
من "تيليما" إلى "الأولى" و"دوزيم"... تاريخ التلفزيون بالمغرب
قبل استقلال المغرب، كان المهتمون بالشأن السياسي الذين يرغبون في الاطلاع على آخر الأخبار، ملزمون باقتناء الصحف، أو الاستماع إلى الراديو باعتبارهما وسيلة نقل الخبر الأساسية، لكن مع استقلال البلاد بدأ التلفزيون يشق طريقه بشكل تدريجي نحو بيوت المغاربة، حتى طار اليوم منتشرا في كل بيت، وفي الوقت الحالي لم يعد بدوره وسيلة نقل الخبر الوحيدة، خصوصا بعدما صبح الولوج إلى الأنترنيت في متناول الجميع.
كانت أول انطلاقة رسمية للتلفزيون من الولايات المتحدة الأمريكية في بداية ثلاثينيات القن الماضي، بعد ذلك شرعت المملكة المتحدة في بثها التلفزيوني، وكانت العديد من دول العالم ترغب في أن تحذو حذوهما، إلا أن الحرب العالمية الثانية أخرت ذلك لسنوات.
وكان المغرب من بين الدول السباقة في العالم العربي لاعتماد خدمة البث التلفزيوني، ففي 28 فبراير من سنة 1954 أي قبل جلاء الاستعمار عن البلاد، تم إطلاق أول قناة تلفزيونية مغربية تحت اسم "تليما"، إلا أن فترة عمل هذه القناة التي كانت ناطقة بالفرنسية لم تدم طويلا، إذ استمرت لحوالي 15 شهرا، وتوقفت في 20 ماي من سنة 1955.
كانت قناة "تيليما" تبث برامجها من الدار البيضاء، فيما تم تثبيت أجهزة إرسال في مدن الرباط وفاس ومكناس ، بحسب ما يحكي مولاي إدريس الجعايدي في كتابه " بث ومتابعة وسائل الإعلام السمعية البصرية في المغرب".
كان البث في البداية بشبكة برامج أسبوعية تتراوح مدتها بين 20 و30 ساعة، غير أن جل البرامج كانت تأتي من فرنسا، أما البرامج المنتجة محليا، فكانت محصورة في الوصلات الإشهارية، لفائدة شركات تجارية تنشط بالمغرب أو نشرات إخبارية أو إعلانات واردة من مكتب المقيم العام.
ووجهت هذه القناة بعد إنشائها بحملة رفض شعبي، حيث كان يرى فيها كثير من المغاربة ذراعا إعلامية لسلطات الاستعمار، ومع ازدياد وثيرة المقاومة الشعبية في سنوات الخمسينات، تم إيقاف بثها بشكل نهائي.
وبقيت البلاد من دون قناة رسمية بعد الاستقلال، واستمر الحال على ما هو عليه، إلى حدود سنة 1962، وبالضبط في 3 مارس، حيث تم افتتاح بث التلفزة المغربية رسميا، بخطاب للملك الراحل الحسن الثاني بمناسبة ذكرى عيد العرش.
وفي حوار لمجلة " زمان" قال الصديق محمد معينو الذي رافق مسيرة التلفزيون والإعلام المغربي منذ سنوات الستينات، "ارتبط التلفزيون باحتفالات عيد العرش منذ نشأته، فأول ما بث في التلفزيون المغربي هو خطاب العرش لسنة 1962"، وأضاف "كان الحسن الثاني خطيبا ممتازا أدرك قدرة التلفزيون على التأثير فحوله إلى سلاح سياسي قوي بين يديه. مثلا وزعت السلطات أجهزة تلفاز في المقاهي وبعض الأماكن التي يتجمع فيها الناس، قصد تعبئتهم للتصويت لدستور 1962".
البث بالألوان
وبقي للمغرب قناة رسمية واحدة، تبث بالأبيض والأسود إلى حدود سنة 1973، فبمناسبة ذكرى عيد العرش التي كانت تصادف 3 مارس من كل سنة، ألقى الملك الراحل الحسن الثاني للمرة الأولى خطابا بث بالألوان.
وقال معينو لمجلة زمان إنه "عندما قرر الملك الحسن الثاني بث خطاب العرش لسنة 1973 بالألوان كان الهدف هو محو الآثار التي خلفتها المحاولتان الانقلابيتان لسنتي 1971 و1972، وبعث رسالة سياسية للمواطنين مؤداها أن الصفحة طويت، وأن البلاد بخير وعلى خير زاهية الألوان".
