
فلسطين: ابتكار الحياة
منذ احتلال فلسطين عام 1948، أصبحت أرضها ولاّدة للرموز الوطنية التي ابتكرها الفلسطينيون في مسيرة نضالاتهم الطويلة، كشكل من أشكال المقاومة إلى جانب السلاح والعمليات العسكرية والانتفاضات والتظاهرات. كذلك من خلال الثقافة التي تجلت في مختلف أشكال الفنون، عبر المسرح والموسيقى والأغنية والرواية والسير الذاتية والمذكرات وتوثيق الذاكرة، التي اغتنت في معظمها بما يعكس تطلعات وأحلام الفلسطينيين تجاه كل ما في بلادهم، أرضاً ومجتمعاً وقرى ومدن وشجر وتراث وفولكلور وفنون.
كما هو الدال والمدلول في علم اللغة، تميزت الرموز الفلسطينية بتلقائيتها الكثيفة والدالة على فلسطين. فلا الكوفية التي تلثم بها الفلاحون لإخفاء هويتهم عن أعين المستعمرين البريطانيين بحاجة للتعريف عنها أنها رمز فلسطيني، ومثل الكوفية، مفاتيح البيوت التي حملها الفلسطينيون معهم في رحلة نزوحهم والتي ترمز إلى حق العودة، وكذلك شخصية "حنظلة" للفنان ناجي العلي التي تعتبر الأكثر شهرة بين الرسوم الكاريكاتورية، والتي ترمز إلى طفل يرفض أن يكبر خارج فلسطين، ويريد أن يبقى في العاشرة من عمره .
لا زال الاحتلال الاسرائيلي مغتصباً لأرض فلسطين، ولا زال النضال العسكري والثقافي موجوداً ومستمراً بأشكال وأنواع مختلفة، ومع تزايد القمع والمنع الذي يمارسه الصهاينة، يبتكر الفلسطينيون رمزاً جديداً في سلسلة الرموز التي سبقتها.
هكذا أصبح الحجر رمزاً للإنتفاضتين، الأولى عام1986 والثانية عام 2000، وكذا الملعقة التي تستخدم في الطعام صارت هي الأخرى رمزاً لعملية فرار الأسرى الفلسطينيين من معتقل جلبوع الإسرائيلي عام 2021، ما سمي بـ"نفق الحرية"، وغيرها من الرموز التي تعكس أشكال المقاومة التي يجسدها الفلسطينيون في نضالاتهم ضد الاحتلال، والتي تعكس أهميتها في قيمتها التعبيرية "كإعادة تنظيم للتجربة المحسوسة وسط منظومة دلالية"، وفق تصنيف الانثروبولوجي الفرنسي، كلود ليفي ستروس.
بعد عزلة امتدت من العام 1967 وحتى العام 1970، وبعد نضالات طويلة للأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، تمكنوا بعدها من نيل إحدى أهم مطالبهم، من بينها الحق في إدخال مواد تعليمية إلى المعتقل. وهذا سمح لهم بالكتابة إلى عائلاتهم. ومع مرور الزمن، شكلت رسائل الأسرى التي صيغت بإيحائية وغموض عاليين تجنباً للرقابة التي كانت تفرضها إدارة السجون، منطلقاً لولادة روايات وسير ومذكرات ما سمي لاحقاً بــ "أدب السجون"، الذي حظي بتوثيق أنجزته الباحثة الفلسطينية، أمل مصاروة، تحت عنوان: "أدب السجون في فلسطين، 2020".
هكذا نال "أدب السجون" اهتمام المثقفين والنقاد، باعتباره لسان حال الأسرى الفلسطينيين، وجسراً موصلاً لأفكارهم، من بينها، رواية "شم الأرض"، للأسير المحرر علي جرادات، ورواية "أمير الظل: مهندس على الطريق"، للأسير عبد الله البرغوثي، و"حكاية صابر" و"ستائر العتمة"، للأسير وليد الهودلي، وغيرها من الروايات، كان آخرها "قناع بلون السماء" للأسير الفلسطيني، باسم خندقجي، الصادرة عام 2023، ونالت "الجائزة العالمية للرواية العربية" البوكر عام 2024.
