
هل انتهى عصر الإعلام الدولي التقليدي؟
منذ عشرات الأعوام كان مشهد الالتفاف حول أجهزة الراديو لسماع الأخبار التي تبثها الإذاعات الدولية شائعاً ومألوفاً، بخاصة في أوقات الحروب والأزمات الكبرى، لما تميزت به أخبارها من صدقية وثقة. ولاحقاً، تحول المشهد إلى الاجتماع أمام شاشات التلفزيون مع دخول العالم عصر القنوات الفضائية، الذي شكل طفرة كبرى في حينها، وحول وجهة الجماهير من الاستماع إلى المشاهدة.
في العقد الأخير ومع الانتشار غير المسبوق للهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي زاحمت الإعلام التقليدي، ووفرت سيولة كبيرة من إتاحة المعلومات بشكل لحظي لا تحكمه أي قيود، حدثت تغيرات في المشهد الإعلامي الدولي، أبرزها تقليص وغلق كثير من المحطات والقنوات التي كانت تمثل النماذج الأشهر عند الحديث عن الإعلام الدولي.
وشهد عام 2023 إغلاق واحدة من أشهر الإذاعات الدولية في العالم، وهي "بي بي سي" العربية التي أنهت بثها الذي استمر 85 عاماً بنفس العبارة الشهيرة التي بدأت بها إرسالها "هنا لندن: هيئة الإذاعة البريطانية"، وفي الآونة الأخيرة أغلقت الولايات المتحدة قناة "الحرة" و"إذاعة صوت أميركا" ومنصات رقمية متعددة بدعوى تقليل النفقات، وخلال الأعوام السابقة حدث تقليص لكثير من المحطات والقنوات الدولية في العالم كله لأسباب تختلف من حال إلى أخرى.
وفي مقابل حال التقليص والإغلاقات لكثير من مؤسسات الإعلام الدولي كان هناك نمو وانتشار مطرد للمنصات الرقمية والاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها وسيلة فعالة وسريعة الانتشار لمخاطبة الشعوب ونشر الأفكار، مما يطرح تساؤلاً هل ستشهد الأعوام المقبلة تغيراً شاملاً في المشهد الإعلامي، وهل سينتهي عصر الإعلام الدولي التقليدي لمصلحة الرقمي؟
مخاطبة الشعوب عبر وسائل التواصل
يقول أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة حسن عماد، "الإعلام الدولي بمفهومه العام لن يتراجع، لكنه سينتهج أساليب جديدة تتوافق مع متطلبات العصر. وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مستخدمة بصورة أكبر من وسائل الإعلام التقليدية، مثل محطات الراديو وقنوات التلفزيون، لدينا تراجع في دور الإعلام التقليدي سواء على المستوى الدولي أو المحلي، وعلى مدار الأعوام كان هناك نماذج ناجحة في الإعلام الدولي حظيت بصدقية كبيرة في العالم العربي، وفي أوقات وأحداث بعينها كانت مصدر رئيساً للمعلومات في كثير من الدول العربية، وكذلك قنوات تلفزيونية دولية أطلقت وحققت نجاحاً كبيراً، وأخرى لم تنجح في تحقيق أهدافها، فكان الغلق مصيرها".
ويضيف، "الإعلام الدولي هو إحدى أهم الوسائل التي يعتمد عليها في الحروب بأساليب مختلفة تتناسب مع طبيعة العصر، فكان له دور كبير في الحرب العالمية باستخدام الوسائل المتاحة وقتها واستمر دوره مع تطورها فمن الإذاعات لقنوات التلفزيون وصولاً إلى الوضع الحالي الذي يشهد طفرة في الإعلام الرقمي، دور الإعلام لا يتراجع إنما يطوع بالشكل والصورة المناسبتين مع طبيعة العصر".