ويؤكد أنه بعد خطاب العرش لسنة 1973 أصبح التلفزيون ينتقل تدريجيا "من الأبيض والأسود إلى الألوان". وتابع متحدثا عن تلك المرحلة "في مرحلة معينة كنا نصور ونبث الأنشطة الملكية بالألوان، فكانت تظهر صورها في نشرة الأخبار ملونة، ثم يظهر الربورطاج الموالي بالأبيض والأسود، ثم شرعنا نبث أنشطة ولي العهد بالألوان، وبعدها أنشطة الوزير الأول... وهكذا إلى أن توفرت الإمكانيات التقنية والبشرية الضرورية للتصوير والبث بالألوان".
وبقي مجال البث التلفزيوني محتكرا من طرف الدولة، وكانت للمملكة قناة رسمية واحدة، وفي 4 مارس من سنة 1989، ستشرع أول قناة خاصة في بث برامجها بالمملكة أطلق عليها اسم القناة الثانية "دوزيم"، قبل أن يبدأ مسار تأميم القناة في سنة 1997.
وفي 3 مارس من سنة 1993، دخلت القناة الوطنية مجال البث عبر الأقمار الصناعية، لتكون بذلك من بين القنوات العربية السباقة إلى ذلك.
ومع تولي الملك محمد السادس الحكم سنة 1999، بدأ المجال الإعلامي بصفة عامة يشهد بعض التحول ، وبدأت الحكومة تفكر في تحرير القطاع السمعي البصري. وفي خطاب العرش الموافق لـ30 يوليوز من سنة 2002، أعلن الملك محمد السادس عن إحداث هيئة جديدة تنظم قطاع السمعي البصري في المغرب، سميت بـ"الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري "، وفي 10 شتنبر 2002 صدر مرسوم يقضي بوضع حد لاحتكار الدولة في مجال البث الإذاعي والتلفزيوني.
وبدأ تحرير القطاع بشكل عملي منذ شهر ماي من سنة 2006، حين منحت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري عشر تراخيص للجيل الأول من الإذاعات الخاصة وترخيصا بشكل استثنائي لقناة تلفزيونية واحدة.
ورغم أن تجربة البث التلفزيوني في المغرب تمتد لعقود طويلة، إلا أن المغاربة دائما ما ينظرون بسلبية إلى الإعلام العمومي خاصة المرئي منه، حيث لا زالت القنوات الوطنية غارقة في الرتابة ولم تخرج من جلبابها التقليدي، وهو ما دفع العديد من المشاهدين إلى الرحيل نحو القنوات الأجنبية التي بات الوصول إليها سهلا مع التقدم التكنولوجي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


يا بلادي
منذ 15 ساعات
- يا بلادي
فرنسا: هل يمثل الإخوان المسلمون فعلا بوابة "التسلل الإسلامي"؟
بعد تبني قانون تعزيز الأمن الداخلي ومكافحة الانفصالية في فرنسا، يأتي الآن دور مواجهة ما يعرف بـ"التسلل الإسلامي" ضمن الجهود المبذولة للتصدي للإسلام الراديكالي. وفي هذا السياق، ناقش مجلس الدفاع والأمن الوطني يوم الأربعاء تقريرا بعنوان "الإخوان المسلمون والإسلام السياسي في فرنسا". وقد تم تسريب الوثيقة إلى الصحافة، وتحظى بدعم قوي من وزير الداخلية برونو ريتايو، حيث تشير إلى أن الفكر الإخواني يسعى لـ "السيطرة على مؤسسات السلطة" في فرنسا "من القاعدة إلى القمة". ويشير التقرير إلى أن هذا التسلل يتمثل في "التخفي" من خلال الانخراط في المجتمع المدني والمشاركة في الحياة العامة، بين الجمعيات وهيئات اتخاذ القرار، لفرض قواعد مستمدة من الشريعة الإسلامية على فرنسا، مما يتعارض مع المبادئ العلمانية والجمهورية. ويهدف التقرير المكون من 75 صفحة إلى توفير مفاتيح التحليل والفهم التي يمكن أن تعرقل مشروع الإخوان، في ظل اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2026 بسرعة. وفي أحد فصوله، يتناول التقرير الذي اطلعت عليه "يابلادي" فكرة "الفكر الإخواني" فيما يتعلق