
سورية الصغرى في نيويورك.. جبران داخل متاهة بول أوستر
شبّهها الروائي الأميركي
بول أوستر
في روايته "ثلاثية نيويورك" بالمتاهة الوجودية والمشي في شوارعها يشبه سردًا غامضًا لا ينتهي، نصًا مفتوحًا مليء بالأسئلة حيث تختفي الهوية وسط زجاج المباني العاكسة والأبواب المغلقة فيقول واصفًا إياها بعيني دانيال كوين بطل الجزء الأول منها: "كانت نيويورك فضاءً لا ينضب، متاهة من خطوات لا نهاية لها، ومهما مشى، ومهما تعمق في معرفة أحيائها وشوارعها، كان دائمًا ما يتركه يشعر بالضياع"، أي أن
نيويورك
تعمل كمشهد نفسي رمزي تؤثّر على الشخصيات وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة والشخصية كانت تستخدم المشي وسيلة تهدئة ذاتية عبر امتلائها بالخارجيّات. ولعل من مشى في شوارع نيويورك يعلم مدى دقة هذا الوصف.
لكنه أيضًا، احتفى في إحدى مقابلاته بفرادة نيويورك بوصفها مدينة تتجاوز حدود الانتماء الجغرافي، وذهب إلى حدّ التمني أن تنفصل عن الولايات المتحدة لأنه يراها "صورة مصغّرة للعالم كلّه" لا لأميركا فقط، ورغم أنها ظلت دومًا معلّقة بين قطبي الإعجاب والنفور في نظر أهل أمريكا أنفسهم، إلا أن حشودًا من الشباب في سائر الولايات يحلمون بفرصة للقدوم إليها.
تؤثّر نيويورك على شخصياتها وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة
نلحظ هذا الاغتراب الوجودي الذي ذكره أوستر عند الجيل الأول من
أدباء المهجر
العربي، الذين سكنوا نيويورك أواخر القرن التاسع عشر، في الحي السوري أو "سوريا الصغرى"، كتبوا فيها عن الوطن المفقود وعن الروح القلقة وعن الله والطبيعة والانبعاث الداخلي، ورغم سطوتها البصرية وانفتاحها الحداثي لم تكن ملهمة لهم، بل كانت مثقلة بهموم الغربة والانفصال، لم تكن موضوعًا يُفتَنون به أو يرمزون له، بل كانت كأنها مشهد جانبي في حكاية أعمق تُروى من الداخل. فجبران خليل جبران مثلاً، لم يذكر نيويورك مباشرة في مؤلفاته الأدبية، بل تسرّبت المدينة فقط في رسائله الخاصة إلى ماري هاسكل إذ وصفها بـ"المكان الغريب" الذي يفرض على المرء أن "يبدأ بالاجتماعي وينتهي بالمهني" من بين تفاصيل يومية أخرى تتعلق ببحثه عن شقة يسكنها. كذلك بقية أعضاء الرابطة القلمية مثل ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ظلّت المدينة غائبة عن نثرهم وشعرهم وكأن نيويورك لم تكن قادرة بعد على اختراق ذاكرتهم الأدبية المعلّقة بين الجبل والضيعة بين بيروت والشام لا بين برودواي ومانهاتن. كانوا هاربين من نوع آخر من المتاهات، متاهة القمع وتكميم الحريات، في ظل الحكم العثماني التي طاولت أجيالاً كثيرة، ومنظمة الرقابة والتجسس التي كانت تلاحق المفكرين والسياسيين، وزعماء الإصلاح والصحافيين، وتراقب الجرائد، ومع بدء الاحتلال الفرنسي كان طريق الخلاص أمام الناس عموماً آنذاك إما الثورة أو الهجرة التي لم تكن حقيقة هجرة بالمعنى المتعارف عليه، بل كانت فرارًا جماعيًا لمن استطاع سبيلاً.
أما أعداد مجلة "كوكب أمريكا"، أول مجلة عربية في المهجر الأميركي التي أسسها نجيب عربيلي من عام 1892، فهي غنية بالقدر الذي يعطينا فكرة وافية عن تلك الحقبة، وقد تناولت شؤون المهاجرين العرب في الولايات المتحدة، وقضايا الدولة العثمانية، كما ناقشت موضوعات الهوية والدين والإصلاح والنهضة، وسعت إلى أن تكون جسرًا ثقافيًا بين المهجر والشرق العربي وقد حمل عربيلي فكرًا عروبيًا تنويريًا، مؤمنًا بالحرية ومعارضًا للاستبداد العثماني، فدافع عبر صحيفته عن حقوق العرب وربطهم بقضايا أوطانهم، مما جعله من أوائل من أسّسوا لخطاب الهوية العربية الحديثة في المهجر.
