
الخليل... المدينة التي تمشي على شظايا الروح
الكابتن اسامة شقمان
جو 24 :
-
في صباحٍ لم تشرق فيه الشمس، بل انسحبت من السماء كمن يعتذر عن الغياب، توجهتُ جنوبًا... نحو مدينة لا تُزار للسياحة، بل تُحجّ إليها للوجع.
الخليل ليست مدينة، بل مرآةٌ مكسورة يرى فيها الإنسان هشاشته الوجودية. حين وصلت، لم أشعر بالغربة... شعرت أنني عدتُ إلى جرحٍ قديم في داخلي لم أكن أعرف أنه ما زال ينزف.
الزمن في الخليل ليس شيئًا يُقاس بالساعة، بل بالنبض المتسارع أمام بوابة عسكرية، وبالدمعة التي تتراجع خجلاً كي لا تُتهم بالضعف.
حين وقفت أمام الحرم الإبراهيمي، لم أرَ مَعْلمًا دينيًا، بل رأيت قلبًا مقسومًا نصفين، كما تُقسّم الضمائر في زمن الاحتلال.
الحجارة هناك لا تُخبرك بالتاريخ، بل تهمس لك أن التاريخ بكى كثيرًا قبل أن يُكتب.
سألت إبراهيم عليه السلام، بصمتٍ داخليٍّ موجع:
"هل تسمعنا من أعماق الغياب؟ هل رأيت كم هو العالم أعمى أمام الضوء الذي دفنته هنا؟"
لم يُجبني، لكن الهواء ارتجف... وربما كانت تلك الإجابة الوحيدة الممكنة.
في الخليل، لا تسبقك خطواتك، بل شكوكك. تُفتَّش الأرواح قبل الجيوب، وتُقاس الكرامة بعدد المرات التي لم تُصفَع فيها.
الجنود لا يحرسون شيئًا... بل يتكئون على فراغهم.
يمشون فوق أرصفة الذاكرة كما يمشي أحدهم على زجاج مكسور: كل خطوة تترك أثرًا من الألم، لكن التوقف ليس خيارًا؛ لأن الموت البطيء أشد رعبًا.
الخليل ليست منقسمة جغرافيًا فقط، بل وجوديًا. جزء منها ما زال ينبض رغم الرصاص، وجزءٌ آخر يحتضر على أرصفة الانتظار، أما الجزء الأخير، فقد اختار أن يصمت لأن الصراخ صار رفاهية لا يملكها.
البائع الصغير – حكمة الطفولة تحت القيد
كان الطفل يقف قرب السوق القديم، يحمل علبة علكة كأنها قمرٌ صغيرٌ يوزع النور على العابرين.
سألته: "ألا تذهب إلى المدرسة؟"
فأجابني، بابتسامة فيها ما يكفي من الحكمة لإرباك الفلاسفة:
"مدرستي اسمها حاجز ١٨... أتعلم فيه كيف أبتسم للجندي كي لا يُفتشني، وكيف أختصر أحلامي لتناسب جيبي الصغير."
ابتسمت له، لكن قلبي ارتطم بالحجارة.
في مدن مثل الخليل، الطفولة ليست مرحلة... بل معركة تُخاض كل صباح.
الأرملة وباب الخيبة
مررت بجانب بابٍ خشبيٍّ متآكلٍ من كثرة الانتظار، فوقه ملصقات قديمة وصمتٌ أكثر قسوة من الموت.
جلست خلفه امرأةٌ تجاوزت السبعين، كانت تطرّز اسم ابنها الثالث على منديلٍ أبيض.
قلت لها: "هل ما زلتِ تؤمنين بالسلام؟" أجابت دون أن ترفع رأسها:
"السلام؟ لقد دفنته مع ولدي الثالث. أنا لا أؤمن بشيء بعد الآن... فقط أطرّز الذاكرة."
ثم أضافت: "أغلقنا أبوابنا حين أدركنا أن القادم لن يحمل سوى الخذلان." في الخليل، هناك أبوابٌ لا تُغلق خوفًا من الغرباء، بل لأنها تعبت من استقبال الأمل الكاذب.
الشيخ الذي يسكن ظل الحرم
دخلت الحرم الإبراهيمي من بوابته الحديدية المشروخة، وداخل الجناح المقطوع من قدسيته، التقيت شيخًا جاوز السبعين، يجلس عند الزاوية التي تفصل الجدران كما يفصل الاحتلال بين الإيمان والحرية.
كان يحمل مصحفًا قديمًا بيد، ومسبحةً تتلو معه نبض قلبه.
