصائد وطنية، بعضها من كلمات الراحل محمود درويش وألحان
مارسيل خليفة
، مثل "فكّر بغيرك" و"في البال أغنية" وقصيدة "تُنسى"، من ألحان سميح شقير. كما أدت الأوركسترا قصائد من كلمات وألحان لفنانين فلسطينيين معاصرين بهدف تقديم أعمالهم للجمهور، مثل قصائد من كلمات ثائر ثابت وعلاء عبد العزيز ورائد صلاح وألحان محمد كحلة وخالد صدوق.
وفي حديثها مع "العربي الجديد"، أكدت رزان ثيودوري أن اختيار جمعية الكمنجاتي تقديم هذا العرض في مدينة رام الله يهدف إلى تقديم عمل موسيقي بطابع شرقي ليحاكي أذواق الفلسطينيين بشكل عام ويحاكي همومهم اليومية بشكل خاص.
وخصصت الأوركسترا، التي تأسست عام 2008، ريع تذاكر العرض بسعرها الرمزي لدعم صندوق طلبة الموسيقى في جمعية الكمنجاتي التي تستهدف حالياً من خلال عملها غير الربحي مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة.
وتقدم "الكمنجاتي" برامج التعليم النظامي وورش العمل والمخيمات الصيفية الموسيقية والعروض وغيرها من الخدمات التي تهدف، كما يشير موقع الجمعية، إلى جعل الموسيقى في متناول المجتمع الفلسطيني بأكمله وتعزيز الثقافة والهوية الفلسطينية والعربية وللتعرف إلى الثقافات الدولية.
سينما ودراما
التحديثات الحية
غزة حاضرة في مهرجان لوكارنو السينمائي السويسري
وأشارت ثيودوري إلى أن اختيار "إنّا باقون" عنواناً عريضاً لعرض أوركسترا رام الله يأتي لتحقيق الأهداف المذكورة آنفاً، فيعتبر الفنانون أنفسهم مسؤولين عن البقاء في أرضهم ومقاومة انتهاكات الاحتلال التي تدفع الفلسطيني للرحيل في ظل التطهير العرقي والتجويع المستمر في قطاع غزة والظروف القاسية في الضفة الغربية والقدس المحتلة. كما تؤمن ثيودوري بأن الموسيقى ليست مجرد فن بالنسبة للفلسطينيين، بل تحولت لصوت مقاومة ووجود وثبات وجسر يجمع الناس، على حد تعبيرها.
على مدار العامين المنصرمين تضاعفت التضييقات على الأفراد والمؤسسات العاملة في الحقل الثقافي في الضفة الغربية في ظل استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية وشح الموارد، إذ يعاني الفنانون من ركود في الحراك الثقافي، ما يجعلهم متعطشين لهذا النوع من المبادرات التي تشق طرقاً وعرة لتتحقق وتصل إلى خشبة المسرح.
فرغم عدد ساعات التدريب المحدودة التي قضتها الأوركسترا، استطاعت تقديم عرض نال إعجاب الجمهور وتفاعله رغم حالة الإحباط السياسي التي تلمسها من خلال الأحاديث الجانبية مع الحضور. إذ عبّر أحد الحاضرين في حديث لـ"العربي الجديد" عن إعجابه بالمواهب الجديدة التي تعرّف إليها لأول مرة من خلال هذا العرض، وخاصة المغنيين والمغنيات المنفردين، مضيفاً أنه يأسف لمدى محدودية الفرص المتاحة للفنانين للوصول إلى جماهير أكبر، ومعبراً عن الأسى والضعف الذي يشعر به الفلسطينيون مع استمرار الاحتلال بتجويع ومحاصرة قطاع غزة.