ظلت نيويورك غائبة عن شعر الجيل الأول من أدباء المهجر
وعند تصفح أعداد الجريدة نجد أخبار السلطنة العثمانية والسفينة المنطلقة من بيروت وأسماء ركابها وإعلانات وأحداث محلية عن المدينة وعن بقية المدن الأميركية وأحداث وقعت في مصر ولبنان وسورية، وفي باب "الوقائع" مثلاً نجد ملخص الجلسة الثامنة لجمعية الشبان السوريين في نيويورك التي تأسست في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1895، وتحت باب "صدى جرائد الشرق" عرض لأخبار من جرائد المشرق العربي في نصٍ سرديّ واحد، من جرائد الأهرام، الآداب، حديقة الأخبار، طرابلس الشام، لسان الحال، الهلال، وغيرها "اشتد البرد في مصر وأمطرت السماء رذاذًا وأوحلت الأزقة حتى امتنع فيها السلوك. ظهر داء الجدري في عكّا [..] دخل أحد الصوص إلى مكتب مدير جريدة الأحوال في بيروت فسلب بعض أشياء خفيفة". وفي أخبار العالم نرى أخبارًا من باريس والصين وبنما وباراغواي وبطرسبورغ وغيرها من البلدان، وكان لها إسهام هام في المحافظة على اللغة العربية والتجديد في الأدب العربي، والتعبير عن الذات بحرية، كما كانت ميداناً لأقلام الكتاب والشعراء إن كانت أعضاء الرابطة القلمية أو العصبة الأندلسية في أمريكا الجنوبية (البرازيل).
توقّف صدور المجلة عام 1908، ومعه خفت صوت ذلك الجيل الأول من المهاجرين العرب الذين حملوا همّ الكلمة والهوية في المنافي، بينما لم يتمكّن الجيل التالي من الشباب العربي في المهجر، من إنتاج مشروع مماثل، بل لم يجد نفسه حتى منخرطًا في أيّ من الصحف العربية التي ظهرت آنذاك، كان يعيش واقعًا مختلفًا تمامًا عن آبائه، واقعًا طبعته الحرية لا القمع، والرخاء لا القسوة، جيلٌ لم يرث معاناة المنفى، بل ورث آفاقه الجديدة، ولذلك لم يعد يكتب من موقع الدفاع أو البحث عن هوية.
ولعلّ ما بقي من تلك الحقبة الأدبية بامتياز هو محاولة استذكارها في المكان، ففي حديقة إليزابيث برجر يجري تنفيذ مشروع فني دائم يُكرّم الإرث الأدبي لـ"سورية الصغرى" بعد اثني عشر عامًا من الجهود المتواصلة، ليكون هذا أول نصب تذكاري في مدينة نيويورك يُكرّم مجتمعًا تاريخيًا في حديقة عامة. صمّمت المشروع الفنانة الفرنسية المغربية سارة أُحدّو بعنوان "القلم: شعراء في الحديقة"، بالقرب من موقع الحي السوري قديمًا على شارع واشنطن، وقد بدأ تنفيذه منذ عامين ولما ينتهِ بعد، ويتكوّن من منحوتة برونزية ذهبية اللون بطول يقارب تسعة عشر قدمًا وارتفاع يصل إلى سبعة أقدام تمثل كلمة "القلم" باستخدام أبجدية تجريدية غير مقروءة من ابتكار الفنانة، ومقعدين طويلين في الحديقة ستُزيَّن ظهورها بفسيفساء ملوّنة من نفس الأبجدية المجرّدة، تُجسّد رمزيًّا مقاطع من أعمال كتّاب سورية الصغرى مع أسمائهم على خلفية ذهبية.