ويأتي تقليص دور الإعلام الدولي بصورته التقليدية في وقت تشتعل فيه الأزمات في العالم كله، وتدار فيه الحروب بأساليب مختلفة، وتسيطر عليه حرب المعلومات والتأثير في العقول، فالإعلام أصبح ليس فقط ناقلاً للمعلومة أو الخبر، لكنه تحول إلى أداة تروج أحياناً روايات خطأ وسرديات مضللة كثيراً مما ينتج منها خلق حال من الوعي الزائف بحدث ما أو قضية بعينها، والتسويق السياسي لقرار تنتهجه دولة معينة تجاه أخرى.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المتخصص في مجال العلوم السياسية إكرام بدر الدين يقول، "الحروب الحديثة أصبحت لا تعتمد فقط على الصدامات المسلحة بين الجيوش النظامية، لكنها تعتمد على نشر الأفكار المدسوسة والمغلوطة والإشاعات، والعمل على أن تأتي الهزيمة من داخل المجتمعات، وهو ما يطلق عليه التآكل الذاتي، ويعتمد هذا على نشر الأخبار المضللة والتشكيك في الداخل بهدف إضعاف المجتمع وخلق فجوة بين الشعب والمؤسسات والقيادة فينهار المجتمع وتسهل هزيمته، وهذا النوع يطلق عليه حروب الجيل الرابع والخامس، وهو أسهل وأقل في الكلفة من المواجهات العسكرية المسلحة، والعبرة هنا ليست بالوسيلة فالأفكار ستنشر سواء من طريق الإعلام التقليدي أو من طريق المنصات الرقمية التي أصبحت أكثر فاعلية وانتشاراً".
ويوضح بدر الدين، "العلاقة بين السياسة والإعلام متبادلة والتأثير متبادل، فالإعلام يعتمد على الأخبار السياسية، والسياسيون يعتمدون على وسائل الإعلام، لنشر توجهاتهم وأفكارهم وأهدافهم سواء على المستوى المحلي أو الدولي، وتظهر الأزمة عندما يساء استخدام وسائل الإعلام سواء لخدمة أغراض سياسية معينة بنشر أخبار مغلوطة أو إخفاء جوانب من الحقيقة أو طمسها كاملة والمثال الأبرز على ذلك حالياً هو المجازر التي تحدث في غزة وتغطيات كثير من وسائل الإعلام الدولية لها بما يتناسب مع توجهاتها".
الإعلام أياً كان نوعه يستهدف جمهوراً معيناً يتوجه إليه ويصمم رسائله بالشكل والطريقة التي تتناسب مع طبيعة هذا الجمهور، وحالياً فإن الأجيال الجديدة هي المستهدفة بشكل رئيس عند الحديث عن الإعلام الدولي.
أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة نشوة عقل تقول، "الشباب يمثلون الغالبية الساحقة في العالم العربي، وهم من يستهدفهم الإعلام الدولي، ومن ثم سيعتمد على الوسيلة الأكثر فاعلية للوصول إليهم، وهي وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية بكل صورها، وهذا لا ينطبق فقط على المجال السياسي، إنما صناعة الترفيه أيضاً اعتمدت هذا النهج الذي أصبح عنوان المرحلة، الإعلام الرقمي سيطغى على التقليدي، لكنه لن يقضي عليه تماماً إنما سيجري دمجه واختزاله في منافذ محدودة تمثل الصوت الرسمي للدولة، فهناك توجه عام لتقليص الإعلام الحكومي بكل صوره، سواء كانت محلية أو دولية".
وتستكمل، "الظروف التي أدت إلى غلق جانب من محطات وقنوات الإعلام الدولي جاءت بعض منها استجابة لاستخدامات الجمهور للمنصات الرقمية التي أصبحت في المرتبة الأولى، فالبث الرقمي حالياً يحقق انتشاراً أكبر، ويحتاج إلى عدد عاملين أقل، ولا يتطلب جوانب لوجيستية كبيرة، وهو ما فعلته (بي بي سي) على سبيل المثال، التي كانت من أوائل وسائل الإعلام التي وظفت التكنولوجيا الرقمية، ولا يزال تأثيرها كبيراً، لكن بوسيلة مختلفة، أما في حال قناة الحرة فالوضع يختلف فإغلاقها جاء ضمن سياسة عامة ينتهجها ترمب لتقليل النفقات باتخاذ إجراءات صادمة في كل المجالات لا الإعلام فقط، مع مراعاة أن القناة بالفعل لم تحقق الأهداف التي أطلقت من أجلها إبان حرب العراق".
مستقبل المشهد الإعلامي
لا يتعلق التغير في المشهد الإعلامي الدولي بطبيعة الوسيلة فحسب، إنما بطبيعة الأشخاص الذين يقومون بأدوار مختلفة داخل هذه الوسيلة، إضافة إلى الترقب الذي يشهده العالم كله من التطورات المتسارعة للذكاء الاصطناعي الذي بالقطع سيكون له تأثير كبير في مجالات الإعلام كافة، من بينها الإعلام الدولي بكل صوره.