يذكر أن جمعية الكمنجاتي التي تأسست عام 2002، استطاعت بناء شبكة عالمية للتعاون والدعم الذي يشمل العديد من التبادلات الفنية والتعليمية مع مؤسسات موسيقية هامّة وفنانين مستقلين، ما سهّل استقطاب متطوعين مناصرين للقضية الفلسطينية للمشاركة في الأوركسترا وغيرها من خدمات الجمعية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
"إنّا باقون": رسالة أوركسترا رام الله إلى العالم
" كيف كانت الطريق؟"، بهذا السؤال تحاول رزان ثيودوري، المشرفة الأكاديمية في جمعية الكمنجاتي، الاطمئنان على أحوال عازفي وعازفات أوركسترا رام الله القادمين من مدن الضفة الغربية المحتلة لحضور تدريبات الأوركسترا في بلدة بيرزيت ، شمال رام الله، تحضيراً لعرض "إنّا باقون". يبدو السؤال روتينياً للفلسطينيين أينما كانوا في ظل الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في الضفة الغربية واستمرار عزل المدن والقرى الفلسطينية بعضها عن بعض من خلال حواجز عسكرية وبوابات حديدية وتضييقات على الطرقات التي يفرض المستوطنون الإسرائيليون وجودهم فيها على مدار الساعة، فتضاف أحوال الطرق للعديد من التحديات الأخرى التي تواجهها المؤسسات الثقافية والفنانون الفلسطينيون. لكن رغم هذه المخاطر استطاع 70 فناناً فلسطينياً وخمسة متطوعين أجانب تقديم عرض مميز على خشبة مسرح قصر رام الله الثقافي أمس الثلاثاء. وأحيت أوركسترا رام الله الأمسية بقيادة المايسترو البريطاني-الأميركي بيتر سلسكي وقدّمت سيمفونية موزارت 38 في افتتاحية العرض، تبعتها أغنيات وقصائد وطنية، بعضها من كلمات الراحل محمود درويش وألحان مارسيل خليفة ، مثل "فكّر بغيرك" و"في البال أغنية" وقصيدة "تُنسى"، من ألحان سميح شقير. كما أدت الأوركسترا قصائد من كلمات وألحان لفنانين فلسطينيين معاصرين بهدف تقديم أعمالهم للجمهور، مثل قصائد من كلمات ثائر ثابت وعلاء عبد العزيز ورائد صلاح وألحان محمد كحلة وخالد صدوق. وفي حديثها مع "العربي الجديد"، أكدت رزان ثيودوري أن اختيار جمعية الكمنجاتي تقديم هذا العرض في مدينة رام الله يهدف إلى تقديم عمل موسيقي بطابع شرقي ليحاكي أذواق الفلسطينيين بشكل عام ويحاكي همومهم اليومية بشكل خاص. وخصصت الأوركسترا، التي تأسست عام 2008، ريع تذاكر العرض بسعرها الرمزي لدعم صندوق طلبة الموسيقى في جمعية الكمنجاتي التي تستهدف حالياً من خلال عملها غير الربحي مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة. وتقدم "الكمنجاتي" برامج التعليم النظامي وورش العمل والمخيمات الصيفية الموسيقية والعروض وغيرها من الخدمات التي تهدف، كما يشير موقع الجمعية، إلى جعل الموسيقى في متناول المجتمع الفلسطيني بأكمله وتعزيز الثقافة والهوية الفلسطينية والعربية وللتعرف إلى الثقافات الدولية. سينما ودراما التحديثات الحية غزة حاضرة في مهرجان لوكارنو السينمائي السويسري وأشارت ثيودوري إلى أن اختيار "إنّا باقون" عنواناً عريضاً لعرض أوركسترا رام الله يأتي لتحقيق الأهداف المذكورة آنفاً، فيعتبر الفنانون أنفسهم مسؤولين عن البقاء في أرضهم ومقاومة انتهاكات الاحتلال التي تدفع الفلسطيني للرحيل في ظل التطهير العرقي والتجويع المستمر في قطاع غزة والظروف القاسية في الضفة الغربية والقدس المحتلة. كما تؤمن ثيودوري بأن الموسيقى ليست مجرد فن بالنسبة للفلسطينيين، بل تحولت لصوت مقاومة ووجود وثبات وجسر يجمع الناس، على حد تعبيرها. على مدار العامين المنصرمين تضاعفت التضييقات على الأفراد والمؤسسات العاملة في الحقل الثقافي في الضفة الغربية في ظل استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية وشح الموارد، إذ يعاني الفنانون من ركود في الحراك الثقافي، ما يجعلهم متعطشين لهذا النوع من المبادرات التي تشق طرقاً وعرة لتتحقق وتصل إلى خشبة المسرح. فرغم عدد ساعات التدريب المحدودة التي قضتها الأوركسترا، استطاعت تقديم عرض نال إعجاب الجمهور وتفاعله رغم حالة الإحباط السياسي التي تلمسها من خلال الأحاديث الجانبية مع الحضور. إذ عبّر أحد الحاضرين في حديث لـ"العربي الجديد" عن إعجابه بالمواهب الجديدة التي تعرّف إليها لأول مرة من خلال هذا العرض، وخاصة المغنيين والمغنيات المنفردين، مضيفاً أنه يأسف لمدى محدودية الفرص المتاحة للفنانين للوصول إلى جماهير أكبر، ومعبراً عن الأسى والضعف الذي يشعر به الفلسطينيون مع استمرار الاحتلال بتجويع ومحاصرة قطاع غزة. يذكر أن جمعية الكمنجاتي التي تأسست عام 2002، استطاعت بناء شبكة عالمية للتعاون والدعم الذي يشمل العديد من التبادلات الفنية والتعليمية مع مؤسسات موسيقية هامّة وفنانين مستقلين، ما سهّل استقطاب متطوعين مناصرين للقضية الفلسطينية للمشاركة في الأوركسترا وغيرها من خدمات الجمعية.