آداب
التحديثات الحية
الأدب فوق صفيح ساخن.. من هوراس إلى ماركيز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
الموسيقار السوفييتي آرام خاتشادوريان في دمشق
في الأول من مايو/أيار عام 1978، رحل الموسيقار الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، وفي ذلك الصيف كنتُ مصادفةً في مدينة دمشق ، قادماً من إدلب لحضور معرض دمشق الدولي، وقد حللتُ ضيفاً عند أخي الكبير الذي كان يدرس الصيدلة في جامعة دمشق. كانت دمشق آنذاك شامة على خد الزمان. سبحان الله الذي جعل فيها زرعاً أجناساً يُسقى بماء واحد، فجعل قطوف عنبها دانيةً لأحبّائه، والعنب في غوطة دمشق صنوف كثيرة. وذكر المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع محمد البدري في كتابه المؤلَّف قبل خمسة قرون نزهة الأنام في محاسن الشام، أن في غوطة دمشق أكثر من خمسين صنفاً من العنب. رحم الله جدّي عثمان بن محمد دحنون، حين زار الشام في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وكنتُ معه. لا يزال صدى "سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ/ ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُ"، ونسمات الغوطة، وخيراتها تعبق في الذاكرة. في تلك الزيارة القصيرة، أصرّ جدي أن نشتري له يومياً صنفاً من عنب الشام، وكان أوان العنب يومها. كم أسعده عنب الشام! فأثنى عليه، وهو الفلاح المجتهد الذي ظل مرابعاً بلا أرض، لأنه رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين، مدّعياً أن الأرض مَكْس (أي مغتصبة)، وقال: في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنة". أعجبه عنب الشام إعجاباً كبيراً، رغم أن براري إدلب أيضاً غنية بأصناف الأعناب. كانت الشام، ولا تزال، شاماً لكل زمان. وقد حباها الله بمحاسن كثيرة لا تُعدّ. نهر بردى ينساب متدفّقاً، والماء يرقص مع الضوء في نوافير بديعة عند مدخل معرض دمشق الدولي. وفيروز تصدح بصوتها الملائكي: "يا شام عاد الصيف متّئداً وعاد بيَ الجناحُ صرخ الحنين إليك بيْ أقلعْ ونادتني الرياحُ فأنا هنا جُرح الهوى وهناك في وطني جراح وعليك عيني يا دمشق، فمنك ينهمر الصباح أهلي وأهلك والحضارة وحّدتنا والسماح يا شام يا بوابة التاريخ تحرسكِ الرماحُ". في ذلك المساء، والنسيم العليل يعبق برائحة الياسمين الدمشقي، رافقتُ أخي الصيدلاني إلى صالة المسرح في المركز الثقافي السوفييتي، حيث كانت تُقام محاضرة عن الموسيقي الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، تليها مقاطع حيّة على البيانو لعازف سوفييتي من باليه " سبارتاكوس "، التي ألّف موسيقاها عام 1954. دخل المحاضر إلى الصالة، فصفّق له الحضور بحرارة. جلس على كرسي من الخيزران في وسط خشبة المسرح، ثم راح يتأمل هذا الجمع الغفير، فيهم الكبير والصغير، بل وحتى المقمّط في السرير. لاقط الصوت أمامه، لكن لا صوت. تنحنح، فسمعنا نحنحته. مدّ يده اليمنى إلى جيب سترته ناحية القلب، أخرجها على مهل، لكنها كانت فارغة. تنحنح مرة أخرى، ثم اقترب من لاقط الصوت وقال: "الظاهر من عجقتي نسيت أوراق المحاضرة في حمص" – طلع الأخ "حمصي"! – ثم استدرك مبتسماً: "ماذا نفعل الآن؟ على كل حال، سأحكي لكم ما تجود به القريحة. مساء الخير أولاً". كان آرام خاتشادوريان في الرابعة عشرة من عمره عند قيام العهد السوفييتي. درس الموسيقى في روسيا السوفييتية، وكان مُخلصاً للثورة البلشفية، يُنتج موسيقى تشرف على صياغتها المؤسسة الحزبية الرسمية. وبالنسبة لكثير من هواة الموسيقى غير المتعمقين، لم يكن خاتشادوريان سوى مؤلف لقطعة واحدة شهيرة هي "رقصة السيف"، لكن الحقيقة أوسع من ذلك بكثير. فقد ألّف طيلة حياته عدداً كبيراً من الأعمال الموسيقية المتنوعة، من سيمفونيات، وكونشرتوهات، وأعمال للباليه. "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه" واللافت أن "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه"، وتروي قصة فلاحة تعمل في تعاونية زراعية (كولخوز)، تعاني مأساة خيانة زوجها للوطن السوفييتي أثناء الحرب العالمية الثانية بتعاونه مع المحتل النازي. درس خاتشادوريان في البداية البيولوجيا في جامعة موسكو، قبل أن ينتقل إلى المعهد التربوي، وهناك سطع نجم شغفه الحقيقي بالموسيقى. وكان اللقاء المفصلي في حياته عندما التقى نيكولاي مياسكوفسكي في كونسرفاتوار موسكو، الذي اكتشف موهبته ودفعه نحو التخصص الجدي. من مجرد عازف على آلة التشيلو، أصبح خاتشادوريان لاحقاً مؤلف كونشرتو للتشيلو يُعد من أروع إنتاجاته، وتحوّل تدريجياً إلى واحد من أكثر المواهب الموسيقية وعداً في الاتحاد السوفييتي. ولعلّ النجاح الهائل الذي حققته باليه "سبارتاكوس" يعود في جوهره إلى تميّزها الفني، وقوة تعبيرها الموسيقي، حيث استطاع خاتشادوريان أن يدمج في هذا العمل كل ما اختزنته ذاكرته من موسيقى شعبية، وخصوصاً من الفولكلور الأرميني الثري والملون. لكن لا يمكن إنكار أن البُعد الأيديولوجي والبطولي للعمل، وهو تمرد العبيد بقيادة سبارتاكوس ضد الاستعباد والطغيان، شكّل عنصر جذب إضافي للجمهور، وأضفى على العمل مسحة ثورية تتماشى مع روح العصر السوفييتي. آرام خاتشادوريان لم يكن مجرد مؤلف "رقصة السيف"، بل موسيقياً شاملاً، ابن مرحلة، عايش تحولات القرن العشرين، وعبّر عنها بأدوات الفن. ومساء دمشق ذاك، تحت ياسمينها، كان تحية صادقة لهذا الفنان، وتذكيراً بأن الموسيقى، مثل دمشق، لا تنسى من مرّ بها وأحبها.