في يناير (كانون الثاني) الماضي جرى الإعلان أن إدارة الرئيس ترمب ستسمح لبعض مؤثري السوشيال ميديا بتغطية نشاطات البيت الأبيض، باعتبار أن هذا يمثل جزءاً من النهج الإعلامي الثوري الذي يتبناه الرئيس ترمب بحسب ما قيل وقتها، يأتي هذا ضمن سياق كبير من بينه أنه أجرى حوارات مع بعض مقدمي البودكاست المشهورين على وسائل التواصل الاجتماعي.
يثير هذا تساؤلاً عن طبيعة مقدم الرسالة في الفترة المقبلة والتغيرات التي ستطرأ عليها هي الأخرى فهل سيتراجع دور الصحافي أو المراسل التقليدي لمصلحة نجوم السوشيال ميديا الأكثر انتشاراً عبر صفحاتهم، الذين تتمثل نقطة قوتهم في آلاف أو ملايين المتابعين.
في الوقت نفسه شاهدنا كثيراً من المؤثرين العرب في الفترة الأخيرة بالتواكب مع الحرب على غزة أصبحوا هم مصدر الأخبار، بخاصة من يتحدث منهم الإنجليزية، ويستطيع أن يوجه رسائل للعالم، فصفة الدولية سابقاً كانت تمنح للمحطات أو القنوات العابرة للقارات عبر البث أو الإرسال أما في الوقت الحالي فكل ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي يكتسب صفة الدولية، ويمكن الوصول إليه من أي مكان في العالم في نفس اللحظة فيثير هذا تساؤلاً عماذا يكسب الإعلام صفة الدولي في هذا العصر؟
استشاري تكنولوجيا الإعلام والتحول الرقمي أحمد عصمت، يقول "الإعلام الدولي يأخذ هذه الصفة من عوامل عدة من بينها الإنفاق، والتأثير، والعاملون، والتغيرات السياسية في أي دولة يتبعها تغيرات إعلامية، وأحياناً كانت تظهر قنوات إعلامية لخدمة غرض محدد، ومن ثم تنتهي بانتهاء هذا الغرض والأمثلة على ذلك كثيرة في العالم كله، فالإعلام الدولي يكون لخدمة أهداف محددة للدولة التي تطلق الإذاعة أو القناة أو الموقع الإلكتروني، في الوقت الحالي التغير في الإعلام متسارع، وسيكون هناك اختلاف كبير في الأعوام المقبلة، وسيكون هناك دور كبير للإعلام المحلي، المؤسسات الضخمة أصبحت عبئاً كبيراً على الدول، وسيقل عددها بصورة كبيرة مستقبلاً، ولن يبقى إلا من يفصل بين الملكية والإدارة، بصورة عامة يمكن القول إنه انتهى عصر الإعلام الذي لا يجني أموالاً، سيبقى فقط عدد محدود من القنوات الإعلامية للخدمة العامة وغير ذلك ستكون مشروعات تهدف للربح".