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
الموسيقار السوفييتي آرام خاتشادوريان في دمشق
في الأول من مايو/أيار عام 1978، رحل الموسيقار الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، وفي ذلك الصيف كنتُ مصادفةً في مدينة دمشق ، قادماً من إدلب لحضور معرض دمشق الدولي، وقد حللتُ ضيفاً عند أخي الكبير الذي كان يدرس الصيدلة في جامعة دمشق. كانت دمشق آنذاك شامة على خد الزمان. سبحان الله الذي جعل فيها زرعاً أجناساً يُسقى بماء واحد، فجعل قطوف عنبها دانيةً لأحبّائه، والعنب في غوطة دمشق صنوف كثيرة. وذكر المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع محمد البدري في كتابه المؤلَّف قبل خمسة قرون نزهة الأنام في محاسن الشام، أن في غوطة دمشق أكثر من خمسين صنفاً من العنب. رحم الله جدّي عثمان بن محمد دحنون، حين زار الشام في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وكنتُ معه. لا يزال صدى "سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ/ ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُ"، ونسمات الغوطة، وخيراتها تعبق في الذاكرة. في تلك الزيارة القصيرة، أصرّ جدي أن نشتري له يومياً صنفاً من عنب الشام، وكان أوان العنب يومها. كم أسعده عنب الشام! فأثنى عليه، وهو الفلاح المجتهد الذي ظل مرابعاً بلا أرض، لأنه رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين، مدّعياً أن الأرض مَكْس (أي مغتصبة)، وقال: في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنة". أعجبه عنب الشام إعجاباً كبيراً، رغم أن براري إدلب أيضاً غنية بأصناف الأعناب. كانت الشام، ولا تزال، شاماً لكل زمان. وقد حباها الله بمحاسن كثيرة لا تُعدّ. نهر بردى ينساب متدفّقاً، والماء يرقص مع الضوء في نوافير بديعة عند مدخل معرض دمشق الدولي. وفيروز تصدح بصوتها الملائكي: "يا شام عاد الصيف متّئداً وعاد بيَ الجناحُ صرخ الحنين إليك بيْ أقلعْ ونادتني الرياحُ فأنا هنا جُرح الهوى وهناك في وطني جراح وعليك عيني يا دمشق، فمنك ينهمر الصباح أهلي وأهلك والحضارة وحّدتنا والسماح يا شام يا بوابة التاريخ تحرسكِ الرماحُ". في ذلك المساء، والنسيم العليل يعبق برائحة الياسمين الدمشقي، رافقتُ أخي الصيدلاني إلى صالة المسرح في المركز الثقافي السوفييتي، حيث كانت تُقام محاضرة عن الموسيقي الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، تليها مقاطع حيّة على البيانو لعازف سوفييتي من باليه " سبارتاكوس "، التي ألّف موسيقاها عام 1954. دخل المحاضر إلى الصالة، فصفّق له الحضور بحرارة. جلس على كرسي من الخيزران في وسط خشبة المسرح، ثم