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
سورية الصغرى في نيويورك.. جبران داخل متاهة بول أوستر
نيويورك مزيجٌ متناقضٌ من الجاذبية والسّأم، من النّشوة والخوف، مدينةٌ يحلم العالم كلّه بالوصول إليها ويتخيلها مدينة الفرص والتّطلعات الكبرى. هناك شيءٌ لا يقاوم في هذا المكان، شيءٌ يجذب الغرباء من كلّ ركن من أركان الكوكب بحثًا عن تحقيق الذات أو حتى مجرد أن يكونوا جزءًا من الحدث فيها. شبّهها الروائي الأميركي بول أوستر في روايته "ثلاثية نيويورك" بالمتاهة الوجودية والمشي في شوارعها يشبه سردًا غامضًا لا ينتهي، نصًا مفتوحًا مليء بالأسئلة حيث تختفي الهوية وسط زجاج المباني العاكسة والأبواب المغلقة فيقول واصفًا إياها بعيني دانيال كوين بطل الجزء الأول منها: "كانت نيويورك فضاءً لا ينضب، متاهة من خطوات لا نهاية لها، ومهما مشى، ومهما تعمق في معرفة أحيائها وشوارعها، كان دائمًا ما يتركه يشعر بالضياع"، أي أن نيويورك تعمل كمشهد نفسي رمزي تؤثّر على الشخصيات وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة والشخصية كانت تستخدم المشي وسيلة تهدئة ذاتية عبر امتلائها بالخارجيّات. ولعل من مشى في شوارع نيويورك يعلم مدى دقة هذا الوصف. لكنه أيضًا، احتفى في إحدى مقابلاته بفرادة نيويورك بوصفها مدينة تتجاوز حدود الانتماء الجغرافي، وذهب إلى حدّ التمني أن تنفصل عن الولايات المتحدة لأنه يراها "صورة مصغّرة للعالم كلّه" لا لأميركا فقط، ورغم أنها ظلت دومًا معلّقة بين قطبي الإعجاب والنفور في نظر أهل أمريكا أنفسهم، إلا أن حشودًا من الشباب في سائر الولايات يحلمون بفرصة للقدوم إليها. تؤثّر نيويورك على شخصياتها وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة نلحظ هذا الاغتراب الوجودي الذي ذكره أوستر عند الجيل الأول من أدباء المهجر العربي، الذين سكنوا نيويورك أواخر القرن التاسع عشر، في الحي السوري أو "سوريا الصغرى"، كتبوا فيها عن الوطن المفقود وعن الروح القلقة وعن الله والطبيعة والانبعاث الداخلي، ورغم سطوتها البصرية وانفتاحها الحداثي لم تكن ملهمة لهم، بل كانت مثقلة بهموم الغربة والانفصال، لم تكن موضوعًا يُفتَنون به أو يرمزون له، بل كانت كأنها مشهد جانبي في حكاية أعمق تُروى من الداخل. فجبران خليل جبران مثلاً، لم يذكر نيويورك مباشرة في مؤلفاته الأدبية، بل تسرّبت المدينة فقط في رسائله الخاصة إلى ماري هاسكل إذ وصفها بـ"المكان الغريب" الذي يفرض على المرء أن "يبدأ بالاجتماعي وينتهي بالمهني" من بين تفاصيل يومية أخرى تتعلق ببحثه عن شقة يسكنها. كذلك بقية أعضاء الرابطة القلمية مثل ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ظلّت المدينة غائبة عن نثرهم وشعرهم وكأن نيويورك لم تكن قادرة بعد على اختراق ذاكرتهم الأدبية المعلّقة بين الجبل والضيعة بين بيروت والشام لا بين برودواي ومانهاتن. كانوا هاربين من نوع آخر من المتاهات، متاهة القمع وتكميم الحريات، في ظل الحكم العثماني التي طاولت أجيالاً كثيرة، ومنظمة الرقابة والتجسس التي كانت تلاحق المفكرين والسياسيين، وزعماء الإصلاح والصحافيين، وتراقب الجرائد، ومع بدء الاحتلال الفرنسي كان طريق الخلاص أمام الناس عموماً آنذاك إما الثورة أو الهجرة التي لم تكن حقيقة هجرة بالمعنى المتعارف عليه، بل كانت فرارًا جماعيًا لمن استطاع سبيلاً. أما أعداد مجلة "كوكب أمريكا"، أول مجلة عربية في المهجر الأميركي التي أسسها نجيب عربيلي من عام 1892، فهي غنية بالقدر الذي يعطينا فكرة وافية عن تلك الحقبة، وقد تناولت