بالعلاقة "بين المسلم المؤمن في السياق الأقلية واللاأدري أو حتى الملحد"، والتي تعد "أكثر محدودية رغم المواقف الداعية للانفتاح المواطن". كما يتطرق إلى "تدني مكانة المرأة" و"تمجيد المرأة المحجبة"، وفقا لأيديولوجية "تستند إلى تحديد جنسي" تجعل "عدم الاختلاط قاعدة وتستغل الحجاب". هذه الفكرة تتماشى مع موقف برونو ريتايو الرافض لارتداء الحجاب، حيث جعله محورا رئيسيا، خاصة في مجال الرياضة من خلال التصويت على قانون في هذا الشأن في فبراير الماضي. وفي تصريحاته الأخيرة، أكد مجددا رغبته في حظر الحجاب أيضا في الجامعات. يتعمق التقرير في تحليله من خلال الحقائق المتعلقة بالأحداث الدولية أكثر من التركيز على النهج الاجتماعي والسياسي والقانوني على المدى الطويل. حيث يشير إلى أن "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني" يظل "ينبوعا دائما للعداء للصهيونية، بل وحتى لعداء للسامية يظهر بشكل متزايد". وفي هذا السياق، يربط بين "حماس والمنظمة الدولية للإخوان المسلمين" بالعودة إلى سياق الحرب العالمية الثانية، وكذلك ظهور الفكر الإخواني في مصر وتطور هذا الخطاب خلال سنوات الخمسينيات. ينحرف العرض التاريخي بسرعة نحو استعراض تصريحات حديثة حول القضية الفلسطينية، لا سيما تلك الخاصة بالإمام المغربي المطرود من فرنسا، حسن إيكويسن. ثم يذكر "تصاعد الأنشطة المعادية للصهيونية في عدد من المساجد الفرنسية" منذ أكتوبر 2023، "بفضل الغضب الناجم عن الخسائر البشرية" الناتجة عن العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة. وفي سياق هذا التفكير، يتحدث التقرير عن "استراتيجية تواجد تجمع بين التخفي، والسعي للشرعية، وإدانة الإسلاموفوبيا". مشيرا إلى مفهوم "خادع" ووسيلة عمل"ظرفية"، يبرز الوثيقة أن مكافحة هذا التمييز ضد المسلمين ستكون "واحدة من الشعارات الرئيسية للإخوان المسلمين". الذين يستخدمونها "لتشويه التدابير المستوحاة من مبدأ العلمانية، التي تعرض على أنها جزء من 'عنصرية الدولة' التي تستهدف المسلمين وتدين السياسات الرامية لمكافحة التطرف العنيف والانفصالية الإسلامية". مع ذلك، تشير تحليلات سابقة ودراسات سوسيولوجية وتاريخية إلى أن الإسلاموفوبيا متجذرة في مفهوم صاغه علم الأنثروبولوجيا خلال القرن التاسع عشر، أي قبل نشأة جماعة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي بمصر. وفي تحليله، يذكر التقرير على وجه الخصوص حالة "التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا" (CCIF) الذي صدر في حقه مرسوم بالحل في 2 ديسمبر، وكذلك ظهور "مركز مكافحة الإسلاموفوبيا في أوروبا" (CCIE) قبله بفترة قصيرة، مبرزًا ما وصفه بـ"القدرة المستمرة على الإضرار". ويقدّر التقرير عدد الجمعيات المرتبطة بالتيارات الإسلامية والإخوانية في فرنسا بحوالي 280 جمعية. ويمضي التقرير إلى التأكيد على وجود "تداخل" بين الناشطين المناهضين للإسلاموفوبيا وتيار "ما بعد الاستعمار". بالأرقام.. التيار الإخواني يبقى أقلية من بين الأرقام الأخرى، يقدّر التقرير أن 139 مكانا للعبادة في فرنسا له ارتباطات بجماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى 68 مكانا آخر "يعتبر قريبا من اتحاد مسلمي فرنسا"، موزعين على "55 إقليما"، إلا أنهم لا يمثلون سوى "7% من بين 2800 مكان عبادة إسلامي". ورغم أن هذه الأرقام تشير إلى طابع أقلي يخضع لرقابة السلطات، فإن