ويضيف "التغيرات الديموغرافية واختلاف التركيبة السكانية لها عامل كبير في تراجع دور الإعلام الدولي التقليدي، فالأجيال الجديدة استخداماتها للإعلام تختلف تماماً عن سابقاتها، وأدى هذا إلى ظهور وظائف جديدة في المؤسسات الإعلامية معنية بتحليل البيانات والتعرف على أنماط المشاهدين، وحتى فكرة الاعتماد على المؤثرين للقيام بدور الصحافيين التي أخذت في الانتشار أخيراً ستتراجع. الفترة المقبلة ستشهد تغيراً شاملاً في شكل الإعلام ليس فقط الدولي، بل بما في ذلك الإعلام الرقمي مع تصاعد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعورس
منذ 2 ساعات
- سعورس
«أهلاً بالعالم .. لكن بثقافتنا وعلى طريقتنا»
عندها طرق ذهني هذا السؤال .. هل أي شيء قابل للتغير ؟ مسميات .. عادات .. هويات .. وحتى الثقافات ؟ تخيلت الأمر بعد ثلاثين أو خمسين سنة ، مسميات جديدة ، لهجات حديثة ، وتصرفات لا تنتمي إلى بيئتنا .. لكن سرعان ما عدت إلى الواقع وانتبهت أن المستقبل لا يُصنع بالتخيلات بل نبنيه بالوعي والعمل في الحاضر . حاضرنا اليوم مختلف ! نحن نعيش في العهد الذي يصاغ برؤية ولي العهد .. الذي لم ينتظر المستقبل بل استدعاه وفرض حضوره . حضرت الاستثمارات الأجنبية التي لم تعد مجرد توقيع عقود بل أصبحت شرايين تضخ الحياة في تنوع إقتصادنا . حضرت السياحة والسياح من كل بقاع الأرض في "روح السعودية" حتى ازدحمت شوارع الرياض بزوار من ثقافات متعددة وقلنا بفخر واعتزاز : أهلاً بالعالم .. ! أهلاً بالعالم في بلاد لم تستعمر ولم تَذُب هويتها في هويات أخرى .. ! ثقافتنا راقية .. نرحب ونهلّي بالضيف ، نعين ونعاون ونحب الفزعة ، ونعطي الطريق حقه ! لكن في زحمة هذه العالمية .. تتسلل مشاهد لا تشبهنا ولاتنتمي لنا : سائق يتجاوز في دوار بلا نظام ! رجل يرفض إفساح الطريق ! أو تصرفات لا تبرر ببنية تحتية بل ترجع إلى ثقافة دخيلة ! التقصير ليس فيهم وحدهم بل فينا أيضًا إذا لم نبادر في تعزيز ثقافتنا والتمسك بها وأن يحميها القانون بأنظمته .. ثقافة .. تغرس في المدرسة .. وتمارس في الشارع .. وتعزز في المؤسسات .. وتكرس في الإعلام ! وهنا تذكرت الرياض! " ما أرق الرياض"مدينتي المحبوبة الهادئة المتحضرة هي ليست مجرد ناطحات سحاب بل روح وطن وواجهة حضارية تمثلنا أمام العالم . تذكرت اليابان في الحرب العالمية والتي انتصرت بقوة ناعمة ثقافيًا لا بقوة صلبة عسكريًا ، رسخت العمل وتبنت الجودة وعلمو أطفالهم احترام الوقت .. بل تقديسه ، ونشرو ثقافتهم حتى أصبحت صورتهم في العالم نابعة من سلوك وثقافة محلية راسخة . نحن كذلك لدينا مقومات لاتقل عنهم ، شركات عززت ثقافات مدن بأكملها مثل سابك وأرامكو . انظر إلى أرامكو ! ليست مجرد شركة نفط بل مدرسة قيم ومصفاة للثقافة ، منها تعلمت الدمام والخبر معنى الانضباط ومضت في مسار ثقافي متميز . عندما تدرك المنظمات والهيئات الحكومية والتعليمية وكبرى الشركات أنها لا تدير مشاريع فقط بل تبني نمط حياة عندها يتغير كل شيء ! قيد مخالفة مرور لرمي النفايات ليس إجراءاً إداريًا فقط بل بيان ثقافي يوضح أننا نحترم كل شبر من أرضنا الغالية ! تعليم الوافدين ثقافتنا ليست مسؤوليتهم وحدهم بل قوة تأثير الشركات عليهم ! غرس القيم لدى الأطفال وتنشئتهم عليها ليس دور المنزل وحده بل محتوى تعليمي في مدارسهم . ثقافتنا هي ماضينا وحاضرنا ورؤية مستقبلنا . وهي مهمة لا يتحملها طرف واحد بل منظومة كاملة ابتداءاً بالتعليم والجهات التشريعية و الشركات الكبرى ورسائل بتوقيع إعلامنا كل جهة تزرع بذرتها في وعي المواطن والسائح الزائر، والوافد العامل ! نرحب بالعالم بلا شك . لكن على طريقتنا ! لا نذوب بل نُثقّف ! لا نجامل ونترك ثقافة ، بل نباهي ونقدمها بأفضل صورة ! ثقافتنا ليست ما نراه ونعيشه اليوم فقط .. بل ما سينقله ويرويه ضيوف إكسبو 2030 وجماهير كأس العالم 2034 .. ثقافتنا ما سينقله ويرويه ضيوف المشاعر المقدسة في الحج والعمرة وضيوف العاصمة في موسم الرياض وضيوف العُلا في شتاء طنطورة وضيوف الصيف في عسير وضيوف حائل والدرعية ونيوم والقدية والبحر الأحمر .. لينقلوا عنا : وجدنا شعباً كريمًا ونظامًا رفيعًا وثقافة راقية ! أهلاً بالعالم في بلادنا وثقافتنا !