شؤون المهاجرين العرب في الولايات المتحدة، وقضايا الدولة العثمانية، كما ناقشت موضوعات الهوية والدين والإصلاح والنهضة، وسعت إلى أن تكون جسرًا ثقافيًا بين المهجر والشرق العربي وقد حمل عربيلي فكرًا عروبيًا تنويريًا، مؤمنًا بالحرية ومعارضًا للاستبداد العثماني، فدافع عبر صحيفته عن حقوق العرب وربطهم بقضايا أوطانهم، مما جعله من أوائل من أسّسوا لخطاب الهوية العربية الحديثة في المهجر. ظلت نيويورك غائبة عن شعر الجيل الأول من أدباء المهجر وعند تصفح أعداد الجريدة نجد أخبار السلطنة العثمانية والسفينة المنطلقة من بيروت وأسماء ركابها وإعلانات وأحداث محلية عن المدينة وعن بقية المدن الأميركية وأحداث وقعت في مصر ولبنان وسورية، وفي باب "الوقائع" مثلاً نجد ملخص الجلسة الثامنة لجمعية الشبان السوريين في نيويورك التي تأسست في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1895، وتحت باب "صدى جرائد الشرق" عرض لأخبار من جرائد المشرق العربي في نصٍ سرديّ واحد، من جرائد الأهرام، الآداب، حديقة الأخبار، طرابلس الشام، لسان الحال، الهلال، وغيرها "اشتد البرد في مصر وأمطرت السماء رذاذًا وأوحلت الأزقة حتى امتنع فيها السلوك. ظهر داء الجدري في عكّا [..] دخل أحد الصوص إلى مكتب مدير جريدة الأحوال في بيروت فسلب بعض أشياء خفيفة". وفي أخبار العالم نرى أخبارًا من باريس والصين وبنما وباراغواي وبطرسبورغ وغيرها من البلدان، وكان لها إسهام هام في المحافظة على اللغة العربية والتجديد في الأدب العربي، والتعبير عن الذات بحرية، كما كانت ميداناً لأقلام الكتاب والشعراء إن كانت أعضاء الرابطة القلمية أو العصبة الأندلسية في أمريكا الجنوبية (البرازيل). توقّف صدور المجلة عام 1908، ومعه خفت صوت ذلك الجيل الأول من المهاجرين العرب الذين حملوا همّ الكلمة والهوية في المنافي، بينما لم يتمكّن الجيل التالي من الشباب العربي في المهجر، من إنتاج مشروع مماثل، بل لم يجد نفسه حتى منخرطًا في أيّ من الصحف العربية التي ظهرت آنذاك، كان يعيش واقعًا مختلفًا تمامًا عن آبائه، واقعًا طبعته الحرية لا القمع، والرخاء لا القسوة، جيلٌ لم يرث معاناة المنفى، بل ورث آفاقه الجديدة، ولذلك لم يعد يكتب من موقع الدفاع أو البحث عن هوية. ولعلّ ما بقي من تلك الحقبة الأدبية بامتياز هو محاولة استذكارها في المكان، ففي حديقة إليزابيث برجر يجري تنفيذ مشروع فني دائم يُكرّم الإرث الأدبي لـ"سورية الصغرى" بعد اثني عشر عامًا من الجهود المتواصلة، ليكون هذا أول نصب تذكاري في مدينة نيويورك يُكرّم مجتمعًا تاريخيًا في حديقة عامة. صمّمت المشروع الفنانة الفرنسية المغربية سارة أُحدّو بعنوان "القلم: شعراء في الحديقة"، بالقرب من موقع الحي السوري قديمًا على شارع واشنطن، وقد بدأ تنفيذه منذ عامين ولما ينتهِ بعد، ويتكوّن من منحوتة برونزية ذهبية اللون بطول يقارب تسعة عشر قدمًا وارتفاع يصل إلى سبعة أقدام تمثل كلمة "القلم" باستخدام أبجدية تجريدية غير مقروءة من ابتكار الفنانة، ومقعدين طويلين في الحديقة ستُزيَّن ظهورها بفسيفساء ملوّنة من نفس الأبجدية المجرّدة، تُجسّد رمزيًّا مقاطع من أعمال كتّاب سورية الصغرى مع أسمائهم على خلفية ذهبية. آداب التحديثات الحية الأدب فوق صفيح ساخن.. من هوراس إلى ماركيز


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
زياد الرحباني... آثار على رمال الأخوين