ملاحظات بعض المتخصصين تُبرز وجود التباسات ونقائص منهجية في التقرير، بل وحتى تكرارا لتحاليل سبق تقديمها في السنوات الماضية. وقد علّق نيكولا كادين، المقرر العام السابق لمرصد العلمانية، على ذلك قائلا إن التقرير يتضمن "بدهيات، وخلطا، وتبسيطا مفرطا، وإعادة صياغة لأفكار قديمة... بعضها صحيح، وبعضها الآخر لا يمت للواقع بصلة". وعبر منصة "إكس"، أشار الخبير في قضايا العلمانية والتضامن إلى نقص في المراجع الأكاديمية، وانحيازات سياسية، وتقديرات تقريبية، ومشاكل في البنية. وأضاف "مع ذلك، يظل التقرير يحتوي على تقييمات كلاسيكية وغير إشكالية كثيرا، سواء بشأن تنظيم معين أو بشأن تدخلات أو تأثيرات خارجية. وعلى عكس ما يقال ويشاع، لا شيء في هذا التقرير مفاجئ، إلا إذا كان القارئ لم يتابع الموضوع من قبل". كما أشار إلى وجود "تقديرات عبثية تماما، ولا تستند إلى أي مصدر، وهو ما يعد إشكالا خطيرا في تقرير رسمي". وأحال نيكولا كادين على المصدر الأصلي، وهو تقرير مرصد العلمانية لسنتي 2019-2020، لبيان كيف تم إعادة استخدام أفكار تتعلق بتسهيل دفن المسلمين في فرنسا، وتعزيز دراسات الإسلام، والأطر الدينية، والتكوينات في مجال العلمانية. وأوضح أن بعض هذه الأفكار "بديهية"، مثل تعزيز "الحوار بين الأديان وبين القناعات، ومراقبة التدفقات المالية الأجنبية، وتوضيح التدخلات الخارجية عبر المعلومات الإقليمية". الدعوة إلى تجاوز ربط الظاهرة بالإخوان المسلمين لـ"فهم أعمق" وفي سلسلة تغريدات، أشار كادين إلى أن "الاختراق المزعوم في قطاعات مختلفة، والذي يعد محورًا رئيسيًا في التقرير، غير موثق"، ويتناقض إلى حد بعيد مع تقرير وزارة الداخلية لسنة 2024، الذي كان يستند إلى مصادر موثوقة. وفي هذا الإطار، أعرب عن أسفه لما وصفه بـ"توظيف سياسي مذهل" لخدمة "أجندة سياسية بمشاركة مؤسفة من عدد كبير من وسائل الإعلام (التي يبدو أنها لم تطلع لا على هذا التقرير ولا على تقارير سابقة أكثر جدية)". كما انتقد غياب توصيات عملية كثيرة من شأنها أن تُفضي إلى مواجهة حقيقية لأي تطرف أو إسلام سياسي، بعيدًا عن التركيز الحصري على جماعة الإخوان المسلمين. وأرجع هذا القصور إلى "عدم معالجة جذور ودوافع اللجوء إلى الدين" باعتباره "قيمة ملاذ" للعديد من المواطنين، سواء بسبب هشاشتهم، أو كردّ فعل على العلمنة، أو نتيجة "فشل الأيديولوجيات العلمانية (الرأسمالية، الشيوعية، الاشتراكية، إلخ)"، أو بسبب "البحث عن هوية في ظل الشعور بالرفض". ويفسر الفقيه التوترات الشديدة التي تستهدف الإسلام بشكل خاص، وتضخمها بعض وسائل الإعلام، بالسياق الأمني المرتبط بالهجمات الإرهابية (والتي تخلط بشكل مخجل بالممارسة العامة للإسلام)، و"استيراد النزاعات"، و"ضعف الاختلاط الاجتماعي والثقافي الذي يُفضي إلى الانغلاق والأحكام المسبقة"، و"الماضي الاستعماري"، و"غياب هيكلة واضحة للممارسة الدينية"، فضلًا عن "التطرف الديني الناتج عن تأثيرات خارجية". وبعيدا عن التشخيص، اقترح نيكولا كادين عددا من السبل، من بينها: تبني دبلوماسية أكثر "هجومية في مواجهة التدخلات الأيديولوجية الخارجية"، وتعبئة أجهزة الاستخبارات مع تحسين تكوينها في مجالات الإسلام، والوقائع الدينية، والعلمانية، فضلا عن "تعزيز الشعور بالانتماء إلى المواطنة المشتركة عبر الاعتراف بجميع الثقافات الحاضرة على أراضي الجمهورية ومساهمتها فيها"، وغيرها من المفاتيح العملية.