Independent عربية
منذ 6 ساعات
- Independent عربية
المخرج الإيراني سعيد روستايي يرد على منتقدي تصويره بإذن السلطات
عاد المخرج الإيراني سعيد روستايي إلى مسابقة مهرجان كان السينمائي بفيلم صوّر بموافقة سلطات طهران بعد ثلاثة أعوام من "برادران للا" (إخوة ليلى)، مشدداً في حديث إلى وكالة الصحافة الفرنسية على أن "من المهم جداً" بالنسبة إليه أن يتمكن الناس في بلده من مشاهدة أفلامه. بعد مشاركته في مهرجان كان عام 2022، حُكم في إيران على المخرج البالغ 35 سنة بالسجن ستة أشهر، إضافة إلى منعه من العمل لمدة خمسة أعوام، لكن العقوبتين لم تُطبقا. وقال سعيد روستايي الذي رأى كثر من مواطنيه المقيمين قسراً خارج إيران أنه ساوم وتنازل بتصويره هذا الفيلم تحت سقف القوانين الصارمة لطهران، وفي مقدمها تلك المتعلقة بوضع الحجاب، "الأسوأ بالنسبة إلي هو عدم صنع أفلام". ويتناول فيلمه الدرامي العائلي "زن وبه"، بالإنكليزية "Woman and child" أي "امرأة وطفل"، الذي عُرض أمس الخميس، قصة مهناز، وهي أم في الـ40 تسعى إلى إعادة بناء حياتها، وقال روستايي "من المهم جداً بالنسبة إلي أن يشاهد الناس في بلدي أفلامي (لأنني) أعتقد أن السينما الإيرانية مصادرة إلى حد ما بواسطة أفلام كوميدية مبتذلة". الحاجة إلى صنع الأفلام روى المخرج أنه اضطر إلى طلب تصاريح للتصوير استغرق الاستحصال عليها "أكثر من ستة أشهر"، بسبب تغيير الحكومة. وشرح قائلاً "إذا كنت تُخرِج هذا النوع من الأفلام، ويتضمن مشاهد في مستشفى، أو في مؤسسات كبيرة مثل مدرسة، كيف يمكنك ذلك من دون تصاريح، بوجود معدات كبيرة، وعدد كبير من الممثلين الصامتين (الكومبارس)؟ في اليوم الأول، أو اليوم الثاني، كان سيتم إيقاف تصويرنا". وتابع، "أعتقد أن فائدتي تكمن في تصوير هذه القصص داخل إيران وأن أكون قادراً على عرضها في قاعات السينما". وإذ لاحظ أن "ثمة أشخاصاً يقررون عدم العمل وربما يكون لذلك تأثير أكبر"، قال "أنا رغبت دائماً في العمل لكنني أُجبرت على اتباع بعض القواعد". واندلعت حركة "المرأة، الحياة، الحرية" في سبتمبر (أيلول) 2022 في إيران، بعد وفاة الشابة مهسا أميني أثناء احتجازها بعد توقيفها بسبب مخالفتها قواعد وضع الحجاب، وأدى قمع السلطات هذه الانتفاضة إلى مقتل مئات واعتقال آلاف، وفقاً للمنظمات غير الحكومية. وعلّق روستايي بالقول، "الحجاب ليس خياراً لكثر منا، لكننا مجبرون عليه (لأن) ثمة أشخاصاً يتحكمون بنا ويمارسون ضغوطاً علينا"، وتوقع أن "تؤدي هذه الحركة في نهاية المطاف إلى شيء، لكن الأمر يتطلب الوقت" وأن "يلقى هذا الحجاب الإلزامي شيئاً فشيئاً مصير محظورات أخرى" لم تعد قائمة. وأضاف، "حتى ذلك الحين، يجب أن أصنع أفلامي" و"أحتاج إلى وقت، كمخرج شاب، لتعلم صنع الأفلام ربما بطريقة مختلفة"، ورأى أن أفلامه كانت لتتسم بقدر أكبر من الطبيعية و"الواقعية" لو لم تكن شخصياته النسائية تضع الحجاب. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) "لعبة الحكومة" لكنّ لآخرين رأياً مختلفاً، ومنهم مهشيد زماني من جمعية المخرجين المستقلين الإيرانيين التي تضم 300 عامل في القطاع يقيمون في المنفى، إذ قالت، "لا تهمني الرسالة التي ترسلها عندما تحصل على تصريح وتعرض النساء على الشاشة في منازلهن بالحجاب"، ورأت أن روستايي يلعب "لعبة الحكومة". وتنتزع الأفلام الإيرانية باستمرار جوائز في المهرجانات الدولية الكبرى، وتُصور بعض الأفلام بموافقة السلطات، مما يجبر مؤلفيها على التكيف مع قواعد الرقابة، لكنهم يتمكنون أحياناً من الالتفاف عليها. في المقابل، يختار بعض المخرجين تصوير أفلامهم سراً، على غرار جعفر بناهي الذي ينافس على السعفة الذهبية بفيلمه "It Was Just an Accident" (مجرد حادثة) الزاخر بالانتقادات للسلطات في طهران وصُوِّر من دون إذن ومن دون حجاب. واعتبر بناهي في كان أن "لا وصفة مطلقة" ليكون المرء مخرجاً في إيران، بل "كل شخص يجد طريقه الخاص"، وقال "ليست لدي نصيحة أقدمها". ولم يُعرَض في إيران مثلاً فيلم "دانه انجر مقدس"، أي "بذرة التين المقدس"، للمخرج الإيراني محمد رسولوف، على رغم فوزه العام الماضي بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان، واضطر مخرجه المحكوم عليه بالسجن لمدة ثمانية أعوام في إيران، إلى مغادرة بلده للعيش في المنفى، ومثله ثلاث من الممثلات الرئيسات في الفيلم.


Independent عربية
منذ يوم واحد
- Independent عربية
قصص من الحرب إلى خشبة المسرح في لبنان
بالتمثيل والرقص، تروي نساء على خشبة مسرح داخل بيروت معاناة عاملات أجنبيات عالقات في لبنان خلال الحرب المدمرة، التي استمرت أكثر من عام بين إسرائيل و"حزب الله". خلال المواجهة الدامية التي اضطرت مئات الآلاف إلى النزوح وحصدت آلاف القتلى ودمرت مناطق كاملة، استوقف مصير العاملات الأجنبيات مصمم الرقص والمخرج علي شحرور فحول قصصهن إلى عرض مسرحي بدأ مطلع مايو (أيار) الجاري. بعد بيروت، سيجول عرض "عندما رأيت البحر" مدناً في أوروبا مثل برلين ومارسيليا وهانوفر وسيعرض خلال مهرجان أفينيون للمسرح في فرنسا. ويقول شحرور (35 سنة) الذي يعمل في المسرح منذ 15 عاماً "ولد هذا المشروع في الحرب، كنا نتمرن ونجري لقاءات وأبحاثاً خلال الحرب"، ويضيف "أنا لا أعرف كيف أقاتل أو أحمل سلاحاً، أعرف فقط كيف أصنع الرقص، هذه هي الأداة الوحيدة التي أعرف كيف أقاوم بها". ممثلات خلال التدريبات على عرض "عندما رأيت البحر" في بيروت (أ ف ب) "المسرح أداة مقاومة" في "عندما رأيت البحر"، تروي ثلاث نساء إحداهن لبنانية لأم إثيوبية وأخريان إثيوبيتان قصصهن، التي تعكس معاناة العاملات الأجنبيات في بلد ترفع فيه منظمات حقوقية باستمرار الصوت للتنديد بانتهاكات عدة تطاول هذه الفئة. تستخدم النساء الكلمات والرقص والموسيقى وأغاني فولكلورية إثيوبية لنقل المعاناة بسبب الهجرة وسوء المعاملة والحرب، والهدف تكريم نساء مهاجرات شُردن خلال الحرب أو فارقن الحياة. خلال الحرب الأخيرة، لجأت مئات العاملات المهاجرات إلى ملاجئ استحدثتها جمعيات أهلية بعدما تخلت عنهن العائلات التي كن يعملن لديها، حين تركت بيوتها هرباً من القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان وشرقه وعلى الضاحية الجنوبية لبيروت، بينما بقيت أخريات من دون مأوى فافترشن طرق