يمثّل زياد الرحباني في نشأته الفنية ومراحل تطوره، موهبةً بزغت في بيئة ملائمة ضمن مسار نموّ طبيعي. تبقى في جيناتها بصمات وراثية من المنبع، ولا تلبث في جوهرها ومظهرها أن تكتسب هوية خاصة. كتب الكلمات، ولحّن، ووزّع الموسيقي، وألّف المسرحيات. زياد أخرج مسرحياته، أما تلك التي كتبها الأخوان رحباني، فكان إخراجها بتوقيع صبري الشريف، ثم برج فازليان. وفي الحالين، لم يكفّ عاصي عن التدخل الفني. لم يتولَّ زياد قيادة الأوركسترا لانشغاله بالتمثيل، وفي الحفلات الموسيقية تولّى مهمة العزف على البيانو. في البدايات، دخل هذه الفضاءات الموسيقية الغنائية والمسرحية من باب الأخوين رحباني ، ثم ما لبث أن صنع أبوابه، وأصبح يدخل ويخرج منها. لم يكن إنجاز الأخوين رحباني رجعياً، لينكره زياد حين أصبح الفنان الملتزم بالتوجّهات التقدمية، أو ليعلن الحرب عليه. حتماً لم يكن لديه موقف معادٍ لمجموعات روائع الأخوين عن فلسطين، ولم يستنكر الأغاني التي صاغاها عن الفلاحين والمعاول ومواسم الحصاد وجبهة العامل السمراء، والمواطن - الجندي الذي "راح مع العسكر" وأصبح برجاً مسوّراً (وسيرجع بأصوات البلابل وأغاني الحصادين وكتب المدارس). لم يستهجن النبرة المرحة في أغاني الشاويش، أو "بويا بويا" أو "جدي يا بو ديب". لم يرفض أغاني الحب من لون "طريق النحل". الخلاف كان واضحاً بشأن الأغاني التي اتُّفق على تسميتها "الوطنية"، ومردّه إلى أسلوب النظم. لم يستسغ زياد المبالغة في التغنّي بجمال لبنان إلى حد الطوباوية، خصوصاً عندما ترسّخت لديه نظرة واقعية تجاه المجتمع، يوم بدأ لبنان يفقد جماله مع اندلاع الحرب سنة 1975 وحدوث الانهيارات السياسية والاجتماعية والثقافية. في مقابلة صحافية أجرتها منى غندور (سنة 1980) قال بالحرف الواحد: "بعد الحرب بدأ الخط الرحباني "يعصّبني" وأتعب من سماعه. أحبّه في بعض الأحيان، لكنه حين يزيد أختنق. لا أفهم أن يقال بعد الحرب حكايات عن الغيمة الزرقاء والعصفور والسمّاعة التي تبكي. يجب أن يجرب الرحابنة نوعاً آخر". وفي جلسة معه في مطلع التسعينيات، أتينا على ذكر هذا النمط، فاستعاد ختام مغناة "موسم العز" وتساءل بسخرية: "معقول نغني اليوم: بعد الله اعبدوا لبنان؟ الناس مش عم يعبدوا الله بدك ياهم يعبدوا لبنان؟ معقول نرندح: القوي لبنان، الغني لبنان، الهَنا والجنى بسما لبنان. أي قوي؟ ما عاد عنده رجلين يمشي، وأي غني والفقر عم ينهش الناس؟ وأي هَنا بالسما وما في غير رصاص وقذايف وطائفية عم تكبر متل غول متوحش؟". صحيح أن الأخوين رحباني في البدايات بمهرجانات بعلبك، نظرا إلى لبنان بمثالية، وتغنّيا بصورة له كما يتمنّيانه، ليس كما هو عليه. والصحيح أيضاً أن هذه النظرة لم تقتصر عليهما، في مرحلة أنشد فيها وديع الصافي "لبنان يا قطعة سما"، وغنّت صباح "يسلم لنا لبنان جنة أمانينا" (الأغنيتان للشاعر يونس الابن) وصدح صوت نجاح سلام بقصيدة أمين تقي الدين "الله يا لبنان ما أجملك". وبدءاً من "بياع الخواتم"، وصولاً إلى "بترا"، لم تكن مسرحيات الأخوين رحباني تحمل سمات لبنان المثالي الوهمي، بل لم تخلُ من نقد ومن غمز ولمز، كما هو الحال في "هالة والملك" و"الشخص" و"يعيش يعيش" و"ناطورة المفاتيح" وسواها. وفي "جبال الصوان"، هناك موقف صريح مؤيد للمقاومة ضد الاحتلال. تغنّى الأخوان عاصي ومنصور بلبنان الوطن وليس بلبنان النظام. وفي الإطار نفسه، أبدع زياد لاحقاً لحناً جميلاً، زاد من جماله صوت فيروز وهي تغني كلمات جوزف حرب "من يوم اللي تكوّن يا وطني الموج". ليس الخلاف هنا بين زياد وأهله على حبّ لبنان، بل على طريقة حبّه، كأنما لهم لبنانهم وله لبنانه. نشأ زياد رحباني في بيت مفعم بالشعر والأنغام. وتعلم العزف ونظم قصائد وهو في عمر