الأيام
منذ 2 أيام
- الأيام
صابون تازة
صابون تازة نشر في 22 مايو 2025 الساعة 11 و 00 دقيقة لا يمكن فصل النقاش في المغرب عما يجري في عالم متحول بشكل مذهل. إن الدعوة إلى الحمائية والتقوقع على الذات، وربما رفع شعار «المغرب ولا شيء غيره» ليست نزعة تستدعي المواجهة بالتخوين، ولكنها رد فعل على تحديات داخلية مفهومة وخصوصا في ما يتعلق بتوازن القوى الإقليمي، وتحديات الوحدة الترابية والحاجة إلى تحالفات دولية […] نور الدين مفتاح لا يمكن فصل النقاش في المغرب عما يجري في عالم متحول بشكل مذهل. إن الدعوة إلى الحمائية والتقوقع على الذات، وربما رفع شعار «المغرب ولا شيء غيره» ليست نزعة تستدعي المواجهة بالتخوين، ولكنها رد فعل على تحديات داخلية مفهومة وخصوصا في ما يتعلق بتوازن القوى الإقليمي، وتحديات الوحدة الترابية والحاجة إلى تحالفات دولية بعينها لمواصلة الصمود في مناخ دولي لا يرحم. أنا أعتقد أن هذا التفهم لا يعني الاتفاق على المقاربة، فموقع المغرب أصلا جعله بدون اختيار في ما يتعلق بالانفتاح، أو ما يمكن أن نسميه قدر العيش في ملتقى التيارات. والانفتاح لا يعني الانتقائية التعسفيّة، فإما أننا داخل العصر أو خارجه. إننا تلك الشجرة التي تحدث عنها الراحل الحسن الثاني حيث إن جذورها في إفريقيا وأوراقها في العالم، وبالطبع هناك دائما قانون قرب، وعلاقاتنا كما في العالم كله تندرج ضمن هذا القرب من المغرب إلى المغرب الكبير ـ رغم كل مشاكله ـ إلى العالم العربي فإفريقيا فأوروبا ثم الولايات المتحدة والقوى المؤثرة في العالم. من هنا يمكن أن ندخل إلى النقاش المثار حول شعار «تازة قبل غزة» بلا تشنج. فهذا الشعار والسياق الذي أطلق فيه لم يكن يعني بالضرورة الحرب الهمجية التي تتعرض لها غزة اليوم. لقد أطلق في عقد سابق كردّ على التبرم من قيادات عربية متشرذمة في قمم عقيمة، تحدث عنها الملك محمد السادس بكل وضوح. لقد كان الأمر اختياراً للعهد الجديد لاختلاف في الأسلوب مع توجه الحسن الثاني الذي كان منخرطا بشكل كامل في الشؤون العربية، والدليل هو عدد القمم التي انعقدت في المغرب وعدد القرارات التي تحمل اسم هذه القمم. لقد اختلف الأسلوب ومنسوب الانخراط ولكن لا يمكن لأي بلد أن يقطع مع هذا الجزء من انتمائه، إنه المستحيل! إذن، إسقاط معادلة قديمة على واقع جديد هو إسقاط تعسفي يؤدي في النهاية إلى نتائج مخالفة أصلا للواقع. فتازة بالطبع لها الأولوية على نيويورك وبانكوك وهونولولو، ولكن ليس هناك مكان في العالم حاليا يتعرض لما تتعرض له غزّة. لقد كان رد الفعل على «طوفان الأقصى» من طرف حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة عبارة عن جرائم حرب متتالية لم تنته لحد الآن، بل إنها اليوم وصلت إلى حد استعمال التجويع كسلاح حرب وهو محرم بالقانون الدولي. إسرائيل تعيش عزلة وآخرها التبرم النسبي لإدارة ترامب منها، وفتح مفاوضات أمريكية إيرانية دون رضاها، وعقد اتفاق مع الحوثيين دون أن يكون أصلا في علمها، وعقد صفقة مباشرة مع حماس تم على إثرها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الحامل للجنسية الأمريكية عيدان ألكسندر. إضافة إلى أننا ونحن نكتب هذه السطور يوجد ترامب في