بيروت من وسطها حتى البحر، هرباً من الموت. وكان آلاف اللبنانيين باتوا ليالي طويلة في الشوارع أيضاً. يقول شحرور إنه "كان ثمة إصرار" على إنجاز العرض، على رغم الرعب والحرب وصوت القصف المتواصل، مضيفاً "لقائي مع هؤلاء السيدات مدَّني بالقوة والطاقة لنستمر". ويكمل الشاب "المسرح أداة مقاومة لنوصل الصوت ونبقي القصص حية، قصص الذين غادروا ولم ينالوا العدالة التي يستحقونها". الانفصال والتباعد كذلك، هيمنت الحرب على عمل مسرحي للمخرجة والممثلة فاطمة بزي (32 سنة)، كانت استهلت العمل عليه قبل الحرب. وعلى رغم أنها أرغمت على مغادرة منزلها داخل الضاحية الجنوبية لبيروت إلى العراق تحت وطأة القصف خلال أشهر الحرب، فإن بزي أصرت بعد عودتها إلى لبنان إثر بدء تطبيق وقف إطلاق النار خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، على إنجاز عملها "ضيقة عليَّي" الذي عرض على مسرح زقاق في بيروت خلال مايو الجاري. في الأصل، تروي المسرحية قصة امرأة وعلاقتها مع زوجها الذكوري، لكن الحرب تفرض نفسها على العمل لتتحول إلى جزء من القصة. وفي لحظة، يبدو الممثلون الثلاثة وكأنما يؤدون مشهداً، يقطعه فجأة صوت القصف. يعود الممثلون إلى الواقع، يهرعون إلى هواتفهم ليعرفوا أين وقعت الغارة هذه المرة. وتقول بزي لوكالة الصحافة الفرنسية من مسرح زقاق خلال تدريبات على العمل "حاولنا التواصل عبر الفيديو، لكي نتحدث عن المسرحية عندما توقفنا لفترة طويلة" وكانت بزي في العراق، وتضيف "استغللنا هذا الأمر في العرض، أي فكرة الانفصال والتباعد". وسط ضغوط الحرب، تقول بزي إن العمل أتاح "لنا أن نقول الأشياء التي كنا نشعر بها والتي مررنا بها، كان بمثابة مهرب وعلاج". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) "أولاد الحرب" تزخر المسارح اللبنانية أخيراً بعروض عديدة كان بعضها أرجئ بسبب الحرب، وأُنتجت بجهد ذاتي من ممثلين ومخرجين وفرق مسرحية أو بتمويل ودعم من مؤسسات أجنبية. وفاقمت الحرب العراقيل أمام الإنتاج المسرحي داخل لبنان في ظل غياب أي دعم رسمي، بينما تغرق البلاد في أزمة اقتصادية متمادية منذ عام 2019. ويشرح عمر أبي عازار (41 سنة) مؤسس فرقة زقاق التي فتحت أبواب مسرحها لعرض بزي، "أجلنا مهرجاناً بأكمله نهاية العام الماضي بسبب الحرب، وكان يفترض أن تعرض خلاله أكثر من 40 مسرحية من لبنان والخارج"، ومن ضمنها عرض فاطمة بزي، و"الآن بدأنا نعود" تباعاً. وكان أبي عازار أخرج عرضاً خاصاً به مع فرقته بعنوان "ستوب كولينغ بيروت" (Stop Calling Beirut)، كان من المقرر أن يعرض أيضاً نهاية العام الماضي لكن أرجئ إلى مايو الجاري. ويروي العمل قصة فقدان أبي عازار شقيقه قبل أكثر من عقد من الزمن، ويعود من خلاله بالذاكرة إلى طفولتهما خلال الحرب الأهلية في بيروت (1975-1990). وولدت فرقة "زقاق" في حرب أخرى عاشها لبنان، هي "حرب تموز" (يوليو) 2006 بين "حزب الله" وإسرائيل. ويقول أبي عازار "نحن أولاد الحرب، ولدنا وتربينا وكبرنا في قلب هذه الأزمات، وهذا ليس تحدياً بل هو واقعنا، وهذا الواقع لو أراد أن يشدنا للأسفل، لكان شدنا وطمرنا وقتلنا منذ زمن بعيد".