
البشت الحساوي هوية تتوشح الجمال
في ظل التحوّل الثقافي الذي تشهده المملكة، وتزامنًا مع تخصيص عام 2025 للاحتفاء بالحِرَف اليدوية، تعود الأنظار إلى واحدة من أبرز الحِرَف التقليدية التي تجاوزت حدودها المحلية إلى حضور دولي لافت: البشت الحساوي. هذه القطعة التي تمزج بين الأصالة والفخامة، لا تُختصر في مظهرها الخارجي، بل تختزن حكاية حِرَفية دقيقة، وهُوية ثقافية متجذرة في الذاكرة السعودية، وتحمل في تفاصيلها إرثًا يمتد عبر الأجيال.
اشتهرت محافظة الأحساء منذ القدم بصناعة البشوت، حتى أصبحت مرجعية في الجودة والدقة والتميز على مستوى الوطن العربي. هذه الحياكة اليدوية العريقة، لا تزال تحافظ على وهجها رغم ظهور الصناعة الآلية، وهو ما يعكس عمق الانتماء للموروث، والارتباط بالجماليات التي لا تُستنسخ بسهولة.
وتبرز قيمة البشت الحساوي في مهارة تشكيله وتطريزه، لا سيما من خلال الزخارف الدقيقة المعروفة بـ"الكرمك"، والتي تُنفذ يدويًا خلال فترة تمتد لأسبوعين من العمل المتقن، بخيوط الزري المذهبة والفضية، أو الحريرية "البريسم"، قبل أن تدخل التقنيات الحديثة لتقلّص زمن هذه العملية إلى ساعات محدودة دون أن تلامس القيمة الحرفية ذاتها.
تجاوز حضور البشت الحساوي المناسبات التقليدية، ليصل إلى المحافل الخليجية والعربية والدولية، بفضل فخامته وأناقة تصميمه ومكانته الرمزية. وقد أصبح خيارًا شائعًا لدى كبار الشخصيات والمسؤولين ورجال الأعمال، بوصفه رداءً يُجسّد الوقار والهوية في آن واحد.
هذا الامتداد العالمي للبشت يعكس تطوّر النظرة إلى الحِرَف اليدوية بوصفها منتجات ثقافية قابلة للتداول والاحتفاء بها على المستوى الدولي، وهو ما تسعى إليه وزارة الثقافة في عام الحِرَف اليدوية، من خلال تسليط الضوء على هذه الصناعات كرافد اقتصادي وثقافي مستدام.
يتميّز البشت الحساوي بتنوع خاماته التي تشمل الأقمشة الكشميرية واليابانية، والزري الألماني، ما يجعل منه منتجًا دقيقًا يتفاوت سعره حسب جودة القماش والخيوط المستخدمة. كما تختلف ألوانه بين السكري، البيج، الأبيض، العودي، الأسود، وغيرها من التدرجات التي يختارها الأفراد وفقًا للموسم أو الذوق الشخصي.
في فصل الشتاء، يظهر نوع خاص من البشوت المنسوجة من وبر الإبل، وتُصنف حسب نعومتها وجودتها، ومن أبرزها: سوبر إكسترا، السوبر ديلوكس، اللوكس، فيما يُعد "القنص" الأقل جودة، إذ يحتوي على نسبة وبر أقل. أما النوع الفاخر، فهو مزيج من الحرير والوبر، ويُعرف بملمسه الناعم وثقله الدافئ.
تحافظ عدد من العائلات الحِرَفية في الأحساء على سرّ صناعة البشت اليدوي، متوارثين تقنياته عبر الأجيال. ورغم توفر الآلات، لا تزال الحياكة اليدوية تحتفظ بقيمتها الرمزية، وتُعد خيارًا لمن يطلب الأصالة والندرة. ويتم تصنيع أقمشة البشوت محليًا، وأيضًا في دول مثل: سورية والأردن، بينما بدأت دول مثل الصين والهند بتصدير أقمشة شبيهة للأصلية، لكن الصنعة الحساوية تحتفظ بهويتها الفريدة.