المراهقة، ثم خاض تجربة التلحين بأغان لخالته هدى حداد ولمروان محفوظ، إلى أن ظهر بقوة في المشهد الغنائي عندما أُعلن أن فيروز ستغني لحنه "سألوني الناس" في مسرحية "المحطة". كان زياد قد كتب ولحن أغنية لينشدها مروان محفوظ مطلعها "أخدوا الحلوين قلبي وعينيي/ أخدوا الليالي العشناها سوا"، لكن فيروز ومنصور طلبا اللحن، وعلى نغماته كتب منصور كلمات "سألوني الناس". ونجح اللحن نجاحاً كبيراً، واعتُمد زياد رحباني ملحناً أصيلاً يساهم في مسرحيات الأخوين رحباني وفيروز. لم تغنّ فيروز ألحان زياد مجاملة لابنها، بل اعترافاً منها بموهبته الأكيدة. آنذاك، غنّت فيروز في ما غنّت: "قديش كان في ناس" و"ع مفرق دارينا" و"حبّو بعضن" و"يا جبل الشيخ"، وكانت تحمل بصمات زياد الرحباني الجميلة وتعبّر عن ذائقته الخاصة، لكنها في إطار الإبداع الرحباني العام. كذلك الحال وزياد لمّا يزل في الفريق الرحباني الكبير، فبقيت ألحانه لغير فيروز ضمن تقاليد الغناء الرحبانية مع احتفاظها بأسلوبه الخاص، مثل "خايف كون عشقتك" (مروان محفوظ) و"دلوني على عيون السود" (جورجيت صايغ) و"الحالة تعبانة يا ليلى" و"قلتي لي تاركتك ماشي الحال" و"أنا اللي عليك مشتاق" (جوزف صقر). شهد عام 1975 خروج زياد التدريجي من الانتداب الرحباني بقيادة عاصي ومنصور، إلى الاستقلال الذاتي. كان في عمر التاسعة عشرة، في مرحلة الرفض التي يعيشها الشباب (صراع الأجيال) وما ينجم عنه من شعور فطري غريزي لديهم بضرورة الثورة على تقاليد الآباء وعلى الأعراف التي مشت بوحيها الأجيال الماضية، مع عدم إغفال الظروف السائدة في المجتمع اللبناني، من تفاقم حدة الطائفية، والتشظي السياسي، ودويّ قذائف المدافع. في هذا الإطار، بدأ زياد الرحباني بتكوين قناعاته الفكرية والسياسية التي قادته إلى موقع مختلف. وبعد انفصال فيروز الفني عن الأخوين رحباني سنة 1979، تعاونت مع الملحنين: فيلمون وهبي وزكي ناصيف ومحمد محسن (بعض الموشحات). وتبنّت آنذاك ألحان زياد بإعجاب أكيد، وقالت عنها: "أحب فيها الجديد في التعبير الموسيقي والأدائي. للماضي أغنياته وذكرياته ومجده. المرحلة الرحبانية كانت ذهبية، أنا اليوم أجدد مع زياد". حملت أغاني تلك المرحلة بصمات زياد في "وحدن" (شعر طلال حيدر) و"حبيتك تا نسيت النوم" و"زعلي طوّل أنا ويّاك" (شعر جوزف حرب) و"أغنية الوداع" (شعر زياد)، لكنها لم تقطع الصلة بتقاليد الأخوين رحباني، ربما لتجنّب المخاطرة وصدم مَنْ اعتاد خلال عقود لوناً فيروزياً معيّناً. تدريجياً، بدأ الجمهور يتذوق التوليفة الجديدة: فيروز بثوب غنائي "زيادي" مبتكر. من أولى الأغاني التي تُنسب ألحانها إليه وحده وليس لسواه: "عودك رنان" و"اشتقت لك" وتنويعات "يا ليل". ويدرك المستمع ألحانه من النوتة الأولى تقريباً. 80% منها من روحه ومزاجه، وبها شيء من النغم المصري ومن الجاز. كان يحب سيد درويش وزكريا أحمد وتشعر بأطيافهما تحوم حول "بعتت لك" و"سلّم لي عليه". وتشعر بحب زياد لأغاني نجم-إمام في أغان من إبداعه التام، تسلك درباً مشابهة، مثل: "شو ها الإيام اللي وصلنا لها" و"بهاليومين" (رح ينقطع البنزين والماء والحليب، إلخ) و"الله يساعد الله يعين" و"أنا مش كافر" و"أمريكا مين". تقبّل الجمهور أغنية "البوسطة" لجمال لحنها، وطرافة فكرتها وصياغتها، وفيها فيروز تصف آخرين "واحد عم ياكل خس، ولوه شو بشعة مرته". هذه كلها تعابير واقعية من الحياة اليومية، لا صلة فنيّة تربطها بكلمات شعرية مثل "تعا ولا تجي". لكن ذلك الجمهور تفاجأ بصوت فيروز تغني "معرفتي فيك، إجِت عَ زعل، ما كانت طبيعية