راح يتأمل هذا الجمع الغفير، فيهم الكبير والصغير، بل وحتى المقمّط في السرير. لاقط الصوت أمامه، لكن لا صوت. تنحنح، فسمعنا نحنحته. مدّ يده اليمنى إلى جيب سترته ناحية القلب، أخرجها على مهل، لكنها كانت فارغة. تنحنح مرة أخرى، ثم اقترب من لاقط الصوت وقال: "الظاهر من عجقتي نسيت أوراق المحاضرة في حمص" – طلع الأخ "حمصي"! – ثم استدرك مبتسماً: "ماذا نفعل الآن؟ على كل حال، سأحكي لكم ما تجود به القريحة. مساء الخير أولاً". كان آرام خاتشادوريان في الرابعة عشرة من عمره عند قيام العهد السوفييتي. درس الموسيقى في روسيا السوفييتية، وكان مُخلصاً للثورة البلشفية، يُنتج موسيقى تشرف على صياغتها المؤسسة الحزبية الرسمية. وبالنسبة لكثير من هواة الموسيقى غير المتعمقين، لم يكن خاتشادوريان سوى مؤلف لقطعة واحدة شهيرة هي "رقصة السيف"، لكن الحقيقة أوسع من ذلك بكثير. فقد ألّف طيلة حياته عدداً كبيراً من الأعمال الموسيقية المتنوعة، من سيمفونيات، وكونشرتوهات، وأعمال للباليه. "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه" واللافت أن "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه"، وتروي قصة فلاحة تعمل في تعاونية زراعية (كولخوز)، تعاني مأساة خيانة زوجها للوطن السوفييتي أثناء الحرب العالمية الثانية بتعاونه مع المحتل النازي. درس خاتشادوريان في البداية البيولوجيا في جامعة موسكو، قبل أن ينتقل إلى المعهد التربوي، وهناك سطع نجم شغفه الحقيقي بالموسيقى. وكان اللقاء المفصلي في حياته عندما التقى نيكولاي مياسكوفسكي في كونسرفاتوار موسكو، الذي اكتشف موهبته ودفعه نحو التخصص الجدي. من مجرد عازف على آلة التشيلو، أصبح خاتشادوريان لاحقاً مؤلف كونشرتو للتشيلو يُعد من أروع إنتاجاته، وتحوّل تدريجياً إلى واحد من أكثر المواهب الموسيقية وعداً في الاتحاد السوفييتي. ولعلّ النجاح الهائل الذي حققته باليه "سبارتاكوس" يعود في جوهره إلى تميّزها الفني، وقوة تعبيرها الموسيقي، حيث استطاع خاتشادوريان أن يدمج في هذا العمل كل ما اختزنته ذاكرته من موسيقى شعبية، وخصوصاً من الفولكلور الأرميني الثري والملون. لكن لا يمكن إنكار أن البُعد الأيديولوجي والبطولي للعمل، وهو تمرد العبيد بقيادة سبارتاكوس ضد الاستعباد والطغيان، شكّل عنصر جذب إضافي للجمهور، وأضفى على العمل مسحة ثورية تتماشى مع روح العصر السوفييتي. آرام خاتشادوريان لم يكن مجرد مؤلف "رقصة السيف"، بل موسيقياً شاملاً، ابن مرحلة، عايش تحولات القرن العشرين، وعبّر عنها بأدوات الفن. ومساء دمشق ذاك، تحت ياسمينها، كان تحية صادقة لهذا الفنان، وتذكيراً بأن الموسيقى، مثل دمشق، لا تنسى من مرّ بها وأحبها.