الرياض مع وفد ضخم ومنها سيمر إلى الدوحة فأبوظبي دون زيارة تل أبيب! تازة اليوم تعيش على إيقاعها المعتاد في مملكة مستقرة، وغزة لا يمكن إلا أن توقظ أهل الكهف بفظاعاتها وهمجية مستهدفيها الذين لا يخفون رسميا رفضهم لحل الدولتين بين النهر والبحر، وإصرارهم على تهجير أهل القطاع. بل إن ما يقومون به في الضفة الغربية شنيع وما أقدموا عليه لأول مرة من اقتحام للمسجد الأقصى بزعامة وزير «الحرب» ـ وليس الأمن ـ القومي إيتمار بن غفير، والتنكيل بالمقدسيين وتعبيد الطريق لمحو ثالث الحرمين الشريفين، ما هو إلا تأكيد على أن الواجب الإنساني سيرفض التفاضل في التضامن بين ما هو محلي وما هو خارجي، فما بالك إذا كان هذ الخارجي يعتبر من المقدسات بالنسبة لمليارين من المسلمين ومليار ونصف المليار من الكاثوليكيين. وقد أدان البابا الجديد ليو 14 في أول خطاب له ما يجري من فظاعات في غزة ودعا إلى وقفها. أنا واثق أن الذين يقولون بـ«تازة قبل غزة» لا يعنون أنهم متحللون من القضية الفلسطينية ولا أنهم بدون إنسانية، اللهم إلا بعض الأمازيغاويين المصرحين علانية بإسرائيلتهم، والذين زاروا الكيان الصهيوني مؤخرا بدعوى التضامن معه، هؤلاء لا كلام معهم أصلا. إن مساحة الاتفاق الوطني على أن القضية الفلسطينية قضية محورية في الوجدان المغربي لا يمكن الاختلاف عليها، ولكن الذي يُحدث الخلط هو هذا التفاضل المطروح في الشعار الذي أخرج من سياقه. وككل شيء ينتزع من سياقه فإنه يصبح سامّاً، ولهذا نرى هذا التشويش على موقف مغربي إنساني تاريخي عربي إسلامي لا غبار عليه. بل إن القناة الإسرائيلية 12 اعتبرت أن التيار في المغرب غير المعادي لهذه الإسرائيل التي تقود حرب الإبادة هو قطرة في بحر! وأنا أعي أن الذي يختفي وراء هذا الانقسام المستغرب من خلال شعار «تازة قبل غزة» هو حرج التطبيع مع إسرائيل في وقت لم يكن أحد يتصور أن يصل بنيامين نتنياهو إلى ما وصل إليه من وحشية خلفت أكثر من 50 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف جريح والمأساة مستمرة. ولا أعتقد أن هذا النقاش يجب أن يكون من المحرمات أو من دواعي التصنيفات، فالتطبيع كان قرارا سياسيا وسياديا للدولة في مرحلة معينة، ولما تغيرت الظروف بشكل حاد، كان طبيعيا أن تخرج دعوات للعدول عن هذه العلاقات المفتوحة، وهذه مواقف طبيعية في الديموقراطية، وقد كان التطبيع بيننا في نهاية التسعينيات وقطعناه في بداية العهد الجديد، ويمكن في أي وقت أن يقطع اليوم لأنه يدخل في إطار التحولات، وأما الثابت فهو التزام مغربي راسخ بالاصطفاف مع الشعب الفلسطيني المحتل، ومع شرعية مقاومته لهذا الاحتلال، ومع دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضي 1967 وعاصمتها القدس، ولنكون واقعيين أكثر نقول القدس الشرقية. المشكل عند العبد الضعيف لله ليس التطبيع الذي أتمنى في هذه الظروف لو أنه جمّد على الأقل مع هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، ولكن مشكلتي مع من يذهبون أبعد من قرار سياسي حول علاقة مع دولة في الخارج، إلى بناء علاقة غرامية مع الكيان الصهيوني، والتماهي مع أطروحته والانبهار بخوارق مفترضة له، ومحاولة التطبيع الشعبي معه والاحتفاء برموزه