والرواية المذكورة حصيلة قصاصات ورقية كان خندقجي يقوم بتهريبها عبر زواره. وتدور أحداثها حول نور، شاب فلسطيني يعيش في مخيم رام الله ويعمل في تنقيب الآثار ضمن بعثة الصليب الأحمر. يعثر نور أثناء عمله على بطاقة تعود للإسرائيلي أور شابيرا، فينتحل شخصيته ويعبر بالبطاقة الحواجز ويتحرك بحرية في المواقع الأثرية، فتظهر له فلسطين بتاريخها وطبقاتها مطمورة في باطن الأرض. تطرح الرواية أسئلة حول الهوية الملتبسة التي يعيشها البطل: أهو نور الفلسطيني أم أور الاسرائيلي؟
يجسّد باسم خندقجي في روايته تاريخ فلسطين الأثري، وهو في ذلك يعيد خلق فلسطينه الخاصة في رواية تكاد تكون الأرض نفسها والتاريخ نفسه. هذه الرمزية التي تكتسبها الرواية، شأنها شأن عدد كبير من روايات "أدب السجون"، أنها كتبت جميعها داخل السجون الإسرائيلية عن أحداث تدور كلها خارج المعتقل، ومعظم هذه الروايات تحمل في مضامينها أحلام الفلسطينيين ومن بينهم الأسرى ورؤيتهم للحرية والوطن والنضال. كما تعكس قدرة هؤلاء على ابتكار أشكال من الحياة في عالم المعتقل المسكون بالموت.
هناك سبل أخرى انتهجها الأسرى الفلسطينيون من أجل ابتكار حياة من داخل السجون الإسرائيلية. ولعل أبلغ مثل على هذا الابتكار ما سمي بـ "أطفال النطف"، وهي عبارة عن عملية تهريب نطف من الأسرى الذين رغبوا في أن يكون لهم امتداداً قرابياً، بعد أن شكلت سنوات الاعتقال الطويلة ومن بينها المؤبدة، عائقاً أمام إنجابهم.
ولدت فكرة تهريب النطف في العام 2012، واصطدمت في البداية بمحاذير دينية جمة، كما أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط المجتمعية، التي انقسمت بين مؤيد ورافض، إلا أنها أجيزت بعد فتاوى شرعية، وضمن ضوابط محددة.
فاق عدد الأطفال الذين ولدوا عبر النطف المهربة من الأسرى إلى زوجاتهم خارج السجون، أكثر من 120. حدث ذلك رغم إجراءات المنع التي فرضتها قوات الاحتلال على السجناء، واستطاع عدد منهم أن يحقق حلمه بالإنجاب.
أول عملية ناجحة لولادة طفل من النطف المهربة، كانت للأسير عمار الزين من مدينة نابلس. رزق الزين بطفلين، مهند في العام 2021 وبعد عامين رزق بصلاح الدين، علماً أن الزين محكوم بالسجن المؤبد 26 مرة. كما رزق الأسير الشهيد، وليد دقة بطفلته ميلاد التي أبصرت النور عام 2020، كما أنجبت زوجة الاسير، إسلام حسن حامد، التوأم محمد وخديجة، من نطف مهربة، وكان حامد قد قضى في سجون الاحتلال ما يقارب 18 عاماً.