سألته: "كيف تحتمل كل هذا التقسيم؟"
أجابني:
"نحن لا نحتمل... نحن نُختبر. كل صلاةٍ هنا عبورٌ فوق جسرٍ من العذاب، لكننا نصلي لأننا ما زلنا نؤمن أن الله لا يحتاج لتصاريح عبور."
نظرت إليه، فشعرت أن كلماته تضيء الغرف المظلمة في داخلي. في الخليل، حتى الصلاة تحتاج شجاعة... لكن الإيمان لا يُقسم بجدار.
إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى كل من تصل إليه هذه الكلمات:
الخليل ليست حكاية نرويها، بل اختبارٌ أخلاقي لمن ما زال يملك قلبًا.
مدينة لا تُريك كل وجعها دفعة واحدة، بل تهمس لك: "هل تستطيع أن تنظر إليّ دون أن تبكي؟" وحين هممت بالمغادرة، لم أودّعها، بل اعتذرت منها.
قلت لها: "أيتها المدينة التي تمشي على الزجاج...
أنت لستِ مكانًا، بل مرآة للإنسانية.
وأنا آسف... لأننا حين وقفنا أمامك، رسبنا جميعًا."
.
تابعو الأردن 24 على
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جفرا نيوز
منذ 3 ساعات
- جفرا نيوز
وفيات الأردن الجمعة 23-5-2025
جفرا نيوز - انتقل إلى رحمة الله تعالى في الأردن الجمعة 23-5-2025 : محمود حسين عبدالهادي عطيه موسى بن صادق عدوان باسم فالح سمرين خريس أمل بطرس عايد عرنكي سهيلة صائب فارس بركات حسين محسن حسن الشدايده المناصير جريس حنا حصو عبدالله رشيد بني خالد منصور ذيب عميش ناصر عيد الدريملي خالد عبدالله محمد الجعفري ابتسام برجس عيسى الطيب محمود حسن ابو صيام ميسر سليمان عواد العورتاني إنا لله وإنا إليه راجعون .

عمون
منذ 6 ساعات
- عمون
وفيات الجمعة 23-5-2025
عمون - انتقل الى رحمة الله تعالى في الأردن الجمعة 23-5-2025 : باسم فالح سمرين خريس أمل بطرس عايد عرنكي سهيلة صائب فارس بركات موسى بن صادق عدوان محمود حسين عبدالهادي عطيه حسين محسن حسن الشدايده المناصير جريس حنا حصو عبدالله رشيد بني خالد منصور ذيب عميش ميسر سليمان عواد العورتاني ناصر عيد الدريملي خالد عبدالله محمد الجعفري ابتسام برجس عيسى الطيب محمود حسن ابو صيام إنا لله وإنا إليه راجعون .

سرايا الإخبارية
منذ يوم واحد
- سرايا الإخبارية
المجالي يكتب: إلى أبناء العمومة الكرام: في رثاء فقيدنا الغالي صفوان سلطان ماجد المجالي
بقلم : نضال أنور المجالي يا أبناء العمومة الأفاضل، بقلوب دامعة وأفئدة موجوعة، نلتقي اليوم على وقع فاجعة أليمة، رحيل فارس من فرساننا، وقامة من قامات عزنا، المغفور له بإذن الله تعالى، العقيد المتقاعد القاضي العسكري والمحامي الأستاذ صفوان سلطان ماجد المجالي. لقد كان الفقيد الراحل سليل الكرام، ونبراسًا لنا جميعًا، عرفناه بيننا أخًا سندًا، وعمًا ناصحًا، وقريبًا وفيًا. ترك برحيله ثلمة لن يملأها الزمان، وحزنًا عميقًا يخيم على ديارنا. نتذكر فيه قاضيًا عسكريًا نذر نفسه للحق والعدل، ومحاميًا دافع عن الحق بصلابة وبلاغة، وشخصية اجتماعية محبة للخير، ساعية للإصلاح بين الناس. لقد كان رحمه الله رمزًا للعطاء والكرم، يمد يد العون للجميع، ويقف بجانب المحتاج في الشدائد. إن مصابنا جلل، وفقدنا عظيم، ولكن عزاءنا في وحدتنا وتكاتفنا، وفي إيماننا الراسخ بقضاء الله وقدره. فلنتذكر مناقب فقيدنا، ولنستلهم من سيرته العطرة معاني الوحدة والتآخي، ولنرفع أكف الضراعة إلى المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. نسأل الله أن يلهمنا جميعًا جميل الصبر والسلوان، وأن يجعل هذا المصاب خاتمة أحزاننا. إنا لله وإنا إليه راجعون عظم الله أجركم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ابن عمكم...نضال انور المجالي