من بعد ملل"، وتختم الأغنية بقولها "حبيبي، مش إنت حبيبي". فضلاً عن التجديد اللفظي، ثمة تغيّر تمثّل بجرأة المرأة على قول رأيها الصريح، هي التي كانت كلمات العتاب الرصين أقصى تعابير التمرّد لديها. كانت المفاجأة الثانية في قول فيروز: "كيفك إنت، ملّا إنت". أثارت سجالات لدى الجمهور، الذي ما لبث أن اقتنع، لأن هذا الكلام مقتلع من منطق التخاطب الحقيقي، وليس منتمياً إلى الخيال الأدبي. في إطار الأغاني المعبّرة عن صور الحياة الواقعية تُصَنَّف "كان غير شكل الزيتون" و"إن شالله ما به شي" و"شو بخاف دقّ عليك". وفي إطار أغنية المرأة الحرّة، أضع مجموعة مثل "ضاق خلقي"، و"عندي ثقة فيك"، و"في شي عم بيصير". أسلوب زياد في كتابة الأغاني يهتم بالواقعية وبالتأثير المباشر لدى الجمهور. وينطبق القول تماماً على أغانيه السياسية، وما أجملها، وهي من فرط صدقها أصبحت كلماتها على كل الشفاه. كانت مسرحية "سهرية" بألحانها الجميلة وحواراتها الطريفة، من النمط الإبداعي الرحباني التقليدي. وفي "نزل السرور" ظهرت إرهاصات التحول. والمسرحيتان من صنعه قبل 1975. بعد ذلك ولد مسرحه المختلف عن مسرح الأخوين في الشكل والمضمون. إبداعهما في باب المسرح الغنائي، وإنجازه مسرحيات درامية واقعية وإنْ تخلّلها بعض أغان. مسرحياته أقرب إلى مسرح بريشت التحريضي، الذي يجعل المتفرج في مواجهة الإشكالية ويدفعه إلى مناقشتها. في مسرحه، كما في أغانيه السياسية، كان ابن عصره. تناول مواضيع المجتمع الذي يعيشها المتفرج - المواطن ويعاني من آثارها. من "بالنسبه لبكره شو؟" إلى "لولا فسحة الأمل" وبينهما "فيلم أميركي طويل" و"شي فاشل" و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد". تشريح بالكلام الصريح لا يلجأ إلى التلميح. بالكلام الساخر المرير، المضحك الموجع في آن واحد. هي الكوميديا السوداء. لم ينس زياد الرحباني التأليف الموسيقي البحت، مثل افتتاحية "ميس الريم" ومقطوعات مثل "ضيعانُه" و"تل الزعتر"، وموسيقى تصويرية مثل "آثار على الرمال". وكانت مناسبة أعتز بها شخصياً، لأنني كاتب سيناريو هذا المسلسل. وقتها (1973) عرفته من كثب. هي موسيقى تصويرية فعلاً، وجمالية مرهفة، من إبداع فتى كان في السابعة عشرة من عمره! وهي رائدة في التلفزيون اللبناني، إذ لأول مرة يُلجأ إلى موسيقى مؤلّفة خصيصاً لمسلسل تمثيلي. سخر زياد من مسرح الأخوين رحباني في "شي فاشل"، ومن تغنّيهما بالريف الجميل، المنقرض في زمن الحرب وما تلاها. هجاء للون غنائي "كلنا أخوة، بالمحبة والإيمان، رح نرجع نبني لبنان". وواصل الوخز في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، بدءاً بعنوانها، في زمن أخذ فيه المجتمع يفقد كرامته، والشعب يصبّ عناده في مستنقع الطائفية. ومع ذلك، ظلّ زياد رحباني معجباً بإبداع أبيه وعمه الفني. زرته سنة 1994 فأسمعني شريطاً جديداً عنوانه "إلى عاصي". أعاد فيه توزيع ألحان مجموعة من أغاني الأخوين، ومنها "بحبك ما بعرف" فقال لي: "انتبه. هذا لحن ليس به مذهب وكوبليهات. هو سحبة واحدة". لولا شغفه بألحانهما لما أعاد توزيعها. فضلاً عما أنجزه لاحقاً بتوزيعات جديدة: "تراب عينطورة"، و"حبيتك بالصيف" وفي إعادة إبداع "بكتب اسمك يا حبيبي" إذ بلغ الإعجاب والوفاء الذروة: "بتِرْجَع ذكرى يا حبيبي، عن عاصي ومنصور/ ع انطلياس العتيقة، وكل شي حولها جسور/ وبكره بتشتّي الدنيي، والطرقات مزيَّحَه/ بيبقى إسمُنْ قدّ الساحة/ ما عاد ينمحى". إنجاز الأخوين جميل، وكذلك إنجاز زياد، وسيبقى كلاهما خالداً. وإزاء إبداع الكبار، لا مجال للمفاضلة.