مع بقاء الحرفة نابضة في يد الحِرَفي، وبدعم من المؤسسات الثقافية الوطنية، يواصل البشت الحساوي حضوره كرمز للوقار والأناقة والانتماء. وما بين خيوط الزري وأقمشة الوبر، يتجدّد التعبير عن التراث السعودي بأسلوب عصري، يجعل من الحِرَف اليدوية مسارًا مستدامًا للتعبير الإبداعي، وجزءًا حيًا من المستقبل الثقافي الذي تنسجه المملكة برؤية واثقة وهوية لا تُنسى.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرياض
منذ 7 ساعات
- الرياض
الرواشين.. فنّ يتنفس الخشب
في عامٍ خُصص للحِرَف اليدوية، تعود الفنون التقليدية إلى الواجهة، لا كتحفٍ في الذاكرة، بل كقوة حيّة تستعيد مكانتها في تشكيل الوعي والهوية. وبين عشرات الحِرَف التي نمت على يد الإنسان وأصبحت امتدادًا لذائقته وبيئته، يبرز فن "الرواشين" بوصفه أحد أكثر أشكال التعبير الحِرَفي نُضجًا وخصوصية. الرواشين ليست مجرد نوافذ خشبية مزخرفة، بل هي منظومة متكاملة من الوظيفة والجمال والتقنية. هي معمار ناعم يتقاطع فيه الضوء بالظل، والخصوصية بالانفتاح، والبساطة بالحرفية العالية. في كل قطعة من الروشن حكاية صبر وصنعة وذوق، تُصنع بدقة لا تُترك للصدفة، وتُنحت بأنامل تعرف كيف تُخاطب الخشب. الحِرفة التي تصنع الضوء.. فن الرواشين يبدأ بما لا يُرى: القياس. فالحِرَفي لا يبدأ بالنقش أو التزيين، بل بتحديد أبعاد دقيقة تضمن التوازن والبساطة والانسجام، وهو ما يتيح لاحقًا إمكانية البناء الفني المتقن. بعد ذلك، تُختار الأخشاب المناسبة وفقًا لمعايير محددة، تأخذ بعين الاعتبار المتانة، وسهولة التشكيل، ومقاومة عوامل الزمن. هذه ليست مجرّد مواد خام، بل أساس جمالي سيحمل فوقه كل ما سيأتي لاحقًا من تفاصيل. ثم تأتي مرحلة التقطيع، وهنا يبدأ التحوّل من "خشب" إلى "مكوّن فني". تُقطع الأجزاء وتُصنّف بدقة لتتماشى مع التصميم المرسوم في خيال الصانع أو وفقًا لتقاليد محددة. هذه العملية تتطلّب عينًا مدرّبة تعرف التناسب، وتُدرك كيف أن الفارق بين قطعة وأخرى قد يُخل بالتناغم البصري للعمل النهائي. التجميع هو الخطوة التي تعكس البراعة الحرفية كاملة. ليست كل القطع المتطابقة تجتمع على نحوٍ جميل؛ بل إن طريقة التثبيت، والانسياب في التنقل من وحدة إلى أخرى، والقدرة على دمج الأجزاء دون فقدان الهوية الشكلية، هي ما يرفع العمل من مستوى الصنعة إلى مستوى الفن. الزخرفة في الرواشين ليست ترفًا بصريًا، بل لغة خاصة تعبّر عن الذائقة المجتمعية وتكشف عن تراكب تأثيرات فنية متنوعة. هناك أنماط هندسية صارمة، وأخرى انسيابية، منها ما يعتمد على التكرار الموزون، ومنها ما يترك للفراغ مساحة للتأمل. يتم التشطيب بأساليب يدوية دقيقة، غالبًا دون أدوات ميكانيكية حديثة، لأن اللمسة الشخصية هي ما يُضفي على الروشن فرادته. في النهاية، تُطبّق المعالجة النهائية لحماية الخشب من العوامل البيئية، باستخدام مواد تحافظ على الملمس واللون والبنية. هذا التوازن بين المحافظة والتجميل هو ما يجعل الرواشين صامدة عبر الزمن، محتفظةً ببهائها ومكانتها. رمزٌ للحرفة.. الرواشين تمثل حالة من التفاعل بين الفن والبيئة، وبين الإنسان وخصوصيته، وبين الحِرفة والتقنية. وفي عامٍ تتجه فيه الأنظار نحو الحِرَف اليدوية، يعود هذا الفن ليؤكّد أن الصناعات التقليدية ليست من بقايا الماضي، بل من أدوات الحاضر، وأسس المستقبل. إن إحياء فن الرواشين اليوم لا يعني فقط الاحتفاء بجمالها، بل إدراك الدور الذي تلعبه الحِرَف في ترسيخ الذوق العام، وإحياء الاقتصاد المحلي، وتعزيز الهوية الثقافية. الرواشين ليست قطعًا تُصنّع، بل ذائقة تُنقل، وروح تُستعاد، وإرث يُعاد تقديمه في صيغة معاصرة.