إنه ابتكار للحياة، واختراع لها. هذا ما تعكسه نضالات الفلسطينيين ورموزها، لا سيما ما تجسد منها في رواية "قناع بلون السماء"، وعملية "أطفال النطف". رمزية تظهر السجن مساحة نزاع بين سرديتي الموت الذي يسعى السجان لتأبيده عبر المنع والأسر والامحاء، والحياة التي تنبثق من مخيال الاسرى ونطفهم إلى العالم.. كل العالم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


LBCI
منذ 20 ساعات
- LBCI
في مهرجان كان السينمائي... "النظرة الغامضة للفلامنغو" يحصد جائزة أطول فيلم في مسابقة "نظرة ما"
فاز أول فيلم طويل للمخرج التشيلي دييجو سيسبيديس "النظرة الغامضة للفلامنغو" بجائزة أفضل فيلم في مسابقة "نظرة ما" في مهرجان كان السينمائي يوم أمس الجمعة. وتدور أحداث الفيلم في أوائل الثمانينيات حول عائلة مثلية في تشيلي وتفشي وباء الإيدز، وفق ما نقلت "رويترز". وقال سيسبيديس أثناء تسلم الجائزة "هذه الجائزة لا تحتفي بالكمال. إنها تحتفي بذلك الخوف، ذلك العناد في العيش كما نحن، حتى عندما يجعل ذلك الآخرين غير مرتاحين". ومن بين الأفلام المشاركة في مسابقة "نظرة ما" فيلم "كان ياما كان في غزة" الذي تدور أحداثه حول تاجر مخدرات بسيط وأتباعه في القطاع الساحلي في العام الذي سيطرت فيه حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" على القطاع. وحصل الفيلم على جائزة الإخراج التي فاز بها طرزان وعرب ناصر. وقال طرزان ناصر أثناء استلام الجائزة "إلى كل سكان غزة، إلى كل فلسطيني وفلسطينية، حياتكم مهمة وصوتكم مهم، وقريبا ستتحرر فلسطين" وقوبلت كلمته بتصفيق حار.


الميادين
منذ 3 أيام
- الميادين
"BYPA": صوت غزة وفلسطين إلى العالم
في قلب مدينة لوس أنجلوس، وعلى بعد آلاف الأميال من غزة، نُصبت خيمة فلسطينية رمزية، على مدار يوميّ 25 و26 نيسان/أبريل الماضي، في جاكسون ماركت، كاليفورنيا - أكثر الأماكن صخباً، لكنها حملت صمتاً ثقيلاً ومشهداً لا يُنسى، ليقدم للزوار تجربة بصرية وإنسانية غير مسبوقة، تعبر عن معاناة غزة وشعبها من قلب المأساة إلى العالم. صُمّمت الخيمة من أقمشة بالية وأكياس طحين ممزقة تابعة للمساعدات الدولية، حيث عايش الزوار تفاصيل النزوح القسري الذي شهدته شواطئ غزة خلال حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة ضد القطاع المحاصر، وغُطيت أرضية الخيمة برمال البحر الحقيقي. هناك، عُرضت غزة كما لم تُعرض من قبل؛ لا عبر الشاشات ولا الأخبار العاجلة، بل من خلال تجربة حسّية كاملة، تحاكي الواقع بكل تفاصيله الموجعة. "ما بين السماء والبحر" ليس مجرد معرض فوتوغرافي تركيبي، بل شهادة بصرية، استخدمت الصور والصوت والفيديو ليقدم للزائرين تجربة متكاملة تربطهم مباشرةً بواقع أهالي غزة ولحظات النزوح: أزيز الطائرات، هدير البحر، وبشاعة الحرب، ووجوه النازحين التي حملت ذاكرة أوسع من الزمن. لكن خلف عدسة هذا المعرض، تقف قصة شخصية مؤثرة لمخرج ومصور فلسطيني عاش الحرب بجسده، لا بعدسته فقط. إنه إسماعيل أبو حطب، الذي أصيب إصابة خطيرة في 2 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2023 