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
سورية الصغرى في نيويورك.. جبران داخل متاهة بول أوستر
نيويورك مزيجٌ متناقضٌ من الجاذبية والسّأم، من النّشوة والخوف، مدينةٌ يحلم العالم كلّه بالوصول إليها ويتخيلها مدينة الفرص والتّطلعات الكبرى. هناك شيءٌ لا يقاوم في هذا المكان، شيءٌ يجذب الغرباء من كلّ ركن من أركان الكوكب بحثًا عن تحقيق الذات أو حتى مجرد أن يكونوا جزءًا من الحدث فيها. شبّهها الروائي الأميركي بول أوستر في روايته "ثلاثية نيويورك" بالمتاهة الوجودية والمشي في شوارعها يشبه سردًا غامضًا لا ينتهي، نصًا مفتوحًا مليء بالأسئلة حيث تختفي الهوية وسط زجاج المباني العاكسة والأبواب المغلقة فيقول واصفًا إياها بعيني دانيال كوين بطل الجزء الأول منها: "كانت نيويورك فضاءً لا ينضب، متاهة من خطوات لا نهاية لها، ومهما مشى، ومهما تعمق في معرفة أحيائها وشوارعها، كان دائمًا ما يتركه يشعر بالضياع"، أي أن نيويورك تعمل كمشهد نفسي رمزي تؤثّر على الشخصيات وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة والشخصية كانت تستخدم المشي وسيلة تهدئة ذاتية عبر امتلائها بالخارجيّات. ولعل من مشى في شوارع نيويورك يعلم مدى دقة هذا الوصف. لكنه أيضًا، احتفى في إحدى مقابلاته بفرادة نيويورك بوصفها مدينة تتجاوز حدود الانتماء الجغرافي، وذهب إلى حدّ التمني أن تنفصل عن الولايات المتحدة لأنه يراها "صورة مصغّرة للعالم كلّه" لا لأميركا فقط، ورغم أنها ظلت دومًا معلّقة بين قطبي الإعجاب والنفور في نظر أهل أمريكا أنفسهم، إلا أن حشودًا من الشباب في سائر الولايات يحلمون بفرصة للقدوم إليها. تؤثّر نيويورك على شخصياتها وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة نلحظ هذا الاغتراب الوجودي الذي ذكره أوستر عند الجيل الأول من أدباء المهجر العربي، الذين سكنوا نيويورك أواخر القرن التاسع عشر، في الحي السوري أو "سوريا الصغرى"، كتبوا فيها عن الوطن المفقود وعن الروح القلقة وعن الله والطبيعة والانبعاث الداخلي، ورغم سطوتها البصرية وانفتاحها الحداثي لم تكن ملهمة لهم، بل كانت مثقلة بهموم الغربة والانفصال، لم تكن موضوعًا يُفتَنون به أو يرمزون له، بل كانت كأنها مشهد جانبي في حكاية أعمق تُروى من الداخل. فجبران خليل جبران مثلاً، لم يذكر نيويورك مباشرة في مؤلفاته الأدبية، بل تسرّبت المدينة فقط في رسائله الخاصة إلى ماري هاسكل إذ وصفها بـ"المكان الغريب" الذي يفرض على المرء أن "يبدأ بالاجتماعي وينتهي بالمهني" من بين تفاصيل يومية أخرى تتعلق ببحثه عن شقة يسكنها. كذلك بقية أعضاء الرابطة القلمية مثل ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ظلّت المدينة غائبة عن نثرهم وشعرهم وكأن نيويورك لم تكن قادرة بعد على اختراق ذاكرتهم الأدبية المعلّقة بين الجبل والضيعة بين بيروت والشام لا بين برودواي ومانهاتن. كانوا هاربين من نوع آخر من المتاهات، متاهة القمع وتكميم الحريات، في ظل الحكم العثماني التي طاولت أجيالاً كثيرة، ومنظمة الرقابة والتجسس التي كانت تلاحق المفكرين والسياسيين، وزعماء الإصلاح والصحافيين، وتراقب الجرائد، ومع بدء الاحتلال الفرنسي كان طريق الخلاص أمام الناس عموماً آنذاك إما الثورة أو الهجرة التي لم تكن حقيقة هجرة بالمعنى المتعارف عليه، بل كانت فرارًا جماعيًا لمن استطاع سبيلاً. أما أعداد مجلة "كوكب أمريكا"، أول مجلة عربية في