الرياض
منذ 7 ساعات
- الرياض
تفاصيل صغيرةأحلامي التشكيلية
حضرت قبل يومين افتتاح المعرض العام في دورته الـ45 في قصر الفنون بالقاهرة، وهو معرض سنوي يقيمه قطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة المصرية، وهو حدث مهم يشارك فيه كبار الفنانين المصريين، كانت المشاركة في السابق تتم بناء على دعوات يوجّهها القطاع إلى الفنانين المهتمين لعرض لوحاتهم، وتغير الوضع الآن حيث يقدم الفنانون الراغبون بالمشاركة إلى لجنة تقوم باختيار اللوحات، وعلى الرغم من أنني كنت منبهرة من المستوى الرفيع للفن المعروض إلا أن أحد الفنانين أخبرني أن المعرض في السابق كان مستواه أقوى ومعروضاته أجمل، والسبب أن كثيرا من الفنانين الكبار أحجموا عن المشاركة حين توقفت الدعوات وأصبح مطلوبا منهم عرض لوحاتهم على اللجان. وأنا أتجول في المعرض، انتابتني الأحلام التي لا تنفك تراودني كلما زرت مكانا ثقافيا جميلا، أتمنى مثله في بلادي، تمنيت أن يكون هناك حدثا تشكيليا تقوم عليه وزارة الثقافة، حيث تدعو الفنانين السعوديين للمشاركة فيه، ويكون معرضا جماعيا سعوديا ضخما بمستوى متميز. ترافقه الدورات وورش العمل والأنشطة، شيء يشبه ما تقوم به مسك في أسبوع مسك للفنون، لكن الأساس فيه هو هذا المعرض الجماعي السعودي لكل الفنانين المتميزين والمعروفين، وأعتقد أن تقوم المشاركة على الطريقتين، توجيه الدعوات للفنانين المعروفين والذين حققوا حضورا واعترافا وتميزا في المشهد التشكيلي السعودي، بالإضافة إلى عرض الفنانين الذين لم توجه لهم دعوات للمشاركة عبر لجان تختار اللوحات المناسبة. والحلم الأساس الذي يسبق كل الأحلام هو وجود متحف للفنون، يضم الأعمال المهمة للفنانين عندنا، معرض يصبح مزارا لأي مهتم بالفن عندنا أو للزائر من الخارج، الحقيقة أنني أحلم بأكثر من متحف، بذات المستوى، واحد في الرياض والآخر في جدة. أحلم بوجود متحف لكل فنان راحل من الفنانين الكبار والرواد لدينا، متحف لعبدالحليم رضوي في جدة مثلا، ومتحف لمحمد السليم في الرياض، أو أكثر من متحف لكل فنان. ولأنني أعشق فن البورتريه فأنا أحلم بوجود متحف للبورتريه، أسوة بمتحف البورتريه في لندن. أحلم بمسابقة ضخمة تشرف عليها وزارة الثقافة، تقدم فيها جوائز مهمة للفنانين الرابحين. أحلم بأن يكون المستشارين لهيئة الفنون البصرية يمثلون كل أنواع الفنون، وألا يكون الاهتمام منصبا على نوع واحد أو مدرسة واحدة على حساب بقية الأنواع والمدارس. أحلم بمتاحف تمثل أكثر من نوع من الفنون. أحلم أن تقوم الجامعات التي لديها كليات فنون بعمل معارض سنوية تدعو لها عامة الناس للتعرف على فن خريجيها. أحلم أن تقوم البنوك والفنادق وكل القطاعات الخاصة بشراء أعمال فنية سعودية وعرضها بشكل أكبر، هذا هو الدعم الحقيقي الذي عن طريقه تتطور الفنون لدينا. مازال لدي الكثير من الأحلام التشكيلية لكن سأكتفي بهذا القدر هذه المرة.