ومعانقة رايته وبسطها في الفضاء العام، ومحاولة التنصل من القضية الفلسطينية والتشنيع بها عن طريق تصرفات بعض قادتها. مثل هؤلاء هم من يزيدون في العلم ويقدمون أنفسهم حماة لاختيارات الدولة في حين أن الدولة للجميع وهي تقرر والقرار سارٍ والرأي حر. عيب أن نختلق خلافات كانت في السابق جزءً من قوتنا. لقد اختارت الدولة أن ترسل جنوداً إلى الخليج ضد صدام وخرجت أكبر مسيرة شعبية مليونية في الرباط تضامنا مع العراق! ماذا وقع؟ لا شيء. اليوم محمد السادس هو ملك المغرب وفيه تازة وهو في نفس الوقت رئيس لجنة القدس والقدس عاصمة لفلسطين بما فيها غزة، وأتذكر أنه سبق وأن أقام حفل عشاء على شرف الراحل إسماعيل هنية رئيــــس المكتب السياسي لحركة حماس حيـــنها، ترأسه رئيس الحكومة آنئذ الدكتور سعد الدين العثماني. بل لقد خرج مئات الآلاف من المــــواطنين في مسيرتين متتابعتين بالرباط نصرة لفلسطين، فلـــماذا إذن نبحث عن «صابون تازة»؟


الأيام
منذ 2 أيام
- الأيام
يوم قال الملك الحسن الثاني لفتح الله ولعلو: 'ستفقد شعبيتك'
تعززت الخزانة الوطنية بمولود جديد عبارة عن مذكرات أصدرها الوزير والقيادي الاتحادي السابق فتح الله ولعلو، طافحة بالعديد من الأحداث التي عاشها خلال مساره السياسي والأكاديمي على عهد ملكين، الملك الراحل الحسن الثاني ووارث عرشه الملك محمد السادس. هي مذكرات رجل استثنائي، كان لعقود واجهة الاتحاد الاشتراكي البرلمانية، التي ظلت تهز الرأي العام المتعطش للديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كان فتح الله ولعلو خطيبا مفوها شاء القدر أن تتطابق قدراته البرلمانية مع الوزن السياسي لحزب القوات الشعبية. هذه هي الصورة التي يحفظها جيلان على الأقل عن هذا الرباطي ذي الملامح الطفولية، وهي مغايرة نسبيا للصورة التي خلفها الرجل نفسه وهو أول وزير للمالية في حكومة التناوب سنة 1998. وإضافة إلى أنه اقتصادي بارز وثاني مغربي يحصل على الدكتوراه من باريس في هذا التخصص بعد الراحل عزيز بلال، فإن من سيقرأ مذكراته التي نزلت يوم الخميس 24 أبريل 2025 في المعرض الدولي للكتاب بالرباط، سيكتشف رجلا آخر، وسيخلق بالتأكيد حميمية مع رجل لا يمكن أن تميز في سيرته بين ما هو خاص وما هو عام، بين حياته ونضاله. وربما لهذا أعطى هذه المذكرات عنوان «زمن مغربي» وهو يرجح العام على الخاص وهذا مفهوم عموما، ولكنه سيفهم أكثر عندما يبحر القارئ في الصفحات الطويلة والغنية في مجلدين بالتمام والكمال. يبدأ ولعلو مذكراته منذ الولادة حين تزوج والده بنعيسى ولعلو بنت خاله غيثة الجزولي، وسكن دار أبيها بالسويقة في المدينة القديمة بالرباط، ليفتح عينيه في أسرة ليست أرستقراطية ولكنها أسرة «عمل وكد واجتهاد» كما يصفها. وأما عن جده من والده، فيقول إنه كان بائع خضر صغيرا قرب زنقة القناصل، ولكن من بيت جده لأمه مصطفى الجزولي سيبني ولعلو كل عالمه في بيت كبير سيتحول إلى قبلة للوطنيين إلى أن يقرر والده الرحيل إلى حي العكاري ويواصل الفتى دراسته وينخرط في العمل النضالي. المذكرات طويلة جدا، ونحن هنا سنقوم بانتقاء، هو على أية حال تعسفي، وما نتمناه أن يكون هذا التعسف مهنيا نابها. وأن نقرب القارئ من حياة هذه الشخصية