خلال عمله الصحفي في برج الغفري في غزة، وقرر أن يقيم معرضاً مستوحى من تجربته الشخصية. لم تكن إصابة أبو حطب عابرة. إذ فقد القدرة على المشي لفترة طويلة، واضطر إلى خوض تجربة النزوح والتنقل داخل القطاع بنفسه، كمدني هذه المرة، لا كمصوّر ومخرج. رحلة إسماعيل من النزوح إلى التعافي، ومن الألم إلى تأسيس منصة "BYPA"، تلخّص روح المعرض: صوت لا يُخمد، وصورة لا تُكسر. هكذا تأسست منصة BYPA - By Palestine، لتكون منصة إبداعية فلسطينية مستقلة، متخصصة في رواية القصص الفلسطينية عبر الصورة، الفيديو، والفنون المتعددة. وتسعى لجعل الأصوات الفلسطينية مسموعة عالمياً، عبر نقل روايات الفلسطينيين بألسنتهم. أسس أبو حطب المنصة بعد أن بدأ يستعيد عافيته تدريجياً، لتكون صوتاً فلسطينياً حراً، ينقل القصص من الداخل الفلسطينين بوسائط متعددة، بعين من عاشها، لا من سمع بها. في هذا الإطار شكل معرض "ما بين السماء والبحر" أول إنتاجات هذه المنصة، وجاء كترجمة فنية لتجربة أبو حطب الشخصية ولواقع جماعي تعيشه غزة، وليس فقط شهادة على النزوح، بل للحديث عن النهوض بعد السقوط، واستعادة الكاميرا كأداة حياة، لا مجرد توثيق. نجح المعرض في تحويل الألم إلى صورة، والمأساة إلى ذاكرة بصرية حية، والانقطاع إلى وصال جديد بين غزة والعالم، هو رسالة أمل وصمود يحملها الفلسطينيون إلى العالم عبر الفنون. في تلك الخيمة، لم يكن البحر مجرد خلفية، بل شريك في الحكاية. أما غزة، فكما عهدناها، تحكي... وتُسمع. A post shared by ByPa | By Palestine (@


LBCI
منذ 3 أيام
- LBCI
جوليان أسانج يرتدي قميصاً عليها أسماء أطفال من شهداء غزة (صور)
كان مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج موجودا في مهرجان كان السينمائي الأربعاء لمواكبة فيلم وثائقي عنه يتضمن لقطات لم يسبق أن عُرضت. ولم يشأ الناشط الأسترالي الذي انتهت مشاكله القضائية في حزيران 2024 بعدما مكث في السجن في بريطانيا خمس سنوات وحضر للترويج لفيلم "ذي سيكس بيليون دولار مان" The six billion dollar man للمخرج الأميركي يوجين جاريكي، الإدلاء بأية تصريحات مباشرة. إلاّ أنه ظهر في جلسة تصوير الثلاثاء وهو يرتدي قميصا أبيض يحمل أسماء أطفال فلسطينيين قُتلوا في غزة في الحرب التي تشنها إسرائيل على القطاع ردا على هجوم حركة حماس عليها في السابع من تشرين الأول. وكتب أيضا على ظهر القميص: "أوقفوا إسرائيل". ويرغب مخرج الأفلام الوثائقية يوجين جاريكي في أن يعطي فيلمه صورة جديدة عن أسانج (53 عاما) يُبرز فيها "صفاته البطولية"، ويدحض الأفكار المسبقة عن الرجل الذي جعلته أثار الجدل بأساليبه وشخصيته. وأُطلِق سراح أسانج في حزيران الفائت من سجن بريطاني يخضع لحراسة شديدة بعدما عقد اتفاقا مع الحكومة الأميركية التي كانت تسعى إلى محاكمته بتهمة نشر معلومات دبلوماسية وعسكرية سرية للغاية. وأمضى الناشط خمس سنوات وراء القضبان في إنكلترا، كان خلالها يرفض تسليمه إلى الولايات المتحدة، بعدما بقي سبع سنوات في السفارة الإكوادورية في لندن، حيث طلب اللجوء السياسي.