الرياض
منذ 7 ساعات
- الرياض
مشاعل.. نور لا ينطفئ في ذاكرتي
في أحد فصول حياتي، جمعني القدر بصديقة لم تكن عادية، كنّا ضمن فريق صغير في برنامج قانوني نسائي، لم نكن نعرف أن ثلاثة أسابيع فقط كافية لتترك في القلب أثرًا لا يُمحى. حين رأيتها أول مرة، شعرت بشيء يشبه الأمنية، تمنيت أن تكون صديقتي، لم تكن تعرف ذلك، لكنها أصبحت أكثر من صديقة، أصبحت قريبة، خفيفة على الروح، ثقيلة في الأثر. اسمها مشاعل السناني، واسمها وحده يصفها: كانت مشعّة، طيّبة جدًا، وجهها مبتسم على الدوام، يليق بها أن تكون في الذاكرة وهي تضحك، في تلك الرحلة، نسينا الغرف المخصصة، كأننا نرفض المسافات، تبادلنا الأسرار، تقاسمنا الضحكات، وأضفنا إلى العمر فصلًا لا يُنسى، فهي لم تكن من الذين يحتاجون وقتًا لتقترب منهم، كانت مألوفة من اللحظة الأولى، كما لو كانت صديقة قديمة، أو شقيقة ضائعة وجدتها أخيرًا. ومنذ عُدنا من هناك، بقيت قريبة رغم المسافة، كانت في الرياض، وأنا في جدة، لكننا كنا نتحدث أكثر من كثيرٍ ممن يعيشون في الشارع نفسه. مشاعل كانت من أولئك النادرين الذين لا تحتاج معهم إلى أقنعة، لا تمثيل، لا حذر، لا جهد، أنت فقط، كما أنت. وهي بدورها كانت كما هي دومًا، طفلة جميلة، لا تعرف الغيبة، ولا تحمل في لسانها ما يُغضب أحدًا، ولا في قلبها غير السلام. مشاعل كانت صغيرة في كل شيء إلا قلبها، في ضحكتها، في براءتها، في تلك الروح التي لم تعرف التلوّث، لم تكن مجرد صديقة، كانت مساحة راحة، وقطعة من الزمن النقي. حين ماتت مشاعل، لم أصدّق، الفقد المفاجئ يشبه السقوط الحرّ، لا يمهّد، لا يُنذر، لا يُمهلك لتتهيأ، يحدث فقط. ولأنها كانت تشبه النور، شعرتُ أن شيئًا أُطفئ داخلي. ولأنها لم تكن من الناس الذين يرحلون بسهولة، لم أعرف كيف أقول لها وداعًا. مشاعل، لا أعرف كيف أكتب عنك بصيغة الماضي، ولا كيف أصدّق أن رسائلك لن تأتي بعد اليوم. كل ما فيّ يرفض أن يتعامل معك كأنك رحلتِ، ما زلت أراكِ في الذاكرة، وفي الدعاء، وفي ابتسامتك التي ما زالت تملأ وجهي حين أتذكرك. أراك في ضحكة مرت، وفي عبارة قلناها، وفي صورة قديمة لا تتقادم. كنتِ نقية إلى الحد الذي لا يسمح للحزن أن يلوثك، حتى الحزن، أمامك، بدا خجولًا. أفتقدك، أفتقد بساطتك، دفئك، رسائلك القصيرة التي كانت تفرحني مهما بدا اليوم طويلاً. أدعو لك، وأحكي عنكِ، وأؤمن أن الأرواح الطيّبة لا تُطفأ، بل تنتقل إلى مكان أنقى. سلامٌ عليكِ يا مشاعل، في دعائي، وفي ذاكرتي، وفي القلب الذي لم يعرف مثلك.