المغربية الوازنة وهي تقدم روايتها للتاريخ بمرافقة الزميل لحسن العسيبي، الذي أعد المذكرات للنشر، وخصنا بهذا السبق، فشكرا على ثقة الرجلين. إليكم الجزء الثالث عشر من الصفحات الساخنة التي ارتأت 'الأيام 24' نشرها: عندما قال لي الملك: ستفقد شعبيتك التقيت جلالته أيضا بالقصر الملكي بالرباط (قبل ذلك بمدة)، في إطار التهييئ للمناظرة الوطنية للجماعات المحلية. كنتُ رفقة وزير الداخلية إدريس البصري بصفته الجهة المنظمة للمناظرة، وكان لقاءً إخباريًّا فقط وقوفا، لم يدم سوى دقائق. التفتَ نحوي جلالة الملك الحسن الثاني وقال: – عليكما أن تعرفا أنه في كل دول العالم، يفقدُ وزيرا الداخلية والمالية شعبيتهما بسرعة عندما يقومان بمهامهما أحسن قيام. هذه ضريبة مسؤوليتهما. ابتسمنا وودعنا جلالته حيث التقيت مباشرة بعدها بالأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ووضعتُهُ في الصورة، مثلما أخبرتُهُ بجملة جلالة الملك، فرد علي ضاحكا: – لا تخف، شعبيتك أنت لن تتأثر. لكن أعرف أنها تأثرت فعلا، خاصة (وهذا مصدر التناقض) عندما تتخد إجراءات إيجابية لصالح البلد، لأنها في كثير من الأحيان لا تكون شعبية. ترأس جلالته عمليا ثلاثة مجالس وزارية في عهد حكومة اليوسفي، طلب منا في آخرها، (وكان في فصل الصيف)، أن لا نَحضُرَ مرة ثانية في حرارة مُماثلة باللباس الرسمي القاتم، بل اعتبر أن من حقنا الحضور بلباس خفيف. حيث قدمتُ في ذلك الإجتماع بصفتي وزيرا للإقتصاد والمالية قانون إصلاح قطاع التأمينات، الذي كان مُحضَّرًا من قبل، مع دعمٍ مُصاحبٍ لذلك الإصلاح في شكل قرضٍ من قبل البنك العالمي بقيمة 200 مليون دولار. كان عمليا يُصادقُ على ذلك القانون في مجلس الحكومة فقط، بعدها يقوم البنك العالمي بتنفيذ قرار الدعم المصاحب. بالتالي صادقنا عليه بداية في مجلس للحكومة قبل عرضه على المجلس الوزاري بغاية صدوره في الجريدة الرسمية، والمسؤول عن عرض التفاصيل كالعادة في كل نص قانون وإخبار الملك قبل المجلس الوزاري هو الأمين العام للحكومة. بعد انتهاء عرضي لمشروع قانون إصلاح قطاع التأمينات، سألني الملك الحسن الثاني إن كنا نحن من أعددنا النص. أجبته أنه قانون إصلاحٍ مُنجزٌ من قبل أطر الوزارة بالتنسيق مع المتدخلين في القطاع وأن البنك الدولي قرر تقديم دعم مصاحب لتنفيذ ذلك الإصلاح. فرد جلالته: – إن البنك الدولي هو البنك الدولي وإن المغرب له قراره السيادي، بالتالي فإنه لا أرى ضرورةً للإسراع بصدور هذا القانون الآن. كنا قد توصلنا عمليا بدعم البنك العالمي. لكن القانون لم يصدر في الجريدة الرسمية بسبب عدم مصادقة المجلس الوزاري عليه. فهمتُ حينها أن جلالة الملك يريد أن يمارس علينا كفريق حكومي جديد، نوعا من الإمتحان الذي يمارس على كل داخل جديد إلى مسؤولية مماثلة (بيزوتاج). بقيتُ بعدها، أتصلُ بالأمين العام للحكومة لتمرير نص قانون الإصلاح، خاصة أننا توصلنا ب 200 مليون دولار من البنك العالمي، لكنه ظَلَّ ينصحُني بالتريث والصبر، حتى توفي الملك الحسن الثاني رحمه الله، حيث قُدِّمَ ذلك القانون في أول مجلس وزاري ترأسه جلالة الملك محمد السادس، فصُودق عليه ونشر بالجريدة الرسمية ونُفِّذَ قانون إصلاح قطاع التأمينات.