المهجر الأميركي التي أسسها نجيب عربيلي من عام 1892، فهي غنية بالقدر الذي يعطينا فكرة وافية عن تلك الحقبة، وقد تناولت شؤون المهاجرين العرب في الولايات المتحدة، وقضايا الدولة العثمانية، كما ناقشت موضوعات الهوية والدين والإصلاح والنهضة، وسعت إلى أن تكون جسرًا ثقافيًا بين المهجر والشرق العربي وقد حمل عربيلي فكرًا عروبيًا تنويريًا، مؤمنًا بالحرية ومعارضًا للاستبداد العثماني، فدافع عبر صحيفته عن حقوق العرب وربطهم بقضايا أوطانهم، مما جعله من أوائل من أسّسوا لخطاب الهوية العربية الحديثة في المهجر. ظلت نيويورك غائبة عن شعر الجيل الأول من أدباء المهجر وعند تصفح أعداد الجريدة نجد أخبار السلطنة العثمانية والسفينة المنطلقة من بيروت وأسماء ركابها وإعلانات وأحداث محلية عن المدينة وعن بقية المدن الأميركية وأحداث وقعت في مصر ولبنان وسورية، وفي باب "الوقائع" مثلاً نجد ملخص الجلسة الثامنة لجمعية الشبان السوريين في نيويورك التي تأسست في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1895، وتحت باب "صدى جرائد الشرق" عرض لأخبار من جرائد المشرق العربي في نصٍ سرديّ واحد، من جرائد الأهرام، الآداب، حديقة الأخبار، طرابلس الشام، لسان الحال، الهلال، وغيرها "اشتد البرد في مصر وأمطرت السماء رذاذًا وأوحلت الأزقة حتى امتنع فيها السلوك. ظهر داء الجدري في عكّا [..] دخل أحد الصوص إلى مكتب مدير جريدة الأحوال في بيروت فسلب بعض أشياء خفيفة". وفي أخبار العالم نرى أخبارًا من باريس والصين وبنما وباراغواي وبطرسبورغ وغيرها من البلدان، وكان لها إسهام هام في المحافظة على اللغة العربية والتجديد في الأدب العربي، والتعبير عن الذات بحرية، كما كانت ميداناً لأقلام الكتاب والشعراء إن كانت أعضاء الرابطة القلمية أو العصبة الأندلسية في أمريكا الجنوبية (البرازيل). توقّف صدور المجلة عام 1908، ومعه خفت صوت ذلك الجيل الأول من المهاجرين العرب الذين حملوا همّ الكلمة والهوية في المنافي، بينما لم يتمكّن الجيل التالي من الشباب العربي في المهجر، من إنتاج مشروع مماثل، بل لم يجد نفسه حتى منخرطًا في أيّ من الصحف العربية التي ظهرت آنذاك، كان يعيش واقعًا مختلفًا تمامًا عن آبائه، واقعًا طبعته الحرية لا القمع، والرخاء لا القسوة، جيلٌ لم يرث معاناة المنفى، بل ورث آفاقه الجديدة، ولذلك لم يعد يكتب من موقع الدفاع أو البحث عن هوية. ولعلّ ما بقي من تلك الحقبة الأدبية بامتياز هو محاولة استذكارها في المكان، ففي حديقة إليزابيث برجر يجري تنفيذ مشروع فني دائم يُكرّم الإرث الأدبي لـ"سورية الصغرى" بعد اثني عشر عامًا من الجهود المتواصلة، ليكون هذا أول نصب تذكاري في مدينة نيويورك يُكرّم مجتمعًا تاريخيًا في حديقة عامة. صمّمت المشروع الفنانة الفرنسية المغربية سارة أُحدّو بعنوان "القلم: شعراء في الحديقة"، بالقرب من موقع الحي السوري قديمًا على شارع واشنطن، وقد بدأ تنفيذه منذ عامين ولما ينتهِ بعد، ويتكوّن من منحوتة برونزية ذهبية اللون بطول يقارب تسعة عشر قدمًا وارتفاع يصل إلى سبعة أقدام تمثل كلمة "القلم" باستخدام أبجدية تجريدية غير مقروءة من ابتكار الفنانة، ومقعدين طويلين في الحديقة ستُزيَّن ظهورها بفسيفساء ملوّنة من نفس الأبجدية المجرّدة، تُجسّد رمزيًّا مقاطع من أعمال كتّاب سورية الصغرى مع أسمائهم على خلفية ذهبية. آداب التحديثات الحية الأدب فوق صفيح ساخن.. من هوراس إلى ماركيز